إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (8)
مدة
قراءة المادة :
29 دقائق
.
إتحاف الخيرة بشرح منظومة ابن أبي العز في السيرة (8).
.
.
ثُمَّ قَدْ
أسلَم في السَّادسِ حمزةُ الأسَدْ
ثم في العام السادس من بِعثة النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أسلَم أسَدُ الله حمزة بن عبدالمطلب - رضي الله عنه.
وقد ذكَر قصة إسلامه - رضي الله عنه - ابنُ إسحاق - رحمه الله - فقال:
"مرَّ أبو جهلٍ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الصفا، فآذاه وشتَمه، ونال منه بعض ما يكره من العيب لدينه، والتضعيف لأمره، فلم يكلِّمه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومولاةٌ لعبدالله بن جدعان في مسكنٍ لها تسمع ذلك، ثم انصرَف عنه، فعمَد إلى نادٍ من قريشٍ عند الكعبة، فجلس معهم، فلم يلبث حمزةُ بن عبدالمطلب - رضي الله عنه - أن أقبل متوشحًا قوسه، راجعًا من قنصٍ له - وكان صاحب قنصٍ يرميه ويخرج له - وكان إذا رجَع من قنصه لم يصِلْ إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعَل ذلك لم يمرَّ على نادٍ من قريشٍ إلا وقف وسلَّم وتحدَّث معهم، وكان أعز فتًى في قريشٍ، وأشد شكيمةً، فلما مر بالمولاة، وقد رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته، قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيتَ ما لقي ابنُ أخيك محمدٌ آنفًا من أبي الحكم بن هشامٍ، وجَده هاهنا جالسًا فآذاه وسبَّه، وبلغ منه ما يكرَه، ثم انصرف عنه ولم يكلِّمه محمدٌ - صلى الله عليه وسلم.
فاحتمل حمزة الغضبُ؛ لِما أراد الله به من كرامته، فخرج يسعى ولم يقِفْ على أحدٍ، معدًّا لأبي جهلٍ إذا لقيه أن يوقعَ به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسًا في القوم، فأقبَل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس فضرَبه بها، فشجه شجةً منكرةً، ثم قال: أتشتُمه وأنا على دينِه أقول ما يقول؟ فرُدَّ ذلك عليَّ إن استطعتَ.
فقامت رجالٌ من بني مخزومٍ إلى حمزةَ لينصروا أبا جهلٍ، فقال أبو جهلٍ: دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سبَبْتُ ابن أخيه سبًّا قبيحًا.
وتم حمزة - رضي الله عنه - على إسلامه، وعلى ما تابع عليه رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله.
فلما أسلَم حمزةُ عرَفت قريشٌ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عز وامتنع، وأن حمزة سيمنَعُه، فكفوا عن بعض ما كانوا ينالون منه"[1].
قوله:
وبعدَ تِسْعٍ من سِنِي رِسَالَتِهْ
ماتَ أبو طالبٍ ذو كفَالَتِهْ
وبعدَه خديجةٌ تُوفِّيَتْ
مِن بعدِ أيَّامٍ ثلاثةٍ مضَتْ
ثم توفي أبو طالب، وخديجة - رضي الله عنها - وذلك في العام العاشر من بِعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قال الناظم: "وبعدَ تسعٍ مِن سِنِي رسالتِهْ"؛ أي: بعد تسعِ سنين سوى السنةِ التي بُعث فيها - صلى الله عليه وسلم.
قال ابن إسحاق: ثم إن خديجةَ بنت خويلدٍ وأبا طالبٍ ماتا في عامٍ واحدٍ، فتتابعت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصائبُ بهلاك خديجة وأبي طالبٍ، وكانت خديجةُ وزيرة صدقٍ على الإسلام، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يسكُنُ إليها، وكان هلاكهما بعد عشر سنين مضين من مبعثِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل مُهاجَرِه - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة بثلاث سنين[2].
وذكَر ابن قتيبة أن خديجة توفِّيت بعد أبي طالبٍ بثلاثة أيامٍ[3].
قوله:
وبعدَ خمسينَ ورُبْعٍ أسلَما
جِنُّ نَصِيبينَ، وعادوا فاعلَما
أي: بعد مولده - صلى الله عليه وسلم - بخمسين عامًا، وربع عام - أي: وثلاثة أشهر - جاء جنُّ نصيبينَ[4] إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلَموا، ثم عادوا إلى قومِهم منذِرين.
قال ابن الجوزيِّ - رحمها الله -:
"فلما أتت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمسونَ سنة وثلاثة أشهر قدِم عليه جِنُّ نَصيبينَ فأسلَموا"[5]؛ اهـ.
وكان ذلك بعد عودةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من الطائف.
قال ابن إسحاق:
"ثم إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - انصرَف من الطائف راجعًا إلى مكة حين يئِس من خيرِ ثقيفٍ، حتى إذا كان بنخلةَ قام من جوف الليل يصلِّي، فمر به النفرُ من الجن الذين ذكَرهم الله - تبارك وتعالى - وهم - فيما ذُكِر لي - سبعةُ نفرٍ من جنِّ أهل نَصيبِينَ، فاستمَعوا له، فلما فرَغ من صلاته ولَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، فقص اللهُ خبرهم عليه - صلى الله عليه وسلم - قال الله - عز وجل -: ﴿ وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ ﴾ [الأحقاف: 29]، إلى قوله - تعالى -: ﴿ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الأحقاف: 31]، وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ ﴾ [الجن: 1]، إلى آخرِ القصة من خبرهم في هذه السورة"[6]؛ اهـ.
وفي "صحيح البخاري" عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنه كان يحمِل مع النبي - صلى الله عليه وسلم - إداوةً لوضوئه وحاجته، فبينما هو يتبعه بها، فقال: ((من هذا؟)) فقال: أنا أبو هريرة، فقال: ((ابغني أحجارًا أستنفض بها، ولا تأتِني بعَظْمٍ ولا برَوْثةٍ))، فأتيته بأحجارٍ أحملها في طرَف ثوبي، حتى وضعتُها إلى جنبه، ثم انصرفتُ حتى إذا فرَغ مشيتُ، فقلت: ما بال العَظْم والرَّوثة؟ قال: ((هما من طعام الجنِّ، وإنه أتاني وفدُ جنِّ نَصيبِينَ، ونِعم الجنُّ، فسألوني الزاد، فدعوتُ الله لهم ألا يمرُّوا بعظمٍ، ولا برَوثةٍ إلا وجدوا عليها طعامًا))[7].
قوله:
ثم على سَوْدةَ أمضى عَقْدَهْ
في رمضانَ .
.
.
ثم تزوَّج النبي - صلى الله عليه وسلم - بسودةَ بنتِ زمعةَ - رضي الله عنها - في السَّنة العاشرة من البِعثة، بعد وفاةِ خديجة - رضي الله عنها.
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما توفِّيت خديجةُ، قالت خولة بنت حكيم بن أمية بن الأوقص، امرأة عثمان بن مظعونٍ وذلك بمكة: أيْ رسول الله، ألا تزوَّج؟ فقال: ((ومن؟))، فقالت: إن شئتَ بِكرًا، وإن شئتَ ثيبًا، قال: ((فمن البِكْر؟))، قالت: ابنةُ أحب خلق الله إليك: عائشة بنت أبي بكرٍ، قال: ((ومن الثيِّب؟))، قالت: سودة بنت زمعة بن قيسٍ، قد آمنتْ بك واتَّبعَتْك على ما أنتَ عليه، قال: ((فاذهبي فاذكُريهما عليَّ))، فجاءت، فدخلت بيت أبي بكرٍ، فوجدت أم رومان أم عائشة، فقالت: أيْ أمَّ رومان؟ ماذا أدخل اللهُ عليكم من الخير والبركة! قالت: وما ذاكِ؟ قالت: أرسلني رسولُ الله أخطُب عليه عائشةَ، قالت: وددتُ! انتظري أبا بكرٍ، فإنه آتٍ، فجاء أبو بكرٍ، قالت: يا أبا بكرٍ، ماذا أدخل اللهُ عليك من الخيرَ والبركة! أرسلني رسولُ الله أخطُب عليه عائشة، قال: وهل تصلح له، إنما هي ابنة أخيه! فرجعتْ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت له ذلك، فقال: ارجعي إليه، فقولي له: أنت أخي في الإسلام، وأنا أخوك، وابنتك تصلُح لي؟ فأتت أبا بكرٍ فذكرتْ ذلك له، فقال: انتظريني حتى أرجع، فقالت أم رومان: إن المطعِم بن عدي كان ذكَرها على ابنه، ولا والله ما وعد شيئًا قط فأخلَف، فدخل أبو بكرٍ على مُطعمٍ، وعنده امرأته أم ابنه الذي كان ذكَرها عليه، فقالت العجوز: يا ابن أبي قحافةَ، لعلنا إن زوَّجنا ابننا ابنتك أن تصبئه وتُدخلَه في دينك الذي أنت عليه! فأقبَل على زوجها المطعِم، فقال: ما تقول هذه؟ فقال: إنها تقول ذاك، قال: فخرج أبو بكرٍ، وقد أذهَب الله العِدَة التي كانت في نفسه من عِدَته التي وعدها إياه، وقال لخولة: ادعي لي رسول الله، فدعته فجاء فأنكَحه، وهي يومئذٍ ابنةُ ست سنين.
قالت: ثم خرجتُ فدخلت على سودةَ فقلت: أيْ سودةُ، ماذا أدخل اللهُ عليك من الخير والبركة! قالت: وما ذاك؟ قالت: أرسَلني رسولُ الله يخطبك عليه، قالت: فقالت: وددت! ادخلي على أبي فاذكُري له ذلك، قالت: وهو شيخٌ كبيرٌ قد تخلَّف عن الحج، فدخلت عليه، فحييتُه بتحية أهل الجاهلية، ثم قلت: إن محمد بن عبد الله بن عبدالمطلب أرسَلني أخطُب عليه سودة، قال: كفءٌ كريمٌ، فماذا تقولُ صاحبته؟ قالت: تحبُّ ذلك، قال: ادعيها إليَّ، فدعيت له، فقال: أي سودة، زعمتْ هذه أن محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب أرسَل يخطُبُكِ وهو كفءٌ كريمٌ، أفتحبين أن أزوِّجكَه؟ قالت: نعم، قال: فادعيه لي، فدعته، فجاء فزوَّجه، فجاء أخوها من الحج، عبدُ بن زمعة، فجعل يحثي في رأسه التراب، فقال بعد أن أسلم: إني لسفيهٌ يوم أحثي في رأسي التراب؛ أن تزوَّج رسولُ الله سودةَ بنت زمعة![8].
قوله:
.
.
.
.
.
.
.
.
.
ثمَّ كانَ بَعْدَهْ
عقدُ ابنةِ الصِّدِّيقِ في شوَّالِ
.
.
.
.
.
.
ثم عقد النبي - صلى الله عليه وسلم - على عائشة - رضي الله عنها - في شوال من السنة العاشرة من البعثة.
عن عروة بن الزبير، عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: تزوَّجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في شوالٍ، وبنى بي في شوالٍ، فأي نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحظى عنده مني؟ قال: وكانت عائشة تستحب أن تدخلَ نساءها في شوالٍ[9].
وكان عُمُر عائشة - رضي الله عنها - حين عقد عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ستَّ سنين.
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: تزوجني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا بنتُ ست سنين، وبنى بي وأنا بنتُ تِسعِ سنين[10].
وفي رواية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجها وهي بنت سبع سنين[11].
قال النووي - رحمه الله -:
"وأما قولها في روايةٍ: تزوَّجني وأنا بنت سبعٍ، وفي أكثر الروايات: بنتُ ستٍّ، فالجمع بينهما أنه كان لها ست وكسرٌ؛ ففي روايةٍ اقتصرت على السنين، وفي روايةٍ عدت السنةَ التي دخلت فيها، والله أعلم"[12]؛ اهـ.
وكان زواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من عائشة - رضي الله عنها - بوحي من الله - تعالى.
عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لها: ((أُريتُك في المنام مرتين، أرى أنك في سَرَقَةٍ من حريرٍ، ويقول: هذه امرأتُك، فأكشِفُ عنها، فإذا هي أنت، فأقول: إن يكُ هذا من عند الله يُمضِهِ))[13].
ولم يتزوَّجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - بِكرًا غير عائشة - رضي الله عنها.
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلتُ: يا رسول الله، أرأيتَ لو نزلتَ واديًا، وفيه شجرةٌ قد أُكِل منها، ووجدتَ شجرًا لم يؤكَلْ منها، في أيها كنت ترتع بعيرَك؟ قال: ((في الذي لم يرتع منها))، تعني أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتزوَّجْ بِكرًا غيرها[14].
قوله:
.
.
.
.
.
.
وبعدَ خمسينَ وعامٍ تَالِ
أُسْرِي به، والصَّلواتُ فُرِضَتْ
خَمسًا بخمسينَ كمَا قَدْ حُفِظَتْ
وفي السنة الثانية عشرة من بِعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل الهجرة بعام واحد[15]، عندما كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الحادية والخمسين من عمره، أُسرِيَ به - صلى الله عليه وسلم - من المسجدِ الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرِج به - صلى الله عليه وسلم - إلى سِدرةِ المنتهى، وفُرِضت عليه الصلواتُ خمسين صلاة، فراجَع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ربَّه؛ كما نصحه بذلك موسى عليه السلام، فجعَلها الله - عز وجل - خمسَ صلواتٍ بأجر خمسين صلاة.
وإليك تفاصيلَ هذه الرحلة المبارَكة الثابتة بالكتاب والسنة.
قال - تعالى -: ﴿ سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [الإسراء: 1]، ﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [النجم: 1 - 18].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((بينما أنا عند البيت[16] في الحِجر مضطجعًا[17] بين النائم واليقظان[18] إذ أتاني آتٍ، فشقَّ[19] من النحر إلى مراقِّ البطن[20]، فاستخرج قلبي[21]، ثم غسَله بماء زمزم، ثم جاء بطَستٍ من ذهب ممتلئ حكمةً وإيمانًا، فأفرَغه في صدري، ثم أطبَقه[22]، ثم أُتِيت بدابةٍ أبيض، يقال له: البراق، فوق الحمار ودون البغل، يقع خَطوُه عند أقصى طَرْفِه[23]، فاستصعب عليه، فقال له جبريل: أبمحمدٍ تفعل هذا؟ فما ركِبك أحدٌ أكرم على الله منه، قال: فارفَضَّ عرَقًا[24]، فركبتُه حتى أتيت بيتَ المقدس، قال: فربطتُه بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، قال: ثم دخلتُ المسجد[25] فصليتُ بالنبيين والمرسلين إمامًا[26]، ثم خرجت فجاءني جبريل - عليه السلام -بإناءٍ من خمرٍ وإناءٍ من لبنٍ، فاخترت اللَّبَن، فقال جبريل - عليه السلام -: اخترتَ الفطرة[27]، ثم أخَذ بيدي فعرَج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئتُ إلى السماء الدنيا، قال جبريلُ لخازن السماء: افتَح، قال: من هذا؟ قال: جبريلُ، قال: هل معك أحدٌ؟ قال: نَعم معي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أُرسِل إليه؟ قال: نعم، فلمَّا فتَح، علَوْنا السماء الدنيا، فإذا رجلٌ قاعدٌ على يمينه أَسْودِةٌ، وعلى يسارِه أسودةٌ، إذا نظَر قِبَل يمينه ضحِك، وإذا نظَر قِبَل يساره بكى، فقال: مرحبًا بالنبيِّ الصالح، والابن الصالح، قلتُ لجبريل: من هذا؟ قال: هذا آدَمُ، وهذه الأسودةُ عن يمينه وشِماله نسَمُ بنيه، فأهلُ اليمين منهم أهلُ الجنَّة، والأسودةُ التي عن شِماله أهلُ النار، فإذا نظَر عن يمينه ضحِك، وإذا نظَر قِبَل شِماله بكى[28]، ثم صعِد بي حتى أتى السماءَ الثانية فاستفتَح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به؛ فنِعْم المجيءُ جاء، ففتح، فلمَّا خلصت إذا يحيى وعيسى، وهما ابنا الخالة، قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما، فسلَّمتُ، فردَّا، ثم قالا: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعِد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أُرسِل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به؛ فنِعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسفُ فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعِد بي حتى أتى السماء الرابعة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: أوَقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به؛ فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت إلى إدريس قال: هذا إدريس فسلِّم عليه، فسلمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعِد بي حتى أتى السماء الخامسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحبًا به؛ فنعم المجيء جاء، ففتح، فلما خلصت فإذا هارون، قال: هذا هارون فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، ثم صعِد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: من معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به؛ فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى، قال: هذا موسى فسلِّم عليه، فسلَّمتُ عليه، فردَّ، ثم قال: مرحبًا بالأخ الصالح، والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى، قيل له: ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلامًا بُعث بعدي، يدخل الجنةَ من أمته أكثرُ ممن يدخلها من أمتي، ثم صعِد بي إلى السماء السابعة، فاستفتح جبريل، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمدٌ، قيل: وقد بُعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به؛ فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا إبراهيم، قال: هذا أبوك فسلِّم عليه قال: فسلَّمتُ عليه، فرد السلام، قال: مرحبًا بالابن الصالح، والنبي الصالح، ثم رُفِعت إلى سدرة المنتهى، فإذا نبقها مِثلُ قلال هجر، وإذا ورَقها مثل آذان الفيلة، قال: هذه سدرةُ المنتهى، وإذا أربعة أنهارٍ، نهران باطنان، ونهران ظاهران، فقلت: ما هذانِ يا جبريل؟ قال: أما الباطنانِ فنهران في الجنة، وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رُفع لي البيت المعمور، ثم أُتِيت بإناءٍ من خمرٍ، وإناءٍ من لبنٍ، وإناءٍ من عسلٍ، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتُك، ثم فُرضت عليَّ الصلوات خمسين صلاةً كل يومٍ، فرجعت فمررت على موسى، فقال: بمَ أمرت؟ قال: أُمرتُ بخمسين صلاةً كل يومٍ، قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاةً كل يومٍ، وإني والله قد جرَّبْت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعتُ فوضع عني عشرًا، فرجعتُ إلى موسى فقال مِثلَه، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشرًا، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأُمِرت بعشر صلواتٍ كل يومٍ، فرجعت فقال مثله، فرجعت فأُمرتُ بخمس صلواتٍ كل يومٍ، فرجعت إلى موسى فقال: بمَ أمرت؟ قلت: أُمرتُ بخمس صلواتٍ كل يومٍ، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلواتٍ كل يومٍ، وإني قد جربت الناس قبلك، وعالجتُ بني إسرائيل أشد المعالجة، فارجِعْ إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، قال: سألتُ ربي حتى استحييت، ولكني أرضى وأُسلِّمُ، قال: فلما جاوزتُ نادى منادٍ: أمضيتُ فريضتي، وخفَّفْتُ عن عبادي))[29].
فلما رجَع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصبح بمكة، يقول - صلى الله عليه وسلم -: ((فظِعْتُ بأمري[30] وعرفت أن الناس مكذبي))، فقعد - بأبي هو وأمي ونفسي، صلى الله عليه وسلم - معتزلاً حزينًا، فمر عدو الله أبو جهلٍ، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيءٍ؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))، قال: ما هو؟ قال: ((إنه أُسرِي بي الليلة))، قال: إلى أين؟ قال: ((إلى بيت المقدس)).
قال: ثم أصبحتَ بين ظهرانَيْنَا؟! قال: ((نعم)).
قال: فلم يرَ أنه يكذبه، مخافة أن يجحدَه الحديث إذا دعا قومه إليه، قال: أرأيتَ إن دعوتُ قومَك، تحدِّثهم ما حدثتني؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم)).
فقال: هيا معشر بني كعب بن لؤي، حتى قال: فانتفضَتْ إليه المجالس، وجاؤوا حتى جلسوا إليهما.
قال: حدِّثْ قومك بما حدثتني.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني أُسرِي بي الليلة)).
قالوا: إلى أين؟ قال: ((إلى بيتِ المقدِسِ)).
قالوا: ثم أصبحتَ بين ظهرانَيْنا؟ قال: ((نعم)).
قال: فمِن بين مصفقٍ، ومن بين واضعٍ يده على رأسه متعجبًا للكذب؛ زعم!
قالوا: وهل تستطيعُ أن تنعَتَ لنا المسجد؟ وفي القوم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد.
فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((فذهبت أنعت، فما زلتُ أنعَتُ حتى التبس عليَّ بعضُ النعت، قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر، حتى وضع دون دار عقالٍ - أو عقيلٍ - فنعتُّه وأنا أنظر إليه)).
قال: ((وكان مع هذا نعتٌ لم أحفظه)).
قال: فقال القوم: أما النعتُ، فوالله لقد أصاب[31].
[1] المغازي لابن إسحاق (171)، وعنه ابن هشام في السيرة (1/ 291، 292).
[2] انظر: مغازي ابن إسحاق (243)، وعيون الأثر، (1/ 151).
[3] عيون الأثر (234).
[4] نَصيبِين: بفتح النون وكسر الصاد المهمَلة على صيغة الجمع.
وتقع نصيبين في أقصى شمال الجزيرة الفُراتية على الحدود بين تركية وسورية والحدود، تحوزُها - اليوم - إلى تركية، تُجاور مدينة القامشلي السورية، ليس بينهما غير الحد، نصيبين شماله، والقامشلي جنوبه، ويمرُّ فيهما أحدُ فروع نهر الخابور؛ معجم المعالم الجغرافية في السيرة (319).
[5] صفوة الصفوة (1/ 44).
[6] سيرة ابن هشام (1/ 421، 422).
[7] أخرجه البخاري (3860).
[8] أخرجه أحمد (25769)، مرسلاً عن أبي سلمة ويحيى بن عبدالرحمن بن حاطب، ووصله الطبري في "التاريخ" (3/162)، والبيهقي في "الدلائل" (2/411، 412)، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" (3060، 3061)، والطبراني في "الكبير" (23/57)، فرووه عن يحيى بن عبدالرحمن عن عائشة، قال الذهبي في "السير" 1/182: إسناده حسن.
[9] صحيح: أخرجه مسلم (1423).
[10] متفق عليه: أخرجه البخاري (3894)، ومسلم (1422).
[11] مسلم (1422).
[12] شرح مسلم (9/ 207).
[13] متفق عليه: أخرجه البخاري (3895)، ومسلم (2438).
[14] صحيح: أخرجه البخاري (5077).
[15] انظر: الطبقات الكبرى (1/ 213).
[16] البخاري (3207).
[17] البخاري (3887).
[18] البخاري (3207).
[19] البخاري (3887).
[20] البخاري (3207)، أي إلى ما رقَّ من الجلد، وهو ما يكون أسفلَ البطن.
[21] مسلم (164).
[22] البخاري (349).
[23] مسلم (164).
[24] أحمد 3/164، الترمذي (3131)، وقال: حسن غريب، وصحَّح إسناده الألباني في "صحيح الترمذي".
[25] مسلم (162).
[26] انظر: "الإسراء والمعراج" للألباني (14).
[27] مسلم (162).
[28] البخاري (349).
[29] صحيح: أخرجه البخاري (3887)، كتاب: مناقب الأنصار، باب: المعراج.
[30] أي: اشتَدَّ علَيَّ وهِبْتُه؛ (نهاية).
[31] صحيح الإسناد: أخرجه أحمد 1/309، الطبراني (12782)، وحسَّنه الحافظ في "الفتح" 7/199، وقال الألباني في "الإسراء والمعراج" (82): سنده صحيح.