فليقل خيرا أو ليصمت
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
فليقُل خيراً أو ليَصمتعلى الرغم من صغر حجم اللسان بالنسبة لأعضاء الإنسان الأخرى، فإنه أعظم هذه الأعضاء خطرًا على الإنسان، فهو المقوَد الذي يوجِّه الإنسان، فبه يستقيم، وبه ينحرف.
وبه تقال كلمة التوحيد، وبه يكون إعلان الكفر، وقد سجل الحديث الشريف هذه الحقيقة.
فعن أبي سعيد الخدري - مرفوعًا - قال: «إذا أصبح ابن آدم، فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان، فتقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن عوججتَ اعوججنا»[1].
ولما لهذا العضو من خطر كانت أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كثيرة في الحث على ضبطه ومحاسبته، وبيان جزاء من استطاع فعل ذلك.
فعن سهل بن سعد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من يضمن لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة»[2].
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من وقاه الله شر ما بين لحييه، وشر ما بين رجليه دخل الجنة»[3].
وقد نبه صلى الله عليه وسلم على ضرورة محاسبة الإنسان نفسه على ما يتلفظ به لسانه، فربَّ كلمة لم يلق لها بالًا كانت سببًا في هلاكه.
ففي الحديث المتفق عليه: أن أبا هريرة رضي الله عنه، سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها، يزل بها في النار أبعد مما بين المشرقين»[4].
ومن هنا كان إمساك اللسان فضيلة ينبغي الحرص عليها.
قال صلى الله عليه وسلم: «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»[5].
وعن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك»[6].
ونجد في حديث معاذ رضي الله عنه، الذي تناول كليات الإسلام أن أمر اللسان يأخذ مساحة غير صغيرة من الموضوع، مما يدل على مدى عنايته صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر.
ويحسن بنا أن نسوق الحديث بكامله، لما فيه من بيان لمكانة اللسان وخطره وعظم أمره.
عن معاذ بن جبل قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فأصبحت يومًا قريبًا منه ونحن نسير، فقلت يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار.
قال: «لقد سألتني عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت».
ثم قال: «ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماءُ النارَ، وصلاة الرجل من جوف الليل» قال: ثم تلا ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ ﴾ حتى بلغ ﴿ يُنْفِقُونَ ﴾[7].
ثم قال: «ألا أخبرك برأس الأمر كله، وعموده وذروة سنامه؟».
قلت: بلى، يا رسول الله.
قال: «رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد».
ثم قال: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟».
قلت: بلى، يا رسول الله.
فأخذ بلسانه، قال: «كفَّ عليك هذا».
فقلت: يا نبي الله، وإنا لمؤاخذون مما[8] نتكلم به؟.
فقال: «ثكلتك[9] أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم»[10].
والأمر الذي يستوقف الإنسان في هذا الحديث الشريف:
أنه صلى الله عليه وسلم تحدث عن أركان الإسلام.
وأتبع ذلك بالحديث عن أبواب الخير.
ثم أخبرنا عن رأس الأمر، وعموده وذروة سنامه.
ثم عقب على ذلك كله بقوله: «ألا أخبرك بملاك ذلك كله».
قال الشراح في معنى هذه الجملة: أي ألا أخبرك بما يملك الإنسان به ذلك كله..
وكل ما سبق في شيء عظيم وكبير..
ويحصل بكف اللسان، كما أخبر الصادق المصدوق.
ألا يجعل هذا الحديث الشريف أمر كف اللسان في ذروة الأعمال؟ بلى.
[1] أخرجه الترمذي برقم (2407).
ومعنى تكفر اللسان: أي تذل له وتخضع.
[2] أخرجه البخاري برقم (6474).
[3] أخرجه الترمذي برقم (2409).
[4] أخرجه البخاري برقم (6477) ومسلم (2988).
[5] متفق عليه (خ 6018، م 47) من حديث أبي هريرة.
[6] أخرجه الترمذي برقم (2406).
[7] سورة السجدة، الآية (16).
[8] وفي رواية ابن ماجه: «بما نتكلم به».
[9] أي فقدتك، وهي كلمة لا يقصد بها معناها، وإنما المقصود التعجب من غفلته عن هذا الأمر.
[10] أخرجه الترمذي برقم (2616) وابن ماجه (3973).