تفسير سورة الهمزة [1]


الحلقة مفرغة

عن بهز بن حكيم قال: حدثنا أبي عن جدي قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم؛ ويل له .. ويل له)، رواه الإمام أحمد في مسنده، وأبو داود ، والترمذي ، وحسنه الحاكم ، والنسائي ؛ ورمز له السيوطي بالصحة، وصححه الألباني. وهذا الحديث يرويه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده معاوية بن حيدة رضي الله عنه. و(ويل) أي: هلاك عظيم، أو واد عميق في جهنم؛ (لمن يحدث)، أي: لمن يخبر الناس؛ (فيكذب) في حديثه؛ (ليضحك به القوم) يضحك هنا من الإضحاك، أي: بسبب تحديثه، أو يضحك بهذا الكذب القوم؛ (ويل له ويل له). يقول الإمام المناوي في شرح هذا الحديث: (كرره إيذاناً بشدة هلكته) فكرر النبي صلى الله عليه وسلم هذا الويل وهذا الوعيد إيذاناً بشدة هلكة من أتى هذا الفعل الشنيع. ويقول الإمام القاري في شرحه: (كرره إما للتأكيد أو للتأذية؛ فتكون الويل الأولى للبرزخ) أي: ويل له أنه يلقى هذا العذاب وهذا الوعيد في البرزخ في قبره، (ثم ويل الثانية يلقاها عند الموقف أمام الله عز وجل؛ والويل الثالثة يلقاها في النار). وهذا ما يعرف بـ: (النكتة) فهو يكذب في الكلام من أجل أن يضحك الناس، وهذا من الكبائر، وعليه هذا الوعيد الشديد، وقول المناوي : (كرره إيذناً -يعني إعلاماً- بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه -أي: إلى الكذب- استجلاب الضحك الذي يميت القلب) بدليل ذلك ما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تكثروا الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب) رواه ابن ماجة في سننه، فإذا انضم إليه استحلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان، ويورد الرعونة؛ كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة؛ فهو ينكت ويضحك ويكذب أيضاً ليضحك القوم. وقال المباركفوري في شرح هذا الحديث: (ثم المفهوم منه؛ يعني إذا كان هذا حق من يكذب ليضحك به القوم, فمفهوم المخالفة: أنه إذا حدث بحديث صدق ليضحك القوم فلا بأس) إن كان إنسان على سبيل الندرة ليس على سبيل العادة، وأن حياته كلها تكون هزلاً ومزاحاً وضحكاً؛ فإن كان يضحك القوم بحديث صدق فلا حرج في ذلك ولا ويل له، كما صدر مثل ذلك عن عمر رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم حين غضب على بعض أمهات المؤمنين. وهو يشير بذلك إلى ما أخرجه الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال: (أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس ببابه جلوس، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر رضي الله عنه فاستأذن فلم يؤذن له، ثم أذن لـأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساؤه وهو صلى الله عليه وسلم ساكت -يعني واجم كأنه حزين- فقال عمر -في نفسه-: لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك)، حاول أن يضحك النبي عليه الصلاة والسلام لما رأى من حاله الذي يظهر منه الحزن (فقال عمر : يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد -يعني امرأته- سألت النفقة آنفاً فوجأت عنقها -يعني: أرادت أن أوسع عليها فقطعت عنقها- فضحك النبي صلى الله عليه وسلم) أراد سيدنا عمر أن يضحكه لكن بالحق وليس فيها كذب، (فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة رضي الله عنها ليضربها. وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة رضي الله عنها، كلاهما يقولان: تسألن النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، فنهاهما رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضربهما، فقلن: والله لا نسأل رسول الله بعد هذا المجلس ما ليس عنده؛ قال: وأنزل الله عز وجل الخيار بسورة الأحزاب: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا [الأحزاب:28-29]؛ فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بـعائشة فقال: إني أذكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك، قالت: وما هو؟ قال: فتلا عليها يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا [الأحزاب:28]؛ قالت: أفيك أستأمر أبوي، بل أختار الله تعالى ورسوله، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت، فقال: إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً، ولكن بعثني معلماً ميسراً؛ لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلا أخبرتها). المقصود من الحديث: أن عمر رضي الله عنه هنا في هذا الحديث فعل فعل الإضحاك، وتعمد الإضحاك لكن بحق ولم يكذب. فمفهوم الحديث: أن الذي يضحك القوم في الحق فلا حرج عليه، لكن الحرج فيمن يضحكهم بحديث الكذب. وقال الغزالي : وحينئذ إذا أراد الإنسان أن يضحك القوم بحديث صدق فينبغي أن يكون من قبيل مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذا أراد أن يمزح فليكن على نهج النبي صلى الله عليه وسلم في مزاحه، فلا يقول إلا حقاً؛ ولا يأتي بمزاح إلا من المزاح الحق كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فاستحمله) يعني: طلب منه أن يحمله على دابة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا حاملوك على ولد الناقة، فقال: يا رسول الله! ما أصنع بولد الناقة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهل تلد الإبل إلا النوق!) فأراد أن يداعبه النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه فهم أنه يريد ولد الناقة الصغير وهو لا يحمل، وهذا الحديث رواه الإمام أبو داود والترمذي . وقال زيد بن أسلم : (إن امرأة يقال لها: أم أيمن ، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن زوجي يدعوك. قال: ومن هو؟ أهو الذي بعينه بياض! فقالت: والله ما بعينه بياض، فقال: بلى إن بعينه بياضاً، فقالت: لا والله، فقال: ما من أحد إلا وبعينه بياض)؛ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم البياض الذي في عين كل إنسان وهو المحيط بالحدقة، أما هي فقد فهمت منه البياض الذي يكون على الحدقة. وأخرج الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه: (أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً ، وكان يهدي النبي صلى الله عليه وسلم الهدية من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج) كان إذا قدم من البادية يأتي معه بهدية، فإذا أراد أن يخرج من الحضر إلى البادية يعود لكي يجهزه النبي ويهديه هدية أخرى؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن زاهراً باديكم ونحن حاضره، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه، وكان رجلاً دميماً، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه، ولم يبصره زاهر، فقال: أرسلني، من هذا، فعرف أنه النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرفه -فلم يعد يطلب أن يقول له: أرسلني- وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذن والله تجدني كاسداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لكنك عند الله لست بكاسد) أو قال: (لكنك عند الله غال) وهذا الحديث رواته ثقات. فسياق هذا الحديث يبين أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان ليبيع رجلاً حراً، ولكن أراد بكلمة العبد: (من يشتري العبد)، يعني: عبد الله؛ وكلنا عبيد لله. وأخرج الترمذي في الشمائل عن الحسن قال: (أتت عجوز النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يدخلني الجنة، فقال: يا أم فلان! إن الجنة لا تدخلها عجوز؛ فولت تبكي، فقال: أخبروها أنها لا تدخلها وهي عجوز، إن الله تعالى يقول: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا [الواقعة:35-37])، يعني: أنها تعود إلى صباها ولا تدخلها وهي على هيئة الشيخوخة. وأخرج الترمذي في الشمائل عن أنس رضي الله عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا ذا الأذنين) يعني: يمازحه؛ لأن كل إنسان له أذنان. وهذه الأحاديث حتى وإن لم يصح بعضها لكن جملتها تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح ولكن بالحق ولم يكن يغلب عليه هذا المزاح. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا، قال: إني لا أقول إلا حقاً)، فهذا شأن النبوة، وفي هذا ينبغي أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم. يقول الغزالي : (وحينئذ ينبغي أن يكون م

يقول الله عز وجل: بسم الله الرحمن الرحيم: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة:1-9]. اسم هذه السورة: سورة الهمزة. وهي: مكية بإجماع من نقل عنه من المفسرين، وقال هبة الله بن سلامة المفسر: (وقد قيل إنها مدنية) ولا شك أن البناء للمجهول يدل على ضعف هذا القول، لكن ذكر بعض المفسرين أنها مكية بإجماع. وعدد آياتها تسع آيات بلا خلاف.

مناسبة موضع سورة الهمزة لما قبلها وما بعدها من السور

أما مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة العصر: لما ذكر سبحانه فيما قبلها في سورة العصر أن الإنسان سوى من استثنى الله سبحانه وتعالى في خسر: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:2-3]، بين هنا في السورة التالية أحوال بعض الخاسرين على وجه التفصيل، فقال عز وجل: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]. أما مناسبة هذه السورة لما بعدها وهي سورة الفيل: فكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة الذين كانوا يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم نوع كيد له عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل؛ للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم، فإن عناية الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم أقوى وأتم من عنايته بالبيت، أي: إذا كانت عناية الله لبيته الحرام أدت إلى إهلاك أصحاب الفيل فعنايته بنبيه الذي تهمزونه وتلمزونه أتم وأتم؛ فالسورة تشير إلى مآلهم في الدنيا إثر بيان مآلهم في الأخرى، ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من الله تعالى شيئاً، يعني إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:2-3]، هؤلاء ليسوا ممن جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:2-3]، ويتوهم أن النجاة بكثرة المال وكثرة تعداده، وإنما النجاة كما في سورة العصر بالعمل الصالح والصبر عليه. أو تكون كالاستدلال على قدرته عز وجل على إنفاذ ما توعد به أولئك الكفرة في قوله سبحانه: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة:4]، فالله عز وجل الذي قدر على أن يعاقب أصحاب الفيل في الدنيا بهذه العقوبة الشديدة وهذا الخزي وذلك النكال قادر سبحانه وتعالى بالأولى على أن ينفذ هذا الوعيد المتوعد به في هذه الآية: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ . أما سبب النزول فلم يرد من طريق ثابت أو صحيح سبب مباشر في نزول الآية، لكن حكى بعض المفسرين أقوالاً في أن هذه السورة نزلت في أشخاص معينين. قال ابن الجوزي : واختلف المفسرون هل نزلت في حق شخص بعينه، أم نزلت عامة؟ على قولين، ويأتي إن شاء الله التفصيل.

القراءات في سورة الهمزة

أما بالنسبة للقراءات في هذه السورة، فقد قرأ الجمهور: ( ويل لكل همزة لمزة ) كما هي رواية حفص ؛ وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج : ( ويل لكل همزة لمزة ) بسكون الميم فيهما. قرأ الجماعة أيضاً: ( الذي جمع مالاً وعدده )، ( الذي جمع ) فعل مخفف الميم، وشددها الحسن وابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير، واختار أبو عبيد تشديد الميم لقوله تعالى: ( وعدده ) فهو أوفق به. وقال الطبري : أما قوله: ( الذي جمع مالاً ) فإن التشديد والتخفيف فيهما صوابان، يعني: كلاهما قراءة صحيحة ( الذي جمع) أو ( الذي جمع ) لأنهما قراءتان معروفتان عند قرأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقرأ الحسن والكلبي ونصر بن عاصم وأبو العالية : ( الذي جمع مالاً وعدده ) أي: قرأ الموضعين بالتخفيف، فأظهروا هذا التبعيض فقالوا في قوله: ( الذي جمع مالاً وعدده ) قالوا: العطف هنا على المال، أي: جمع المال ثم جعل (وعدده) أي: عدد هذا المال. قال الطبري تعليقاً على قراءة ( وعدده ): (وقد ذكر عن بعض المتقدمين بإسناد غير ثابت أنه قرأه ( جمع مالاً وعدده ) بتخفيف الدال، بمعنى جمع مالاً وجمع عشيرته وعدده، وهذه القراءة لا القراءة بها، بخلافها قراءة الأمصار وخروجها عما عليه الحجة مجمعةً في ذلك). فالمقصود: أن القراءة بالتشديد والتخفيف في ميم (جمع) ( الذي جمع ) أو ( جمع مالاً وعدده ) وجهاً واحداً. قوله: ( كلا لينبذن ) قرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن بالتثنية ( كلا لينبذان ) أي: لينبذن هو وماله؛ وعن الحسن أيضاً ( كلا لينبذنه ) يعني لينبذن ماله، وعنه أيضاً ( كلا لننبذنه ) أي: بدون العظمة وهاء النصب ونون التوكيد ( لننبذنه ) على أنه أخبر الله تعالى عن نفسه، وأنه ينبذ صاحب المال ويلقيه في الحطمة، وعن الحسن أيضاً ( لينبذن ) بضم الذال على أن المراد الهمزة واللمزة والذي جمع مالاً وكأن على هذا المجموع كله لينبذن كلهم في الحطمة، وقرأ زيد بن علي : ( لينبذن في الحاطمة * وما أدراك ما الحاطمة ). وقال الطبري في تفسير في قوله تعالى: ( إنها عليهم مؤصدة ) بالهمز؛ قال: (مؤصدة يعني: مطبقة وهي تهمز، ولا تهمز وقد قرئتا جميعاً) يعني ممكن تقرأ ( مؤصدة ) أو ( موصدة ). وليس معنى هذا أننا في الصلاة نجمع بين القراءتين في وقت واحد، وإن بدأت بقراءة حفص عن عاصم تستمر فيها، لكن لا تجمع في المجلس الواحد بين قراءتين مختلفتين كما يفعل بعض القراء؛ لأن هذا من البدع. قوله: ( في عمد ممددة ) اختار أبو عبيد ( عمد ) بفتحتين، وكذلك أبو حاتم ، اعتباراً بقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2]؛ وأجمعوا على فتحها، فهو قال: بما أنهم أجمعوا في سورة الرعد على فتح كلمة ( عمد ) فكذلك هنا تقرأ على مثالها. وفي قراءة ابن مسعود : ( إنها عليهم مؤصدة * بعمد ممددة ) وقراءة حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : ( في عمد ممددة ) جمع عمود في حاله، فقرأ هارون عن أبي عمر بضم العين وسكون الميم ( في عُمد ممددة ) لكن قراءة الجمهور بالفتح: (في عمد ممددة) وقال الطبري : (قرأته عامة قراء المدينة والبصرة ( في عمد ممددة ) بالفتح، وقرأ عامة قراء الكوفة ( في عمد ممددة ) بالضم. والقول في ذلك عندنا: أنهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القراء، ولغتان صحيحتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. لكن لو كان في صلاة جماعة والإمام يقرأ مستمراً على قراء حفص عن عاصم ثم خالف وقرأ بقراءة أخرى حتى ولو لم يقصد، لكن في هذه الحالة لا تفتح عليه؛ لأن هذا لا يعتبر خطأً، فمادام أن القراءة التي قرأ بها الإمام هي أحد أوجه القراءة الصحيحة فلا تنكر عليه، ولا تفتح عليه في الصلاة.

سبب نزول سورة الهمزة

يقول الله عز وجل: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]، قال الإمام أبو حيان : هذه السورة مكية، لما قال فيما قبلها: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ [العصر:2]؛ بين حال الخاسر فقال: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ . ونزلت في الأخنس بن شريق ، لكن الحافظ ابن حجر صحح في الإصابة أنه أسلم، وكان من المؤلفة قلوبهم، فإذاً: إن صح هذا فلا يتأتى هذا الوعيد في حقه، فإما ألا يصح ذلك، أو لا يصح إسلامه. وقيل: إنها نزلت في: العاص بن وائل السهمي ، أو جميل بن عامر الجمحي ، أو الوليد بن المغيرة ، أو أمية بن خلف ، أو أبي بن خلف . وهذه كلها أقوال ذكرها المفسرون في الشخص الذي نزلت فيه هذه السورة، ويمكن أن تكون نزلت في الجميع، وهي مع ذلك عامة في من اتصف بهذه الأوصاف، وقال السهيلي : هو أمية بن خلف الجمحي كان يهمز النبي صلى الله عليه وسلم ويعيبه، وإنما ما ذكرته -إن كان اللفظ عاماً-؛ لأن الله سبحانه وتعالى تابع في أوصافه، أي: أن بعض العلماء يرى أنها نزلت في شخص بعينه؛ لأن الله تابع في ذكر أوصاف هذا الشخص والخبر عنه: ( ويل لكل همزة لمزة * الذي جمع مالاً وعدده ) فكل كلامه على ضمير معين، حتى فهم أنه يشير إلى شخص بعينه، وكذلك قوله في سورة نون: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ [القلم:10-12] إلى آخر الآيات، فتابع في ذكر الصفات حتى علم أنه يريد إنساناً بعينه هو الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رضي الله عنه. قال الطبري : فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عم بالقول كل همزة لمزة، كل من كان بالصفة التي وُصف هذا الموصوف بها، سبيله سبيله، كائناً من كان من الناس؛ لأن اختصاص السبب لا يستدعي خصوص الوعيد بهم، بل كل من اتصف بوصف القبيح فله ذنوب مثل ذنوبهم. وقال بعض أهل العربية: هذا من نوع ما تذكر العرب اسم الشيء العام، وهي تقصد به الواحد، ويسمونه في أصول الفقه (تخصيص العام بقرينة العرف) يعني: هي عامة والمقصود بها شخص بعينه، كما يقال فيما لو كلم الأول الثاني فيقول له: لا أزورك أبداً، أي: أنا لن أزورك أبداً، فيرد عليه الثاني: كل من لم يزرني فلست بزائره، وهو يقصده هو بالذات، فظاهر اللفظ أنه يعني أناساً كثيرين، لكن يظهر من سياق الكلام أنه يقصد المتكلم نفسه، وقائل ذلك يقصد جواب صاحبه ويريده هو بهذه الصيغة العامة. المهم: هناك خلاف في الآية، لكن لاشك -كما يرى الكثير من المفسرين- أن المقصود هنا العموم حتى وإن نزلت في سياق خاص؛ لأنه لا تعارض؛ والعبرة بعموم الألفاظ وليست بخصوص الأسباب.

أما مناسبة هذه السورة لما قبلها وهي سورة العصر: لما ذكر سبحانه فيما قبلها في سورة العصر أن الإنسان سوى من استثنى الله سبحانه وتعالى في خسر: إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:2-3]، بين هنا في السورة التالية أحوال بعض الخاسرين على وجه التفصيل، فقال عز وجل: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ [الهمزة:1]. أما مناسبة هذه السورة لما بعدها وهي سورة الفيل: فكأنه لما تضمن الهمز واللمز من الكفرة الذين كانوا يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم نوع كيد له عقب ذلك بقصة أصحاب الفيل؛ للإشارة إلى أن عقبى كيدهم في الدنيا تدميرهم، فإن عناية الله عز وجل برسوله صلى الله عليه وسلم أقوى وأتم من عنايته بالبيت، أي: إذا كانت عناية الله لبيته الحرام أدت إلى إهلاك أصحاب الفيل فعنايته بنبيه الذي تهمزونه وتلمزونه أتم وأتم؛ فالسورة تشير إلى مآلهم في الدنيا إثر بيان مآلهم في الأخرى، ويجوز أن تكون كالاستدلال على ما أشير إليه فيما قبلها من أن المال لا يغني من الله تعالى شيئاً، يعني إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:2-3]، هؤلاء ليسوا ممن جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ [الهمزة:2-3]، ويتوهم أن النجاة بكثرة المال وكثرة تعداده، وإنما النجاة كما في سورة العصر بالعمل الصالح والصبر عليه. أو تكون كالاستدلال على قدرته عز وجل على إنفاذ ما توعد به أولئك الكفرة في قوله سبحانه: لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ [الهمزة:4]، فالله عز وجل الذي قدر على أن يعاقب أصحاب الفيل في الدنيا بهذه العقوبة الشديدة وهذا الخزي وذلك النكال قادر سبحانه وتعالى بالأولى على أن ينفذ هذا الوعيد المتوعد به في هذه الآية: كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ . أما سبب النزول فلم يرد من طريق ثابت أو صحيح سبب مباشر في نزول الآية، لكن حكى بعض المفسرين أقوالاً في أن هذه السورة نزلت في أشخاص معينين. قال ابن الجوزي : واختلف المفسرون هل نزلت في حق شخص بعينه، أم نزلت عامة؟ على قولين، ويأتي إن شاء الله التفصيل.

أما بالنسبة للقراءات في هذه السورة، فقد قرأ الجمهور: ( ويل لكل همزة لمزة ) كما هي رواية حفص ؛ وقرأ أبو جعفر محمد بن علي والأعرج : ( ويل لكل همزة لمزة ) بسكون الميم فيهما. قرأ الجماعة أيضاً: ( الذي جمع مالاً وعدده )، ( الذي جمع ) فعل مخفف الميم، وشددها الحسن وابن عامر وحمزة والكسائي على التكثير، واختار أبو عبيد تشديد الميم لقوله تعالى: ( وعدده ) فهو أوفق به. وقال الطبري : أما قوله: ( الذي جمع مالاً ) فإن التشديد والتخفيف فيهما صوابان، يعني: كلاهما قراءة صحيحة ( الذي جمع) أو ( الذي جمع ) لأنهما قراءتان معروفتان عند قرأة الأمصار، متقاربتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وقرأ الحسن والكلبي ونصر بن عاصم وأبو العالية : ( الذي جمع مالاً وعدده ) أي: قرأ الموضعين بالتخفيف، فأظهروا هذا التبعيض فقالوا في قوله: ( الذي جمع مالاً وعدده ) قالوا: العطف هنا على المال، أي: جمع المال ثم جعل (وعدده) أي: عدد هذا المال. قال الطبري تعليقاً على قراءة ( وعدده ): (وقد ذكر عن بعض المتقدمين بإسناد غير ثابت أنه قرأه ( جمع مالاً وعدده ) بتخفيف الدال، بمعنى جمع مالاً وجمع عشيرته وعدده، وهذه القراءة لا القراءة بها، بخلافها قراءة الأمصار وخروجها عما عليه الحجة مجمعةً في ذلك). فالمقصود: أن القراءة بالتشديد والتخفيف في ميم (جمع) ( الذي جمع ) أو ( جمع مالاً وعدده ) وجهاً واحداً. قوله: ( كلا لينبذن ) قرأ الحسن ومحمد بن كعب ونصر بن عاصم ومجاهد وحميد وابن محيصن بالتثنية ( كلا لينبذان ) أي: لينبذن هو وماله؛ وعن الحسن أيضاً ( كلا لينبذنه ) يعني لينبذن ماله، وعنه أيضاً ( كلا لننبذنه ) أي: بدون العظمة وهاء النصب ونون التوكيد ( لننبذنه ) على أنه أخبر الله تعالى عن نفسه، وأنه ينبذ صاحب المال ويلقيه في الحطمة، وعن الحسن أيضاً ( لينبذن ) بضم الذال على أن المراد الهمزة واللمزة والذي جمع مالاً وكأن على هذا المجموع كله لينبذن كلهم في الحطمة، وقرأ زيد بن علي : ( لينبذن في الحاطمة * وما أدراك ما الحاطمة ). وقال الطبري في تفسير في قوله تعالى: ( إنها عليهم مؤصدة ) بالهمز؛ قال: (مؤصدة يعني: مطبقة وهي تهمز، ولا تهمز وقد قرئتا جميعاً) يعني ممكن تقرأ ( مؤصدة ) أو ( موصدة ). وليس معنى هذا أننا في الصلاة نجمع بين القراءتين في وقت واحد، وإن بدأت بقراءة حفص عن عاصم تستمر فيها، لكن لا تجمع في المجلس الواحد بين قراءتين مختلفتين كما يفعل بعض القراء؛ لأن هذا من البدع. قوله: ( في عمد ممددة ) اختار أبو عبيد ( عمد ) بفتحتين، وكذلك أبو حاتم ، اعتباراً بقوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا [الرعد:2]؛ وأجمعوا على فتحها، فهو قال: بما أنهم أجمعوا في سورة الرعد على فتح كلمة ( عمد ) فكذلك هنا تقرأ على مثالها. وفي قراءة ابن مسعود : ( إنها عليهم مؤصدة * بعمد ممددة ) وقراءة حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم : ( في عمد ممددة ) جمع عمود في حاله، فقرأ هارون عن أبي عمر بضم العين وسكون الميم ( في عُمد ممددة ) لكن قراءة الجمهور بالفتح: (في عمد ممددة) وقال الطبري : (قرأته عامة قراء المدينة والبصرة ( في عمد ممددة ) بالفتح، وقرأ عامة قراء الكوفة ( في عمد ممددة ) بالضم. والقول في ذلك عندنا: أنهما قراءتان معروفتان قد قرأ بكل واحد منهما علماء من القراء، ولغتان صحيحتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. لكن لو كان في صلاة جماعة والإمام يقرأ مستمراً على قراء حفص عن عاصم ثم خالف وقرأ بقراءة أخرى حتى ولو لم يقصد، لكن في هذه الحالة لا تفتح عليه؛ لأن هذا لا يعتبر خطأً، فمادام أن القراءة التي قرأ بها الإمام هي أحد أوجه القراءة الصحيحة فلا تنكر عليه، ولا تفتح عليه في الصلاة.