خطب ومحاضرات
الإسلام ودوره في إسعاد البشرية
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق البشر وهو غني عنهم، وهو أعلم بمصالحهم، وقد أرسل إليهم الرسل لإقامة الحجة عليهم ولإظهار المحجة لهم، وقفَّى على آثارهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فجاء بالحنيفية السمحة، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وجاء على فترة من الرسل واقتراب من الساعة، وجهالة من الناس، فهدى الله به من أراد هدايته من أهل الأرض إلى هذه المحجة، فشرفهم على سائر الأمم من سبق ومن يأتي، فجعل هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، وجعلها شهداء على الناس، وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهيداً عليها، وجعل هذا الملة خير الملل، وجعلها كفالةً وضماناً لمصالح البشر، فهي ضمان لمصالحهم الدينية والدنيوية، فلا يصلح البشرية إلا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولا يمكن أن يصلوا إلى رضوان الله، ولا تحقيق مراده فيهم إلا عن طريق هذه الرسالة المشرفة التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل من طلب الصواب في غير ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو ضال عن الصواب لا يمكن أن يناله.
تحريف الأديان وحفظ دين الإسلام
وهذا الدين هو الدين الحق عند الله، فكل الأديان التي قبله كانت مرحلية تصلح لمرحلة محددة، وإذا تجاوزت تلك المرحلة لم تعد صالحة للتطبيق، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل الشرائع الأخرى إنما تصلح لمدة محددة ثم تزول صلاحيتها وتنتهي بعد ذلك، فمن أراد تطبيق الشرائع حتى ولو لم تحرف ولم تبدل، فإذا أراد تطبيق التوراة التي أنزلت على موسى، أو الإنجيل الذي أنزل على عيسى، وغير ذلك من الشرائع الآن، لا يستطيع ذلك؛ لأن حياة الناس لم تعد موافقة لما كانت شرعت فيه تلك الشرائع.
وما يوجد اليوم من هذه الشرائع كله محرف مبدل زيادة على ذلك، وقد عصم هذه الشريعة من التحريف والتبديل، فعصمها بهذا القرآن الذي هو حجة قائمة على الثقلين الإنس والجن إلى يوم القيامة، وكل الشرائع الأخرى كانت معجزة أنبيائها مادية، لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها أو من نقلت إليه تواترا، كناقة صالح وعصا موسى وغير ذلك من المعجزات المادية.
أما معجزة هذا الدين فهي هذا الكتاب الذي نحفظه في صدورنا، ونقرأه في مصاحفنا وألواحنا، وهو محفوظ معصوم من التغيير والتبديل: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، لا يستطيع أحد أن يحذف منه حرفاً واحداً، ولا أن يزيد فيه حرفاً واحداً، ولا أن يغير شيئاً منه، ولذلك جاء في الحديث: ( هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره )، فهذا القرآن هو أحدث الكتب بالله عهداً، فيه خبر ما قبلنا وخبر من بعدنا، وفصل من بيننا، وهو الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى حكماً لأهل الأرض، وجعله حكماً مستمراً، صالحاً لكل زمان ومكان، ولذلك شرع فيه ما يكفل مصالح الناس في علاقاتهم فيما بينهم وفي علاقاتهم بربهم، فنظم للناس العبادات، ونظم لهم المعاملات، ونظم لهم الأخلاق، ونظم لهم الحقوق، فما من شيءٍ يحتاج الناس إلى تفصيله إلا جاء مفصلاً في القرآن، ولذلك قال الله تعالى: تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:154]، وقال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن بسنته، فجاءت الشريعة متكاملة في القرآن والسنة، فيهما بيان كل ما يحتاج إلى البيان، وأتيا على كل حاجة البشرية، وأتيا بما يرضي الله سبحانه وتعالى من عباده، فمن اقتصر على ما جاء فيهما ولم يتعده كان ناجياً في الدنيا والآخرة.
وهذا الدين هو الدين الحق عند الله، فكل الأديان التي قبله كانت مرحلية تصلح لمرحلة محددة، وإذا تجاوزت تلك المرحلة لم تعد صالحة للتطبيق، ولذلك قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فكل الشرائع الأخرى إنما تصلح لمدة محددة ثم تزول صلاحيتها وتنتهي بعد ذلك، فمن أراد تطبيق الشرائع حتى ولو لم تحرف ولم تبدل، فإذا أراد تطبيق التوراة التي أنزلت على موسى، أو الإنجيل الذي أنزل على عيسى، وغير ذلك من الشرائع الآن، لا يستطيع ذلك؛ لأن حياة الناس لم تعد موافقة لما كانت شرعت فيه تلك الشرائع.
وما يوجد اليوم من هذه الشرائع كله محرف مبدل زيادة على ذلك، وقد عصم هذه الشريعة من التحريف والتبديل، فعصمها بهذا القرآن الذي هو حجة قائمة على الثقلين الإنس والجن إلى يوم القيامة، وكل الشرائع الأخرى كانت معجزة أنبيائها مادية، لا تقوم بها الحجة إلا على من رآها أو من نقلت إليه تواترا، كناقة صالح وعصا موسى وغير ذلك من المعجزات المادية.
أما معجزة هذا الدين فهي هذا الكتاب الذي نحفظه في صدورنا، ونقرأه في مصاحفنا وألواحنا، وهو محفوظ معصوم من التغيير والتبديل: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، لا يستطيع أحد أن يحذف منه حرفاً واحداً، ولا أن يزيد فيه حرفاً واحداً، ولا أن يغير شيئاً منه، ولذلك جاء في الحديث: ( هو حبل الله المتين، وصراطه المستقيم، من تمسك به عصم، ومن تركه من جبار قصم الله ظهره )، فهذا القرآن هو أحدث الكتب بالله عهداً، فيه خبر ما قبلنا وخبر من بعدنا، وفصل من بيننا، وهو الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى حكماً لأهل الأرض، وجعله حكماً مستمراً، صالحاً لكل زمان ومكان، ولذلك شرع فيه ما يكفل مصالح الناس في علاقاتهم فيما بينهم وفي علاقاتهم بربهم، فنظم للناس العبادات، ونظم لهم المعاملات، ونظم لهم الأخلاق، ونظم لهم الحقوق، فما من شيءٍ يحتاج الناس إلى تفصيله إلا جاء مفصلاً في القرآن، ولذلك قال الله تعالى: تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ [الأنعام:154]، وقال تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وقال تعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن بسنته، فجاءت الشريعة متكاملة في القرآن والسنة، فيهما بيان كل ما يحتاج إلى البيان، وأتيا على كل حاجة البشرية، وأتيا بما يرضي الله سبحانه وتعالى من عباده، فمن اقتصر على ما جاء فيهما ولم يتعده كان ناجياً في الدنيا والآخرة.
وخطاب الله ينقسم إلى قسمين: إلى قدر، وشرع، فالقدر تعبدنا الله بجهله ولم يكلفنا به وهو نافذ علينا، والشرع تعبدنا الله بتعلمه وكلفنا به.
فالشرع هو الذي نكلف بتطبيقه وتنفيذه، والقدر ليس لنا قدرة على تنفيذه ولا تطبيقه فهو نافذ علينا، لكن القدر دائماً في مصلحة من تبع الشرع، فمن تبع شرع الله كان الله له، ونصره وأيده، وما يجده من الآلام والمشكلات في هذه الحياة تكفيراً لسيئاته، ورفعاً لدرجاته، وتكون العاقبة له في النهاية والعاقبة للمتقين.
ما أتى الكفار من المصلحة الظاهرة
ومن خالف شرع الله ونبذه كان القدر على خلاف مراده، فإذا جاء ما ظاهره مصلحة له كان باطنه مفسدة عليه، ومضرة له، مثلما يقيضه الله للكفرة والطغاة والظلمة مما يقوون به في هذه الحياة الدنيا ويزيدون به تكبراً وعناداً، فظاهره أنه في مصلحتهم؛ لأنه يحقق هواهم في هذه الدار، ولكنه مفسدة لهم، فإنه يوصلهم إلى نهايتهم وهلكتهم في الحياة الدنيا، ويكونون به مسلطين على أنفسهم، وهو كذلك المضرة الكاملة لهم في الآخرة، فضرره بارز عليهم، فكل من تبع الشرع ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولا، لا يكتب الله له في قدره إلا ما هو خير له، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عجباً لأمر المؤمن كل أمر المؤمن له خير )، وفي رواية ( إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن )، فهذا مختص بأهل الإيمان.
أما أهل الكفر والعصيان والنفاق، فما يكون لهم في هذا الدار مما يوافق هواهم، أو يحقق لهم مصلحة دنيوية، فهو وبال عليهم في آخرتهم، وأيضاً خسارة لهم في دنياهم، فلننظر إلى ما فتحه الله من الكنوز لفرعون وجنوده، ولنتذكر عاقبته ومآله، ولنتذكر ما قيض الله لعادٍ في هذه الأرض من القوة حتى قالوا: من أشد منا قوة، ولنتذكر ما قيضه الله لثمود الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، ثم بعد ذلك ماذا كانت العاقبة؟ وهكذا في كل ما يقيضه الله للطغاة والملحدين والمعتدين، الذين يخالفون شرعه فيكون القدر على خلاف مرادهم، وتكون النتيجة النهائية خسرانهم في الدنيا وفي الآخرة.
ومن خالف شرع الله ونبذه كان القدر على خلاف مراده، فإذا جاء ما ظاهره مصلحة له كان باطنه مفسدة عليه، ومضرة له، مثلما يقيضه الله للكفرة والطغاة والظلمة مما يقوون به في هذه الحياة الدنيا ويزيدون به تكبراً وعناداً، فظاهره أنه في مصلحتهم؛ لأنه يحقق هواهم في هذه الدار، ولكنه مفسدة لهم، فإنه يوصلهم إلى نهايتهم وهلكتهم في الحياة الدنيا، ويكونون به مسلطين على أنفسهم، وهو كذلك المضرة الكاملة لهم في الآخرة، فضرره بارز عليهم، فكل من تبع الشرع ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم رسولا، لا يكتب الله له في قدره إلا ما هو خير له، ولذلك ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( عجباً لأمر المؤمن كل أمر المؤمن له خير )، وفي رواية ( إن أمره كله له خير، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن )، فهذا مختص بأهل الإيمان.
أما أهل الكفر والعصيان والنفاق، فما يكون لهم في هذا الدار مما يوافق هواهم، أو يحقق لهم مصلحة دنيوية، فهو وبال عليهم في آخرتهم، وأيضاً خسارة لهم في دنياهم، فلننظر إلى ما فتحه الله من الكنوز لفرعون وجنوده، ولنتذكر عاقبته ومآله، ولنتذكر ما قيض الله لعادٍ في هذه الأرض من القوة حتى قالوا: من أشد منا قوة، ولنتذكر ما قيضه الله لثمود الذين كانوا ينحتون من الجبال بيوتاً فارهين، ثم بعد ذلك ماذا كانت العاقبة؟ وهكذا في كل ما يقيضه الله للطغاة والملحدين والمعتدين، الذين يخالفون شرعه فيكون القدر على خلاف مرادهم، وتكون النتيجة النهائية خسرانهم في الدنيا وفي الآخرة.
وهذا الشرع الحنيف الذي هو دين الإسلام، هو الذي يكفل السعادة لهذا الجنس البشري، فلا يمكن أن ينال البشر سعادة إلا منه، فعلى مستوى الفرد يجد الفرد فيه سعادته الروحية، فهو يحس بأنه ذو قيمة وأن لحياته معنىً، وأن لوجوده فائدة، بخلاف الذي لا يلتزم هذا الشرع، فإنه لا يحس بهذه القيمة ولا يستشعرها؛ ولذلك يعيش مثل حياة البهائم كما قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ [محمد:12]، فالأنعام ليس لحياتها معنىً، فتمضي السنوات والسنوات على الإبل وهي ترعى في وقت الربيع وتجوع في وقت الصيف، ويذللها أضعف الناس وأذلهم: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72]، وهكذا في البهائم كلها، فنرى الكبش السمين الكبير يضجعه أضعف البشر ويذبحه، فيقضي على حياته في طرفة عين، ويسلخه ويجزئ أعضاءه، فهذه أمور ليس للحيوانات فيها أي اعتبار ولا قيمة، ومن هنا فإن الحياة الحقيقة هي السعادة بهذا الدين أن يستشعر الإنسان قيمته بانتمائه لهذا الدين ومثوله له.
معرفة أثر السعادة الروحية
وإذا أراد الإنسان أن يعرف أثر هذه السعادة الروحية، فلينظر إلى كبار السن من غير الملتزمين بالشرع، سواءً كانوا يهوداً أو نصارى أو من المسلمين الجهال المعرضين عن الله، إذا تقدم بهم العمر ووصلوا إلى أرذل العمر كان الناس يستقذرونهم، ولم يكونوا أهلاً لأن يجالسوا، ولا أهلاً لأن يستمع منهم، فقد ضعفت عقولهم فلم يبقَ لديهم تفكير، وضعفت قواهم وتغير ما فيهم من جمال وحسن، فانتقصت قيمتهم فأصبحوا كالبهائم تماماً، ومن أراد ذلك فلينظر إلى حفلات النصارى التي يجتمع فيها كبار السن، فيرى الشيخ المسن العجوز الذي يتوكأ على العصا، وهو يأتي مع الفتيان الصغار ليسمع أغنية أو ليشرب خمرةً أو غير ذلك، ويرى العجوز الكبيرة التي تخرج من بيتها ليس لها شغل إلا لعب القمار، وهكذا وما نشاهده أيضاً في بلادنا من المسلمين الكبار السن، الذين أعرضوا عن هذا الدين فلم يتعلموه بشبابهم وقوتهم ولم يعملوا به، فعاشوا ما عاشوا تبعاً لهواهم، فلما كبروا وتقدم بهم العمر وصلوا إلى أرذل العمر، فالناس ينظرون إليهم بازدراء.
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل
هم كبار السن، وربما تكون لهم من قبل مكانه أو مال أو غير ذلك، لكن إذا تقدم بهم العمر ووصلوا إلى الضعف والشيبة كانوا أذل البشرية، ليس لهم أي اعتبار ولا أية قيمة، وهذا يدل على أن الالتزام بهذا الدين هو الذي تحصل به السعادة؛ لأننا في مقابله نرى الملتزمين من كبار السن من كان منهم من أهل العلم والتقوى، يجله الناس إجلالاً عظيماً ويقتربون منه ويلتمسون دعاءه ويخدمونه، ويحملونه على رقابهم، وإذا مات أجتمع لجنازته الخلائق وهكذا.
كما قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إن الموعد بيننا وبينهم الجنائز، فهذا البون الشاسع الكبير جداً، بين حال هؤلاء وهؤلاء مؤذن بأن هذا الإسلام هو الذي تنال به السعادة الحقيقية، والسعادة الروحية أولاً، ويدرك الإنسان ذلك عندما يستيقظ والناس نيام، فيذكر الله ويتوضأ ويستاك ويصلي ركعتين، عندما يسجد فتمس جبهته الأرض لأول وهلة، يتذكر أن الله أذن له في المناجاة في هذه اللحظة، التي صرف فيها كثير من الناس عن مناجاته، منهم من صرفه بالكفر، ومنهم من صرفه بالغفلة لا يدور أمر الآخرة في خلده، ولا يفكر في الموت ولا بالعرض على الله، ومنهم شغله بالجهل، فإذا استيقظ ذهب إلى التلفزيون يقلب قنواتها، أو ذهب إلى أي أمرٍ من الأمور التافهة، ومنهم من شغله بالمرض، فهو يتقلب على فراشه يميناً وشمالاً بسبب ألم في ضرسه أو في أذنه أو في عينه أو في غير ذلك، وإذا أذن الله لعبده وأمته بالمناجاة والناس نيام، فإنه ينال بذلك سعادة لا يدركها إلا من مذاق طعمها، وهي سعادة رهيبة عجيبة، يحس فيها الإنسان بلذة التقريب، وبأنه فتحت أمامه الأبواب، وأمن له في مناجاة الملك الديان في هذا الوقت، فيستشعر قول عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم بابا، ولا أسدل دونهم حجابا، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، فأثنوا عليه بما ألهمهم من الثناء، وسبحوه وحمدوه فضاهوا بذلك ملائكة قدسه في السماء، ورفعوا إليه حوائجهم لا يرفعونها إلى من سواه، يكتمونها عن الخلائق ويفضون بها إلى رب الخلائق جل جلاله، فيلبي لهم رغباتهم، وأولى هذا الترغيب أنه أذن لهم بالمسألة، فلو لم يقربهم لما أذن لهم برفع الحوائج إليه أصلا.
استشعار السعادة في الأعمال
وهذه النعمة العظيمة الجسيمة إذا استشعرها الإنسان نال بها سعادة عجيبة، ومثل ذلك سعادته ولذته إذا أذن له بالصلاة في وقتها، فهو على موعد مع الله ينتظره وموعده للسجود غروب الشمس، وموعده بعد ذلك للسجود والمناجاة غروب الشفق، وموعده بعد ذلك طلوع الفجر، وموعده بعد ذلك وهو ينتظر بلهفة زوال الشمس عن كبد السماء، فعندما يحل النفل يبادر إلى اللقاء؛ لأنه اشتاق إلى الملك الديان، وسعد بلقائه، فإذا أذن له في وقت اللقاء بادر إليه.
ولذلك فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يبتدرون السواري إذا سمعوا أذان المغرب، كانوا إذا تأخر الإمام عن الإحرام لا يصلون لأنهم كانوا في وقت نهي، وقد أذن لهم بالصلاة فبادروا إليها شوقاً إلى الله ومحبة له.
السعادة في قراءة القرآن
وهذه السعادة العظيمة ينالها الإنسان كذلك في غير الصلاة من القرب، إذا فتح المصحف وقرأ القرآن، وبدأ يتذكر أن هذا الكلام الذي يقرؤه كلام الله جل جلاله، الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف ما على وجه الأرض وأكرمه على الله، ومن تشريف الله لنا أنه لم يرفعه عنا، وسيرفع عن أقوام، فلنقارن بين حالنا وحال بقية هذه الأمة عندما يرفع عنهم القرآن، ماذا يفعلون، وكيف ستكون حياتهم؟
إننا الآن في سعادة رهيبة عجيبة بهذا القرآن، إذا مرض أحدنا لجأ إليه يقرأ فينال به الشفاء: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وإذا ضاقت عليه أبواب الرزق رجع إلى القرآن فوسع عليه ضيق الدنيا، وإذا اتسعت عليه أبواب الرزق عاد إلى القرآن فضيق عليه أبواب الدنيا بعد سعتها، وإذا مرض أو تألم عاد إليه، وإذا سجن عاد إليه، فهو أنيسه الذي لا يفارقه أبدا، وهذا القرآن عجائبه لا تنتهي، ففيه مائدة الله سبحانه وتعالى الموضوعة في الأرض، لا يشبع منه العلماء، ولا تنتهي عجائبه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
ما من إنسان يتدبره بقلب صادق ولو لم يكن من أهل العلم، إلا فتح له أبواب من الخير والعلم لم تفتح لمن سواه، ولذلك لا تنفذ عجائبه، فكل امرأة أو كل ولد قرأ المصحف بنية التدبر لا بد أن يفتح الله له أمراً لم يفتح لمن قبله، إذا أخلص وصدق.
السعادة في الأذكار
وكذلك غير هذا من القربات، فالإنسان المقبل على الذكر إذا جلس في وقت غفلات الناس فذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وأقبل عليه يردد الثناء بالتسبيح والتهليل والتحميد، وهو يعلم أنها رسالة مباشرة إلى الملك الديان جل جلاله، فالملائكة المكلفون بالإنسان على الجوارح إذا قرأ القرآن وضع الملك فمه على فم الإنسان، فإذا خرج الحرف قرقر في جوف الملك، وكذلك في الذكر، ثم يرتفع به إلى الملك الديان كتاباً ورسالة إلى الله جل جلاله.
وهذه السعادة العجيبة بذكر الله سبحانه وتعالى يدركها الإنسان الذي له خبيئة من الذكر يفعلها في خلواته، إذا كان يحافظ على أذكار المساء والصباح والنوم والاستيقاظ، يحافظ على ذكرٍ معينٍ في أول النهار، أو في أول الليل؛ لأنه يعتبر النهار والليل بمثابة الجمل، إذا أمسك الإنسان بزمامه أو بخطامه انقاد له، وإذا تأخر عنه لعله يفوته ولا يدركه، فهو يريد أن يجلس على رقبته من أول الأمر، إذا غربت الشمس بادر إلى الأذكار أذكار الليل، وإذا طلع الفجر بادر إلى أذكار النهار، وهكذا حتى يمسك اليوم من أوله والليلة من أولها، ويحافظ عليها دون أن تفوت ودون أن تضيع، ويستشعر هذه السعادة عندما يكمل ورده وينظر، فيأوي إلى فراشة يريد الراحة والنوم، وهو يتذكر أنه ولله الحمد قد وفق، فلم يبقَ ذكر إلا أتى بمائة منه، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، وقال: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم مائة مرة، واستغفر الله مائة مرة، وحمد الله وكبره وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة، وذكر هذه الأذكار ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى وطلب تقريبه ومرضاته، وأداءً لحقه لا طلباً لحظوظ الدنيا، فإنه بذلك ينال سعادة عجيبة، وكثير من الناس ينامون دون أن يتهيئوا للنوم، فينامون على غير ذكر الله وهي إحدى المصائب والطوام الكبرى.
ولذلك قال النووي رحمه الله: باب التحذير من النوم على غير ذكر الله، فالإنسان إذا نام على غير ذكر الله فيمكن أن يموت في نومته، فيكون قد ختم بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية، لكن إذا نام على ذكر الله، فقد ختم على الأقل هذا اليوم الذي هو فيه، ختمه بذكر الله بخير ختام.
السعادة في الصدقة
كذلك ينال الإنسان هذه السعادة العجيبة بهذا الإسلام عندما يتصدق ابتغاء مرضات الله، فيخفي صدقته ويعلم أنه أخذها من حلها ووضعها في محلها، واختار لها مصرفها المناسب، فعندئذٍ ينال سعادةً عجيبة، ولذةً رهيبة، تدخل إلى باطنه فيتذكر أن الله أنعم عليه وميزه حين جعل الحاجة إليه، ولم يجعله هو محتاجاً، وحين وفقه وحين قيض له المصرف المناسب، فكل ذلك ينال به الإنسان سعادة عجيبة.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه متمثلاً في طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما قتل يوم الجمل:
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
فتىً لا يعد المال رباً ولا يرى به نخوة إن نال مالاً ولا كبر
السعادة في ترك الأمر المحرم
وكذلك ينال الإنسان هذه السعادة بالإسلام إذا حال الإسلام بينه وبين أمرٍ محرم، إذا كان في وظيفة فقيل له: إن هذه الوظيفة حرام عليه، وإن ما تتقاضاه من المال منها حرام عليك، فخرج منها لوجه الله ينال سعادة عجيبة؛ لأنه حال الإسلام بينه وبين مكاسب دنيويه لا خير له فيها، وهي مضرة على عمره ورزقه وبركته وصحته، وهكذا إذا ترك الصفقة المربحة الدنيوية ابتغاء مرضاة الله؛ لأنه علم أن فيها رباً، فتركها لوجه الله، ينال بذلك سعادة عجيبة وراحة وطمأنينة، وهكذا في أمرٍ يتركه ابتغاء مرضاة الله، لا يتركه إلا لذلك، ينال به سعادةً عجيبةً جداً؛ ولذلك كان الذي تدعوه امرأة ذات منصب وجمال، فيقول: إني أخاف الله، من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ لأنه نال هذه السعادة العجيبة.
السعادة في الاعتقاد
وهذه السعادة بالإسلام في هذه الحياة يجدها الفرد في هذه الأمور التي ذكرناها، سواء كانت امتثالاً أو اجتناباً، وكذلك ينالها في الأمور العقدية في الإسلام، فإذا كانت عقيدته صحيحة، وهو يرى المنحرفين والمبتدعين والضالين عن يمينه وشماله وقد وفق هو للاعتقاد الحق، وعلم أنما هو عليه برهانه من الكتاب والسنة، وأنه موافق تماماً لما كان يعتقده رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وتذكر قول الله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ [البقرة:137]، فسيحمد الله تعالى، وينعم بصفاء عقيدته وصحة تصوره.
السعادة في الأخلاق
وكذلك فيما يتعلق بالخلق إذا هدي الإنسان بخلق الإسلام، فكان صاحب رحمة ورأفة، إذا رأى مريضاً رق له، وإذا رأى كبير السن رق له، وإذا رأى صغير السن رق له، وإذا رأى فقيراً محتاجاً رق له، وإذا رأى مصاباً بأية بلية رق له، هذه صفة من صفات الإسلام، والرحمة خلق الإسلام، خلق كتبه الله على نفسه وكتبه على عباده: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54]، ( الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء )، ( إنما يرحم الله من عباده الرحماء )، فيسعد الإنسان بهذه الرحمة عندما يجدها، وكذلك الحال بالنسبة للحياء، إذا كان الإنسان يستحي مما لا يرضي الله سبحانه وتعالى، فيستحي من الأقوال غير المرضية ومن الأفعال الغير مرضية، ومن كل ما هو غير مرضي لدى الله سبحانه وتعالى، فيجد حياءه يمنعه من فعل المحرم أو المكروه، أو من قوله فإنه يسعد بهذا الحياء؛ لأنه خلق من أخلاق الإسلام، وهو شعبة من شعبه، والحياء شعبة من الإيمان.
وكذلك في غير هذا من الأخلاق، إذا كان الإنسان لا يغضب، أو كان يحلم عندما يشتد به الغيظ فيكظم الغيظ، ويستطيع أن يمسك نفسه عند الغضب، فإنه يسعد بذلك سعادة رهيبة؛ لأنه يرى الذين يغضبون يتصرفون تصرفات غير مناسبة، ولا يحمدون غبها وعقباها، بل يندمون عليها، فكم شاهدنا ممن غضب فتصرف تصرفاً ندم عليه غاية الندم، ويغضب الإنسان غضباً لأتفه الأسباب، فيطلق أهله فتقع مشكلة اجتماعية كبيرة، ويتعب نفسه ويتعب المفتي ويتعب غيره في سبيل إصلاح ما أفسده هو، ويغضب فيقول كلمة تفسد عليه علاقاته أو صلة رحمه، ويغضب فيتصرف تصرفاً يفسد مروءته أو يؤثر على دينه، فلا يصعد إلا بترك الغضب، ولا يمكن أن يتركه الإنسان إلا باتباعه لهذا الدين، وبأخذه بهذا الإسلام الحق الذي يمنع من الغضب، فقد قال الله تعالى: وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [آل عمران:134] وقال تعالى: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ [الشورى:37].
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً أتاه، فقال: يا رسول الله! أوصني، قال: لا تغضب، فردد مراراً قال: لا تغضب ).
وإذا أراد الإنسان أن يعرف أثر هذه السعادة الروحية، فلينظر إلى كبار السن من غير الملتزمين بالشرع، سواءً كانوا يهوداً أو نصارى أو من المسلمين الجهال المعرضين عن الله، إذا تقدم بهم العمر ووصلوا إلى أرذل العمر كان الناس يستقذرونهم، ولم يكونوا أهلاً لأن يجالسوا، ولا أهلاً لأن يستمع منهم، فقد ضعفت عقولهم فلم يبقَ لديهم تفكير، وضعفت قواهم وتغير ما فيهم من جمال وحسن، فانتقصت قيمتهم فأصبحوا كالبهائم تماماً، ومن أراد ذلك فلينظر إلى حفلات النصارى التي يجتمع فيها كبار السن، فيرى الشيخ المسن العجوز الذي يتوكأ على العصا، وهو يأتي مع الفتيان الصغار ليسمع أغنية أو ليشرب خمرةً أو غير ذلك، ويرى العجوز الكبيرة التي تخرج من بيتها ليس لها شغل إلا لعب القمار، وهكذا وما نشاهده أيضاً في بلادنا من المسلمين الكبار السن، الذين أعرضوا عن هذا الدين فلم يتعلموه بشبابهم وقوتهم ولم يعملوا به، فعاشوا ما عاشوا تبعاً لهواهم، فلما كبروا وتقدم بهم العمر وصلوا إلى أرذل العمر، فالناس ينظرون إليهم بازدراء.
وإن كبير القوم لا علم عنده صغير إذا التفت عليه المحافل
هم كبار السن، وربما تكون لهم من قبل مكانه أو مال أو غير ذلك، لكن إذا تقدم بهم العمر ووصلوا إلى الضعف والشيبة كانوا أذل البشرية، ليس لهم أي اعتبار ولا أية قيمة، وهذا يدل على أن الالتزام بهذا الدين هو الذي تحصل به السعادة؛ لأننا في مقابله نرى الملتزمين من كبار السن من كان منهم من أهل العلم والتقوى، يجله الناس إجلالاً عظيماً ويقتربون منه ويلتمسون دعاءه ويخدمونه، ويحملونه على رقابهم، وإذا مات أجتمع لجنازته الخلائق وهكذا.
كما قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إن الموعد بيننا وبينهم الجنائز، فهذا البون الشاسع الكبير جداً، بين حال هؤلاء وهؤلاء مؤذن بأن هذا الإسلام هو الذي تنال به السعادة الحقيقية، والسعادة الروحية أولاً، ويدرك الإنسان ذلك عندما يستيقظ والناس نيام، فيذكر الله ويتوضأ ويستاك ويصلي ركعتين، عندما يسجد فتمس جبهته الأرض لأول وهلة، يتذكر أن الله أذن له في المناجاة في هذه اللحظة، التي صرف فيها كثير من الناس عن مناجاته، منهم من صرفه بالكفر، ومنهم من صرفه بالغفلة لا يدور أمر الآخرة في خلده، ولا يفكر في الموت ولا بالعرض على الله، ومنهم شغله بالجهل، فإذا استيقظ ذهب إلى التلفزيون يقلب قنواتها، أو ذهب إلى أي أمرٍ من الأمور التافهة، ومنهم من شغله بالمرض، فهو يتقلب على فراشه يميناً وشمالاً بسبب ألم في ضرسه أو في أذنه أو في عينه أو في غير ذلك، وإذا أذن الله لعبده وأمته بالمناجاة والناس نيام، فإنه ينال بذلك سعادة لا يدركها إلا من مذاق طعمها، وهي سعادة رهيبة عجيبة، يحس فيها الإنسان بلذة التقريب، وبأنه فتحت أمامه الأبواب، وأمن له في مناجاة الملك الديان في هذا الوقت، فيستشعر قول عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخروا بين يديه متذللين، ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم بابا، ولا أسدل دونهم حجابا، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً، فأثنوا عليه بما ألهمهم من الثناء، وسبحوه وحمدوه فضاهوا بذلك ملائكة قدسه في السماء، ورفعوا إليه حوائجهم لا يرفعونها إلى من سواه، يكتمونها عن الخلائق ويفضون بها إلى رب الخلائق جل جلاله، فيلبي لهم رغباتهم، وأولى هذا الترغيب أنه أذن لهم بالمسألة، فلو لم يقربهم لما أذن لهم برفع الحوائج إليه أصلا.
وهذه النعمة العظيمة الجسيمة إذا استشعرها الإنسان نال بها سعادة عجيبة، ومثل ذلك سعادته ولذته إذا أذن له بالصلاة في وقتها، فهو على موعد مع الله ينتظره وموعده للسجود غروب الشمس، وموعده بعد ذلك للسجود والمناجاة غروب الشفق، وموعده بعد ذلك طلوع الفجر، وموعده بعد ذلك وهو ينتظر بلهفة زوال الشمس عن كبد السماء، فعندما يحل النفل يبادر إلى اللقاء؛ لأنه اشتاق إلى الملك الديان، وسعد بلقائه، فإذا أذن له في وقت اللقاء بادر إليه.
ولذلك فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يبتدرون السواري إذا سمعوا أذان المغرب، كانوا إذا تأخر الإمام عن الإحرام لا يصلون لأنهم كانوا في وقت نهي، وقد أذن لهم بالصلاة فبادروا إليها شوقاً إلى الله ومحبة له.
وهذه السعادة العظيمة ينالها الإنسان كذلك في غير الصلاة من القرب، إذا فتح المصحف وقرأ القرآن، وبدأ يتذكر أن هذا الكلام الذي يقرؤه كلام الله جل جلاله، الذي نزل به الروح الأمين على قلب محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهو أشرف ما على وجه الأرض وأكرمه على الله، ومن تشريف الله لنا أنه لم يرفعه عنا، وسيرفع عن أقوام، فلنقارن بين حالنا وحال بقية هذه الأمة عندما يرفع عنهم القرآن، ماذا يفعلون، وكيف ستكون حياتهم؟
إننا الآن في سعادة رهيبة عجيبة بهذا القرآن، إذا مرض أحدنا لجأ إليه يقرأ فينال به الشفاء: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ [فصلت:44]، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، وإذا ضاقت عليه أبواب الرزق رجع إلى القرآن فوسع عليه ضيق الدنيا، وإذا اتسعت عليه أبواب الرزق عاد إلى القرآن فضيق عليه أبواب الدنيا بعد سعتها، وإذا مرض أو تألم عاد إليه، وإذا سجن عاد إليه، فهو أنيسه الذي لا يفارقه أبدا، وهذا القرآن عجائبه لا تنتهي، ففيه مائدة الله سبحانه وتعالى الموضوعة في الأرض، لا يشبع منه العلماء، ولا تنتهي عجائبه كما قال ابن عباس رضي الله عنهما.
ما من إنسان يتدبره بقلب صادق ولو لم يكن من أهل العلم، إلا فتح له أبواب من الخير والعلم لم تفتح لمن سواه، ولذلك لا تنفذ عجائبه، فكل امرأة أو كل ولد قرأ المصحف بنية التدبر لا بد أن يفتح الله له أمراً لم يفتح لمن قبله، إذا أخلص وصدق.
وكذلك غير هذا من القربات، فالإنسان المقبل على الذكر إذا جلس في وقت غفلات الناس فذكر الله خالياً ففاضت عيناه، وأقبل عليه يردد الثناء بالتسبيح والتهليل والتحميد، وهو يعلم أنها رسالة مباشرة إلى الملك الديان جل جلاله، فالملائكة المكلفون بالإنسان على الجوارح إذا قرأ القرآن وضع الملك فمه على فم الإنسان، فإذا خرج الحرف قرقر في جوف الملك، وكذلك في الذكر، ثم يرتفع به إلى الملك الديان كتاباً ورسالة إلى الله جل جلاله.
وهذه السعادة العجيبة بذكر الله سبحانه وتعالى يدركها الإنسان الذي له خبيئة من الذكر يفعلها في خلواته، إذا كان يحافظ على أذكار المساء والصباح والنوم والاستيقاظ، يحافظ على ذكرٍ معينٍ في أول النهار، أو في أول الليل؛ لأنه يعتبر النهار والليل بمثابة الجمل، إذا أمسك الإنسان بزمامه أو بخطامه انقاد له، وإذا تأخر عنه لعله يفوته ولا يدركه، فهو يريد أن يجلس على رقبته من أول الأمر، إذا غربت الشمس بادر إلى الأذكار أذكار الليل، وإذا طلع الفجر بادر إلى أذكار النهار، وهكذا حتى يمسك اليوم من أوله والليلة من أولها، ويحافظ عليها دون أن تفوت ودون أن تضيع، ويستشعر هذه السعادة عندما يكمل ورده وينظر، فيأوي إلى فراشة يريد الراحة والنوم، وهو يتذكر أنه ولله الحمد قد وفق، فلم يبقَ ذكر إلا أتى بمائة منه، قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير مائة مرة، وقال: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم مائة مرة، واستغفر الله مائة مرة، وحمد الله وكبره وقال: لا حول ولا قوة إلا بالله مائة مرة، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة، وذكر هذه الأذكار ابتغاء وجه الله سبحانه وتعالى وطلب تقريبه ومرضاته، وأداءً لحقه لا طلباً لحظوظ الدنيا، فإنه بذلك ينال سعادة عجيبة، وكثير من الناس ينامون دون أن يتهيئوا للنوم، فينامون على غير ذكر الله وهي إحدى المصائب والطوام الكبرى.
ولذلك قال النووي رحمه الله: باب التحذير من النوم على غير ذكر الله، فالإنسان إذا نام على غير ذكر الله فيمكن أن يموت في نومته، فيكون قد ختم بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية، لكن إذا نام على ذكر الله، فقد ختم على الأقل هذا اليوم الذي هو فيه، ختمه بذكر الله بخير ختام.
كذلك ينال الإنسان هذه السعادة العجيبة بهذا الإسلام عندما يتصدق ابتغاء مرضات الله، فيخفي صدقته ويعلم أنه أخذها من حلها ووضعها في محلها، واختار لها مصرفها المناسب، فعندئذٍ ينال سعادةً عجيبة، ولذةً رهيبة، تدخل إلى باطنه فيتذكر أن الله أنعم عليه وميزه حين جعل الحاجة إليه، ولم يجعله هو محتاجاً، وحين وفقه وحين قيض له المصرف المناسب، فكل ذلك ينال به الإنسان سعادة عجيبة.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه متمثلاً في طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه لما قتل يوم الجمل:
فتىً كان يدنيه الغنى من صديقه إذا ما هو استغنى ويبعده الفقر
فتىً لا يعد المال رباً ولا يرى به نخوة إن نال مالاً ولا كبر
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
خطورة المتاجرة بكلمة الحق | 4810 استماع |
بشائر النصر | 4287 استماع |
أسئلة عامة [2] | 4131 استماع |
المسؤولية في الإسلام | 4057 استماع |
كيف نستقبل رمضان [1] | 3997 استماع |
نواقض الإيمان [2] | 3946 استماع |
عداوة الشيطان | 3932 استماع |
اللغة العربية | 3930 استماع |
المسابقة إلى الخيرات | 3906 استماع |
القضاء في الإسلام | 3896 استماع |