خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60519"> سلسلة تفسير القرآن الكريم.
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة المطففين
الحلقة مفرغة
نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة المطففين، وهي السورة الثالثة والثمانون في ترتيب المصحف الكريم. قال المهايمي : سميت بالمطففين دلالة على أن من أخل بأدنى حقوق الخلق استحق أعظم ويل من الحق. حيث قال عز وجل: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3]. فإذا كان من أخل بحقوق الخلق عوقب بالويل الذي هو أعظم العذاب من الله سبحانه وتعالى، فكيف بمن أخل بأعظم حقوق الله على العباد من الإيمان به وبآياته ورسله؟! وسورة المطففين هي سورة مكية على الأظهر، فإن سياقها يؤيد أنها نزلت بمكة لا سيما خاتمتها، فإنها في صفات المستهزئين الذين كانوا بمكة، قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [المطففين:29] ... إلى آخرها. وحملها على المنافقين بالمدينة بعيد، إذ لم يبلغ بهم الحال ذلك، فالمنافقون في المدينة ما تجرءوا إلى حد أن يفعلوا ذلك صراحة مع المؤمنين. وأما ما رواه النسائي وابن ماجة كما في ابن كثير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين:1] فحسنوا الكيل بعد ذلك) فقد ذكرنا مراراً أن سبب النزول في إطلاق السلف لا يكون مقصوراً على سبب النزول؛ لأنه قد تشمل الآية حكمه، فأهل المدينة تلي عليهم ما سبق إنزاله في مكة، وقيل لهم: أنزل الله ما أنتم عليه من تطفيف فأقلعوا، وهذا ظاهر. ومنه يعلم أن قول بعضهم: نزلت بمكة إلا قصة التطفيف وشيئاً آخر، وقولهم: إن كل نوع من المكي والمدني منه آيات مستثناة، إنما منشؤه الحيرة في المطابقة بين ظاهر ما يتناقل من المأثور في سبب النزول، وبين ما يدل عليه السياق، وبالوقوف على عرف السلف يزول الإشكال، ويعلم سبب هذه الحيرة. وكثيراً ما يشير إلى هذا القاسمي رحمه الله تعالى حيث يذكر عدة أسباب للنزول في بعض السور وبعض الآيات، يقول الأول: نزلت في كذا. ويقول آخر: نزلت في كذا، في أشياء متغايرة؛ فلا يستلزم من ذلك تعدد النزول في كل الأحوال, ولا يستلزم التعارض بين هذه الأسباب؛ لأنها تكون قد نزلت لسبب واحد أو لغير سبب أصلاً, إلا أن حكمها ينطبق على هذه الوقائع، فيقال: نزلت فيمن يفعل كذا وكذا، بمعنى أن الحكم الذي تدل عليه الآية يشمل هذا وهذا.
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:1-3]. يقول تبارك وتعالى: (( وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ )): أي: هلاك للمطففين. قال الأصفهاني : ومن قال: ويل واد في جهنم، فإنه لم يرد أن ويلاً في اللغة هو موضوع لذلك، وإنما أراد: من قال الله تعالى ذلك فيه فقد استحق مقراً من النار. ثم عرف تعالى المطففين فقال: (( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ )) أي: إذا أخذوا الكيل من الناس يأخذونه وافياً زائداً، على إيهام أن ذلك تمام الكيل، فإذا فعلوا ذلك في الكيل الذي هو أقل مقداراً ففي الوزن بطريق الأولى. وهنا يقول الله: (( الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ )) ولم يقل: الذين إذا اكتالوا من الناس، فكلمة: (على) قدرت بـ(من) للإشارة إلى ما في عملهم المنكر من الاستعلاء والقهر، وبيان شأن الظالم المتحامل المتسلط الذي لا يستبرئ لدينه ولذمته. (( وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ )) أي: إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم ينقصونهم حقهم الواجب لهم، وهو الوفاء والتمام في الكيل والوزن. قال ابن جرير : من لغة أهل الحجاز أن يقولوا: وزنتك حقك، وكلتك طعامك. بمعنى: وزنت لك وكلت لك. وفي الإكليل: في الآيتين ذم التطفيف والخيانة في الكيل والوزن. أي: أنه من المنكر ومن المحظورات أشد الحظر؛ لما فيه من أكل أموال الناس بالباطل في الأخذ والدفع ولو في شيء قليل؛ لأن من دنت نفسه إلى القليل فطويته فاسدة وملكته خبيثة، وأنه لا يبعده عن التوثب إلى الكثير إلا عجز أو رقابة. يعني: لو كان قادراً على أن يستولي على ما ليس بحقه لفعل، ولو لم يكن عليه رقيب لأخذ ما استطاع، ولو لم يكن من حقه. قال ابن جرير : وأصل التطفيف من الشيء الطفيف، والطفيف هو القليل النزر، والمطفف المقلل حق صاحب الحق عما له من الوفاء والتمام في كيل أو وزن، ومنه قيل للقوم الذين يسيرون سواءً في حسبة أو عدد: هم سواء كطف الصاع. وقد أمر تعالى بالوفاء في الكيل والميزان, فقال تعالى : وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [الإسراء:35]، وقال تعالى: وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ [الرحمن:9] وقص علينا سبحانه أنه أهلك قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال.
أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُون * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:4-6]. يقول الله سبحانه متوعداً لهم: (( أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ )) يعني: من قبورهم بعد مماتهم. (( لِيَوْمٍ عَظِيمٍ )) أي: عظيم الهول جليل الخطب كثير الفزع، من خسر فيه أدخل ناراً حامية. (( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )) أي: لأمره وقضائه فيهم بما يستحقون، في موقف يغشى العبد فيه من الهول ما يود الافتداء بكل مستطاع. وفي تأكد الويل للمطففين بما ذكر في هاتين الآيتين مبالغة في المنع عن التطفيف وتعظيم حرمه؛ لأنه بعدما ذكر أحوالهم: الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ [المطففين:2-3] قال: أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:5-6]، مع اسم الإشارة الدالة على التبعيد (( أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ )) أي: البعداء الذين هم بعيدون؛ تحقيراً لهم. وقوله: (( لِيَوْمٍ عَظِيمٍ )) فيه وصف يوم القيامة بالعظمة أيضاً. وقوله: (( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )) هذا يدل على استعظام ما استسصغروه، يعني: هم يستصغرون هذا اليوم لكنه عظيم. وقوله تعالى: (( يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ )) فعنوان رب العالمين المالكية والتربية، لأنه هو الذي يملكهم وهو الذي يربيهم, الدال على أنه لا يفوته ظالم قوي، ولا يترك حق مظلوم ضعيف، واقتضت حكمته ألا يهمل مثقال ذرة من خير أو شر. وفي تعظيم أمر التطفيف إيماء إلى العدل وميزانه, وأن من لا يهمل مثل هذا كيف يهمل تعطيل قانون عدله في عباده؟! وناهيك بأنه وصفهم بصفات الكفرة، فتأمل هذا المقام ففيه ما تتحير فيه الأفهام. يعني: وصفهم بصفة الكفرة بقوله: (( أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ )) أي: إن كانوا من المسلمين المصدقين فقد تشبهوا بمن لا يؤمن بيوم الحساب ولا بالبعث والنشور, ولو كانوا يؤمنون لاتقوا الله وخشوا حسابه على هذا التطفيف؛ لأن الكافر الذي لا يؤمن بيوم الحساب لا يبالي بأكل أموال الناس.
يقول الله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:7-9]. قوله تعالى: (( كَلَّا )) هذا اللفظ فيه ردع عن التطفيف الذي يقترفونه؛ لغفلتهم عن يوم الحساب وضعف استيقانهم به. قوله: (( كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ )) أي: ما كتب فيه من عملهم السيئ وأحصي عليهم، وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثانٍ وهو الفجور. وفي غير القرآن كان يمكن أن يقال: كلا إن كتابهم لفي سجين. والضمير يعود على المطففين، لكن أوثر اللفظ الصريح المظهر وهو قوله تعالى: (( الفُجَّارِ )) لأن في العدول عن الضمير إلى المظهر إشعاراً بوصف لهم ثانٍ. الوصف الأول: التطفيف، الوصف الثاني: الفجور, فلو أشار إلى الضمير لما شعر أحد بالوصف الثاني وهو الفجور. وإيثار المظهر للإشعار بوصف لهم ثانٍ وهو الفجور، لخروجهم عن حد العدالة المتفق عليها في الشرع والعقل. يعني: أن وصفهم بالفجور يفيد أنهم خارجون عن العدالة التي اتفق عليها العقل والشرع معاً. قوله: (( كِتَابٌ مَرْقُومٌ )) أي: مكتوب بيّن الكتابة، أو فيه علامة تنبئ عن صدقه. (( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين )) وسجين على وزن فعيل من السجن وهو الحبس والتضييق؛ لأنه سبب الحبس والتضييق في جهنم، فهو بمعنى فاعل في الأصل، أو بمعنى مفعول، أي: مسجون لما ذكر في مكان مظلم. وقيل: سجين اسم مكان، فيقدر مضاف فيه أو فيما بعده، والتقدير: (( وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ )) ما كتاب سجين؟ أو ما محل كتاب سجين؟ فحذف المضاف. وقيل: إنه مشترك بين المكان والكتاب. وقال الأصفهاني : السجين اسم لجهنم بإزاء عليين. يعني: في مقارنة عليين تسمى جهنم سجين. وقيل: وزيد في لفظه تنبيهاً على زيادة معناه. وقيل: هي اسم للأرض السابعة. ثم قال: وقد قيل: إن كل شيء ذكره الله تعالى بقوله: (وما أدراك) فسره، وكل ما ذكره من قوله: (وما يدريك) تركه مبهماً. يعني: إذا جاءت في القرآن الكريم لفظة: (وما أدراك)، فإن القرآن يبينها ويشرحها في السياق، أما قوله تعالى: (وما يدريك) فإنه يتركه مبهماً، مثل قوله تعالى: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى [عبس:3] أما لفظة (وما أدراك) فمثل: الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ [الحاقة:1-3]. وهنا أيضاً: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:8-9] وكذلك قوله عز وجل بعد ذلك: وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ [المطففين:19] ثم فسر الكتاب. فقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ [المطففين:8-9] أي: ذلك الكتاب المكتوب فيه أعمالهم هو كتاب مرقوم، كتبت فيه أعمالهم وما في ضمائرهم وقلوبهم.
يقول الله تعالى: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [المطففين:10-13]. (يكذب بيوم الدين) الدين بمعنى الحساب والمجازاة، وفيه إشعار بأن المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف؛ لأن إصرارهم على التعدي والإجرام يدل على عدم الإيمان بالبعث، فقوله تعالى هنا مباشرة بعد أن انتهى الكلام عن المطففين: (( وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ )) يشعر أن هؤلاء المطففين ممن يتناولهم هذا الوصف, وهو أنهم يكذبون بيوم الدين؛ لأن الذي يكذب بيوم الدين لا يبالي بما يقع، ولا يخشى حساباً ولا عقاباً، فبالتالي لا ينزجر عما تقوده إليه أهواؤه. إذاً: إصرار هؤلاء المطففين على التعدي والإجرام وانتقاص حقوق الناس يدل على عدم تصديقهم بالبعث، كما قال تعالى في آية أخرى: إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ [النحل:105] وهذه المعاصي تليق بالذين لا يؤمنون ولا يخافون يوم الحساب، فلا يبالون بما يأتونه وما يفعلونه من الجرائم، فكذلك لا تصدر هذه الأخلاق كالتطفيف ونحوه إلا ممن يكذب بيوم الدين، فهذه الأخلاق لائقة بهم. قوله تعالى: (( وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ )): أي: كل مجاوز للفطرة الإنسانية، بتجاوزه حد العدالة إلى الإفراط في ارتكاب البغي والعدوان. قوله: (( أثيم )), أي: مبالغ في ارتكاب أفاعيل الإثم وأنواع المعاصي. قوله تعالى: (( إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ )) أي: هذا القرآن حكايات وقصص وأخبار الأولين، وليس بوحي رباني ولا تنزيل إلهي.
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]. يقول تعالى: (( كَلَّا )) أي: ليست هذه الآيات بأساطير الأولين، بل هي الحق المبين وشفاء لما في الصدور. قوله: (( بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ )) أي: غطى على مداركهم ما اكتسبوه من الآثام، حتى كدر جوهرها, وصار صدأً عليها بالمكوث فيها. أي: إن السبب الذي حال بينهم وبين الإيمان بالحق وبآيات الله مع وضوح البراهين على أنها من عند الله كامن في الظلم؛ لأنهم لكثرة ما ارتكبوا من المعاصي رين على قلوبهم، أي: صار الران يعلو قلوبهم طبقة فوق طبقة حتى أعماها، كما يعلو الصدأ المعدن والحديد حتى يحول بينه وبين اللون الأصلي، فكذلك هذه المعاصي مع تواصلها وإصرارهم عليها وإدمانها ورسوخهم فيها رانت على قلوبهم بما كانوا يكسبون، وبالتالي حصل هذا الغطاء الكثيف على القلب الذي حال دون خروج الكفر منه ودخول الهدى فيه, فهذا هو السبب في ذلك. والرين أصل معناه الصدأ والوسخ والقار الذي لا يزول بالغسيل، وإنما يلتصق تماماً بالشيء ولا يفارقه. وشبه به حب المعاصي الراسخة في النفس, وذلك أنه يحصل من تكرار الفعل ملكة راسخة لا تقبل الزوال, وصفة في النفس قارة فيها. فكذلك هؤلاء من كثرة ما تكررت منهم المعاصي صار لديهم ملكة راسخة لا تقبل الزوال، وصفة في النفس قارة فيها، فلكثرة المعاصي يرسخ حبها في القلب بحيث لا يزول، كالصدأ الذي لا يزول بسهولة. والران: ما غطى على القلب وركبه من القسوة بسبب الذنب بعد الذنب. فإدمان المعاصي والإصرار عليها وعدم التوبة منها يفسد القلوب ويغلفها بهذا الران، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي لولا أني أستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة)، وفي رواية: (مائة مرة). فهذا الران نشأ من تراكم المعاصي والإصرار عليها، حتى صار ذلك طبقة راسخة لا يستطاع التخلص منها، فيقال: ران عليه الشراب والنعاس. ران عليه الشراب يعني: غلب على عقله. وران عليه النعاس. يعني: غلب أيضاً على عقله. ونظيره الغين, والمراد هنا ما يتغشى القلب.
يقول الله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ [المطففين:15-16]: قال ابن جرير : فلا يرونه ولا يرون شيئاً من كرامته يصل إليهم, فهم محجوبون عن رؤيته وعن كرامته. أي: فهم محجوبون عن رؤية الله تبارك وتعالى التي ينعم بها المؤمنون, ومحجوبون عن كرامة الله أن تصل إليهم. وتخصيص الحجب بهؤلاء يقتضي أن غيرهم غير محجوب، فيراه تعالى ويرى كرامته، وهؤلاء هم المؤمنون. قال الشهاب : لما كان الحجاب هو الساتر من طرف بيت وغيره استعير تارة لعدم الرؤية؛ لأن المحجوب لا يرى ما حجب، وتارة للإهانة؛ لأن الحقير يحجب ويمنع من الدخول على الرؤساء، ولذا قالت العرب: الناس ما بين مرحوب ومحجوب. مرحوب: أي مكرم ومرحب به. محجوب يعني: مهان. ونلاحظ هنا أن وصف المحجوبية إنما هو وصف للمخلوقين وليس وصفاً لله تبارك وتعالى. قوله: (( ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ ))، أي: محترقون بها؛ لأن صال بمعنى دخل، أي: دخل الجحيم ليعذب فيها ويحترق بها. وقد أشار القاشاني إلى سر ترادف هذه الجمل الكريمة، وهو أن ما اكتسبوه من الذنوب لما صار كالطبع على قلوبهم من الرسوخ فيها كدر جوهرها وغيرها عن طباعها، فعندها تحقق الحجاب, وانغلق باب المغفرة، ولذلك قال: (( كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ )) لامتناع قبول قلوبهم للنور. أي: أن قلوبهم لا يصل إليها النور بسبب هذه الحجب وهذا الران الذي جاء بسبب إصرارهم على المعاصي. يقول: وامتناع عودها إلى الصفاء الأول الفطري، كالماء الكبريتي مثلاً, إذ لو صعد لما رجع إلى الطبيعة المائية المبردة لاستحالة جوهرها، بخلاف الماء الساخن الذي استحالت كيفيته دون طبيعته. يعني: كأنه يشير إلى أن بعض المواد تتغير صفاتها الفيزيائية بالبرودة وبالحرارة, فالماء مثلاً يكون بارداً ويكون ساخناً؛ لكن جوهره لا زال كما هو, بخلاف ما لو حصل تفاعل كيميائي للماء فتتغير مكوناته, فكذلك هؤلاء الكفار، لم يكن التغير مجرد مظاهر قابلة للتغير، بل حصل تغير في جوهرهم وطبيعتهم؛ ولذلك استحقوا الخلود في العذاب، وحكم عليهم بقوله: (( ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ )).
كلام ابن القيم في معنى قوله تعالى: (كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون)
قال ابن القيم في بدائع الفوائد: في هذه الآية جمع لهم سبحانه وتعالى بين العذابين: عذاب الحجاب وعذاب النار، فألم الحجاب يجعل في قلوبهم وأرواحهم ألماً نفسانياً، تتألم وتتعذب به قلوبهم وأرواحهم، نظير ما تفعله النار في أجسادهم، كحال من حيل بينه وبين أحب الأشياء إليه في الدنيا وأخذ بأشد العذاب. يعني: جمع له هذان الأمران, فرق إلى الأبد بينه وبين أحب إنسان إليه في الدنيا، بالإضافة إلى ذلك عذب أشد العذاب، فجسمه في عذاب، وقلبه وروحه في عذاب، والعياذ بالله. يقول: فإن أخطر عذاب الروح أن تتعلق بمحبوب لا غنى لها عنه, وهي ممنوعة من الوصول إليه, فكيف إن حصل لها مع غياب المحجوب عنها وطول احتجابه بغضه لها ومقته وطرده وغضبه الشديد عليها؟ ! ولذلك فـابن القيم يريد أن يبين أن هذا الألم الذي يقع على القلوب والأرواح ألم نفسي أشد بكثير جداً مما يقع على الأبدان، ويزداد العذاب شدة عندما يتوارى هذا المحبوب ويطول احتجابه عنها. يقول: فأي نسبة لألم البدن إلى هذا الألم الذي لا يتصوره إلا من بلي به أو بشيء منه, فلو توهمت النفوس ما في احتجاب الله سبحانه وتعالى عنها يوم لقائه من الألم والحسرة لما تعرضت لأسباب ذلك الاحتجاب. يعني: لو أن الإنسان أعمل فكره وأخذ يتأمل كيف تكون حسرته إذا كان من المحجوبين عن الله تبارك وتعالى في ذلك اليوم, لاتقى أسباب هذا الاحتجاب؛ حتى لا يعذب هذا العذاب. ثم يقول: وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة منتهى حسنها إلى ما يعلم -يعني إلى الموت-. فالرجل العاشق مثلاً لامرأة في غاية الجمال نهايتها الموت. ناهيك عن الأمور الأخرى التي هي دون الموت. يقول: وأنت ترى المحبين في الدنيا لصورة منتهى حسنها إلى ما يعلم، كيف يصيبهم من ألم احتجاب محبوبهم عنهم وإعراضه وهجره, ويرى أحدهم كالموت أو أشد منه من بين ساعة. يعني: من فراق ساعة, فالبين هو الافتراق والابتعاد, أي: كل ما حصل هو فراق ساعة من الزمان, فهو يتألم ألماً شديداً, كما يقول الشاعر يرثي أخاه لأمه: وكنت أرى كالموت من بين ليلة فكيف ببين كان ميعاده الحشر. أقول لنفسي في الخلاء ألومها لك الويل ما هذا التذلل والصبر. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: وإنما يتبين الحال في هذا بمعرفة ما خلقت له الروح وما هيئت له، وما فطرت عليه, وما لا سعادة لها ولا نعيم ولا حياة إلا بإدراكه. فاعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق كل عضو من الأعضاء لغاية ومنفعة، فكماله ولذته في أن يحصل فيه ما خلق له، فخلق العين للإبصار, والأذن للسمع, والأنف للشم, واللسان للنطق والذوق، واليد للبطش, والرجل للمشي، والروح لمعرفته ومحبته وللابتهاج بقربه والتنعم بذكره، وجعل هذا كمالها وغايتها, فإذا تعطلت من ذلك كانت أسوأ حالاً من العين والأذن واللسان واليد والرجل التي تعطلت عما خلقت له وحيل بينها وبينه، بل لا نسبه لألم هذه الروح إلى ألم تلك الأعضاء المعطلة ألبتة، بل ألمها أشد الألم, وهو من جنس ألمها إذا فقدت أحب الأشياء إليها وأعزه عليها, وحيل بينها وبينه, وشاهدت غيرها قد ظفر بوصله وفاز بقربه ورضاه. والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها, الذي لا تقر عينها إلا بقربه والأنس به، والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب الذي كان يحجبها في الدنيا عن رؤية وجهه وسماع كلامه. يعني: الإنسان إذا عمر قلبه بمحبة الله سبحانه والأنس به ومعرفته, والعكوف على الشوق إليه، يعيش في الدنيا كأن في صدره جنة، ويرى من النعيم ما لا يوصف، كما قال العلماء في قوله تعالى: إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ [الانفطار:13-14]: فهذه عامة لا ينبغي تخصيصها بالنعيم في البرزخ ولا بالنعيم في الجنة, بل هي في الدور الثلاثة: في الدنيا, وفي البرزخ، وفي الجنة. ولذلك كان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يقول: ما يصنع أعدائي بي، جنتي في صدري, فأينما رحت فهي معي. يقصد جنة العلم ومحبة الله عز وجل ومعرفته. وقال بعض الصالحين: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة النعيم لجالدونا عليه بالسيوف. أي: لو ذاق الملوك وأبناء الملوك النعيم الذي نتمتع به في قلوبنا من ذكر الله ومعرفته والأنس به ومحبته عز وجل لجالدونا عليه بالسيوف، لكنهم لا يعلمون؛ لأنهم يتلهون بنعيم الدنيا ويرغبون عن ذلك النعيم الحقيقي. فطريق السعادة أن تستقيم على مراد الله, كما قال بعض العلماء: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهي جنة الرضا عن الله سبحانه وتعالى ومحبته. والإنسان يشعر بهذا إذا ذاقه, أما إن كان مجرد خبر فإنه لا يوقن به كما لو ذاقه، كما يقول الصوفية: من ذاق عرف ومن حرم انحرف. ثم يقول: والروح لا حياة لها ولا نعيم ولا سرور ولا لذة إلا بأن يكون الله وحده هو معبودها وإلهها ومرادها، الذي لا تقر عينها إلا بقربه والأنس به, والعكوف بكليتها على محبته والشوق إلى لقائه، فهذا غاية كمالها وأعظم نعيمها وجنتها العاجلة في الدنيا، فإذا كان يوم لقائه كان أعظم نعيمها رفع الحجاب. يعني: أعظم نعيم في الدنيا هو أن يعمر القلب بمحبة الله، وأعظم نعيم في الآخرة إذا قوبل المحبوب أن يرفع الحجب التي كانت في الدنيا بينه وبينه، كما قال النبي عليه السلام: (حجابه النور, لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ففي الآخرة يخلق المؤمن ويخلق أهل الجنة خلقاً بحيث يتحملون رؤية الله تبارك وتعالى، أما في الدنيا فلا يمكن لأحد أن يرى الله: قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143] هذا الجبل الضخم القوي لم يتحمل فما قوة موسى عليه السلام بالنسبة للجبل؟ ! لما تجلى الله سبحانه وتعالى للجبل اندك تماماً، فأراد الله أن يبين لموسى أنه بخلقته هذه في الدنيا لا يستطيع رؤيته سبحانه وتعالى, وأما في الآخرة فيخلقون خلقاً جديداً بحيث يطيقون رؤية الله عز وجل, فالله لا يرى بهذه العين الفانية, وإنما يرى بخلق آخر يخلقه الله في جنة الرضوان، وحينئذ يكون أعظم نعيم في حقهم, بحيث إذا نعموا به يتلهون وينسون سائر ما في الجنة من نعيم، فرؤية الله سبحانه وتعالى في اليوم المهيب ورؤية وجهه الكريم وسماع كلامه هو أعظم نعيم على الإطلاق. وفي حديث الرؤية يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فو الله ما أعطاهم شيئاً أحب إليهم من النظر إلى وجهه) فبعداً وسحقاً لأولئك الكفرة الذين يعيرون المسلمين بأن دينهم يدعوهم إلى الجنة لينالوا فيها المتاع الحسي من الحور العين والأكل والشراب والفاكهة واللحم، وأن نبيهم يغريهم بالشهوات الجسدية، وهذا كله نابع عن جهلهم وحماقتهم وظلمة قلوبهم بالكفر، وهو ناتج عن غلوهم في تحريم الطيبات، فهم ينظرون إلى متع الحس على أنها نجس وخبث، حتى إن القذارة عندهم شيء طيب، والنظافة شيء خبيث ينفرون منه، فانعكس هذا على العقائد عندهم, فهم ليس عندهم شيء اسمه الجنة والنار بالتفاصيل التي نعرفها نحن, والتي امتن الله بها على هذه الأمة المحمدية المصطفاة، كما في كتابها القرآن الكريم وسنة نبيها عليه الصلاة والسلام، أما هؤلاء الضلال فأقصى شئء عندهم هو الدخول في الملكوت. ما هو الملكوت؟ لا يعرفون عنه شيئاً، ونحن امتن الله علينا بالقرآن وبالسنة فجاءت لنا بالتفاصيل لهذه الحياة الغيبية، حتى إننا لنعلم أكل أهل الجنة وملابس أهل الجنة وصفة الجنة وأشجارها وثمارها .... إلخ, كل هذا كي يكون محرراً وقائداً للمؤمنين إلى السعي لنيل هذا النعيم. ثم لماذا ينسى النعيم الحسي؟ أليس الإنسان مركباً من روح وجسد؟ والروح تتنعم والجسد أيضاً يتنعم، فما الذي يستغربونه من هذا الفضل الرباني الإلهي؟ أيستبعدون أن ينعم الله الروح والجسد؟ ما الذي يستغربه هؤلاء الحمقى ويعيرون به المسلمين ويقولون: إن دينكم يغريكم بالشهوات؟ ثم ما جريمته إن كانت هذه خلقة الإنسان وهذه فطرة الإنسان؟ ومع ذلك فإن أعظم نعيم الجنة في الحقيقة هو النعيم الروحي، وليس الحسي, بدليل الأحاديث التي دلت على أن أهل الجنة إذا تجلى لهم الله سبحانه وتعالى ورأوه عز وجل فإنهم يتلهون عن كل ما في الجنة من ملذات, فينسون الحور العين وغيرها من الملذات، ويقول النبي عليه الصلاة والسلام: (فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه). والله سبحانه يقول: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التوبة:72] فرضوان الله أكبر من نعيم الجنة الحسي وملذاتها, وقد عرفنا أن أهل الجنة يلهمون التسبيح كما نلهم النفس، والإنسان إذا نام يبقى يتنفس، فكذلك أهل الجنة يلهمون التسبيح؛ لأنهم في دار ليست بدار تكليف وإنما هي دار جزاء، فلذلك لا يتعبدون بالتسبيح، كما هو الحال في الدنيا وإنما التسبيح يأتي بصورة لا إرادية. ثم يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: وكما جمع الله سبحانه وتعالى لأعدائه بين هذين العذابين, وهما ألم الحجاب وألم العذاب. وهما في قوله تعالى: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ [المطففين:15-16] فألم الحجاب أن يتحسر أهل النار حينما يكونون من المحجوبين عن الله، ولا أمل عندهم أن يروا الله سبحانه وتعالى، فاجتمع لهم ألم الحجاب وألم العذاب أي: عذاب النار. يقول: فكما جمع الله سبحانه وتعالى لأعدائه بين هذين العذابين وهما: ألم الحجاب وألم العذاب، جمع لمحبيه بين نوعي النعيم: نعيم الخلد والنظر, ونعيم الأكل والشرب والتمتع بما في الجنة. جمع الله لأهل الجنة
يقول الله تعالى: ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [المطففين:17]. يقال لهم هذا زيادة في التنكيل والتوبيخ، فإن أشد شيء على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يزجر عن شيء وهو يتألم له؛ لأن وسائل النجاة من مصابه كانت بين يديه فأهملها، وأسباب التخطي عنه كانت في متناوله فأغفلها. يعني: لو أن إنساناً آتاه الله المال فأخذ يبدده في السفاهات والمعاصي والمخالفات، فمثل هذا ينطبق عليه قول الله تبارك وتعالى في سورة الإسراء: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا [الإسراء:29]. (( ملوماً )) أي: أن الآخرين يلومونك: ألم تفعل كذا، وهكذا يكون ملوماً من الآخرين. (( محسوراً )) حسرة منازعة وتوبيخ لنفسه. إن مما يعظم المصيبة على الإنسان أنه إذا وقع في المصيبة أن يتذكر وهو يتألم توبيخ الناس له: لو كنت فعلت كذا ما وقعت في كذا. ومما يضاعف عذابه وألمه أن يتذكر وهو يتألم للمصائب بأن وسائل النجاة كانت بين يديه فأهملها، وأسباب التخطي عنه كانت في متناوله فأغفلها، فلذلك من أنواع العذاب المعنوي أيضاً على نفوس الكفار أن يبكتوا ويوبخوا ويعنفوا، بأن يقال لهم: (( هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ )) أي: ألم تكونوا تسخرون من المؤمنين في الدنيا؟ فـ(( هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ )).
يقول الله تعالى: كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ * كِتَابٌ مَرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ * إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ [المطففين:18-24]. (( كلا )) هذا ردع عن التكذيب، أو بمعنى حقاً. قوله: (( إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ )) أي: ما كتب من صور أعمال السعداء في عليين، وهو مقابل للسجين في علوه وارتفاع درجته, وكونه ديوان أعمال أهل الخير، كما قال تعالى: (( وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ )) (( كِتَابٌ مَرْقُومٌ )) أي: محل شريف رسم بصور أعمالهم. (( يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ )) أي: يحفه المقربون من حضرة ذي الجلال كما في قوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55]، والمقربون هم الأبرار, وأعاد ذكرهم بوصف ثانٍ؛ تنويهاً بهم وتعديداً لصفاتهم. أو المقربون: هم الملائكة؛ إجلالاً لهم وتعظيماً لشأنهم. وبعد أن عظم تعالى كتاب الأبرار أتبع ذلك بتعظيم منزلتهم بقوله سبحانه: (( إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ )) (( عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُون )) (( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ)). قوله: (( إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ )) أي: عظيم دائم، وليس نعيمهم في انحلال. (( عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ )) أي: على الأسرة ينظرون إلى ما أعطاهم الله من الكرامة وأفانين النعيم. (( تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ )) أي: بهجته ورونقه كما يرى على وجوه المترفين ماؤه وحسنه. وكان ينبغي أن يزيد القاسمي الإشارة إلى أن نضره النعيم إنما هي أثر من آثار رؤية الله تبارك وتعالى, كما ذكر جماعة من المفسرين. قوله: (( عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ )) يعني: ينظرون إلى وجه الله سبحانه وتعالى في جنات الرضوان، لأنه إذا وصف الفجار بأنهم محجوبون؛ فإن ذلك يستلزم أن يوصف الأبرار بأنهم غير محجوبين؛ لأنهم يرون الله سبحانه وتعالى، ولذلك هذه الآيات مما استدل به على رؤية الله تبارك وتعالى لأهل الجنة.