تفسير سورة الواقعة [15-67]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة:15-16]. قوله تعالى: (عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ) أي: مصفوفة. أو مشبكة بالدر والياقوت والذهب. والوضن هو التشبيك والنسج. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: السرر جمع سرير، وقد بين الله تعالى أن سررهم مرفوعة في قوله تبارك وتعالى: فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ [الغاشية:13]. وقوله تعالى: عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ ، فموضونة أي: منسوجة بالذهب. وبعضهم يقول: منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت. وكل نسج أحكم ودوخل بعضه في بعض تسميه العرب وضناً -بالضاد- وتسمي المنسوج به موضوناً ووضيناً، ومنه الدرع الموضونة: إذا أحكم نسجها ودوخل بعض حلقاتها في بعض. ومنه قول الأعشى : ومن نسج داود موضونة تساق مع الحي عيراً فعيراً وهذه السرر المزينة هي المعبر عنها بالأرائك في قوله تعالى: مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ [الكهف:31]، يعني: على هذه السرر المزينة الموضونة، وقال تبارك وتعالى: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:56].

قال عز وجل: مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ [الواقعة:16]. ((مُتَّكِئِينَ)) حال من الضمير في قوله: ((عَلَى سُرُرٍ))، والتقدير: استقروا على سرر في حال كونهم متكئين عليها. وما ذكره الله جل وعلا هنا في هذه الآية الكريمة من كونهم: مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ ، أي: ينظر بعضهم في وجوه بعض، كل يقابل الآخر بوجهه، ذكره في قوله تعالى في سورة الحجر: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الحجر:47]، وقوله تعالى في الصافات: أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ * فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ [الصافات:41-44]. والمعنى: أنهم متقابلون بوجوههم، وهذا يكون أكمل في الأنس والسرور، بخلاف ما يحصل في الدنيا، فالإنسان إذا ركب بعض وسائل المواصلات -كالسيارات- فإنه يجلس وظهره إلى من خلفه، لكن هؤلاء لتمام السرور والأنس بينهم يكونون متقابلين، فالأخوة تكمل حينما تقع هذه المواجهة. ((مُتَقَابِلِينَ)) أي: بوجوههم متساوين في الرتب لا حجاب بينهم أصلاً.

قال تعالى: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ [الواقعة:17-20]. ((يَطُوفُ عَلَيْهِمْ)) يعني: للخدمة. ((وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ)) أي: مبقون على سن واحدة لا يموتون؛ لأن هؤلاء الولدان في الجنة سيبقون ولداناً إلى الأبد، بمعنى أنهم لا يزيدون في العمر ولا يشيبون ولا يهرمون بمرور الزمن. وهذه الآية كما قال تعالى: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور:24]. (( بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ )) يعني: حال الشرب يطوفون عليهم بأكواب وأباريق، والكوب هو إناء لا عروة له ولا خرطوم، وأما الإبريق فهو إناء له عروة وله خرطوم. (( وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ )) أي: خمر جارية. ثم أشار إلى أنها لذة كلها لا ألم معها ولا خمار؛ لأنها ليست كخمر الدنيا النجسة الخبيثة التي تذهب العقول، وإنما هي لذة؛ فقال: ((لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا)) يعني: لا يصدر عنها صداعهم لأجل الخمار كخمور الدنيا، والصداع هو وجع الرأس، وقرئ بالتشديد من التفعل: ((لا يصَّدَّعون)) أي: لا يتصدعون عنها، أي: لا يتفرقون عنها، من التصدع وهو التفرق. ((وَلا يُنزِفُونَ)) تقرأ بكسر الزاي وفتحها ((وَلا يُنزِفُونَ)) أي: لا تذهب عقولهم بسكرها. وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ أي: مما يختارون ويرتضون، وأصله أخذ الخيار والخير. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ، أي: مما يتمنون.

قال تعالى: وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ * جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الواقعة:22-24] أي: أزواج بيض واسعة الأعين. عطف على ولدان، فقال: يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ [الواقعة:17]، ثم قال بعد ذلك: وَحُورٌ عِينٌ والحور: جمع حوراء، فهو عطف على ولدان، أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: وفيها. أو: ولهم حور عين. كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ أي: صفاؤهن كصفاء الدر في الأصداف الذي لا تمسه الأيدي، وأصل المكنون الذي صين وحفظ في كن -أي: مكان- يخبأ فيه ويصان ويحمى. جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ أي: من الأعمال الصالحة.

قال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا [الواقعة:25-26]. لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا أي: هذياناً وكلاماً غير مفيد، وباطلاً من القول. وَلا تَأْثِيمًا أي: ما يؤثم من الفحش والكذب والغيبة وأمثالها. إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا أي: قولاً هو سلام في نفسه، منزه عن النقائص، مبرأ عن الفضول والزوائد. وقيل: قولاً يفيد سلامة السامع من العيوب والنقائص، ويوجب سروره وكرامته، ويبين كماله وبهجته؛ لكون كلامهم كله معارف وحقائق وتحيات ولطائف. وهذا على اختلاف وجهي الإعراب، أي: من كون (سلاماً) بدلاً من (قيلاً) أو مفعوله، فـ(سلاماً) قد يكون مفعول المصدر (قيلا)، وقد يكون بدلاً منه. والتكرير للدلالة على فشو السلام بينهم وكثرته، كما تقول: قرأت النحو باباً بابا. أي: باباً بعد باب، فيدل على تكرره وكثرته. فهكذا السلام تحية أهل الجنة، وهذه من فضائل السلام، ولا توجد في العالم كله تحية هي أفضل من تحية (السلام عليكم ورحمة الله) التي شرف الله بها أهل الإسلام، ولذلك يحسدنا اليهود على السلام وعلى التأمين، وكان الفاسق أو الفاجر أو المبتدع فيما مضى يعاقب بأن يحرم من إلقاء السلام عليه، أو من أن يرد عليه السلام، والآن صار بعض السفهاء من الناس يتكبرون عن أن يحيي بعضهم بعضاً بالسلام، ويؤثرون على ذلك تحية الأنجاس من المشركين والكفار على اختلاف أنواعهم، وربما ينظرون باحتقار إلى من يقول لهم: (السلام عليكم)، فهذا من الهوان الذي صبغ الناس وهم لا يشعرون بما هم فيه. فعدم التسليم كان عقوبة أساساً، عقوبة يعاقب بها من يخالف الشرع بالمجاهرة بالفسق، أو ببدعة أو ضلالة أو نحو ذلك، فيهجر بأن لا يسلم عليه. وصار بعض الناس يتأذى حين تسلم عليه، ويريد أن تحييه بأية تحية أخرى من تحايا أولئك القوم، فهم الذين زهدوا فيما شرفهم الله به من تحية أهل الجنة -السلام-، فهل توجد تحية في العالم أفضل من تحية (السلام عليكم)؟! فـ(السلام عليكم) فيها إشاعة السلام والطمأنينة، فكونك تلقي السلام معناه أنك تؤمنه من شَرِّك. وليس السلام محدداً بوقت كـ(صباح الخير) أو (مساء الخير) في الصباح فقط أو في المساء فقط، كما هي تحية الجاهلية (أنعم صباحاً) و(أنعم مساء)، فهذه تحية أهل الجاهلية، فكيف لعاقل أن يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويزهد في السلام الذي هو تحية أهل الجنة؛ راغباً في تحية المغضوب عليهم والضالين ممن أبغضهم الله سبحانه وتعالى؟!

قال تبارك وتعالى: وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [الواقعة:27-33]. وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ أي: أي شيء هم؟ أي: هم شرفاء عظماء كرماء، يتعجب من أوصافهم في السعادة. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ أي: لا شوك له. أو موقر بالثمار، مثقل من الثمار التي يحملها، والسدر شجر معروف في الدنيا. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ الطلح هو شجر الموز، والمنضود: الذي نضد ثمره من أسفله إلى أعلاه. قال مجاهد : كانوا يعجبون بود من طلحه وسدره. و(ود) مكان -أحسبه- كان في الطائف، فكانوا يعجبون من طلحه وسدره؛ لأن فيه شجر الطلح وشجر السدر. وشجرة الموز ثمرتها حلوة دسمة لذيذة لا نوى لها. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ أي: ممتد منبسط لا يتقلص، كالظل الذي يكون في الدنيا ويتبعه الحر والشمس. وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ أي: مصبوب دائم الجريان لا ينقطع. وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ أي: لا تنقطع عنهم متى أرادوها، لكونها غير متناهية. ((وَلا مَمْنُوعَةٍ)) أي: لا تمنع عن طالبها. والقصد بيان أن فاكهتها مغايرة لفاكهة الدنيا؛ لأن فاكهة الدنيا موسمية، توجد في موسم ولا توجد في موسم آخر، فيأتي عليها وقت تنقطع فيه تماماً ولا تكون موجودة، كفاكهة الصيف تطلب في الشتاء، وتمتنع أحياناً لعزتها، لكونها غير متوفرة في الأسواق فهذا نوع من الامتناع، بل أحياناً تمتنع بسبب الجدب أو القحط أو الجفاف أو نحو ذلك، وقد تطرأ عليها جائحة أو سبب يترتب عليه أنها تمتنع، أما فاكهة الجنة فلا يعرض لها شيء من هذه الطوارئ والجوائح والانقطاع.

قال تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:34-40]. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ أي: مرتفعة في منازلها، أو: فرش مرفوعة على الأرائك للرقود والمضاجعة، وقد يؤيده تأكده بوصف من يضاجع فيها، وهو قوله تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً إشارة إلى الحور العين. فهي إما فرش مرفوعة أي: الفرش نفسها مرتفعة في منازلها، أو الفرش مرفوعة فوق الأرائك، وهي تلقى من أجل الرقود عليها. إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً أي: إنشاء بديعاً فائق الوصف. فالضمير يعود على ما فهم من السياق؛ لأن الحور لم يسبق ذكرهن في السياق القريب، وإنما فهم من السياق أن المقصود بهن الحور العين. وقيل: قد يكنى عن الحور بالفرش، فقوله تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قد يكون استعملت فيه الكناية عن الحور بالفرش. فقوله تبارك وتعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ إذا كان معناه: مرفوعة على الأرائك كآية: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:56] فليس فيه كناية. وقوله تعالى: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا يعني: لم يُطمثن. ((عُرُبًا)) جمع عروب، والعروب: هي المتحببة إلى زوجها المحبوبة لتبعلها. ((أَتْرَابًا)) يعني: على سن واحدة. والترب: هو الموافق لك في السن. لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ يعني: أنشأناهن إنشاء لأصحاب اليمين، وجعلناهن أبكاراً لأصحاب اليمين. ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:39-40] أي: جماعة وأمة من المتقدمين في الإيمان وممن جاء بعدهم من التابعين لهم بإحسان من هذه الأمة، والكثرة ظاهرة لأصحاب اليمين في أواخرهم دون السابقين كما بينا أولاً عند الكلام في تفسير قوله تبارك وتعالى: ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ [الواقعة:13-14]، وذكرنا الخلاف في تفسير هذه الآية.

تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (إنا أنشأناهن إنشاءً)

يقول العلامة الشنقيطي في قوله تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً : الضمير في (( أَنشَأْنَاهُنَّ )) قال بعض أهل العلم: هو راجع إلى مذكور. وقال بعض العلماء: هو راجع إلى غير مذكور، إلا أنه دل عليه المقام. فمن قال إنه راجع إلى مذكور قال: هو راجع إلى قوله تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قال: لأن المراد بالفرش النساء، والعرب تسمي المرأة لباساً وإزاراً وفراشاً .. إلى آخره. انتهى كلامه. وعلى هذا فالمراد بالرفع في قوله تعالى: (( مَرْفُوعَةٍ )) رفع المنزلة والمكانة. ومن قال إنه راجع إلى غير مذكور قال: إنه راجع إلى نساء لم يذكرن ولكن ذكر الفرش دل عليهن؛ لأنهن يتكئن عليها مع أزواجهن. وقال بعض العلماء: المراد بهن الحور العين، واستدل من قال ذلك بقوله: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35]؛ لأن الإنشاء هو الاختراع والابتداع. وقالت جماعة من أهل العلم: إن المراد بهن بنات آدم اللاتي كن في الدنيا عجائز شمطاً، وجاءت في ذلك آثار مرفوعة عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ نساء الدنيا، أي: زوجاتهم اللائي هن من نساء الدنيا. فيكون قوله تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا أي: خلقناهن خلقاً جديداً. فاللتي شمطت وصارت عجوزاً شمطاء في الدنيا وبلغت من الكبر عتياً، حينما تدخل الجنة ينشئها الله سبحانه وتعالى خلقاً جديداً، فتعود إلى شرخ الشباب. ويكون قوله تعالى: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا يعني: فصيرناهن أبكاراً. وهو جمع بكر، وهي ضد الثيب. عُرُبًا أَتْرَابًا ، والعروب هي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل، التي تجتهد في إرضاء زوجها. أَتْرَابًا: جمع ترب، والترب هي المرأة الموافق سنها سن من تضاف هي إليه من النساء. ومعناه في الآية أن نساء أهل الجنة على سن واحدة ليس فيهن شابة وعجوز، ولكنهن كلهن على سن واحدة في غاية الشباب، ودليل ذلك في الحديث في مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مع المرأة العجوز حينما قال لها: (لا تدخل الجنة عجوز) وكان إنما يقصد بهذا المعنى أنها ستعود إلى شبابها ولن تبقى عجوزاً بعد ذلك إذا دخلت الجنة. وبعض العلماء يقول: إنهن ينشأن مستويات في السن على قدر بنات ثلاث وثلاثين سنة. وكون الأتراب بمعنى المستويات في السن مشهور في كلام العرب، كما قال عمر بن أبي ربيعة : أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب وهذه الأوصاف الثلاثة التي تضمنتها هذه الآية الكريمة من صفات نساء أهل الجنة جاءت موضحة في آيات أخر. أما كونهن يوم القيامة أبكاراً فقد أوضحه قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، لأن قوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ نص في أنهن أبكار. وأما كونهن (عُرُبًا) -أي: متحببات إلى أزواجهن- فقد دل عليه قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [الصافات:48]، لأن معناه أنهن قاصرات العيون على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لشدة محبتهن لهم واقتناعهن بهم، ولا شك أن المرأة التي لا تنظر إلى غير زوجها متحببة إليه حسنة التبعل له. وقوله تعالى في (ص): وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:52]، وقال تعالى في سورة الرحمن: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]. وأما كونهن أتراباً فقد بينه قوله تعالى في آية (ص): وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:52]، وفي سورة النبأ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ:31-33]، يعني: في نفس السن من الشباب. قوله تعالى: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:38] يعني: إنا أنشأناهن لأصحاب اليمين، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا .. لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ .

يقول العلامة الشنقيطي في قوله تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً : الضمير في (( أَنشَأْنَاهُنَّ )) قال بعض أهل العلم: هو راجع إلى مذكور. وقال بعض العلماء: هو راجع إلى غير مذكور، إلا أنه دل عليه المقام. فمن قال إنه راجع إلى مذكور قال: هو راجع إلى قوله تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ قال: لأن المراد بالفرش النساء، والعرب تسمي المرأة لباساً وإزاراً وفراشاً .. إلى آخره. انتهى كلامه. وعلى هذا فالمراد بالرفع في قوله تعالى: (( مَرْفُوعَةٍ )) رفع المنزلة والمكانة. ومن قال إنه راجع إلى غير مذكور قال: إنه راجع إلى نساء لم يذكرن ولكن ذكر الفرش دل عليهن؛ لأنهن يتكئن عليها مع أزواجهن. وقال بعض العلماء: المراد بهن الحور العين، واستدل من قال ذلك بقوله: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً [الواقعة:35]؛ لأن الإنشاء هو الاختراع والابتداع. وقالت جماعة من أهل العلم: إن المراد بهن بنات آدم اللاتي كن في الدنيا عجائز شمطاً، وجاءت في ذلك آثار مرفوعة عنه صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا القول فمعنى قوله تعالى: وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ نساء الدنيا، أي: زوجاتهم اللائي هن من نساء الدنيا. فيكون قوله تعالى: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا أي: خلقناهن خلقاً جديداً. فاللتي شمطت وصارت عجوزاً شمطاء في الدنيا وبلغت من الكبر عتياً، حينما تدخل الجنة ينشئها الله سبحانه وتعالى خلقاً جديداً، فتعود إلى شرخ الشباب. ويكون قوله تعالى: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا يعني: فصيرناهن أبكاراً. وهو جمع بكر، وهي ضد الثيب. عُرُبًا أَتْرَابًا ، والعروب هي المتحببة إلى زوجها الحسنة التبعل، التي تجتهد في إرضاء زوجها. أَتْرَابًا: جمع ترب، والترب هي المرأة الموافق سنها سن من تضاف هي إليه من النساء. ومعناه في الآية أن نساء أهل الجنة على سن واحدة ليس فيهن شابة وعجوز، ولكنهن كلهن على سن واحدة في غاية الشباب، ودليل ذلك في الحديث في مزاح النبي صلى الله عليه وسلم مع المرأة العجوز حينما قال لها: (لا تدخل الجنة عجوز) وكان إنما يقصد بهذا المعنى أنها ستعود إلى شبابها ولن تبقى عجوزاً بعد ذلك إذا دخلت الجنة. وبعض العلماء يقول: إنهن ينشأن مستويات في السن على قدر بنات ثلاث وثلاثين سنة. وكون الأتراب بمعنى المستويات في السن مشهور في كلام العرب، كما قال عمر بن أبي ربيعة : أبرزوها مثل المهاة تهادى بين خمس كواعب أتراب وهذه الأوصاف الثلاثة التي تضمنتها هذه الآية الكريمة من صفات نساء أهل الجنة جاءت موضحة في آيات أخر. أما كونهن يوم القيامة أبكاراً فقد أوضحه قوله تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]، لأن قوله: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ نص في أنهن أبكار. وأما كونهن (عُرُبًا) -أي: متحببات إلى أزواجهن- فقد دل عليه قوله تعالى: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ [الصافات:48]، لأن معناه أنهن قاصرات العيون على أزواجهن لا ينظرن إلى غيرهم لشدة محبتهن لهم واقتناعهن بهم، ولا شك أن المرأة التي لا تنظر إلى غير زوجها متحببة إليه حسنة التبعل له. وقوله تعالى في (ص): وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:52]، وقال تعالى في سورة الرحمن: فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ [الرحمن:56]. وأما كونهن أتراباً فقد بينه قوله تعالى في آية (ص): وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ [ص:52]، وفي سورة النبأ: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا * حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا * وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا [النبأ:31-33]، يعني: في نفس السن من الشباب. قوله تعالى: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:38] يعني: إنا أنشأناهن لأصحاب اليمين، فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا .. لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ .

قال الله تبارك وتعالى: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ* فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الواقعة:41-44]. قوله: ((في سموم)) أي: حر نار ينفذ في المسام. ((وَحَمِيمٍ)) هو الماء المتناهي الحرارة. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ أي: من دخان أسود طبق أهويتهم المردية وعقائدهم الفاسدة، فهذا الدخان الأسود يكون موافقاً لطباعهم السوداء، وعقائدهم الفاسدة، وهيئات نفوسهم المسودة بالصفات والهيئات السود الرديئة. لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ أي: ليس له صفة الظل الذي يأوي إليه الناس للراحة، فالناس تأوي إلى الظل لالتماس الراحة، للتفريج على أنفسهم من شدة الحر، فالظل الذي يرغب فيه يكون بارداً ويكون كريماً، أما هذا فهو ظل من يحموم من دخان أسود. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قد قدمنا صفات ظل أهل النار وظل أهل الجنة في سورة النساء في الكلام على قوله تعالى: وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا [النساء:57] وبينا هناك أن صفات ظل أهل النار هي المذكورة هنا في هذه الآية: وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ وقال في المرسلات: انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ [المرسلات:30-31]. وقوله: ((مِنْ يَحْمُومٍ)) أي: من دخان أسود شديد السواد، ووزن (يحموم) (يفعول) وأصله من الحمم أو الحمم وهي الفحم، وقيل: من الحم، وهو الفحم المسود لاحتراقه بالنار.

قال تعالى: إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ * وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ [الواقعة:45-46] أي: كانوا قبل ذلك منهمكين في اللذات والشهوات، منغمسين في الأمور الطبيعية والغواشي البدنية، فبذلك اكتسبوا هذه الهيئات الموبقة والتبعات المهلكة. وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ الذنب العظيم من الأقاويل الباطلة والعقائد الفاسدة التي استحقوا بها العذاب المخلد والعقاب المؤبد. وفسره السبكي بالقسم. يعني أن السبكي فسر الحنث العظيم بالقسم على إنكار البعث في حينما كانوا يحلفون في الدنيا، كما قص الله تعالى عنهم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل:38] فهذا هو الحنث العظيم. قال الشهاب : وهو تفسير حسن. قال: لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقاً أو بالذنب العظيم، فالمعروف استعماله في عدم البر بالقسم. فكلمة الحنث تستعمل في معنى الذنب العظيم أو الذنب مطلقاً؛ لكنها -أيضاً- تستعمل بصورة مشهورة في عدم البر بالقسم، فيقال: (حنث في يمينه)، أي: لم يبر بقسمه. ولذلك فسره بما كانوا يعتقدونه من إنكار البعث، فهذا يقوي تفسير قوله تعالى: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ أنه القسم الذي كانوا يقسمونه في الدنيا، كما أخبر الله تعالى عنهم: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [النحل:38] ولذلك أتبع الله قوله: وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنثِ الْعَظِيمِ بقوله: وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَاؤُنَا الأَوَّلُونَ [الواقعة:47-48] فهذا فيه ربط بين الحنث العظيم وهو القسم المذكور في سورة النحل وشرح له. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: لما ذكر جل وعلا ما أعد لأصحاب الشمال من العذاب بين بعض أسباب هذا العذاب، فذكر منها أنهم كانوا قبل ذلك في دار الدنيا مترفين، أي: متنعمين. وقد قدمنا أن القرآن دل على أن الإتراف والتنعم والسرور في الدنيا من أسباب العذاب يوم القيامة؛ لأن صاحبه معرض عن الله لا يؤمن به ولا برسله، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ [الواقعة:45] وقال تعالى: فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:11-13]، أي إنه كان يعيش مترفاً ويعيش للتمتع بالدنيا فحسب. إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:13] ما بين النوادي والملاهي والأفلام وشرب الخمر والكوميديا وكذا وكذا، يقولون لهم: الفلم الفلاني فيه ساعتان ضحك متواصل، والمسرحية هذه سوف تضحك فيها وتضحك وتضحك حتى يموت قلبك. وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إياكم وكثرة الضحك؛ فإن كثرة الضحك تميت القلب) ما كان فرحهم كما قال الله عز وجل: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا [يونس:58] بالقرآن وبالعلم وبالإيمان! لا. بل كان فرحهم بمتاع الدنيا، بالمناصب وبالجاه وبالأموال وبالثروات وبالقصور، بهذه الأحوال المعروفة، فلذلك قال تبارك وتعالى: فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا [الانشقاق:11-12] ثم ذكر الأسباب: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا [الانشقاق:13]. فإذاً الإنسان لا ينبغي له أن ينهمك في الدنيا في مظاهر السرور والابتهاج، وينسى أنه يتقدم نحو نهاية الرحلة. فالإنسان لابد من أن يصل إلى محطة معينة سوف ينزل فيها، فهو غافل، لكنه ليس مغفولاً عنه، فليحذر الإنسان من الانهماك في متاع الدنيا والانشغال به عن الآخرة، والدليل هذه الآيات الكريمات التي تحتاج منا إلى كثرة تأمل. فالله تعالى يقول: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا [الانشقاق:11-12] يعني: يقول: واثبوراه، واثبوراه. والثبور الهلاك. يعني: واهلاكاه، ثم قال تعالى: إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ [الانشقاق:13-14].