تفسير سورة النجم [5-18]


الحلقة مفرغة

قال عز وجل: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]. قوله تعالى: (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) أي: علم محمداً صلى الله عليه وسلم ملَكٌ شديدٌ قواه، يعني: جبريل عليه السلام، وقد دلت هذه الآية الكريمة على أمرين: أولاً: أن جبريل عليه السلام هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم هذا الوحي. الأمر الثاني: أن جبريل شديد القوى، وهذا ما أوضحه قول الله تبارك وتعالى مبيناً أن جبريل هو الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان سفيراً بينه وبين الله في إيحاء هذا القرآن الكريم إليه، كما قال تبارك وتعالى: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوَّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقَاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ [البقرة:97]، ففي هذا إثبات أن جبريل عليه السلام هو الذي نزله، والمقصود أن الذي أتاه بالوحي ملَكٌ هذا شأنه، لا شيطان كما يزعم المشركون. وقال تبارك وتعالى أيضاً مبيناً أن جبريل هو الذي علمه: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195]. وفي نفس السياق في سورة الشعراء قال تبارك وتعالى: وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:210-212]، فنفى أن يكون مصدر القرآن الشياطين، وأثبت أن مصدره هو تعليم جبريل الأمين. وقال تبارك وتعالى: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [طه:114]. وقال تبارك وتعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:16-18]، يعني: إذا قرأه عليك الملك المرسل به إليك من عند الله مبلغاً له عنه: (( فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ))، أي: اقرأ كما سمعت الملك يقرأ، وهذا كله يؤكد أن الذي علم النبي صلى الله عليه وسلم هو جبريل عليه السلام. فهذه الآية دلت على أن جبريل ملك الوحي (( شَدِيدُ الْقُوَى )) * (( ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ))، وهذا بينه قوله تبارك وتعالى في سورة التكوير بقوله: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]، وهذه كلها صفات جبريل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. و(القُوى) جمع قوة، ومن العرب من يكسرها فيقول: القوى بكسر (القاف) كالرِّشا بكسر الراء في الرِّشوة جمع رُشوة بضمها، والحِجا جمع حُجوة. وقوى الحبل: طاقاته، والواحدة قوة.

قال تبارك وتعالى: ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى [النجم:6]. قوله: (( ذُو مِرَّةٍ )): المِرة بكسر (الميم) أي: ذو متانة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه، والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي: ذو مِرَّة، من أمررت الحبل إذا أحكمت فتله. وكان من قوة جبريل عليه السلام أنه قلع قرى قوم لوط وحملها على جناحيه فقلبها، وصاح بثمود فأصبحوا خامدين، وهذه كلها من شدة قوة جبريل عليه السلام. يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ثم أخبر تعالى عن وصف مَن علمه الوحي والقرآن مما يُعلم أن صفات هذا الملك الذي علمه القرآن الكريم مضادة لأوصاف الشيطان معلم الضلال والغواية. فقال تبارك وتعالى: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]، وهذا نظير قوله: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:20].

السر في وصف جبريل بالقوة، ووجه إضافة القرآن الكريم تارة إلى جبريل وتارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم

أما السر في وصف جبريل عليه السلام بالقوة فقد وضحه الإمام ابن القيم أيضاً في كتابه المبارك: (التبيان في أقسام القرآن) أثناء شرحه سورة التكوير فقال: ثم ذكر سبحانه المقسم عليه، وهو القرآن الكريم وأخبر أن هذا القرآن قول رسول كريم. والرسول الكريم هو جبريل عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في سياق هذه الآيات الكريمة من الصفات ما يعيِّن ويحتِّم أنه جبريل، فقد قال تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]، فهذا كله لا شك أنه في شأن جبريل عليه السلام. وأما الرسول الكريم في الحاقة فهو: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:38-47]؛ لأنه عندما قال تبارك وتعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) نفى بعد ذلك مباشرة قول من زعم من أعدائه أنه قوله، فقال: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) رداً على من قالوا: إنه قول شاعر، يعنون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ) يعني: كما تزعمون، فيلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى حينما أقسم على أن القرآن قول رسول نسبه إلى الرسول الكريم مرتين: مرة عنى بها جبريل عليه السلام، كما في سورة التكوير، وأيضاً هنا في سورة النجم. ومرة أخرى في سورة الحاقة، وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن القيم : فنسب هذا القول -القرآن الكريم- تارةً إلى الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان. فلا يمكن أن يفهم أحد أن إضافة القول إلى أحد الرسولين تعني أنه كلام من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، لأنه لو قلنا إن المتكلم به أو المصدر له هو جبريل أو هو الرسول عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة سوف يظن القارئ أن القرآن صدر عن هذين المصدرين، وبهذا تتناقض النسبتان. لكن القول الصحيح أن هذه الإضافة إضافة تبليغ، يعني: إنه لقول الله الذي بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بلغه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الناس. يقول: فأضافه إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري تارة، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، ولفظ (الرسول) يدل على ذلك. يعني: أن كلمة (الرسول) في حد ذاتها تؤيد هذا المعنى، وهو أن الإضافة إضافة تبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يكون مرسلاً بالإبلاغ. يقول: فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله، وهذا صريح في أنه كلام مَن أرسل جبريل، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وأن كلا منهما بلغه عن الله، فهو قوله مبلغاً، وقول الله الذي تكلم به حقاً، فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله متكلماً بالقرآن، وهو كلامه حقاً في هاتين الآيتين، بل هما من أظهر الأدلة على كونه كلام الرب تبارك وتعالى. يعني: أن الجهمية الذين يقولون: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو مخلوق، قد يفرحون ويجدون متنفساً في هاتين الآيتين وفي هاتين النسبتين؛ لكن نقول كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إنه لو صح أن هذه إضافة إنشاء لتناقضت النسبتان، فلا ينبغي لأهل البدع أن يفرحوا بهذه النسبة إلى الرسول البشري أو إلى الرسول الملكي؛ لأن نفس الآية دليل عليهم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأرسى قاعدة عامة فقال: (أنا ألتزم -يعني: أنا أضمن- أنه لا يحتج مبتدع بآية أو حديث لتأييد باطله إلا وكان في نفس الآية أو الحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه)، فهنا نفس هذه الآية فيها دليل يبطل كلام هؤلاء الجهمية، وهو قوله عز وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ)، أي: رسول مبلغ وليس منشئاً الكلام من عنده. يقول ابن القيم : فهما من أظهر الأدلة على كون هذا القرآن كلام الرب تبارك وتعالى، وأنه ليس للرسولين الكريمين منه إلا التبليغ، فجبريل سمعه من الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم قوي مكين: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20]، فوصفه أنه كريم قوي مكين عند الرب تبارك وتعالى، وأنه مطاع ثم أمين فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن. أي: أن السند الذي وصل به القرآن إلينا هو عن جبريل، وجبريل تلقاه مباشرة عن الله سبحانه وتعالى، ثم بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين، فهذه الصفات الخمس فيها تزكية لسند القرآن، فالسند الأول: هو السند الملكي جبريل، وجبريل رسول كريم قوي مكين مطاع في السماوات أمين، فلا شك أن هذا كله تزكية لسند القرآن الكريم. يقول: ثم إنه سماع محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك عن هذا السند علواً وجلالة. فالله هو الذي زكى هذا السند العظيم، فلذلك كان من أشرف الأنساب أن يحمل المرء القرآن الكريم عن الشيوخ بالأسانيد، فإذا تلقيت القرآن فتلقه عن شيخ شفاهاً كما ينبغي أن يكون؛ لأن الإنسان لا يصدق عليه وصف قارئ إلا إذا تلقى القرآن مشافهةً من شيخ مسند، تلقاه عن مشايخه، حتى ينتهي هذا السند إلى التابعين، ثم إلى الصحابة، ثم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إلى جبريل عليه السلام، ثم إلى الله سبحانه وتعالى. فينبغي للإنسان إذا أراد أن يحوز هذا الشرف العظيم أن ينضم إلى هذه السلسلة التي سوف تبدأ باسمه وتنتهي إلى الله سبحانه وتعالى، والإسناد من خصائص هذه الأمة، فالذي ينبغي على طالب العلم أن يجتهد في تلقي القرآن شفاهاً، أما تلقي القرآن عن طريق الأشرطة أو عن طريق قراءة كتب التجويد فكل هذا هروب من الحقيقة، وليس هذا هو الصحيح في تلقي القرآن، بل القرآن يُتلقى مباشرة عن الشيخ المقرئ، إذ لابد أن يكون الشيخ المقرئ قد تلقاه أيضاً عن مشايخ، كما قال عز وجل: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18] يعني: اقرأه كما سمعته من جبريل عليه السلام.

أهمية تلقي القرآن الكريم بالمشافهة

فالأمة تلقت القرآن بهذه الأسانيد المتواترة طوال هذه القرون التي مرت بطريق التلقي الشفاهي، والقرآن نفسه اسمه: القرآن، ومعناه: القراءة، أي: أنه يُقرأ. فجزءٌ أساسي في تعريف القرآن هو الكيفية التي يُتلى بها القرآن، فإنه يُتلى بطريقة معينة، وهي: مراعاة أحكام التجويد وصفات الحروف ومخارجها ونحو ذلك. فالعدول عن ذلك بأن يتلقى الإنسان القرآن عن طريق سماع الأشرطة ليرضي ضميره غير صحيح. وبعض الناس يقول: أنا لست مقصراً مع القرآن، بل إنني طوال النهار متابع لإذاعة القرآن الكريم، ومعي الأشرطة أسمعها، وهذا هروب، فإن التعبد بالقرآن ليس بسماعه فقط، فهل أنت الذي تتعبد أم جهاز التسجيل أو الراديو الذي يتعبد؟ لابد أن يكون لك ورد تقرؤه من القرآن، ولا بأس أن تسمع، لكن لابد أن يكون هناك تعبد بلسانك أنت وبقلبك أنت وبعقلك أنت، حتى لو كنت تتعتع في قراءة القرآن فاستمر وجاهد فلك في ذلك الأجر العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: (الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، فحتى الشخص الذي لا يعرف التجويد ولا يحسن قراءة القرآن يقرأ؛ فإن له أجرين على ذلك. فالمطلوب أن الإنسان لابد أن يتلقى القرآن، هذا إذا كان يريد أن يكون طالب علم حقيقياً وليس طالب علم مزوراً، فإن أول خطوات طلب العلم أن تقرأ القرآن الكريم على شيخ مشافهةً، فإن لم يكن مشافهةً لم يسم تلقياً؛ لأن المشافهة أن تتلقى عن الشيخ -ليس فقط من صوته- لكن تتلقى بنظرك بعينيك وبلحظك أيضاً، ولا تأخذ منه اللفظ فقط لكن أيضاً تأخذ عن طريق اللحظ، فهناك من صفات الحروف ومن أحكام التجويد ما يدرك بالنظر، ولذلك منع العلماء أن يتلقى أعمى عن أعمى، لأن هناك أحكاماً لا تفهم إلا بالنظر، مثل: الروم والإشمام، ونحو هذه الأشياء، فلابد من النطق بالحرف مع النظر إلى كيفية نطقه، ومعرفة كيف يخرج الحرف مرققاً، وكيف يخرج مفخماً، وهذه لا تدرك إلا بالنظر إلى الشيخ. فينبغي أن يُجتهد في هذا الأمر. فإن كان الإنسان يعجز عن تلقي التجويد أو القرآن عن شيخ مشافهة فهناك حل بديل ينفع لمن عجز عن الحصول على شيخ، وذلك لو أمكن مشاهدة بعض الأشرطة البصرية السمعية، إن أمكن استعمالها في التعلم؛ لأنه توجد أشرطة فيها بعض الشيوخ يعلمون التجويد بأشرطة فيديو تقريباً، فهذه يمكن النظر إليها مؤقتاً إلى أن يتوفر الشيخ؛ ولكن نحن نعيش في مصر، ولسنا نعيش في بلاد واق الواق حيث لا يوجد فيها شيوخ ولا كذا، فعندنا شيوخ وبالذات الشيوخ الأزهريون، فإنهم يتقنون جداً أحكام التجويد، فينبغي أن يلوذ كل واحد منكم بشيخ يتلقى عنه القرآن شفاهاً، ولا يلجأ إلى هذه الوسائل البديلة؛ لأن هذا لا يطلق عليه قارئاً، إنما القارئ من يتلقى القرآن مشافهة.

أما السر في وصف جبريل عليه السلام بالقوة فقد وضحه الإمام ابن القيم أيضاً في كتابه المبارك: (التبيان في أقسام القرآن) أثناء شرحه سورة التكوير فقال: ثم ذكر سبحانه المقسم عليه، وهو القرآن الكريم وأخبر أن هذا القرآن قول رسول كريم. والرسول الكريم هو جبريل عليه السلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر في سياق هذه الآيات الكريمة من الصفات ما يعيِّن ويحتِّم أنه جبريل، فقد قال تبارك وتعالى: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:19-21]، فهذا كله لا شك أنه في شأن جبريل عليه السلام. وأما الرسول الكريم في الحاقة فهو: النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك في قوله سبحانه: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلَاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلَاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:38-47]؛ لأنه عندما قال تبارك وتعالى: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) نفى بعد ذلك مباشرة قول من زعم من أعدائه أنه قوله، فقال: (وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ) رداً على من قالوا: إنه قول شاعر، يعنون بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، (وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ) يعني: كما تزعمون، فيلاحظ هنا أن الله سبحانه وتعالى حينما أقسم على أن القرآن قول رسول نسبه إلى الرسول الكريم مرتين: مرة عنى بها جبريل عليه السلام، كما في سورة التكوير، وأيضاً هنا في سورة النجم. ومرة أخرى في سورة الحاقة، وأراد به النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن القيم : فنسب هذا القول -القرآن الكريم- تارةً إلى الرسول الملكي، وتارة إلى الرسول البشري، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان. فلا يمكن أن يفهم أحد أن إضافة القول إلى أحد الرسولين تعني أنه كلام من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، لأنه لو قلنا إن المتكلم به أو المصدر له هو جبريل أو هو الرسول عليه الصلاة والسلام ففي هذه الحالة سوف يظن القارئ أن القرآن صدر عن هذين المصدرين، وبهذا تتناقض النسبتان. لكن القول الصحيح أن هذه الإضافة إضافة تبليغ، يعني: إنه لقول الله الذي بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم بلغه النبي عليه الصلاة والسلام إلى الناس. يقول: فأضافه إلى الرسول الملكي تارة، وإلى البشري تارة، وإضافته إلى كل واحد من الرسولين إضافة تبليغ لا إضافة إنشاء من عنده، وإلا تناقضت النسبتان، ولفظ (الرسول) يدل على ذلك. يعني: أن كلمة (الرسول) في حد ذاتها تؤيد هذا المعنى، وهو أن الإضافة إضافة تبليغ؛ لأن الرسول من شأنه أن يكون مرسلاً بالإبلاغ. يقول: فإن الرسول هو الذي يبلغ كلام من أرسله، وهذا صريح في أنه كلام مَن أرسل جبريل، وأرسل محمداً صلى الله عليه وسلم، وأن كلا منهما بلغه عن الله، فهو قوله مبلغاً، وقول الله الذي تكلم به حقاً، فلا راحة لمن أنكر أن يكون الله متكلماً بالقرآن، وهو كلامه حقاً في هاتين الآيتين، بل هما من أظهر الأدلة على كونه كلام الرب تبارك وتعالى. يعني: أن الجهمية الذين يقولون: إن القرآن ليس كلام الله، وإنما هو مخلوق، قد يفرحون ويجدون متنفساً في هاتين الآيتين وفي هاتين النسبتين؛ لكن نقول كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: إنه لو صح أن هذه إضافة إنشاء لتناقضت النسبتان، فلا ينبغي لأهل البدع أن يفرحوا بهذه النسبة إلى الرسول البشري أو إلى الرسول الملكي؛ لأن نفس الآية دليل عليهم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى وأرسى قاعدة عامة فقال: (أنا ألتزم -يعني: أنا أضمن- أنه لا يحتج مبتدع بآية أو حديث لتأييد باطله إلا وكان في نفس الآية أو الحديث ما يدل على نقيض ما ذهب إليه)، فهنا نفس هذه الآية فيها دليل يبطل كلام هؤلاء الجهمية، وهو قوله عز وجل: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ)، أي: رسول مبلغ وليس منشئاً الكلام من عنده. يقول ابن القيم : فهما من أظهر الأدلة على كون هذا القرآن كلام الرب تبارك وتعالى، وأنه ليس للرسولين الكريمين منه إلا التبليغ، فجبريل سمعه من الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، ووصف رسوله الملكي في هذه السورة بأنه كريم قوي مكين: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ* ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:19-20]، فوصفه أنه كريم قوي مكين عند الرب تبارك وتعالى، وأنه مطاع ثم أمين فهذه خمس صفات تتضمن تزكية سند القرآن. أي: أن السند الذي وصل به القرآن إلينا هو عن جبريل، وجبريل تلقاه مباشرة عن الله سبحانه وتعالى، ثم بلغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بلغه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصحابة رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين، فهذه الصفات الخمس فيها تزكية لسند القرآن، فالسند الأول: هو السند الملكي جبريل، وجبريل رسول كريم قوي مكين مطاع في السماوات أمين، فلا شك أن هذا كله تزكية لسند القرآن الكريم. يقول: ثم إنه سماع محمد صلى الله عليه وآله وسلم من جبريل، وسماع جبريل من رب العالمين، فناهيك عن هذا السند علواً وجلالة. فالله هو الذي زكى هذا السند العظيم، فلذلك كان من أشرف الأنساب أن يحمل المرء القرآن الكريم عن الشيوخ بالأسانيد، فإذا تلقيت القرآن فتلقه عن شيخ شفاهاً كما ينبغي أن يكون؛ لأن الإنسان لا يصدق عليه وصف قارئ إلا إذا تلقى القرآن مشافهةً من شيخ مسند، تلقاه عن مشايخه، حتى ينتهي هذا السند إلى التابعين، ثم إلى الصحابة، ثم إلى النبي عليه الصلاة والسلام، ثم إلى جبريل عليه السلام، ثم إلى الله سبحانه وتعالى. فينبغي للإنسان إذا أراد أن يحوز هذا الشرف العظيم أن ينضم إلى هذه السلسلة التي سوف تبدأ باسمه وتنتهي إلى الله سبحانه وتعالى، والإسناد من خصائص هذه الأمة، فالذي ينبغي على طالب العلم أن يجتهد في تلقي القرآن شفاهاً، أما تلقي القرآن عن طريق الأشرطة أو عن طريق قراءة كتب التجويد فكل هذا هروب من الحقيقة، وليس هذا هو الصحيح في تلقي القرآن، بل القرآن يُتلقى مباشرة عن الشيخ المقرئ، إذ لابد أن يكون الشيخ المقرئ قد تلقاه أيضاً عن مشايخ، كما قال عز وجل: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ [القيامة:18] يعني: اقرأه كما سمعته من جبريل عليه السلام.

فالأمة تلقت القرآن بهذه الأسانيد المتواترة طوال هذه القرون التي مرت بطريق التلقي الشفاهي، والقرآن نفسه اسمه: القرآن، ومعناه: القراءة، أي: أنه يُقرأ. فجزءٌ أساسي في تعريف القرآن هو الكيفية التي يُتلى بها القرآن، فإنه يُتلى بطريقة معينة، وهي: مراعاة أحكام التجويد وصفات الحروف ومخارجها ونحو ذلك. فالعدول عن ذلك بأن يتلقى الإنسان القرآن عن طريق سماع الأشرطة ليرضي ضميره غير صحيح. وبعض الناس يقول: أنا لست مقصراً مع القرآن، بل إنني طوال النهار متابع لإذاعة القرآن الكريم، ومعي الأشرطة أسمعها، وهذا هروب، فإن التعبد بالقرآن ليس بسماعه فقط، فهل أنت الذي تتعبد أم جهاز التسجيل أو الراديو الذي يتعبد؟ لابد أن يكون لك ورد تقرؤه من القرآن، ولا بأس أن تسمع، لكن لابد أن يكون هناك تعبد بلسانك أنت وبقلبك أنت وبعقلك أنت، حتى لو كنت تتعتع في قراءة القرآن فاستمر وجاهد فلك في ذلك الأجر العظيم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما معناه: (الماهر بالقرآن مع السَّفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن وهو يتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، فحتى الشخص الذي لا يعرف التجويد ولا يحسن قراءة القرآن يقرأ؛ فإن له أجرين على ذلك. فالمطلوب أن الإنسان لابد أن يتلقى القرآن، هذا إذا كان يريد أن يكون طالب علم حقيقياً وليس طالب علم مزوراً، فإن أول خطوات طلب العلم أن تقرأ القرآن الكريم على شيخ مشافهةً، فإن لم يكن مشافهةً لم يسم تلقياً؛ لأن المشافهة أن تتلقى عن الشيخ -ليس فقط من صوته- لكن تتلقى بنظرك بعينيك وبلحظك أيضاً، ولا تأخذ منه اللفظ فقط لكن أيضاً تأخذ عن طريق اللحظ، فهناك من صفات الحروف ومن أحكام التجويد ما يدرك بالنظر، ولذلك منع العلماء أن يتلقى أعمى عن أعمى، لأن هناك أحكاماً لا تفهم إلا بالنظر، مثل: الروم والإشمام، ونحو هذه الأشياء، فلابد من النطق بالحرف مع النظر إلى كيفية نطقه، ومعرفة كيف يخرج الحرف مرققاً، وكيف يخرج مفخماً، وهذه لا تدرك إلا بالنظر إلى الشيخ. فينبغي أن يُجتهد في هذا الأمر. فإن كان الإنسان يعجز عن تلقي التجويد أو القرآن عن شيخ مشافهة فهناك حل بديل ينفع لمن عجز عن الحصول على شيخ، وذلك لو أمكن مشاهدة بعض الأشرطة البصرية السمعية، إن أمكن استعمالها في التعلم؛ لأنه توجد أشرطة فيها بعض الشيوخ يعلمون التجويد بأشرطة فيديو تقريباً، فهذه يمكن النظر إليها مؤقتاً إلى أن يتوفر الشيخ؛ ولكن نحن نعيش في مصر، ولسنا نعيش في بلاد واق الواق حيث لا يوجد فيها شيوخ ولا كذا، فعندنا شيوخ وبالذات الشيوخ الأزهريون، فإنهم يتقنون جداً أحكام التجويد، فينبغي أن يلوذ كل واحد منكم بشيخ يتلقى عنه القرآن شفاهاً، ولا يلجأ إلى هذه الوسائل البديلة؛ لأن هذا لا يطلق عليه قارئاً، إنما القارئ من يتلقى القرآن مشافهة.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مفصلاً هذا المديح وهذا الثناء الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة في وصف الملك جبريل عليه السلام:

الكرم

الصفة الأولى: كون الرسول الذي جاء به إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كريماًً: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير:19]، فهو ليس كما يقول أعداؤه: إن الذي جاء به شيطان، فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير. أي: أن الشيطان سيئ وقبيح في كل ما يتعلق به، ولذلك لما وصف الله سبحانه وتعالى شجرة الزقوم قال: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65]، إشارة إلى أن الشيطان أقبح ما يكون. وهنا إشارة عابرة: بالنسبة لهذه الأمور الغيبية نجد أحياناً عدواناً يحصل من بعض المتسمَّين بأسماء المسلمين حيث تصدر منهم أشياء فظيعة، مثلاً: نجد تصميمات لأغلفة للكتب، كأن يكون كتاب يتكلم عن الشياطين، فتجدهم يحاولون أن يرسموا منظراً معيناً للشيطان، ويجتهدون في كونه قبيح الصورة ذا قرون ونحو ذلك، فنقول: ما أدراكم أن هذه هي صورة الشيطان الحقيقية؟! أليس هذا عدواناً على الغيب؟! ويأتي كتاب يتكلم عن الجنة، فيرسمون على غلافه من بساتين الدنيا، صحيح أنه بستان جميل أو حديقة جميلة؛ لكن هل يجوز أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! اترك الغلاف خالياً خالصاً وضع أي لون آخر، غير أنك لا تحاول أن تقرب الجنة إلى أذهان الناس بأن تصور لهم صورة من زينات الدنيا، فماذا تكون هي في جنة الآخرة؟ فهذا عدوان على الغيب، وهذا تحقير للجنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في شأنها: (أعددت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، بمعنى: أنك مهما حاولت أن تتخيل كيف هي الجنة وكيف هو جمالها ونعيمها، فإنك مخطئ في التخيل، فإذا كان هذا أمراً نحن نجزم به ونقطع به، وهو أن الجنة ما خطر شكلها وحسنها على قلب بشر، فكيف يتجرأ هؤلاء الناس على أن يرتكبوا هذا الكذب وهذا العدوان على حقيقة من حقائق الغيب؟! وهكذا نفس الشيء في النار، حيث يأتون بصور نار مشتعلة، وما أدراكم أن هذه هي النار؟! هذه النار غيب، ونحن نعرفها الآن بالوصف فقط، أما المعاينة فنسأل الله أن يعافينا جميعاً من رؤيتها ومن مسيسها وحرها، فهذا أيضاً عدوان على الغيب، ناهيك عما يحصل من بعض الناس الذين يزينون الجدران أو الستائر أو كذا ببعض الأشياء فيها صورة الملائكة على هيئة بنت صغيرة لها جناحان، وهذا أيضاً عدوان! وأنتم تعرفون جميعاً التشنيع الذي شنعه القرآن على هؤلاء الذين اعتدوا على الغيب حينما زعموا أن الملائكة بنات الله، فتجيء أنت أيها المسلم! فتقول بقول المشركين، وتأتي بصورة بنت صغيرة على أن هذه هي من الملائكة وهذه صورة الملائكة! فهذا عدوان ولا ينبغي أن يصدر من المسلمين، فإن صدر من غير المسلمين فليس بعد الكفر ذنب، أما مسلم ويضاهي بفعله أو بقوله أو بصوره أفعال المشركين فهذا ما لا ينبغي ولا يليق. فهذا جبريل عليه السلام رسول كريم، وليس كما يقول أعداء الله وأعداء جبريل: إن الذي جاء بالقرآن شيطان. يقول ابن القيم: فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير، باطنه أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه، وليس فيه ولا عنده خير، فهو أبعد شيء عن الكرم، والرسول الذي ألقى القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم كريم جميل المنظر بهي الصورة كثير الخير، طيب مطيَّب معلم الطيبين، وكل خير في الأرض من هدى وعلم ومعرفة وإيمان وبر، فهو مما أجراه ربه على يديه، وهذا غاية الكرم الصوري والمعنوي.

القوة

الوصف الثاني: أنه ذو قوة، كما قال في سورة النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]. وفي هذا تنبيه على أمور: أحدها: أن جبريل عليه السلام وصفه الله سبحانه وتعالى الجبار القوي المتين بأنه ذو قوة، وبأنه شديد القوى، فإذا وصفه الله بذلك فأي قوة تكون قوة جبريل عليه السلام؟! ووصف جبريل بأنه شديد القوى أو ذو قوة يفيد أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو من هذا القرآن الكريم، أو أن ينالوا منه شيئاً أو أن يزيدوا فيه أو أن ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقرأ. الثاني: أنه موالٍ لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له وموادٌّ له وناصر، وإذا كان جبريل عليه السلام ذا قوة وشديد القوى فهو نصير، كما قال الله تبارك وتعالى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]، فجبريل يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره ويؤيده ويعضده، ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه فهو المهدي المنصور، والله هاديه وناصره. الأمر الثالث: أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك. الأمر الرابع: أنه قادر على تنفيذ ما أُمر به، فإذا كلف جبريل عليه السلام بأمر من الله عز وجل فلأنه شديد القوى فهو قادر على أن ينفذ ما أُمر به لقوته، ولا يعجز عن ذلك، وهو مؤد له كما أمر به لأمانته، كما قال سبحانه: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:20-21] وأحدنا إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو وكالة أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، كما قالت ابنة الرجل الصالح: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فيمكن أن يوجد إنسان قوي على الوظيفة لكنه خائن غير أمين، ويمكن أن يوجد أمين تقي وورع؛ لكنه غير قوي، ولا يستطيع أن يؤدي هذه الوظيفة، وفقدان هاتين الصفتين هو الذي ألجأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشكوى في قوله: (أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعَجْز الثقة). فقوله:(جَلَد الفاجر)، يعني: الشخص قد يكون فاجراً لكن عنده جَلَد وقوة بحيث يستطيع أن يجاهد ويُحدث انتكاساً في صفوف الأعداء، فهو فاجر، ولكنه مع ذلك قوي في الحرب مثلاً، وقوله: (وعَجْز الثقة)، يعني: الشخص قد يكون ثقة لكنه عاجز، فإذا وجدت القوة مع الأمانة فهذا هو أكمل الأمور، كما قال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]. يقول ابن القيم : وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قوياً أميناً معظماً ذا مكانة عنده مطاعاً في الناس، كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفة، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل والرسول والرسالة والمرسَل إليه. أي: أن هذا الاصطفاء وهذا الاختيار لجبريل عليه السلام وهو القوي الأمين شديد القوى المكين المطاع في أهل السماوات، كل هذه الصفات تدل على عظمة شأن المرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، بحيث إذا كان هذا رسول الله سواء كان الرسول البشري أو الرسول الملكي فالله أعظم، فيدل على عظمة شأن المرسِل، وشأن الرسول، وهو جبريل، وشأن الرسالة نفسها لأنها هي القرآن الكريم، والمرسَل إليه وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم (حيث انتدب له الكريم القوي المتين عنده المطاع في الملإ الأعلى الأمين حقاً؛ فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية. هذا فيما يتعلق بقوله تبارك وتعالى: (( ذِي قُوَّةٍ )).

الوجاهة عند الله تعالى

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مفصلاً هذا المديح وهذا الثناء الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة في وصف الملك جبريل عليه السلام: وقوله تعالى: (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)، أي: له مكانة ووجاهة عند الله سبحانه وتعالى، وهو أقرب الملائكة إليه، وفي قول الله تبارك وتعالى: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ [التكوير:20]، إشارة إلى علو منزلة جبريل إذ كان قريباً من ذي العرش سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى: (مطاع ثم أمين)

ثم قال تبارك وتعالى: (( مُطَاعٍ ثَمَّ ))، (ثم) بمعنى: هناك، وفي هذا إشارة إلى أن جنود جبريل عليه السلام وأعوانه يطيعونه إذا ندبهم لنصر صاحبه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه إشارة أيضاً إلى أن هذا الذي تكذبونه وتعادونه سيصير مطاعاً في الأرض، كما أن جبريل مطاع في السماء، وأن كلاً من الرسولين مطاع في محله وقومه، وفيه تعظيم له بأنه بمنزلة الملوك المطاعين في قومهم، فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إلا مثل هذا الملك المطاع، وفي وصفه بالأمانة إشارة إلى حفظه ما حُمِّله وأدائه له على وجهه. ثم نزه الله عز وجل رسوله البشري وزكاه عما يقول فيه أعداؤه فقال: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22] وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين. فهذا فيما يتعلق بما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كون قوله تعالى في سورة النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5] نظير قوله تعالى: في سورة التكوير: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:20].

الصفة الأولى: كون الرسول الذي جاء به إلى رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم كريماًً: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير:19]، فهو ليس كما يقول أعداؤه: إن الذي جاء به شيطان، فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير. أي: أن الشيطان سيئ وقبيح في كل ما يتعلق به، ولذلك لما وصف الله سبحانه وتعالى شجرة الزقوم قال: طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ [الصافات:65]، إشارة إلى أن الشيطان أقبح ما يكون. وهنا إشارة عابرة: بالنسبة لهذه الأمور الغيبية نجد أحياناً عدواناً يحصل من بعض المتسمَّين بأسماء المسلمين حيث تصدر منهم أشياء فظيعة، مثلاً: نجد تصميمات لأغلفة للكتب، كأن يكون كتاب يتكلم عن الشياطين، فتجدهم يحاولون أن يرسموا منظراً معيناً للشيطان، ويجتهدون في كونه قبيح الصورة ذا قرون ونحو ذلك، فنقول: ما أدراكم أن هذه هي صورة الشيطان الحقيقية؟! أليس هذا عدواناً على الغيب؟! ويأتي كتاب يتكلم عن الجنة، فيرسمون على غلافه من بساتين الدنيا، صحيح أنه بستان جميل أو حديقة جميلة؛ لكن هل يجوز أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟! اترك الغلاف خالياً خالصاً وضع أي لون آخر، غير أنك لا تحاول أن تقرب الجنة إلى أذهان الناس بأن تصور لهم صورة من زينات الدنيا، فماذا تكون هي في جنة الآخرة؟ فهذا عدوان على الغيب، وهذا تحقير للجنة؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في شأنها: (أعددت فيها لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر)، بمعنى: أنك مهما حاولت أن تتخيل كيف هي الجنة وكيف هو جمالها ونعيمها، فإنك مخطئ في التخيل، فإذا كان هذا أمراً نحن نجزم به ونقطع به، وهو أن الجنة ما خطر شكلها وحسنها على قلب بشر، فكيف يتجرأ هؤلاء الناس على أن يرتكبوا هذا الكذب وهذا العدوان على حقيقة من حقائق الغيب؟! وهكذا نفس الشيء في النار، حيث يأتون بصور نار مشتعلة، وما أدراكم أن هذه هي النار؟! هذه النار غيب، ونحن نعرفها الآن بالوصف فقط، أما المعاينة فنسأل الله أن يعافينا جميعاً من رؤيتها ومن مسيسها وحرها، فهذا أيضاً عدوان على الغيب، ناهيك عما يحصل من بعض الناس الذين يزينون الجدران أو الستائر أو كذا ببعض الأشياء فيها صورة الملائكة على هيئة بنت صغيرة لها جناحان، وهذا أيضاً عدوان! وأنتم تعرفون جميعاً التشنيع الذي شنعه القرآن على هؤلاء الذين اعتدوا على الغيب حينما زعموا أن الملائكة بنات الله، فتجيء أنت أيها المسلم! فتقول بقول المشركين، وتأتي بصورة بنت صغيرة على أن هذه هي من الملائكة وهذه صورة الملائكة! فهذا عدوان ولا ينبغي أن يصدر من المسلمين، فإن صدر من غير المسلمين فليس بعد الكفر ذنب، أما مسلم ويضاهي بفعله أو بقوله أو بصوره أفعال المشركين فهذا ما لا ينبغي ولا يليق. فهذا جبريل عليه السلام رسول كريم، وليس كما يقول أعداء الله وأعداء جبريل: إن الذي جاء بالقرآن شيطان. يقول ابن القيم: فإن الشيطان خبيث مخبَّث لئيم قبيح المنظر عديم الخير، باطنه أقبح من ظاهره، وظاهره أشنع من باطنه، وليس فيه ولا عنده خير، فهو أبعد شيء عن الكرم، والرسول الذي ألقى القرآن إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم كريم جميل المنظر بهي الصورة كثير الخير، طيب مطيَّب معلم الطيبين، وكل خير في الأرض من هدى وعلم ومعرفة وإيمان وبر، فهو مما أجراه ربه على يديه، وهذا غاية الكرم الصوري والمعنوي.

الوصف الثاني: أنه ذو قوة، كما قال في سورة النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5]. وفي هذا تنبيه على أمور: أحدها: أن جبريل عليه السلام وصفه الله سبحانه وتعالى الجبار القوي المتين بأنه ذو قوة، وبأنه شديد القوى، فإذا وصفه الله بذلك فأي قوة تكون قوة جبريل عليه السلام؟! ووصف جبريل بأنه شديد القوى أو ذو قوة يفيد أنه بقوته يمنع الشياطين أن تدنو من هذا القرآن الكريم، أو أن ينالوا منه شيئاً أو أن يزيدوا فيه أو أن ينقصوا منه، بل إذا رآه الشيطان هرب منه ولم يقرأ. الثاني: أنه موالٍ لهذا الرسول الذي كذبتموه ومعاضد له وموادٌّ له وناصر، وإذا كان جبريل عليه السلام ذا قوة وشديد القوى فهو نصير، كما قال الله تبارك وتعالى: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ [التحريم:4]، فجبريل يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم وينصره ويؤيده ويعضده، ومن كان هذا القوي وليه ومن أنصاره وأعوانه ومعلمه فهو المهدي المنصور، والله هاديه وناصره. الأمر الثالث: أن من عادى هذا الرسول فقد عادى صاحبه ووليه جبريل، ومن عادى ذا القوة والشدة فهو عرضة للهلاك. الأمر الرابع: أنه قادر على تنفيذ ما أُمر به، فإذا كلف جبريل عليه السلام بأمر من الله عز وجل فلأنه شديد القوى فهو قادر على أن ينفذ ما أُمر به لقوته، ولا يعجز عن ذلك، وهو مؤد له كما أمر به لأمانته، كما قال سبحانه: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ* مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ [التكوير:20-21] وأحدنا إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو وكالة أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، كما قالت ابنة الرجل الصالح: يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ [القصص:26]، فيمكن أن يوجد إنسان قوي على الوظيفة لكنه خائن غير أمين، ويمكن أن يوجد أمين تقي وورع؛ لكنه غير قوي، ولا يستطيع أن يؤدي هذه الوظيفة، وفقدان هاتين الصفتين هو الذي ألجأ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى الشكوى في قوله: (أشكو إلى الله جَلَد الفاجر وعَجْز الثقة). فقوله:(جَلَد الفاجر)، يعني: الشخص قد يكون فاجراً لكن عنده جَلَد وقوة بحيث يستطيع أن يجاهد ويُحدث انتكاساً في صفوف الأعداء، فهو فاجر، ولكنه مع ذلك قوي في الحرب مثلاً، وقوله: (وعَجْز الثقة)، يعني: الشخص قد يكون ثقة لكنه عاجز، فإذا وجدت القوة مع الأمانة فهذا هو أكمل الأمور، كما قال تعالى حاكياً عن يوسف عليه السلام: قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يوسف:55]. يقول ابن القيم : وأحدكم إذا انتدب غيره في أمر من الأمور لرسالة أو ولاية أو غيرها فإنما ينتدب لها القوي عليها الأمين على فعلها، وإن كان ذلك الأمر من أهم الأمور عنده انتدب له قوياً أميناً معظماً ذا مكانة عنده مطاعاً في الناس، كما وصف الله عبده جبريل بهذه الصفة، وهذا يدل على عظمة شأن المرسِل والرسول والرسالة والمرسَل إليه. أي: أن هذا الاصطفاء وهذا الاختيار لجبريل عليه السلام وهو القوي الأمين شديد القوى المكين المطاع في أهل السماوات، كل هذه الصفات تدل على عظمة شأن المرسِل وهو الله سبحانه وتعالى، بحيث إذا كان هذا رسول الله سواء كان الرسول البشري أو الرسول الملكي فالله أعظم، فيدل على عظمة شأن المرسِل، وشأن الرسول، وهو جبريل، وشأن الرسالة نفسها لأنها هي القرآن الكريم، والمرسَل إليه وهو النبي محمد صلى الله عليه وسلم (حيث انتدب له الكريم القوي المتين عنده المطاع في الملإ الأعلى الأمين حقاً؛ فإن الملوك لا ترسل في مهماتها إلا الأشراف ذوي الأقدار والرتب العالية. هذا فيما يتعلق بقوله تبارك وتعالى: (( ذِي قُوَّةٍ )).

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تبارك وتعالى مفصلاً هذا المديح وهذا الثناء الذي تضمنته هذه الآيات الكريمة في وصف الملك جبريل عليه السلام: وقوله تعالى: (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)، أي: له مكانة ووجاهة عند الله سبحانه وتعالى، وهو أقرب الملائكة إليه، وفي قول الله تبارك وتعالى: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ [التكوير:20]، إشارة إلى علو منزلة جبريل إذ كان قريباً من ذي العرش سبحانه وتعالى.

ثم قال تبارك وتعالى: (( مُطَاعٍ ثَمَّ ))، (ثم) بمعنى: هناك، وفي هذا إشارة إلى أن جنود جبريل عليه السلام وأعوانه يطيعونه إذا ندبهم لنصر صاحبه وخليله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفيه إشارة أيضاً إلى أن هذا الذي تكذبونه وتعادونه سيصير مطاعاً في الأرض، كما أن جبريل مطاع في السماء، وأن كلاً من الرسولين مطاع في محله وقومه، وفيه تعظيم له بأنه بمنزلة الملوك المطاعين في قومهم، فلم ينتدب لهذا الأمر العظيم إلا مثل هذا الملك المطاع، وفي وصفه بالأمانة إشارة إلى حفظه ما حُمِّله وأدائه له على وجهه. ثم نزه الله عز وجل رسوله البشري وزكاه عما يقول فيه أعداؤه فقال: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير:22] وهذا أمر يعلمونه ولا يشكون فيه، وإن قالوا بألسنتهم خلافه فهم يعلمون أنهم كانوا كاذبين. فهذا فيما يتعلق بما ذكره الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في كون قوله تعالى في سورة النجم: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى [النجم:5] نظير قوله تعالى: في سورة التكوير: ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ [التكوير:20].

أما قول الله تبارك وتعالى هنا: عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ [النجم:5-6] أي: جميل المنظر حسن الصورة ذو جلالة، ليس شيطاناً، فهذا تعديل لسند الوحي والنبوة وتزكية له، كما تقدم نظيره في سورة التكوير، فوصفه بالعلم والقوة وجمال المنظر وجلاله، وهذه كانت أوصاف الرسول البشري والملكي، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم، كما أن هذه منزلة جبريل في أهل السماوات، فكذلك فيها إشارة -كما قال ابن القيم - إلى أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يصير رسولاً نبياً مطاعاً في أهل الأرض، ويعلو دينه على كل الأديان، وكما كانت هذه أوصاف الرسول الملكي كذلك كانت أوصاف الرسول البشري صلى الله عليه وآله وسلم، فقد كان النبي عليه الصلاة والسلام شديد القوة؛ حتى إن رجلاً مصارعاً أبى أن يسلم إلا أن يصارع النبي صلى الله عليه وسلم، فإن غلبه فهو رسول الله حقاً، فصارعه النبي صلى الله عليه وسلم فصرعه وغلبه فأسلم، وكان الصحابة يقولون (كنا إذا حمي الوطيس واشتد البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم،فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه)، أي: كانوا يختبئون خلفه، ويجعلونه هو الدرع والترس في مواجهة الأعداء وهم وراءه، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان أشجع الناس وأعلمهم وأجملهم وأجلهم، وكل هذه الصفات لو تكلمنا على كل صفة على حدة لطال الكلام جداً، فالرسول عليه الصلاة والسلام جمع كل ما يمكن من أوصاف الكمال البشري، كما قال الشاعر: فغاية القول فيه أنه بشر وأنه خير خلق الله كلهمُ وقوله تعالى: (( ذُو مِرَّةٍ ))، أي: مكانة وإحكام في علمه، لا يمكن تغيره ونسيانه، والعرب تقول لكل قوي العقل والرأي: ذا مرة، من أمررت الحبل يعني: إذا أحكمت فتله.