ابن باز فقيد الإسلام


الحلقة مفرغة

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

أما بعد..

فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى حق التقوى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ [لقمان:33].

معاشر المؤمنين: إن أعظم شيء حصلته النفوس واكتسبته القلوب هو العلم الشرعي بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إذ العلم حياة القلوب، وبه تنشرح النفوس، وهو نورٌ وهدى، وحاجة العباد إليه أكثر من حاجتهم إلى الطعام والشراب، بل ضرورتهم إلى العلم تفوق كل ضرورة، والعلم -يا عباد الله- تعليمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، لأنه معلم الحلال والحرام، ومنار سُبل أهل الجنة، هو الأنيس في الوحشة، والصاحب في الغربة، والمحدث في الخلوة، والدليل في السراء والضراء، والسلاح على الأعداء، والجليس عند الأخلاء، يرفع الله به أقواماً، فيجعلهم في الخير قادة وأئمة تقتفى آثارهم، ويقتدى بأفعالهم، وينتهى إلى رأيهم.

أهل العلم ترغب الملائكة في خلتهم، وبأجنحتها تمسحهم، والعلماء يستغفر لهم كل رطب ويابس، وحيتان البحر وهوامه، وسباع البر وأنعامه، لأن العلم حياة القلوب من الجهل، ومصابيح الأبصار من الظُلم، يبلغ العبد بالعلم منازل الأخيار، والدرجات العلا في الدنيا والآخرة، التذكر فيه يعدل الصيام، ومدارسته تعدل القيام، به تُوصل الأرحام، وبه يُعرف الحلال من الحرام، وهو إمام العمل، والعمل تابعه، يلهمه السعداء ويحرمه الأشقياء.

يقول عز وجل في بيان فضله ورفعة قدر أهله: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11] قال القرطبي : أي في الثواب في الآخرة، وفي الكرامة في الدنيا، فيُرفع المؤمن على من ليس بمؤمن، والعالم على من ليس بعالم.

ويقول تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18] وتدبروا يا عباد الله! فإنه لو كان أحدٌ أشرف من العلماء، لقرنه الله باسمه واسم ملائكته ورضي شهادتهم كما قرن اسم العلماء.

يقول العلامة عبد الرحمن بن سعدي عليه رحمة الله: وفي هذه الآية فضيلة العلم والعلماء؛ لأن الله خصهم بالذكر دون البشر، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده ودينه وجزائه، وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة، وفي ضِمن ذلك تعديلهم -أي: أنهم عدول- وأن الحق تبعٌ لهم، وأنهم هم الأئمة المتبوعون، وفي هذا من الفضل والشرف وعلو المكانة ما لا يعلم قدره.

وقال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9] فنفى التسوية بين أهل العلم والعوام، وفي التسوية بين أهل العلم والعوام ظلم وأي ظلم، وفي هذا دلالة على أن للعلماء من الاعتبار بالشرع والمنزلة بين الخلق ما ليس لغيرهم من البشر، وجاءت السنة أن العلماء ورثة الأنبياء، وهم المفضلون بعد الأنبياء على سائر البشر، فعن أبي الدرداء رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، ولكنهم ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) رواه الإمام أحمد والترمذي .

ولهذا استحق العلماء دعوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم بقوله: (نضَّر الله امرءاً سمع مقالتي فحفظها، ووعاها وأداها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) رواه أبو داود والترمذي ، وقد أراد الله بأهل العلم والعلماء خيراً، ففقههم في الدين، وعلمهم الكتاب والحكمة، وصاروا سُرجاً للعباد، ومناراً للبلاد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) متفق عليه.

وحاجة البشر إلى العلماء عظيمة.

يقول الإمام أحمد ، إمام أهل السنة رحمه الله: الناس أحوج إلى العلم منهم إلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب يُحتاج إليه في اليوم مرةً أو مرتين، والعلم يحتاج إليه في كل وقت.

ويقول الإمام الآجري : فما ظنكم رحمكم الله بطريق فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فإن لم يكن فيه ضياء وإلا تحيروا، فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت طبقات من الناس لابد لهم من السلوك فيه، فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ انطفأت المصابيح، فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟

هكذا العلماء في الناس؛ لا يعلم كثير من الناس كيف أداء الفرائض، ولا كيف اجتناب المحارم، ولا كيف يُعبد الله في جميع ما يعبده به خلقه إلا ببقاء العلماء، فإذا مات العلماء تحير الناس، واندرس العلم بموتهم، وطم الجهل.

ولولا العلم لفسد عمل الناس، يقول الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رحمه الله: [من عمل في غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح].

إن مثل العالم كمثل الماء والغيث، انتفاع الناس بهم غير محدود بحد، يقول ميمون بن مهران : إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة، يستقي الناس منها ويشربون.

وقال بعض الحكماء: مثل العلماء مثل الماء حيثما نزلوا نفعوا، وإن نجاة الناس منوطة بوجود العلماء، فإن يقبض العلماء يهلكوا.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) وليس يغني عن وجود العلماء وجود الكتب، حتى ولو كانت كتباً سماويةً، إذ لو أغنت تلك الكتب عن قوم لأغنت عن بني إسرائيل من اليهود والنصارى الذين انحرفوا، فكانوا ضربين في انحرافهم: فمنهم من عبد الله على جهل فكان من الضالين، ومنهم من أعرض عن أوامر الله عن علم فكان من المغضوب عليهم، كل أولئك اليهود والنصارى كانوا أهل كتاب؛ للنصارى الإنجيل، ولليهود التوراة، ولم يغن وجود هذه الكتب عنهم شيئاً عندما لم يكن هناك حَمَلَةٌ لها صادقون في حملها، بعد أن بقوا خُلوفاً غيروا وحرفوا وبدلوا، وكذلك هذه الأمة لن يغني عنها وجود القرآن إذا لم يكن ثمة علماء يحملونه ويبينونه، ويعلمونه ويهدون الناس إليه، إذ لو كان القرآن وحده يكفي من دون علماء ودعاة يبينون، لكفى في هداية البشرية أن تُرسل المصاحف وتراجمها إلى أصقاع الأرض، فيهتدي العباد أجمعين، لكن لابد مع القرآن من علماء وأئمة يهدون ويبينون ويعلمون.

عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (خذوا العلم قبل أن يذهب، قالوا: وكيف يذهب العلم يا رسول الله وفينا كتاب الله؟ قال: فغضب صلى الله عليه وسلم، ثم قال: ثكلتكم أمهاتكم! أولم تكن التوراة والإنجيل في بني إسرائيل فلم يغنيا عنهم شيئاً، إن ذهاب العلم أن يذهب حملته).

فذهاب العلم إذاً إنما هو بذهاب العلماء، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [أتدرون ما ذهاب العلم؟ قلنا: لا، قال: ذهاب العلماء] وذهاب العلماء معناه هلاك الناس، فعن أبي جناب رحمه الله قال: سألت سعيد بن جبير رحمه الله، قلت: يا أبا عبد الله ! ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم.

وليس للناس عوضٌ ألبتة عن العلماء إلا أن يكون لهم عوضٌ عن الشمس والعافية، قال عبد الله بن الإمام أحمد بن حنبل : قلت لأبي: أي رجل كان الشافعي، فإني سمعتك تكثر من الدعاء له؟ فقال الإمام أحمد : يا بني! كان الشافعي كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، فهل لهذين من خلف؟ أو منهما من عوض؟!

لقد علمتم -يا عباد الله- أنه في فجر يوم الخميس الماضي في السابع والعشرين من محرم سنة (1420هـ) قضى الله قضاءه بالحق، فألحق بالرفيق الأعلى الشيخ الإمام، حسنة الأيام، شيخ الإسلام، العلامة، الحبر البحر الفهامة، مفيد الطالبين، المحفوف بعناية رب العالمين، ناصر السنة، وقامع البدعة، العالم السلفي النقي، الورع الزاهد الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز رحمه الله.

جاءه الأجل فشق إليه الطريق، وأماط عنه حياطة الشفيق، ولظى عنه طب كل طبيب، فقبض ملك الموت وديعته بالأرض، ثم استودع مسامعنا من ذكره اسماً باقياً، ومحا عن الأبصار من شخصه رسماً فانياً، فالحمد لله بارئ النسمات بما شاء، ومصرفها بما شاء، وقابضها حيث شاء، اللهم هذا عبدك وابن عبدك نشأ في المأمور به من طاعتك، ومات على الحق في عبادتك، وعاش ما بينهما مجاهداً في سبيل دينك، ناطقاً بالحق في مرضاتك، ذاباً بقلمه ولسانه عن كتابك وسنة رسولك.

لقد مات القاضي والمفتي، والداعية والمصلح، والرئيس والإمام والمعلم، والمكرم للضيف، والحنون على الأرامل والأيتام، ومطعم المساكين، والواسطة في الأمور الخيرية.

مات الذي بذكره بعد ذكر الله ونبيه صلى الله عليه وسلم تتعطر الأفواه، وبمجالسته تطيب القلوب، وبالأخذ منه تستنير العقول، يقول طلابه: إذا قست قلوبنا جلسنا بين يديه فانجلت تلك القسوة، وزالت تلك الغشاوة، وأحسسنا بروح وإيمان، وقوة في الطاعة والعبادة.

مات الذي أحبه الصغير قبل الكبير.

لقد وهب الله سبحانه وتعالى الشيخ ابن باز القبول في الأرض، يحبه ويجله القاصي والداني، والصغير والكبير، والمرأة والرجل، والعزيز والوضيع، وغيره.

أهكذا البدر تخفي نوره الحفـرُ     ويذهب العلم لا عينٌ ولا أثرُ

خبت مصابيحُ كنا نستضيء بها     وطوَّحَت للمغيب الأنجم الزهرُ

اهتمام الشيخ ابن باز بقضايا المسلمين

عرف رحمه الله بأنه كان معطاءً يستقبل الوفود، ويقضي حوائجهم ما استطاع، ويراجع مسائلهم.

ذُكر له في بعض المجالس حالة من واقع المجاهدين الأفغان آنذاك، وما يصيبهم من برد وجوع، فأخذت عينه تدمع حتى قام من مجلسه وهو يبكي، وقد عُرض للشيخ رحمه الله مرةً في مجلسه أن المسلمين في جنوب الفليبين قد أصابتهم مجزرة على يد السفاح النصراني ماركس صُرع فيها عددٌ من المسلمين على يد الطغاة هناك، فبكى الشيخ بكاءً اهتز من كثرته باكياً كل من حضر مجلسه.

شجاعة الشيخ ابن باز وصدعه بالحق

إمام يقول الحق ويصدع به، تجلت شجاعته في كثير من المواقف، فبينما هو الرجل السمح السهل القريب الحليم المحب للفقراء سرعان ما ينقلب أسداً لا يرده عن إقامة أمر الله شيء.

كرم الشيخ ابن باز

أما كرمه فحدث ولا حرج عن ذلك رحمه الله، بل هو طائي زمانه، لا يمسك قليلاً ولا كثيراً، وربما مرت عليه الأشهر تلو الأشهر يستدين الديون على راتبه لإكرام ضيوفه وقاصديه، وليس يكرم كما يفعل بعض الناس لا يعرف بالإكرام إلا علية القوم، بل كان يكرم الفقراء قبل الأغنياء، والوضعاء قبل الرفعاء، فكرمه عامٌ لكل قاصديه، أما ما نزعمه وندعيه من كرم بعضنا حيث لا يحل موائدنا إلا ذوو المناصب والمراكب والأغنياء والوجهاء، فليس هذا وأيم الله من الكرم، إن الكرم أن تكرم من تعرف ومن لا تعرف، وأن تكرم من ترجو ومن لا ترجو، وأن تكرم الرفيع والوضيع، والغني والفقير.

وفد إليه أحد المجاهدين مرةً من المرات يريد إعانته على حاجة من الحاجات، فما وجد الشيخ رحمه الله إلا غرضاً مهماً من أغراضه فباعه، وأعطاه قيمته في سبيل الله عز وجل، وكرم الشيخ كرمٌ أصيلٌ لا تكلف فيه ولا تصنع، مائدته لا تخلو من الضيف أبداً، يلتقي عليها الصغير والكبير، والغريب والقريب، حتى لكأنه هو القائل:

إذا ما صنعتِ الزاد فالتمسي له     أكيلاً فإني لست آكله وحدي

أخا سفرٍ أو جار بيتٍ فإننـي     أخاف ملمات الحوادث من بعدي

علم الشيخ ابن باز ودعوته

أمَّا عِلم سماحته رحمه الله، فقد طار كل مطار في جميع الأمصار.. دعوته إلى التوحيد، والأخذ بالدليل والبرهان، والتمسك بالحجة، ونبذ التقليد، قد شهد له بذلك كبار علماء عصره حتى قال الإمام العلامة الألباني -متع الله بحياته على طاعته-: قد ملأ بعلمه الدنيا شرقاً وغرباً.

وبالجملة فإن الشيخ رحمه الله فريد زمانه، ووحيد عصره وأوانه، إمام في كل شيء؛ في العلم والعمل، والدعوة والصبر، والكرم والأخلاق والتواضع.

لقد كان أُمَّةً في رجل، كان كالشمس للدنيا، وكالعافية للناس، كان لسانه رحمه الله رقيقاً رحيماً رءوفاً بزائريه، دخل عليه ذات يومٍ شابٌ قد امتلأت ملابسه من رائحة الدخان، فتأفف أحد الجالسين من رائحة هذا الشاب، فلما دنا من الشيخ وسلم عليه، همس الشيخ في أذنه بكلمات، وأبدى له شيئاً من النصيحة في رفق ولطف، فشتان بين متأفف وبين ناصح بر رءوف.

كان كلامه دائماً وصية الأمة بالتقوى، والتمسك بالكتاب والسنة، واتباع الدليل والحجة، والنهي عن التقليد، والحرص على الأخلاق الفاضلة، والتأدب بآداب السلف ، والحرص على طلب العلم.

نعم أيها الأحبة! ولكم أن تعلموا بمكانة هذا العالم أنه يكفل قرابة ألف داعيةٍ في أنحاء الدنيا؛ منهم الفقير، ومنهم خريج الجامعة الإسلامية، ومنهم طالب العلم، كلهم يمدهم ويعطيهم من ماله، ومما يأتيه من صدقات المحسنين ومعوناتهم حتى بلغت نفقاته على هؤلاء الطلبة والدعاة الفقراء وأسرهم قرابة المليون ريال شهرياً، وهذا كلامٌ محققٌ معلومٌ ومعروفٌ.

هَمُّ الشيخ ابن باز

أما همه رحمه الله فقد كان يحمل هماً واحداً هو دين الله ونصرته، وإعلاء كلمته في أنحاء المعمورة شرقاً وغرباً، لذا -أيها الأحبة- عاش زمانه وعمره كله لم يأخذ إجازةً ولو يوماً واحداً، ولا يكاد ينام في يومه وليلته إلا قرابة أربع أو خمس ساعات، أما الباقي من هذه الساعات، ففي ذكر وعبادة، ونشر علم وإفتاء، وقضاء حوائج المسلمين، رحمه الله رحمة واسعة، وجعله مع النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وجمعنا به في ظل عرشه حيث أحببناه في الله يوم لا ظل إلا ظله.

هذي المكارم لا تزويق أبنـيةٍ     ولا الشبوبُ التي تكسى بها الجدرُ

والعلم إن كان أقوالاً بلا عملٍ     فليت صاحبه بالجهل منغمرُ

لكنه العلم يسمو من يسود به     على الجهول ولو من جده مضر

زاره رجلٌ من موريتانيا، قال: فأضافني أياماً، وعجبت من دأب الشيخ وجلده على حوائج الناس، والكتابة لهم، وضيافتهم، والجلوس في حلق العلم، وتعليم الطلاب، ومذاكرة المسائل، قال: فسألته مرةً، وقلت: سألتك بالله يا شيخ وأنت قُرب التسعين: كيف تصبر على ما لا يطيقه أبناء الثلاثين والأربعين؟! قال: فأعرض عني، ثم سألته ثانيةً وثالثةً حتى شددت عليه بالسؤال قائلاً: سألتك بالله يا شيخ! كيف تطيق هذا كله؟، فقال: يا ولدي! إذا كانت الروح تعمل فالجوارح لا تَكَلُّ.

إذا ما مات ذو علمٍ وتقـوى     فقد ثلمت من الإسلام ثلمه

وموت الحاكم العدل المـولى     بحكم الأرض منقصة ونقمه

وموت فتىً كثير الجود مـحلٌ     فإن بقاءه خصبٌ ونعمه

وموت الفارس الضرغامِ هـدمٌ     فكم شهدت له بالنصر عزمه

وموت العابد القوام ليلاً     يناجي ربه في كل ظلمه

فحسبك خمسةٌ يُبكى عليهـم     وباقي الناس تخفيفٌ ورحمه

وباقي الخلق خلق رعاع     وفي إيجادهم لله حكمه

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

عرف رحمه الله بأنه كان معطاءً يستقبل الوفود، ويقضي حوائجهم ما استطاع، ويراجع مسائلهم.

ذُكر له في بعض المجالس حالة من واقع المجاهدين الأفغان آنذاك، وما يصيبهم من برد وجوع، فأخذت عينه تدمع حتى قام من مجلسه وهو يبكي، وقد عُرض للشيخ رحمه الله مرةً في مجلسه أن المسلمين في جنوب الفليبين قد أصابتهم مجزرة على يد السفاح النصراني ماركس صُرع فيها عددٌ من المسلمين على يد الطغاة هناك، فبكى الشيخ بكاءً اهتز من كثرته باكياً كل من حضر مجلسه.