تفسير سورة الطور [1-34]


الحلقة مفرغة

قال المهايمي : سميت هذه السورة بالطور لما تضمن من تعظيم مهبط الوحي، فالوحي أولى بالتعظيم. والطور هو مكان مهبط الوحي على موسى عليه السلام، فإذا بلغ من شرف هذا الجبل الذي كلم الله عز وجل عليه موسى أن أقسم الله به، وسميت السورة به تعظيماً لمهبط الوحي، فكيف بالوحي نفسه؟! لا شك أنه أولى بالتعظيم. فيعظم الاهتمام بالعمل، لاسيما وقد عظم مصعد العمل وثمرته، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهذه السورة مكية، وآيها تسع وأربعون، وترتيبها في المصحف الثانية والخمسون. روى الشيخان ومالك عن جبير بن مطعم قال: (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور، فما سمعت أحداً أحسن صوتاً أو قراءةً منه)، وعلى هذا فهذه السورة من السور التي تتلى في صلاة المغرب؛ لهذا الحديث. وروى البخاري عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها قالت: (شكوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أني أشتكي -يعني: أنها مريضة- فقال: طوفي من وراء الناس وأنت راكبة، فطفت ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي إلى جنب البيت يقرأ بـ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:1-2]).

يقول الله سبحانه وتعالى: وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:1-6]. قوله: ((وَالطُّورِ)) قيل: إن المقصود به: طور سينين، وطور سينين أقسم الله عز وجل به في سورة أخرى من القرآن الكريم. فقوله: ((وَالطُّورِ)) أي: وطور سينين. وهو جبل بمدين سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تبارك وتعالى. وكتب التفسير تذكر أن هذا الجبل جبل بمدين، وقيل: إن اسمه الزَّبير، قال الجوهري : والزَّبير: الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقيل: الطور كل جبل أنبت، وما لا ينبت فليس بطور. وأما مدين فهي مدينة قوم شعيب، وهي تجاه تبوك على بحر القُلزم، يعني: على البحر الأحمر، وبتعبير أدق على خليج العقبة، وبين تبوك ومدين ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى لغنم شعيب. فعلى هذا فالظاهر أن الجبل هو جبل طور سينين أو جبل الطور الذي في مدين الذي كلم الله عليه موسى. ويتضح من سياق هذا الكلام أن هذا الجبل يقع في الحد الشمالي الغربي من جزيرة العرب، فما أدري ما هو التحقيق في ذلك، خاصة وأنه يشيع عندنا: أن هذا الجبل في سيناء! وحتى الآن ما وقفت على كلام قاطع يوضح هذه المسألة، هل هو الجبل الذي في سيناء أم أنه الجبل الذي في مدين؟ ولكن الظاهر أنه الذي في مدين، والله تبارك وتعالى أعلم.

كلام الشنقيطي في أول سورة الطور

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الأقسام التي أقسم الله بها في أول هذه السورة الكريمة، أقسم ببعضها بخصوصه وأقسم بجميعها في آيات عامة لها ولغيرها. أما الذي أقسم به منها إقساماً خاصاً فهو: الطور والكتاب المسطور والسقف المرفوع. يقول الشنقيطي : والأظهر: أن الطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى، فقد أقسم الله تعالى بالطور في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ [التين:1-2]. والأظهر أن الكتاب المسطور هو: القرآن العظيم، وقد أكثر الله من الإقسام به في كتابه، كقوله تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1-2]، وقوله تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]. وقيل: (الكتاب المسطور) هو كتاب الأعمال، يعني: الذي تسجل فيه أعمال العباد. وقيل غير ذلك. وقوله: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] هو السماء، وقد أقسم الله بها في كتابه في آيات متعددة، كقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [الذاريات:7]، وقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، وقوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]. و(الرَّق) في قوله: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] بفتح الراء: كل ما يكتب فيه من صحيفة وغيرها، وقيل: هو الجلد المرقق ليكتب فيه. وقوله: ((مَنْشُورٍ))، يعني: مكتوب، ومنه قوله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13] يعني: يلقاه مبسوطاً، وقوله تعالى أيضاً: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52]. وقوله: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:4]: هو البيت المعروف في السماء، المسمى بالضراح، وقيل فيه: معمور لكثرة ما يغشاه من الملائكة المتعبدين، فقد جاء في الحديث: (يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه بعدها) يعني: أنه يطوف يومياً بالبيت المعمور في السماء سبعون ألف ملك، والذي يحج إليه مرة لا يحج إليه بعد ذلك، بمعنى: أنه يزوره في كل يوم سبعون ألف ملك جديد، ولا يعودون إلى البيت بعد ذلك، وإنما يأتي كل يوم سبعون ألف ملك لم يسبق لهم أن أتوا إلى هذا البيت المعمور في السماء من قبل. وأما قوله: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6]: ففيه وجهان من التفسير للعلماء: أحدهما: أن المسجور هو الموقد ناراً، قالوا: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72] يعني: توقد عليهم النار، فالبحر ماء، ومع ذلك يوصف بأنه مسجور. وكنا من قبل يصعب علينا جداً تصور كيف يكون البحر مسجوراً والبحر ماء، والمسجور هو الموقد ناراً، فكيف يجتمع الماء والنار؟! وقربت هذه الصورة إلى أذهاننا شيئاً ما حينما حصلت الكارثة منذ عدة سنوات في الصعيد، وذلك لما حصلت سيول شديدة جداً مع حصول احتراق في مستودع بترول، فكانت السيول تحمل البترول، ولأن كثافته أخف كان يرتفع إلى سطح الماء، فالكارثة كانت شديدة بسبب أن الماء كان يتحرك ويحمل فوق ظهره النار، وذلك هو الذي أشاع الدمار والحريق في كل المباني والبيوت، فهذا مما قرب إلينا شيئاً مما كنا لا نتصوره من كون البحر يحمل النار، فاجتمع الماء والنار معاً في الدنيا، فكيف لا يجتمعان حينما تنتهي هذه الحياة؟! إذاً: التفسير الأول: أن المسجور بمعنى الموقد ناراً، أي: أن البحر نفسه يتحول إلى نار، قال العلماء: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72]. الوجه الثاني في تفسير المسجور: أنه بمعنى المملوء، ويسمى البحر بالمسجور؛ لأنه مملوء ماءً، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول لبيد بن ربيعة في معلقته: فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورةً متجاوراً قلامها فقوله: مسجورة، أي: عين مملوءة ماءً. وقول النمر بن تولب العكلي : إذا شاء طالع مسجورة ترى حولها النبع والسماسما والسماسم شجر يتخذ منه القسي والسهام، ومثله أيضاً النبع، فقوله: إذا شاء طالع مسجورة، يعني: عيناً مملوءة ماءً. هذان الوجهان مذكوران في معنى المسجور، وهما أيضاً مذكوران في قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، فقوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6] يعني: إما أنها سجرت بامتلاءها بالماء، وإما سجرت بمعنى: أوقدت وأضرمت ناراً. فهذه الجملة السابقة من الآيات في كل قسم من هذه الأقسام أتينا بالأدلة على أنه أقسم الله بها في موضع آخر، لكن هناك قسم عام أقسم به الله يشمل هذه الأشياء وكل ما أقسم الله به، وهو قول الله تبارك وتعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ [الحاقة:38-39]، فالإقسام في هذه الآية عام بكل شيء.

كلام القاسمي في أول سورة الطور

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وَالطُّورِ [الطور:1] أي: وطور سينين، جبل بمدين، سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تعالى. وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2] مكتوب، والمراد به القرآن، أو ما يعم الكتب المنزلة. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] يعني: أن الكتاب مسطور في رق منشور. إذاً: قوله: ((فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)) متعلق بقوله: ((مَسْطُورٍ)) أي: وكتاب سطر في رق منشور يقرأ على الناس جهاراً، والرق: الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه. وغلَّط الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من قال إن الكتاب المسطور في رق منشور هو: اللوح المحفوظ، قال: لأن اللوح المحفوظ ليس برق. يعني: ليس عبارة عن جلد معد للكتابة عليه، فلا يطلق عليه وصف الرق. أيضاً غلَّط بعض العلماء قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) المقصود به التوراة؛ لأن التوراة كانت في ألواح، كما قال تعالى: وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ [الأعراف:150]، ولم تكن في رق. فبالتالي لا يصح تفسير قوله: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) بأنه التوارة. ومما أُيّد به التفسير الذي ذكرناه وأنه هو الراجح -وهو أن الكتاب المسطور المقصود به القرآن الكريم- الربط دائماً بين موسى عليه السلام وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وبين الأمة المحمدية وأمة بني اسرائيل، وبين التوراة وبين القرآن الكريم، وهذا كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30]. والكتاب الأساسي هو التوارة، أما الإنجيل فجاء مكملاً فقط للتوراة، لذلك قالت الجن كما حكى الله عنهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:29-30]، فهنا حصل الربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام. كذلك لما اصطحبت خديجة رضي الله تعالى عنها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل ، قال له: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، فربط بين موسى وبين محمد عليه الصلاة والسلام. كذلك قول النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. كذلك في صدر سورة الإسراء، نلاحظ هذا الربط بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1] إلى قوله تعالى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الإسراء:2]. فيلاحظ في القرآن الكريم: التشابه الشديد بين موسى وبين محمد صلى الله عليهما وسلم، سواء في النشأة أو أطوار الرسالة، وهذا كله مصداق ما جاء من البشارة في التوراة. وقد ذكرت الملائكة لـهاجر أن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من نسلها ولداً مباركاً، وهو إسماعيل عليه السلام، وهذه البشارة ما زالت موجودة بين أيدي اليهود والنصارى إلى اليوم، وفيها: (وأقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك) أي: مثل موسى، فهذه المثلية هي التي نشير إليها؛ لوجود صور كثيرة من التشابه بينهما، ولا يوجد هذا التشابه الكبير بين المسيح وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما دائماً التشابه يكون بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهذا كله مصداق هذه البشارة التي فيها: (أقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك). يعني: مثل موسى عليه السلام. فمما يرجح أن الكتاب المسطور المراد به القرآن؛ هذا المبدأ الذي أشرنا إليه، وهو الربط والارتباط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبين التوراة وبين القرآن، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، حلف الله تعالى وأقسم بالمواضع الثلاثة التي أنزل فيها الوحي على الأنبياء. فقوله: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ))، هذا إقسام ببلاد الشام، حيث ينبت التين والزيتون. وقوله: ((وَطُورِ سِينِينَ))، حيث كلم الله موسى عليه السلام. وقوله: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، يعني: مكة، حيث أنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وكذلك هنا قرن بين الطور الذي هو مهبط كلام الله على موسى، وبين القرآن الكريم.

معنى قوله تعالى: (والبيت المعمور)

قوله تعالى: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:4] أي: الذي هو معمور بكثرة من يغشاه، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمار والطائفين والعاكفين والمجاورين، وهذا هو الذي اعتمده القاسمي، فقد رجح أن البيت المعمور هو البيت الحرام بمكة المكرمة، والذي لا يوجد على سطح الأرض بيت يعبد الله سبحانه وتعالى ويوحد كما ينبغي له عز وجل إلا في هذا المكان وحده والعاكفين والمجاورين وغير ذلك. وهناك قول آخر وهو: أن البيت المعمور هو بيت في السماء بحيال الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه أبداً. قال القاسمي : والأول أظهر، أي: أن البيت المعمور المقصود به الحرم الشريف؛ لأنه يناسب ما جاء في سورة التين من عطف البلد الأمين على طور سينين، والقرآن يفسر بعضه بعضاً؛ لتشابه آياته كثيراً، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب. أما القول: بأن البيت المعمور هو البيت الذي في السماء، فدليله ما ثبت في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الإسراء: (ثم رفع لي البيت المعمور، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم). ويمكن أن تقرأ (آخرُ ما عليهم)، إن قلنا: (آخرَ ما عليهم) فالنصب على الظرفية، وإن قلنا: (آخرُ ما عليهم) فالرفع على تقدير: ذلك آخرُ ما عليهم، وهذا أولى. وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه). قال المهايمي : أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي، يعني: بعدما أقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب بقوله: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، وهو الوحي، أورد بعد ذلك البيت المعمور، فربط بين الوحي وبين البيت المعمور، وعلى القول بأن البيت المعمور هو الكعبة، فكأن الربط هنا بين الوحي نفسه وبين مكان الوحي الذي هو البيت المعمور في مكة المكرمة. يقول: أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي؛ لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه؛ ولأنه مظهر الوحي ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين؛ ولأنه من أجل الآيات وأكبرها، كما دل عليه قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، وآيات أخر.

معنى قوله تعالى: (والسقف المرفوع والبحر المسجور)

قوله تعالى: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] يعني: السماء، وجعلها سقفاً لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه، يقول تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32]. وقيل: إن السقف المرفوع هو العرش، على أساس ما ثبت من كون العرش هو سقف الجنة. وقوله: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6] المسجور هو المملوء، أو: المسجور هو الذي يوقد، ويصير ناراً، كقوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]. قال ابن جرير : والأول أولى. فشيخ المفسرين رجح أن المقصود بالبحر المسجور: المملوء. يعني: أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض؛ لأن الأغلب أن من معاني السجر الإيقاد أو الامتلاء. والبحر غير موقد اليوم، وثبتت له الصفة الثانية وهي الامتلاء؛ لأنه كل وقت ممتلئ، وهذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقسم من مخلوقاته إلا بما كان عظيماً. وفيه إشارة إلى دلائل وحدانيته وقدرته عز وجل.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: هذه الأقسام التي أقسم الله بها في أول هذه السورة الكريمة، أقسم ببعضها بخصوصه وأقسم بجميعها في آيات عامة لها ولغيرها. أما الذي أقسم به منها إقساماً خاصاً فهو: الطور والكتاب المسطور والسقف المرفوع. يقول الشنقيطي : والأظهر: أن الطور الجبل الذي كلم الله عليه موسى، فقد أقسم الله تعالى بالطور في قوله: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ [التين:1-2]. والأظهر أن الكتاب المسطور هو: القرآن العظيم، وقد أكثر الله من الإقسام به في كتابه، كقوله تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ [الدخان:1-2]، وقوله تعالى: يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس:1-2]. وقيل: (الكتاب المسطور) هو كتاب الأعمال، يعني: الذي تسجل فيه أعمال العباد. وقيل غير ذلك. وقوله: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] هو السماء، وقد أقسم الله بها في كتابه في آيات متعددة، كقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ [الذاريات:7]، وقوله: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ [البروج:1]، وقوله تعالى: وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا [الشمس:5]. و(الرَّق) في قوله: فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] بفتح الراء: كل ما يكتب فيه من صحيفة وغيرها، وقيل: هو الجلد المرقق ليكتب فيه. وقوله: ((مَنْشُورٍ))، يعني: مكتوب، ومنه قوله تعالى: وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا [الإسراء:13] يعني: يلقاه مبسوطاً، وقوله تعالى أيضاً: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً [المدثر:52]. وقوله: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:4]: هو البيت المعروف في السماء، المسمى بالضراح، وقيل فيه: معمور لكثرة ما يغشاه من الملائكة المتعبدين، فقد جاء في الحديث: (يزوره كل يوم سبعون ألف ملك ولا يعودون إليه بعدها) يعني: أنه يطوف يومياً بالبيت المعمور في السماء سبعون ألف ملك، والذي يحج إليه مرة لا يحج إليه بعد ذلك، بمعنى: أنه يزوره في كل يوم سبعون ألف ملك جديد، ولا يعودون إلى البيت بعد ذلك، وإنما يأتي كل يوم سبعون ألف ملك لم يسبق لهم أن أتوا إلى هذا البيت المعمور في السماء من قبل. وأما قوله: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6]: ففيه وجهان من التفسير للعلماء: أحدهما: أن المسجور هو الموقد ناراً، قالوا: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72] يعني: توقد عليهم النار، فالبحر ماء، ومع ذلك يوصف بأنه مسجور. وكنا من قبل يصعب علينا جداً تصور كيف يكون البحر مسجوراً والبحر ماء، والمسجور هو الموقد ناراً، فكيف يجتمع الماء والنار؟! وقربت هذه الصورة إلى أذهاننا شيئاً ما حينما حصلت الكارثة منذ عدة سنوات في الصعيد، وذلك لما حصلت سيول شديدة جداً مع حصول احتراق في مستودع بترول، فكانت السيول تحمل البترول، ولأن كثافته أخف كان يرتفع إلى سطح الماء، فالكارثة كانت شديدة بسبب أن الماء كان يتحرك ويحمل فوق ظهره النار، وذلك هو الذي أشاع الدمار والحريق في كل المباني والبيوت، فهذا مما قرب إلينا شيئاً مما كنا لا نتصوره من كون البحر يحمل النار، فاجتمع الماء والنار معاً في الدنيا، فكيف لا يجتمعان حينما تنتهي هذه الحياة؟! إذاً: التفسير الأول: أن المسجور بمعنى الموقد ناراً، أي: أن البحر نفسه يتحول إلى نار، قال العلماء: وسيضطرم البحر يوم القيامة ناراً، ومن هذا المعنى قوله تعالى: ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:72]. الوجه الثاني في تفسير المسجور: أنه بمعنى المملوء، ويسمى البحر بالمسجور؛ لأنه مملوء ماءً، ومن إطلاق المسجور على المملوء قول لبيد بن ربيعة في معلقته: فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورةً متجاوراً قلامها فقوله: مسجورة، أي: عين مملوءة ماءً. وقول النمر بن تولب العكلي : إذا شاء طالع مسجورة ترى حولها النبع والسماسما والسماسم شجر يتخذ منه القسي والسهام، ومثله أيضاً النبع، فقوله: إذا شاء طالع مسجورة، يعني: عيناً مملوءة ماءً. هذان الوجهان مذكوران في معنى المسجور، وهما أيضاً مذكوران في قوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]، فقوله: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6] يعني: إما أنها سجرت بامتلاءها بالماء، وإما سجرت بمعنى: أوقدت وأضرمت ناراً. فهذه الجملة السابقة من الآيات في كل قسم من هذه الأقسام أتينا بالأدلة على أنه أقسم الله بها في موضع آخر، لكن هناك قسم عام أقسم به الله يشمل هذه الأشياء وكل ما أقسم الله به، وهو قول الله تبارك وتعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ [الحاقة:38-39]، فالإقسام في هذه الآية عام بكل شيء.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: وَالطُّورِ [الطور:1] أي: وطور سينين، جبل بمدين، سمع فيه موسى صلوات الله عليه كلام الله تعالى، واندك بنور تجليه تعالى. وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2] مكتوب، والمراد به القرآن، أو ما يعم الكتب المنزلة. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ [الطور:3] يعني: أن الكتاب مسطور في رق منشور. إذاً: قوله: ((فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ)) متعلق بقوله: ((مَسْطُورٍ)) أي: وكتاب سطر في رق منشور يقرأ على الناس جهاراً، والرق: الصحيفة أو الجلد الذي يكتب فيه. وغلَّط الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى من قال إن الكتاب المسطور في رق منشور هو: اللوح المحفوظ، قال: لأن اللوح المحفوظ ليس برق. يعني: ليس عبارة عن جلد معد للكتابة عليه، فلا يطلق عليه وصف الرق. أيضاً غلَّط بعض العلماء قول من قال: إن قوله تعالى: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) المقصود به التوراة؛ لأن التوراة كانت في ألواح، كما قال تعالى: وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ [الأعراف:150]، ولم تكن في رق. فبالتالي لا يصح تفسير قوله: ((وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ)) بأنه التوارة. ومما أُيّد به التفسير الذي ذكرناه وأنه هو الراجح -وهو أن الكتاب المسطور المقصود به القرآن الكريم- الربط دائماً بين موسى عليه السلام وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وبين الأمة المحمدية وأمة بني اسرائيل، وبين التوراة وبين القرآن الكريم، وهذا كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30]. والكتاب الأساسي هو التوارة، أما الإنجيل فجاء مكملاً فقط للتوراة، لذلك قالت الجن كما حكى الله عنهم: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:29-30]، فهنا حصل الربط بين القرآن وبين موسى عليه السلام. كذلك لما اصطحبت خديجة رضي الله تعالى عنها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة بن نوفل ، قال له: هذا الناموس الذي أنزل الله على موسى، إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، فربط بين موسى وبين محمد عليه الصلاة والسلام. كذلك قول النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. كذلك في صدر سورة الإسراء، نلاحظ هذا الربط بين موسى وبين محمد عليهما الصلاة والسلام، وذلك في قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ [الإسراء:1] إلى قوله تعالى: وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ [الإسراء:2]. فيلاحظ في القرآن الكريم: التشابه الشديد بين موسى وبين محمد صلى الله عليهما وسلم، سواء في النشأة أو أطوار الرسالة، وهذا كله مصداق ما جاء من البشارة في التوراة. وقد ذكرت الملائكة لـهاجر أن الله سبحانه وتعالى سوف يجعل من نسلها ولداً مباركاً، وهو إسماعيل عليه السلام، وهذه البشارة ما زالت موجودة بين أيدي اليهود والنصارى إلى اليوم، وفيها: (وأقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك) أي: مثل موسى، فهذه المثلية هي التي نشير إليها؛ لوجود صور كثيرة من التشابه بينهما، ولا يوجد هذا التشابه الكبير بين المسيح وبين محمد عليه الصلاة والسلام، وإنما دائماً التشابه يكون بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وهذا كله مصداق هذه البشارة التي فيها: (أقيم لهم من إخوتك نبياً مثلك). يعني: مثل موسى عليه السلام. فمما يرجح أن الكتاب المسطور المراد به القرآن؛ هذا المبدأ الذي أشرنا إليه، وهو الربط والارتباط الوثيق بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وبين التوراة وبين القرآن، ومن ذلك قوله تبارك وتعالى: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:1-3]، حلف الله تعالى وأقسم بالمواضع الثلاثة التي أنزل فيها الوحي على الأنبياء. فقوله: ((وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ))، هذا إقسام ببلاد الشام، حيث ينبت التين والزيتون. وقوله: ((وَطُورِ سِينِينَ))، حيث كلم الله موسى عليه السلام. وقوله: وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ [التين:3]، يعني: مكة، حيث أنزل الوحي على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم. وكذلك هنا قرن بين الطور الذي هو مهبط كلام الله على موسى، وبين القرآن الكريم.

قوله تعالى: وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ [الطور:4] أي: الذي هو معمور بكثرة من يغشاه، وهو الكعبة المعمورة بالحجاج والعمار والطائفين والعاكفين والمجاورين، وهذا هو الذي اعتمده القاسمي، فقد رجح أن البيت المعمور هو البيت الحرام بمكة المكرمة، والذي لا يوجد على سطح الأرض بيت يعبد الله سبحانه وتعالى ويوحد كما ينبغي له عز وجل إلا في هذا المكان وحده والعاكفين والمجاورين وغير ذلك. وهناك قول آخر وهو: أن البيت المعمور هو بيت في السماء بحيال الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه أبداً. قال القاسمي : والأول أظهر، أي: أن البيت المعمور المقصود به الحرم الشريف؛ لأنه يناسب ما جاء في سورة التين من عطف البلد الأمين على طور سينين، والقرآن يفسر بعضه بعضاً؛ لتشابه آياته كثيراً، وإن تنوعت بلاغة الأسلوب. أما القول: بأن البيت المعمور هو البيت الذي في السماء، فدليله ما ثبت في صحيح مسلم عن مالك بن صعصعة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حديث الإسراء: (ثم رفع لي البيت المعمور، فقلت: يا جبريل! ما هذا؟ قال: هذا البيت المعمور، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم). ويمكن أن تقرأ (آخرُ ما عليهم)، إن قلنا: (آخرَ ما عليهم) فالنصب على الظرفية، وإن قلنا: (آخرُ ما عليهم) فالرفع على تقدير: ذلك آخرُ ما عليهم، وهذا أولى. وفي حديث أنس رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام، فقيل: من هذا؟ قال: جبريل. قيل: ومن معك؟ قال: محمد صلى الله عليه وسلم. قيل: وقد بعث إليه؟ قال: قد بعث إليه. ففتح لنا، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه). قال المهايمي : أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي، يعني: بعدما أقسم الله سبحانه وتعالى بالكتاب بقوله: وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ [الطور:2]، وهو الوحي، أورد بعد ذلك البيت المعمور، فربط بين الوحي وبين البيت المعمور، وعلى القول بأن البيت المعمور هو الكعبة، فكأن الربط هنا بين الوحي نفسه وبين مكان الوحي الذي هو البيت المعمور في مكة المكرمة. يقول: أورده بعد الكتاب الذي هو الوحي؛ لأنه محل أعظم الأعمال المقصودة منه؛ ولأنه مظهر الوحي ومصدر الرحمة العامة المهداة للعالمين؛ ولأنه من أجل الآيات وأكبرها، كما دل عليه قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت:67]، وآيات أخر.

قوله تعالى: وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [الطور:5] يعني: السماء، وجعلها سقفاً لأنها للأرض كسماء البيت الذي هو سقفه، يقول تعالى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا [الأنبياء:32]. وقيل: إن السقف المرفوع هو العرش، على أساس ما ثبت من كون العرش هو سقف الجنة. وقوله: وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ [الطور:6] المسجور هو المملوء، أو: المسجور هو الذي يوقد، ويصير ناراً، كقوله تعالى: وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ [التكوير:6]. قال ابن جرير : والأول أولى. فشيخ المفسرين رجح أن المقصود بالبحر المسجور: المملوء. يعني: أن معناه البحر المملوء المجموع ماؤه بعضه في بعض؛ لأن الأغلب أن من معاني السجر الإيقاد أو الامتلاء. والبحر غير موقد اليوم، وثبتت له الصفة الثانية وهي الامتلاء؛ لأنه كل وقت ممتلئ، وهذه الأقسام كلها دلائل أخرجت في صورة الأيمان؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يقسم من مخلوقاته إلا بما كان عظيماً. وفيه إشارة إلى دلائل وحدانيته وقدرته عز وجل.

ما مضى هو القسم، أما المقسم عليه فهو قوله تبارك وتعالى: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ [الطور:7-8] يعني: ما له من دافع يدفعه عن المكذبين، فينقذهم منه إذا وقع. ومثل هذا آيات أخر تثبت نفس هذه الحقيقة، كقول الله تبارك وتعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:5-6]. وقوله تبارك وتعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9]، وقوله تعالى: إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ [الأنعام:134]، وقوله تعالى: لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:2]. وقوله: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))[الطور:7-8]. قال جبير بن مطعم رضي الله تعالى عنه: (قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر، -يعني: كان مشركاً في ذلك الوقت، وأتى لفداء أسرى بدر- فوافيته، -يعني: وصل إلى النبي عليه الصلاة والسلام- يقرأ في صلاة المغرب: وَالطُّورِ [الطور:1]، إلى قوله: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ)[الطور:7-8]، -فكأنما صدع قلبي)، يعني: كأنما تشقق قلبه إشفاقاً وخوفاً من هذه الآية الكريمة ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))، يقول جبير رضي الله تعالى عنه: (فكأنما صدع قلبي، فأسلمت خوفاً من نزول العذاب، وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب). وعن هشام بن حسان قال: انطلقت أنا ومالك بن دينار إلى الحسن، وعنده رجل يقرأ: ((وَالطُّورِ))، حتى بلغ: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))[الطور:7-8]، فبكى الحسن وبكى أصحابه، فجعل مالك يضطرب حتى غشي عليه. فهذه الآية من أخوف الآيات في كتاب الله تبارك وتعالى؛ ولذلك جاء أن عمر رضي الله تعالى عنه قرأها في الصلاة فغشي عليه خوفاً وشفقةً من هذا الوعيد الشديد، ولما سقط حمل إلى بيته وظل يعاد أياماً، يزوره الناس يحسبونه مريضاً، وما به مرض، وإنما به الخوف من مما دلت عليه هذه الآية الكريمة! ولما ولي بكار القضاء، جاء إليه رجلان يختصمان، فتوجهت على أحدهما اليمين، فرغب إلى الصلح بينهما، يعني: أن القاضي رغب الشخص الذي حق عليه أن يحلف بالصلح؛ لأن الآخر ليس عنده بينه، فالبينة على من ادعى واليمين على من أنكر، فحاول القاضي أن يحرض هذين الخصمين على الصلح، وحرض الذي قبل أن يحلف أنه يعطي خصمه من عنده عوضاً عن يمينه! يضحي بشيء من ماله عوضاً عن أن يحلف، فأبى إلا أن يحلف أنه ليس عنده شيء، فأحلفه بأول ((وَالطُّورِ))، إلى أن قال له: قل: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ))[الطور:7] إن كنت كاذباً. وفي بعض الروايات: قل: إن عذاب الله بي لواقع إن كنت كاذباً، فقالها، وحلف هذا اليمين، فخرج فكسر من حينه، ولم يفصل، يعني: لم يبين الراوي هل انكسرت رقبته مثلاً فمات أم انكسر منه شيء آخر، على أي الأحوال هذا مما يدل على عظم هذه اليمين. فقوله تعالى: ((إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ))[الطور:7-8]، يعني: لا يدفعه دافع عن المكذبين، فينقذهم منه إذا وقع.

قال تعالى: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا [الطور:9-10]. العامل في ((يوم)) قوله: ((واقع)) يعني: واقع يوم. وقوله: ((تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا)) أي: تضطرب. وقوله: ((وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا)) أي: تسير عن وجه الأرض، فتصير هباءً منثوراً، واستدل على هذا التفسير بقوله تبارك وتعالى: وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ [النمل:88].

قال تعالى: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الطور:11] أي: المكذبين بالحق الجاحدين له. وقوله: الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ [الطور:12] يعني: في خوض من التكذيب والاستهزاء، يلعبون بآيات الله ودلائله. وقوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13] أي: يدفعون إليها بعنف، يقال: دععت في قفاه، إذا دفعته في قفاه بإزعاج وشدة، كما يفعل الشرطي بالمجرم الذي يقبض عليه، فإنه يدفعه من الظهر أو من قفاه بشدة إلى الأمام. وقوله تعالى: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:14] يعني: يقال لهم: (هذه النار التي كنتم بها تكذبون). وقوله تعالى: أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ [الطور:15] يعني: الذي وردتموه الآن، أهذا سحر؟ والفاء هنا للسببية؛ لتسبب هذا عما قالوه في الوحي؛ لأنهم لما وصفوا الوحي بأنه سحر وردوا العذاب نتيجة هذا القول؛ تسبب لهم فيما هم فيه من الدع ومن العذاب. فقوله: (( أَفَسِحْرٌ هَذَا )) أي: أم هذا الذي تردونه الآن من النكال والعذاب، هل هذا سحر؟ وقوله: (( أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ )) أي: أم كما كنتم لا تبصرون في الدنيا، لا تبصرون في الآخرة أيضاً؟ قال الزمخشري: يعني: أم أنتم عمي عن المخبر عنه كما كنتم عمياً عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم. ثم قال تعالى لهم: اصْلَوْهَا [الطور:16] أي: ذوقوا حر هذه النار. وقوله تعالى: فَاصْبِرُوا ، يعني: على ألمها. أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ يعني: سواء عليكم الأمران ((سواء)) مبتدأ، والخبر ((عليكم))، أي: الصبر والجزع كلاهما عليكم سواء، كما قال الله تبارك وتعالى: قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ [إبراهيم:21]. فقوله: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ [الطور:16] أي: الأمران: الصبر وعدمه سواء عليكم. وقوله: إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ، أي: لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا لربكم وكفركم به. والإتيان بهذه الصيغة هنا المقصود بها التعليل، يعني: علة هذا التعذيب ما عملتموه من قبل. قال الزمخشري : فإن قلت: لمَ علل استواء الصبر وعدمه بقوله: (( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))؟ قلت: لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع؛ لنفعه في العاقبة، بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير. فأما الصبر على العذاب -الذي هو الجزاء- ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع. يعني: أنه علل قوله تعالى: فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ [الطور:16]، بأن المقصود: اصبروا على ألمها أو لا تصبروا، فالصبر والجزع كلاهما سواء، وذكر العلة بقوله: (( إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ))، إشارة إلى أن الصبر والجزع لا يستويان في دار الدنيا، التي هي دار العمل والكسب والسعي، فالإنسان يصبر ولا يجزع، فإذا صبر فإنه يثاب على هذا الصبر، كما قال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، فالصبر يكون مراً، لكن عاقبته عاقبة طيبة. والإنسان عليه أن يصبر على مرارة الصبر؛ لأنه يرى ببصيرته حلاوة العاقبة، سواء في الدنيا أو في الآخرة، فالصبر له ثمرة وعاقبة حسنة في الدنيا وفي الآخرة. أما الجزع في الدنيا فلا شك أن الصبر أفضل منه؛ لأن الصبر يرجى من ورائه عاقبة حلوة، أما في دار الجزاء بعدما انتهت الدنيا، فليس فيها أي كسب جديد، فقد انتهى العمل، وانقطعت الأسباب وانقطع العمل. فحينما ينتقل الإنسان إلى دار الجزاء، فيدخل النار ويعذب، فيصبر أو لا يصبر، لا فرق بين الاثنتين؛ لأن الصبر هنا في هذه الحالة لا يرجى من ورائه فائدة؛ لأنه في دار الجزاء، ودار الثواب أو العقاب، وليس في دار العمل.

يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13]: الدع في لغة العرب: الدفع بقوة وعنف، ومنه قوله تعالى: فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ [الماعون:2] أي: يدفعه عن حقه بقوة وعنف. وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أمرين: أحدهما: أن الكفار يدفعون إلى النار بقوة وعنف يوم القيامة. الثاني: أنهم يقال لهم يوم القيامة توبيخاً وتقريعاً: هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [الطور:14]، كقوله تبارك وتعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ [الحج:22]. وقال تعالى في سورة سبأ: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ [سبأ:42]. وقال تعالى في سورة المرسلات: انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ * إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ [المرسلات:29-32]. وقوله عز وجل: ((يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا))، يبينه قوله عز وجل في سورة الدخان: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ [الدخان:47] يعني: جروه بقوة وعنف إلى وسط النار. والعتل في لغة العرب: الجر بعنف وقوة. ومنه قول الفرزدق : ليس الكرام بناحليك أباهم حتى ترد إلى عطية تعتل وقال عز وجل: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن:41]، وهذه الصورة من صور العتل أو الدفع بعنف والدع الشديد وبقوة تكون داخل النار. وقوله عز وجل: يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ [الرحمن:41]، هذا فيه تفصيل أكثر وتوضيح أكثر لكيفية الدع بعنف، يعني: أن الزبانية تجمع بين ناصية الواحد منهم وبين قدمه، والناصية هي: مقدم شعر الرأس، فتمسك الملائكة بمقدم شعر رأسه وتجمعه مع قدمه. فيا له من منظر فظيع: أن يأتي الملك ويقبض على قدم الإنسان مع ناصيته، ثم يدفعه في النار بقوة وشدة. وبين الله سبحانه وتعالى أيضاً: أن من صور هذا الدع أو العتل الشديد: أنهم يسحبون في النار على وجوههم، كما قال تبارك وتعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [القمر:48]. وقال تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر:70-72]. وقوله هنا في هذه الآية: (( يَوْمَ يُدَعُّونَ )) بدل من قوله تعالى: (( يَوْمَئِذٍ ))، فإنه تعالى قال: فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ [الطور:11]، ثم قال: يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [الطور:13].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2816 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع