خطب ومحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73
تفسير سورة (ق) [30-45]
الحلقة مفرغة
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب! أكل بعضي بعضاً، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير) متفق عليه. وفي رواية لـمسلم : (قالت النار: ربي أكل بعضي بعضاً، فائذن لي أتنفس، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فما وجدتم من برد أو زمهرير فمن نفس جهنم، وما وجدتم من حر أو حرور فمن نفس جهنم) لا شك أن هذا الحديث من أقوى الأدلة على أن النار والجنة مخلوقتان الآن موجودتان، وهذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في هذه المسألة. الأمر الآخر: أن هذا الكلام من النار ظاهره الحقيقة، فهو كلام حقيقي سوف نبينه عما قريب إن شاء الله تعالى. أما العبرة من هذا الحديث: فلا شك أن الله سبحانه وتعالى خلق لعباده داراً يجزيهم فيها بأعمالهم مع البقاء فيها من غير موت، وخلق داراً معجلة للأعمال، فدار الجزاء دار مؤجلة وهي دار الجنة أو النار، ويؤتى بالموت فيذبح بين الجنة والنار فيقال: (يا أهل الجنة! خلود ولا موت، ويا أهل النار! خلود ولا موت، فيزداد أهل الجنة سروراً وفرحاً إلى فرحهم، ويزداد أهل النار هماً وحزناً على حزنهم). أما دار العمل ففيها موت وحياة، وابتلى الله سبحانه وتعالى العباد في هذه الدار بما أمرهم به ونهاهم عنه، وكلفهم فيها الإيمان بالغيب، ومنه الإيمان بالجزاء وبالدارين المخلوقتين للجزاء، وأنزل بذلك الكتب، وأرسل به الرسل، وأقام الأدلة الواضحة على الغيب الذي أمر بالإيمان به. وإحدى الدارين المخلوقتين للجزاء دار نعيم محض لا يشوبه ألم، والأخرى دار عذاب محض لا يشوبه راحة.
نار الدنيا تذكر بنار الآخرة
نعيم الدنيا يذكر بنعيم الجنة
وجه تذكير نار الدنيا بنار جهنم
هذه الدنيا الفانية ممزوجة بالنعيم والألم، وذلك كي يكون ما فيها من النعيم مذكراً بنعيم الجنة، وما فيها من الألم مذكراً بألم النار، ولذلك قال سبحانه وتعالى في حكمة خلق النار: أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ * نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ [الواقعة:71-73]. فجعل الغاية الأولى والعظمى من خلق النار في الدنيا: أن تكون تذكرة بنار الآخرة، مع الفضل والتفاوت الذي بينهما. والغاية الثانية أنها متاع للمقوين، سواء للاستدفاء أو للاستضاءة أو لإنضاج الطعام أو غير ذلك من وجوه التمتع بالنار في الدنيا.
فجعل الله سبحانه وتعالى في هذه الدار أشياء كثيرة تذكر بدار الغيب المؤجلة الباقية، منها أمور تتعلق بالزمان أو بالمكان، أما الأماكن فخلق الله سبحانه وتعالى في بعض البلدان من المطاعم والمشارب والملابس وغير ذلك من نعيم الدنيا ما يذكر بنعيم الجنة، وأما الأزمان فكزمن الربيع الذي يذكر طيبه ورونقه بنعيم الجنة وطيبها، فيقول ابن سمعون في وصف الربيع: أرضه حرير، وأنفاسه عبير، وأوقاته كلها وعظ وتذكير وكان بعض السلف يخرج في أيام الرياحين والفواكه في الربيع إلى السوق فيقف وينظر ويعتبر ويسأل الله الجنة. ومر سعيد بن جبير بشباب من أبناء الملوك في مجالسهم في زينتهم، فسلم عليهم؛ فلما بعد عنهم بكى واشتد بكاؤه وقال: ذكرني هؤلاء بشباب أهل الجنة. وتزوج صلة بن أشيم بـمعاذة العدوية وكان من كبار الصالحين فأدخله ابن أخيه الحمام، ثم أدخله على زوجته في بيت مطيب فقاما يصليان إلى الصباح، فسأل ابن أخيه عن حاله فقال: أدخلتني بالأمس بيتاً أذكرتني به النار -يعني: الحمام- حيث الماء والبخار، وأدخلتني الليلة بيتاً أذكرتني به الجنة، فلم يزل فكري في الجنة والنار إلى الصباح! ودعا عبد الواحد بن زيد إخوانه إلى طعام صنعه لهم، فقام على رءوسهم عتبة الغلام يخدمهم وهو قائم وهم يأكلون، فجعلت عيناه تهملان! فسأله عبد الواحد عن سبب بكائه؟ فقال: ذكرت موائد أهل الجنة إذا أكلوا وقام الولدان على رءوسهم. الدنيا مرآة ننظر بها إلى الآخرة لا لننظر إليها ونتوقف عندها، فالمرآة آلة لا يُنظر إليها نفسها، ولكن ينظر المرء إلى ما يرى من خلال هذه المرآة. فهذا هو الوضع الملائم لحكمة خلقنا في الدنيا من نعيم أو من عذاب، أن تكون تذكرة لنا بدار الآخرة، يقول الشاعر: كفى حزنـاً أن لا أعاين بقعـة من الأرض إلا ازددت شوقاً إليكمُ وأني متى ما طاب لي خصب عيشـة تذكرت أياماً مضـت لي لديكـمُ
وليس الآن وقت التفكر في زمان الربيع، فنرجئه إلى أن يأتي زمان الربيع إن شاء الله، لكن ننتقل انتقالة سريعة إلى نوع آخر من وجوه الاعتبار: فالله سبحانه وتعالى جعل من مخلوقاته ما يذكر بالنار التي أعدها لمن عصاه، وما فيها من الآلام والعقوبات، هناك أماكن وأزمان وأجسام تذكر بالنار، أما الأماكن التي تذكر بالنار، فكثير من البلدان الشيديدة الحر أو البرد، فبردها يذكر بزمهرير جهنم، وحرها يذكر بحر جهنم، فإن جهنم والعياذ بالله حافلة بكل أنواع الآلام، مما لم يخطر على قلب بشر، وليس في الدنيا من آلامها سوى الأسماء، حتى نار الدنيا إنما هي جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم والعياذ بالله، فبعض المناطق الاستوائية المعروفة بشدة الحرارة، يجد الناس فيها من الحر الشديد ما ينبغي أن يكون تذكرة لهم بنار جهنم. أهل النار كما يعذبون بشدة الحرارة كذلك يعذبون بشدة البرودة، فالزمهرير هو تعذيب بالبرد الشديد الذي يؤلم غاية الألم. كذلك هناك بعض البقاع تذكر بالنار كالحمام، والحمام في مصطلح السلف غير ما هو في مصطلحنا الآن، فقد كانت هناك حمامات عامة تسخن فيها المياه؛ لأنه لم يكن عندهم وسائل لتسخين المياه في البيوت، فكانوا يسخنون في الحمام ليتنظف الناس ويغتسلون. قال أبو هريرة: نعم البيت الحمام؛ يدخله المؤمن فيزيل به الدرن ويستعيذ بالله فيه من النار! يعني: أن من فوائده أن من دخله تذكر عذاب النار. وكان السلف يذكرون النار بدخول الحمام، فيحدث لهم ذلك عبادة كما تقدم خبر صلة بن أشيم . ودخل ابن وهب الحمام فسمع تالياً يتلو: وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ [غافر:47] فغشي عليه. وكان بعض السلف إذا أصابه كرب الحمام يقول: يا بر يا رحيم! مُنَّ علينا وقنا عذاب السموم. وصب بعض الصالحين على رأسه ماءً من الحمام فوجده شديد الحر فبكى وقال: ذكرت قوله تعالى: (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ [الحج:19]. فكل ما في الدنيا يدل على صانعه ويذكر به ويدل على صفاته، فما فيها من نعيم وراحة يدل على كرم خالقه وفضله وإحسانه وجوده ولطفه، وما فيها من نقمة وشدة وعذاب يدل على شدة بأسه وبطشه وقهره وانتقامه، ولا شك أن اختلاف أحوال الدنيا من حر وبرد وليل ونهار، هي أمارات على انقضائها وزوالها. أما الأزمان التي تذكر بالنار فلا شك أن وقت شدة الحر أو البرد يذكران بما في جهنم من الحر والزمهرير، قد بين الحديث الصحيح الذي ذكرناه أن ذلك من تنفس النار: (اشتكت النار إلى الله سبحانه وتعالى فقالت: يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين: نفس في الصيف ونفس في الشتاء، فأشد ما تجدون من الحر فهو نفس من أنفاس جهنم، وأشد ما تجدون من البرد فهو نفس من أنفاس جهنم).
قال الله تبارك وتعالى يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ [ق:30]. (يوم) فيه قولان: القول الأول: أنه منصوب بظلام، أي: وما أنا بظلام للعبيد يوم نقول لجهنم... إلخ. الثاني: أنه منصوب بمضمر تقديره: اذكر يوم نقول لجهنم، أو: أنذر يوم نقول لجهنم. ((وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ))، قال ابن جرير : فيه لأهل التأويل قولان: الأول: أن معناه: ما من مزيد. فعن مجاهد قال: وعدها الله ليملأنها فقال: هلا وفيتك؟ قالت: وهل من مسلك؟وذلك بقوله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]. أي: فوعدها الله ليملأنها؛ فقال بعدما ألقي فيها أهلها: هلا وفيتك؟ فتقول: وهل من مسلك؟ أي: قد امتلأت بالفعل. فالاستفهام إنكاري على هذا ومعناه النفي، وتؤيده بآية: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) والقرآن يفسر بعضه بعضاً. القول الثاني: أن المعنى: زدني زدني، وعلى هذا يكون الاستفهام تقريرياً، دلالة على سعتها بحيث يدخلها من يدخلها وفيها فراغ وخلو، فكأنها تطلب الزيادة. والفريق الذي يذهب إلى المذهب الثاني ورد عليه اعتراض من أصحاب القول الأول وهو أن هذا التفسير يتعارض مع قوله تعالى: ((لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)). فأجاب الفريق الثاني بأن المقصود أن الامتلاء قد يراد به أنه لا يخلو طبقة منها عمن يسكنها، وإن كان فيها فراغ كثير، كما تقول: إن البلدة ممتلئة بأهلها ليس فيها دار خالية، مع ما بينها من الأبنية والأغطية، أو أن هذا باعتبار الحالين، فالفراغ في أول دخول أهلها فيها، ثم يساق إليها الشياطين ونحوهم فتمتلئ.
حقيقة إدراك الجنة والنار وتكلمهما
كلام الشنقيطي على آية: (يوم نقول لجهنم)
قال الناصر في الانتصار: إنا نعتقد أن سؤال جهنم وجوابها حقيقة، وأن الله تعالى يخلق فيها الإدراك، وكيف نؤول وقد وردت الأخبار وتظاهرت على ذلك منها هذه الآية: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)). ومنها: لجاج الجنة والنار واختصامهما كما في الحديث. ومنها: اشتكاؤها إلى ربها فأذن لها بنفسين. وهذه النصوص يجب حملها على حقائقها؛ لأنا متعبدون باعتقاد الظاهر ما لم يمنع مانع، ولا مانع هاهنا، فإن القدرة صالحة والظواهر قاضية بوقوع ما جوزه العقل، وقد وقع مثل هذا قطعاً في الدنيا، كتسليم الشجر، وتسبيح الحصى في كف النبي صلى الله عليه وسلم وفي يد أصحابه، ولو فتح باب المجاز والعدول عن الظاهر في تفاصيل المقالة لاتسع الخرق، وضل كثير من الخلق عن الحق. فنذكر هنا بما كنا قد ناقشناه من الأدلة عند الكلام على عبودية الكائنات: فمن الأدلة التي تؤيد ما ذكرناه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تحاجت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين! وقالت الجنة: لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغبرتهم! فقال الله عز وجل للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منكما ملؤها) متفق عليه. ولا شك أن هذا الحديث فيه بيان أن الجنة والنار يعرفان ربهما، وأن في الجنة والنار إدراكاً وتمييزاً بحيث يتحاجان ويكلمان ربهما عز وجل. وأيضاً في الحديث الذي ذكرناه (اشتكت النار إلى ربها وقالت: رب أكل بعضي بعضاً) فيه أن النار لها لسان بل لها أذنان وعينان كما في هذه الآية: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق فيقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهاً آخر، وبالمصورين) فهذا واضح في ذلك. وبين الله سبحانه وتعالى أن للنار إدراكاً، وأنها تتغيظ حنقاً على الكافرين، يقول تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [الفرقان:12] فقوله: (( إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ))، يدل على حدة بصر النار. ويقول تبارك وتعالى: إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ [الملك:7-8]. وكذلك الجنة فيها إدراك، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: لـعلي وعمار وسلمان) رضي الله تعالى عنهم أجمعين. أيضاً نار الدنيا لها إدراك، وهي مطيعة لأمر الله تعالى، ولا أدل على ذلك من قول الله تبارك وتعالى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ [الأنبياء:86-87] فخاطب الله عز وجل النار، فهذا دليل على أنها تدرك وتفهم الخطاب. كذلك كانت عادة الأنبياء في الغنائم أن يجمعوها فتجيء نار من السماء فتأكلها، فيكون ذلك علامة على قبولها وعدم الغلول، فعن أبي هريرة رضي الله عنه الله قال: قال صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء ...) إلى أن قال في الحديث: (حتى فتح الله عليه، قال: فجمعوا ما غنموا فأقبلت النار تأكله، فأبت أن تطعمه، فقال: فيكم غلول، فليبايعني من كل قبيلة رجل فبايعوه، فلصقت يد رجل فقال: فيكم الغلول فلتبايعني قبيلتك فبايعته قال: فلصقت بيد رجلين أو ثلاثة فقال: فيكم الغلول! فأخرجوا له رأس بقرة من ذهب، قال: فوضعوه في المال وهو في الصعيد فأقبلت النار فأكلته) وهذا رواه مسلم فهذا أيضاً يدل على أنها تدرك، وأنها تعرف أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً. فهذه النصوص جزء من كثير من الأدلة التي تؤيد المذهب الحق، وأمثال هذه النصوص ينبغي حملها على حقيقتها، وعدم الاعوجاج إلى القول بالمجاز.
يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)). قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير نافع وشعبة عن عاصم ، (( يَوْمَ نَقُولُ )) بالنون الدالة على العظمة، وقرأ نافع وشعبة : ((يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ)) وعلى قراءتهما فالفاعل ضمير يعود إلى الله. واعلم أن الاستفهام في قوله: ((هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) فيه للعلماء قولان معروفان: الأول: أن الاستفهام إنكاري، كقوله تعالى: هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:47]، أي: ما يهلك إلا القوم الظالمون، وعلى هذا فمعنى: (هل من مزيد) أي: لا محل للزيادة لشدة امتلاء النار، واستدل بعضهم لهذا الوجه بآيات من كتاب الله، مثل قوله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]. وقوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119]. وقال تعالى: قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:84-85]. وقال تعالى: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:7]. فإقسام الله تعالى في هذه الآيات المدلول عليه بلام التوطئة فيه دليل على أنها لا بد أن تمتلئ، ما دام الله قد أقسم ليملأنها، فلا بد أنها سوف تمتلئ بالفعل، ولذلك قالوا: إن معنى: هل من مزيد؟ أي: لا مزيد؛ لأنها قد امتلأت وليس هناك محل للمزيد. وأما القول الآخر: فهو أن المراد بالاستفهام في قول النار: ((هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)) زدني، وأنها تطلب الزيادة، وأنها لا تزال كذلك حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط قط، أي: كفاني قد امتلأت، وهذا الأخير هو الأصح. والعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يرجح هذا القول الأخير؛ لما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن جهنم لا تزال تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فينزوي بعضها إلى بعض وتقول: قط، قط) والتصريح بقولها: (قط، قط) أي: كفاني قد امتلأت، وأما قولها قبل ذلك: هل من مزيد؟ فلطلب الزيادة، يعني: قبل أن نصل إلى الغاية. وهذا الحديث الصحيح من أحاديث الصفات، فينبغي أن نسلك فيه مسلك السلف الصالح رحمهم الله تعالى في مثل هذه النصوص، من أنها تمر كما جاءت بلا كيف، فيثبت الوصف، لكن نفوض علم الكيفية إلى الله سبحانه وتعالى، كما قال تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]. واعلم أن قول النار في هذه الآية: (( هَلْ مِنْ مَزِيدٍ )) قول حقيقي ينطقها الله به. وزعم بعض أهل العلم أنه كقول الشاعر: امتلأ الحوض فقال قطني مهلاً رويداً قد ملأت بطني فبعض العلماء استند إلى هذا البيت من الشعر كشاهد على أن قول النار: هل من مزيد؟ يفهم من حالها وليس نطقاً حقيقياً تنطق به النار. وهذا خلاف التحقيق كما أشرنا، فالراجح أن قولها: هل من مزيد؟ على الحقيقة.
قال الله تبارك وتعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ [ق:31]. قوله تعالى: (غير بعيد) فيه معنى التوكيد، كما قال الله سبحانه وتعالى وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ [التكوير:13]، وقال تعالى: وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [الشعراء:90] أي: قربت وأدنيت. ((لِلْمُتَّقِينَ)) أي: للذين اتقوا ربهم فخافوا عقوبته بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. ((غَيْرَ بَعِيد)) أي: مكاناً غير بعيد، فهو صفة للظرف قام مقامه، أو حال من الجنة، أي: أن الجنة تكون غير بعيدة، والتذكير في هذه الحالة لأنه صفة لمذكر. أي: في غير القرآن يقال: غير بعيدة، أي: حال من الحنة في كونها غير بعيدة، لكن ذكر لأنه صفة لمذكر فقال: ((وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ)) أي: شيئاً غير بعيد. أو تؤول الجنة على أنها بستان غير بعيد، أو لكونها على زنة المصدر الذي من شأنه أن يستوي فيه المذكر والمؤنث، فعومل معاملته وأجري مجراه، وعلى كل الأحوال فقوله: ((غَيْرَ بَعِيد)) للتأكيد، ودفع التجوز، فلا يقال: إن كلمة: ((أُزْلِفَتِ)) تغني عن التعبير بغير بعيد.
قال تعالى: هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:32-35]. ((هَذَا)) أي: الثواب، أو هذا الإزلاف والتقريب. ((مَا تُوعَدُونَ)) أيها المتقون. ((لِكُلِّ أَوَّابٍ)) أي: راجع عن معصية الله إلى طاعته تائب من ذنوبه. ((حَفِيظٍ)) أي: حافظ لفرائض الله وما ائتمنه الله سبحانه وتعالى عليه. وإعراب ((لِكُلِّ)) بدل من ((لِلْمُتَّقِينَ)) بإعادة حرف الجر، والمعنى: وأزلفت الجنة للمتقين لكل أواب حفيظ. ((مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ)) أي: خاف الله سبحانه وتعالى في سره. ((وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ)) أي: جاء ربه بقلب تائب من ذنوبه راجع مما يكرهه الله تعالى إلى ما يرضيه. ((ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ)) أي: يقال لهم: ادخلوا هذه الجنة بأمان من الهم والحزن والخوف. ((ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ)). قوله تعالى: ((لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا)) أي: مما تشتهيه نفوسهم وتلذه عيونهم. ((وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ)) أي: مما لا يخطر على بالهم، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ((لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد)): قال بعض العلماء: المزيد النظر إلى وجه الله الكريم، ويستأنس لذلك بقوله تبارك وتعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26] ، لأن الحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل.
قال تبارك وتعالى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ [ق:36]. ((وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ)) أي: قبل هؤلاء المشركين من قريش. ((مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا)) أي: قوة كعاد وفرعون وثمود. ((فنقبوا في البلاد)) أي: فضربوا فيها وساروا وطافوا أقاصيها، قال امرؤ القيس : لقد نقبت في الآفـاق حتى رضيت من الغنيمـة بالإياب أي: أكثرت الطواف والمشي في نواحي الأرض حتى شق علي ذلك، وصرت أرى الرجوع إلى أهلي من غير ظفر ولا فائدة غنيمة. هنا احتمالان في قوله تعالى: ((فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ)) الاحتمال الأول: أن تكون واو الجماعة عائدة إلى (قرن) أي: هؤلاء القرون الماضية نقبوا في البلاد وضربوا فيها وطافوا أقاصيها. وعليه فمعنى ((هل من محيص)) أي: هل كان نفوذهم في البلاد مانعاً عنهم الهلاك الذي وعدوا به لتكذيبهم الحق. والاحتمال الثاني: أن الواو عائدة إلى مشركي مكة، أي: قبل مشركي مكة، أي: أن مشركي مكة ساروا في أسفارهم في بلاد هؤلاء القرون الذين أهلكهم الله سبحانه وتعالى، فهل رأوا لهم محيصاً حتى يتوقعوا مثله لأنفسهم؟! قال ابن جرير : وقرأت القراء قوله: ((فنقبوا)) بالتشديد وفتح القاف على وجه الخبر عنهم، وذكر عن يحيى بن يعمر أنه كان يقرأ ذلك (فنقِبوا) بكسر القاف، على وجه التهديد والوعيد، أي: طوفوا في البلاد، وترددوا فيها، فإنكم لن تفوتونا بأنفسكم.