تفسير سورة الحجرات [6-10]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]. (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) من التبيين، وقرأها حمزة والكسائي : (فتثبتوا) من التثبت. ومعنى قوله تعالى: (فتثبتوا) أو (فتبينوا) أي: فاستظهروا صدقه من كذبه بطريق آخر. يعني: عن طريق البحث أو عن طريق آخر ووسيلة أخرى للتثبت مما جاءكم به من الخبر، ولا تقتصروا على خبره كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة، هذا هو نسق التفسير: كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة. والجهالة هنا هي: أن يجهل حال القوم، كما قال الله سبحانه وتعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273] كذلك هنا: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) أي: قوماً برآء مما قذفوا به؛ بغية أذيتهم بجهالة منكم لعدم استحقاقهم إياها. فمعنى قوله تعالى: (أن تصيبوا): لئلا تصيبوا، كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176] يعني: يبين الله لكم لئلا تضلوا. فإذا قذفتم هؤلاء القوم البرآء مما هم برآء منه بغية أذيتهم بجهالة، على أساس أنكم تفعلون ذلك لاعتقادكم أنهم يستحقون ذلك طبقاً لخبر الفاسق، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم، فهذه الإصابة وهذه الأذية تجعلكم تُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ يعني: على ما فعلتم من العجلة وترك التأني. أي: ستندمون على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.

ذكر ما روي في سبب نزول الآية

وهنا تنبيهات: الأول: يقول الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سابق قال: حدثنا عيسى بن دينار قال: حدثنا أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة؛ فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان -أي: الأجل- الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدعا بسروات قومه -يعني: بأشرافهم- فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق -يعني: خاف- فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا: هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا رآني، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن كانت سخطة من الله تعالى ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]). هذا الحديث رغم شهرته إلا أنه لا يصح، وإنما تلوناه بطوله كي تنتبهوا إلى هذا، فإن هذا الحديث ضعيف، ورواه أيضاً الطبراني وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف، فالحديث ضعيف وإن كان مشهوراً على ألسنة الخطباء. وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك. وزاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يتعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (التثبت من الله، والعجلة من الشيطان) وهذا حديث صحيح. وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم: ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل وغيره في هذه الآية: أنها نزلت في الوليد بن عقبة والله تعالى أعلم. وقال ابن قتيبة في المعارف: الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس ، وهو أخو عثمان لأمه، وأمه أروى بنت شريح، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم متصدقاً إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة. وكان كاذباً؛ فأنزل الله هذه الآية. وولاه عمر على صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بأهلها صلاة الفجر وهو سكران أربعاً، وقال: أزيدكم؟ فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان ، فعزله وحدَّه، ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي فخرج إلى الرقة فنزلها، واعتزل علياً ومعاوية ومات بناحية الرقة.

من فوائد الآية رد خبر الفاسق

التنبيه الثاني فيما يتعلق بهذه الآية الكريمة: أن في الآية رد خبر الفاسق، وأنه يشترط العدالة في المخبر، فلا يقبل الخبر إلا من عدل، راوياً كان أو شاهداً أو مفتياً. ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل؛ لأن منطوق الآية رد خبر الفاسق، فيفهم من ذلك أنه إذا كان عدلاً قبل خبره. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون؛ لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.

تحريم سوء الظن

ولا شك أن هذه الآية مما يستدل به على تحريم سوء الظن وإن كان في باقي الآيات إن شاء الله تعالى فيما يأتي النهي عن هذا الظن السيء وعدم تحقيق الظن، إلا أنه يؤخذ من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) التنبيه إلى تحريم الغيبة بالقلب؛ لأن الغيبة بالقلب هي سوء الظن، بأن يسيئ ظنه بأخيه في نفسه دون أن يتكلم بذلك، والذي يحمله عليها قبول خبر أفسق الفساق وهو إبليس لعنه الله، فهو أولى من يصدق عليه قول الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا). (أن تصيبوا) أي: كراهة أن تصيبوا (قوماً بجهالة) فهذا مما يستدل به على تحريم سوء الظن بالمسلم. (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) لأن قبول خبر الفاسق يؤدي إلى الرغبة في الانتقام من هذا الفاعل أو معاقبته أو أذيته، فإذا بادرت وعاقبته وتعجلت بناءً على هذا الخبر من الفاسق، فربما يتبين لك بعد ذلك أنه كان مظلوماً، فيملؤك الندم على ما فعلت من ترك التثبت، وعدم الحيطة، وقبول خبر الفاسق.

الحذر من تناقل الكلام قبل التثبت وإيذاء الناس بذلك

ولذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من أكذب الكذب أن يتلقى الإنسان الأخبار دون تحر ويشيعها في الناس، كما جاء في الحديث: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع). وبعض الناس يسوغ لنفسه الخوض في الباطل والظلم ونحو ذلك، بحجة أنه ليس عليه وزر إنما هو ناقل، فيظن أنه قد برئت ذمته من الإثم، وأن العهدة على من سبقه في السلسلة؛ لكن الحديث المذكور يبين أن الإنسان لا يعذر لكونه ناقلاً فحسب، وإنما هو مطالب بالتثبت فيما ينقله، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء كذباً) يعني: لا كذب أكثر من ذلك (أن يحدث بكل ما يسمع)، ففي هذا وجوب التثبت قبل تناقل الكلام وتداوله. وفي هذا الجزء من الآية: (( فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )) تقرير التحذير وتأكيده، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال: (( أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ )) فبين الله سبحانه وتعالى أن ذلك ليس مما لا يلتفت إليه، أي: لا تستهينوا بهذا الأمر ولا تحتقروه، بل إنكم قد تحسبونه هيناً ويكون عند الله عظيماً. فقد يقول قائل: هب أني أصبت قوماً فماذا علي؟ فيأتي الجواب: (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فلا تقل: فماذا علي؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم، ومثل هذا الشيء يجب الاحتراز منه، فشيء يترتب عليه ظلم الآخرين وأذيتهم بدون حق ليس بالأمر الهين، بل يستحق العقوبة، ويستوجب الندم والغم والهم الدائم والحزن المقيم. قال تعالى: (( فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )) ولم يقل: (فتندمون)، كأنها تظل صفة أساسية مستمرة على هذا الذنب.

عظم ندم المؤمن على المعصية بخلاف المنافق

وبجانب إفادة الآية تقرير التحذير في تلقي الأخبار وتأكيده، فإنها من جهة أخرى تفيد مدح المؤمنين قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) أي: فأنتم أيها المؤمنون لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها، صحيح أن المؤمن غير معصوم ولا منزه عن الخطأ، لكن شأن المؤمن أنه إذا ذُكِّر ذَكَر، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن خلق مُفَتَّناً تواباً نسياً، إذا ذُكِّر ذكر) أي: انتفع بالتذكرة واستفاد منها، كما قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، وبين في الآية الأخرى من الذين ينتفعون بالذكرى في قوله عز وجل: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]. ولم يمدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأنهم لا يفعلون سيئة، وإنما قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (ويل لأقماع القوم الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) شبههم بالأقماع؛ لأن القمع إذا أدخلت فيه سائلاً من أعلاه ينساب من أسفله فلا يستقر فيه، كذلك هذا تأتيه التذكرة وتنفذ إلى أذنه لكنها لا تستقر، بل تخرج من الأذن الأخرى، أو لا تدخل أصلاً. هؤلاء هم أقماع القوم، بخلاف المؤمن، فالمؤمن إذا فعل سيئة ليس هو ممن لا يبالي بها، كما جاء في الأثر: أن المؤمن يرى ذنبه كأنه جبل واقع على رأسه من الهم والحزن، (أما المنافق فيرى الذنب كأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا). فالمؤمن يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى الذي خالف أمره، فيرى ذنبه كأنه جبل على رأسه يحمله، وهذا ما نفهمه من معنى قوله تعالى: (( فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ))؛ لأن المؤمن إذا وقع في هذا المحظور المنهي عنه وهو ظلم الناس أو أذية الناس بسبب تناقل الأخبار يندم على ذلك، وليس كالمنافق الذي لا يبالي ويقول: وماذا علي؟ فكان ماذا؟ أما المؤمن فإذا حصل منه ذلك فإنه يشفق على ما فعل نادماً، وهذا من أركان التوبة، بل هو أهم أركانها، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة!).

وهنا تنبيهات: الأول: يقول الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سابق قال: حدثنا عيسى بن دينار قال: حدثنا أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة؛ فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان -أي: الأجل- الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدعا بسروات قومه -يعني: بأشرافهم- فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق -يعني: خاف- فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا: هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا رآني، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن كانت سخطة من الله تعالى ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]). هذا الحديث رغم شهرته إلا أنه لا يصح، وإنما تلوناه بطوله كي تنتبهوا إلى هذا، فإن هذا الحديث ضعيف، ورواه أيضاً الطبراني وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف، فالحديث ضعيف وإن كان مشهوراً على ألسنة الخطباء. وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك. وزاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يتعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (التثبت من الله، والعجلة من الشيطان) وهذا حديث صحيح. وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم: ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل وغيره في هذه الآية: أنها نزلت في الوليد بن عقبة والله تعالى أعلم. وقال ابن قتيبة في المعارف: الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس ، وهو أخو عثمان لأمه، وأمه أروى بنت شريح، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم متصدقاً إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة. وكان كاذباً؛ فأنزل الله هذه الآية. وولاه عمر على صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بأهلها صلاة الفجر وهو سكران أربعاً، وقال: أزيدكم؟ فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان ، فعزله وحدَّه، ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي فخرج إلى الرقة فنزلها، واعتزل علياً ومعاوية ومات بناحية الرقة.

التنبيه الثاني فيما يتعلق بهذه الآية الكريمة: أن في الآية رد خبر الفاسق، وأنه يشترط العدالة في المخبر، فلا يقبل الخبر إلا من عدل، راوياً كان أو شاهداً أو مفتياً. ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل؛ لأن منطوق الآية رد خبر الفاسق، فيفهم من ذلك أنه إذا كان عدلاً قبل خبره. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون؛ لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2825 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2626 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2594 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2592 استماع
تفسير سورة البلد 2571 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2569 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2509 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2444 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2419 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2407 استماع