تفسير سورة الفتح [8]


الحلقة مفرغة

قال الله تبارك تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الفتح:8]. قوله: (( إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا )) الشهادة: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصيرة أو بصر، ومن غايات بعثة النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون شاهداً، وقد جاءت آيات كثيرة تبين بعض ما يتعلق بمنصب الشهادة سواء كان في الدنيا أم في الآخرة، منها: قول الله تبارك وتعالى: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا [النساء:41] فهذه الآية الكريمة من سورة النساء تبين أن كل أمة يأتي شاهد ليشهد عليها، ألا وهو رسولها، روى البخاري عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: اقرأ علي؟ -يعني: قرآناً- قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. يقول: فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا قال: حسبك، فإذا عيناه تذرفان صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث أخرجه أيضاً مسلم وليس فيه قوله: (حسبك)، وفيه أنه قال: (فرفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جانبي فرفعت رأسي، فرأيت دموعه صلى الله عليه وسلم تسيل) وبكاء النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان لتعظيم ما تضمنته هذه الآية الكريمة من هول المطلع وشدة الأمر، إذ يؤتى بالأنبياء شهداء على أممهم بالتصديق والتكذيب، ويؤتى بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شهيداً: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ فهذا تعظيم لهذا الموقف العظيم المهول، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون في منصب الشاهد، فإذا كان الشاهد يشفق من هول هذا المطلع، وفظاعة وعظم هذا الموقف، فكيف بالمشهود عليه؟ وإذا كان الشاهد نفسه يبكي تعظيماً لهذا الموقف فلا شك أن غيره أولى أن يتفتت كبده. وقوله: وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ يعني: كفار قريش وغيرهم من الكفار، وإنما خصهم بالذكر؛ لأن العذاب أشد عليهم من غيرهم؛ لأن هؤلاء رأوا المعجزات، ومع ذلك عاندوا، والمعنى: فكيف يكون حال هؤلاء الكفار يوم القيامة ( إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا )؟! أمعذبون أم منعمون؟ وهذا الاستفهام للتوبيخ، وقيل: الإشارة إلى جميع أمته: ( وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ ) يعني: على جميع أمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، سواء أمة الدعوة أو أمة الإجابة. ( شَهِيدًا ) قال الألوسي : يعني: شهيداً تشهد على صدقهم؛ لعلمك بما أرسلوه، واستجماع شرعك مجامع ما فرعوا وأصلوا: (( وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا ))؛ لأن بعض الأدلة تدل أيضاً على أن النبي عليه الصلاة والسلام سوف يكون شاهداً على الأنبياء أنهم بلغوا أممهم حين تنكر الأمم الكافرة ذلك، فيشهد النبي صلى الله عليه وسلم بأن قومهم قد أبلغوهم. ومن الآيات التي لها تعلق بالشهداء قوله تبارك وتعالى: وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ [الزمر:71-70] واختلف العلماء في المراد بهؤلاء الشهداء: (( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )) فقال بعض العلماء: هم الحفظة من الملائكة الذين كانوا يحصون أعمال الناس في الدنيا، واستدل من قال هذا بقول الله تبارك وتعالى: وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ [ق:21] أي: شهيد من الملائكة، والجمع شهداء، فقوله: (( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )) يعني: الملائكة الذين كانوا يحصون أعمالهم. وقال بعض العلماء: الشهداء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يشهدون على الأمم، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143]. وقيل الشهداء: الذين قتلوا في سبيل الله عز وجل. والأقرب -والله تعالى أعلم- أن الشهداء: هم الرسل من البشر (( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )) يعني: بالنبيين والمرسلين الذين أرسلوا إلى الأمم؛ فالمعلوم أنه لا يقضى بين الأمة حتى يأتي رسولها، كما قال تبارك وتعالى في سورة يونس: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [يونس:47]، فلا يقضى بين الأمة حتى يجاء برسولها، وكما قال تعالى أيضاً: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة:109]، وقال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6]. فأيضاً يشير إلى نفس هذا المعنى قول الله عز وجل: (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ))، وهو رسولها الذي أرسل إليها، فإذاً: شهيد كل أمة هو رسولها. وقوله: (( فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ )) هذا يبين أن الشهيد يكون من نفس هذه الأمة، وهو ليس من الملائكة، فهذا القول يترجح على قول من قال: إن الشهداء في قوله: (( وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ )) هم الملائكة، بدليل قوله: (( وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ ))، والآية الأخرى بينت أنه لا يكون قضاء حتى يجاء بالنبي شاهداً على أمته. وقال تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ [النحل:89] ولا شك أن الرسل من أنفس أممهم، كما قال عز وجل في نبينا صلى الله عليه وسلم: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ [التوبة:128] صلى الله عليه وسلم، وقال تعالى: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران:164].

أمة النبي صلى الله عليه وسلم شاهدة على كل الأمم

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا [الأحزاب:45]، وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي: خياراً عدولاً، وسطاً: خياراً عدولاً، ويدل بأن الوسط الخيار العدول قوله تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير : وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم أي: خيار عدول. وقوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا لم يبين هل هذه الشهادة تكون عليهم في الدنيا أم في الآخرة؟! لكنه بين في موضع آخر أن هذه شهادة على الأمة تكون في الآخرة في قوله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42]. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ): وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً، والقرطبي رحمه الله تعالى أطلق هذه الكلمة أن الكعبة وسط الأرض، وربما لم يخطر بباله ما تنتهي إليه البحوث العلمية مؤخراً من أن مكة بالفعل هي مركز اليابسة وهي أم القرى فعلاً، فمركز اليابسة على سطح الأرض هو مكة المكرمة، فكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، وسطاً في الرتبة ففوقكم الأنبياء، وتحتكم الأمم الأخرى، والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (في قوله تعالى: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ))[البقرة:143] قال: عدلاً) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقال تبارك وتعالى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [القلم:28] أي: أعدلهم وخيرهم. وقال زهير : وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقال آخر: أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقال آخر: لا تذهبن بالأمور فرطاً لا تسألن إن سألت شططا وكن من الناس جميعاً وسطاً ووسط الوادي خير موضع فيه، وأكثره كلأً وماء، ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، فالنصارى غلو في حق المسيح عليه السلام، حتى عبدوه من دون الله، واليهود جفوا في حق الأنبياء وقصروا حتى شتموا الأنبياء وسبوهم ونسبوا إليهم أقبح الكبائر، وأخس الخصال، كما في كتبهم التي افتروا فيها الكذب على الله سبحانه وتعالى، وجاء في بعض الآثار: (خير الأمور أوسطها). ( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) يعني: في المحشر تكونون شهداء للأنبياء على أممهم، كما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك، فيقال له: هل بلغت؟! فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير)؛ لأن الكفار يوم القيامة يحاولون أي حيلة لعل وعسى أو ليت بتعبير أدق، فيلجئون إلى الكذب حتى إنهم يلجئون إلى اليمين المغلظة، قال تعالى حاكياً عنهم: (( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )) يقولون: الملائكة ظلمتنا، الملائكة تفتري علينا وتدعي علينا أننا كنا نشرك بالله، ويظنون أن هذا اليمين تنفعهم وقد عاينوا يوم القيامة، فلذلك يتذرعون بأي حيلة كالحلف باليمين الغموس الكاذبة: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، كذلك الأمم حينما يسأل الله سبحانه وتعالى نوحاً: (هل بلغت؟ -يعني: قومك- فيقول: نعم، فيقال لأمة نوح: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؟ فيقول: من يشهد لك؟) يخاطب الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه السلام يقول: (من يشهد لك؟ فيقول نوح عليه السلام: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليهم شهيداً) فذلك قوله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] وعند ابن المبارك نفس هذا الحديث بزيادة: (فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟!) يعني: كيف يقبل الله سبحانه وتعالى شهادة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وهم لم يعاينوا نوحاً حينما بعث إلى قومه؟! (فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا) أي: لأن القرآن الذي أنزلته إلينا، وهو كلامك الصدق والحق؛ هو الذي أخبرنا أن نوحاً أبلغ أمته الرسالة: (فيقول الرب عز وجل: صدقوا).

أمة محمد صلى الله عليه وسلم وسط بين الإفراط والتفريط

قوله عز وجل: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا )) الوسط: العدول، (( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا )) هكذا أثنى الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بالخيرية والوسطية وبالعدالة، فمن مفاخر الإسلام ومحاسنه هذا التوسط في كل باب من الأبواب، فهناك طرفان: طرف قابل للغلو، وطرف آخر قابل للتقصير والجفاء والتفريط، فهذه الأمة في كل الأمور هي أوسط الأمم وخيارها وأعدلها؛ فلذلك يقول شاعر: كانت هي الوسط المحمي فاكتنفت بها الأحداث حتى أصبحت طرفا دائماً في أي شيء يوجد وسط وطرفان، طرف لأقصى اليمين، وطرف لأقصى الشمال فمن حاد عن هذه الوسطية التي هي شريعة الإسلام وأحكام الإسلام إلى أقصى اليمين أو أقصى اليسار فهذا هو الذي أخذ بأطراف الأمور، فهذا هو الذي يطلق عليه المتطرف، فالمتطرف هو الذي يأخذ بأطراف الأمور إما بالغلو وإما بالجفاء، إما بالإفراط وإما بالتفريط، فهذا هو المتطرف، فكل من انحرف عن هدي الإسلام فهو متطرف، وكل من تمسك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم -الذي هديه خير الهدي- فهو الوسط والعدل، وهو الخيِّر بشهادة القرآن الكريم وبشهادة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فمن اللعب بالألفاظ إطلاق كلمة المتطرف أو المتزمت أو غير ذلك من الألقاب التي يطلقونها بألسنتهم وأقلامهم على أهل الحق والإسلام، وأهل السنة والجماعة، وهذا تجن على الحقائق؛ لأن الخلاف بيننا وبينهم في تحديد الوسط، فممكن يأتي شخص ويعتبر أحد الطرفين هو الوسط، فإذا اعتبر ما هو عليه وسطاً فبلا شك بالنسبة إليه سيكون هو الوسط أو العدل، فالمتطرف: هو الذي يأخذ بأطراف الأمور، فكل من حاد عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم فهو المتطرف بشهادة القرآن؛ لأن القرآن يصف الأمة بهذه الصفة، فنحن الذين في الوسط، وكل من يخالفنا فهو المتطرف سواء كان على مستوى الأديان أو على مستوى الفرق داخل دائرة الإسلام، سواء أهل الشهوات أو أهل الشبهات، فبالنسبة لمن عدا أهل الإسلام فكل من ليس مسلماً فهو متطرف، وهم الآن يحاولون غسل أدمغة بعض الناس، يقولون: قام مجموعة من اليهود المتطرفين بفعل كذا وكذا، أو يقول لك: الأحزاب الدينية المتطرفة عند عصابة اليهود، لا، هذا تلفيق وجهل فاحش؛ لأنه لا يوجد شيء اسمه وسط والثاني متطرف، كل يهودي متطرف، وكل نصراني متطرف، وكل وثني بوذي مثلاً أو مجوسي متطرف، وهكذا كل من ليس مسلماً فهو خارج عن دائرة الاعتدال أصلاً، فهذا أحق الناس بوصف التطرف، فكل من يخرج من ملة ودائرة الإسلام فهو متطرف، وداخل دائرة الإسلام كل فرقة متطرفة ما عدا أهل السنة والجماعة، الذين هم على ما كان عليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم. جميع الفرق إما في غلو وإما في جفاء، أخذوا بالأطراف، فالخوارج -مثلاً- على أحد الطرفين من الغلو والجور والإفراط، فيكفرون أهل المعاصي، ويعتقدون بخلودهم في النار، وعلى الجهة المقابلة المرجئة، يقولون: الإيمان هو المعرفة ولا يزيد ولا ينقص ولا نفاق ولا يضر مع الإيمان شيء. كذلك في مسألة القدر القدرية والجبرية على طرفي نقيض، وهكذا في عامة مسائل الدين مثل مسألة الموقف من الصحابة، نجد المبطلة الذين يعبدون الصحابة، ونجد الطرف الآخر الشيعة الذين يسبونهم وهكذا، فكل باب من الأبواب هو قابل للغلو والجفاء، أو الإفراط والتفريط، ما عدا أهل السنة والجماعة، فهم أهل الاعتدال والتوسط والاتزان والخيرية. ونخلص من ذلك أن أولى الناس بوصف التطرف هو الكافر، فأي كافر متطرف، ولا يوجد شيء اسمه: يهودي معتدل، ويهودي متطرف، ماذا يعني يهودي معتدل؟ كيف نقول: يهودي معتدل وهو يؤمن بأن محمداً عليه السلام افترى على الله الكذب، وأنه ادعى أن الله أوحى إليه؟ هل هذا ممكن أن يكون معتدلاً؟! هذا لا يمكن أن يوصف بالاعتدال، فكل كافر متطرف وخارج عن دائرة الإسلام والنجاة. كذلك كل مسلم مبتدع متطرف؛ لأنه خارج عن دائرة أهل السنة والجماعة. إذاً: كل من ليس مسلماً من أهل السنة والجماعة فهو متطرف، وما عدا ذلك فهو تلاعب بالألفاظ، فالمتبرجة هي المتطرفة؛ لأنها حادت عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر المرأة بالحجاب، فهي انحرفت وخرقت أمر النبي عليه الصلاة والسلام، وخالفت هدي بناته ونسائه والمؤمنات، فلذلك هي متطرفة لأنها متبرجة، وليس التي تستر نفسها تسمى متطرفة. الذي يصافح النساء الأجنبيات هو المتطرف؛ لأن هدي محمد عليه السلام خير الهدي، فهذي حيدة وانحراف عن هدية، ومخالفة لأمره. وهكذا كل مخالف للشريعة فهو الأحق بوصف التطرف، وليس أهل الحق أهل السنة والجماعة، وأسلوب التلاعب بالألفاظ، وإلباس المعاني الصحيحة ثياباً منفرة من الألفاظ المبتدعة؛ أسلوب قديم قدم تاريخ البشرية، وإلى الآن أهل الباطل يحاولون أن يأتوا بالباطل، ويلبسونه ثياباً زاهية جميلة، ويأتون بالحق، ويحاولون أن يكسونه بالألفاظ المنفرة التي تنفر من هذا الحق، كما أشار إلى هذا التلاعب بالألفاظ أحد الشعراء بقوله: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تُعب قلت ذا قيء الزنابيرِ مدحاً وذماً وما فارقت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فنفس العسل الشهي ممكن أن ينفر الناس منه فيقال: هذا القيء الذي تتقيؤه الزنابير! ويأتي آخر فيقول: لا، هذا جنى النحل الشهي الذي فيه دواء للناس وشفاء، والحقيقة واحدة، لكن يمكن أن ينفر عنها باستعمال هذه الألفاظ، وبلا شك أن أعداء الإسلام وأعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم الذين يريدون أن يطفئوا نور الله بمصطلحاتهم المنفرة هذه، وقد نجحوا إلى حد كبير في إقامة الحواجز النفسية، وصد كثير من الناس عن دين الله وعن سبيل الله بسبب هذا الأسلوب الرخيص، وهذه الخصومة التي لا تعرف رائحة الشرف، فقد دأبوا على طعن المسلمين، والتنفير من الدين والمتدينين بوصف التطرف، وما فطن القوم أنهم إنما يريدون أن ينتهوا بهم إلى أن الإسلام نفسه هو التطرف كما صرحوا بذلك في آخر المراحل بعدما فات الأوان، وانطبع في قلوب الناس أن الإسلام هو التطرف، وأن الإسلام هو دين الإرهاب وفيه بذور الإرهاب.. إلى آخر هذه الأراجيف.

ثناء هذه الأمة على الميت

قال الإمام البخاري رحمه الله تعالى: باب ثناء الناس على الميت. حدثنا آدم قال: حدثنا شعبة قال: حدثنا عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: (مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت، ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً -يعني: الصحابة- فقال صلى الله عليه وسلم: وجبت. فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض). قال الحافظ : المراد بالوجوب الثبوت، (وجبت) يعني: ثبتت، إذ هو في صحة الوقوع كالشيء الواجب، والأصل أنه لا يجب على الله شيء، يعني: لا يفهمن أحد من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (وجبت) أنكم أنتم أوجبتم على الله هذا، فهذا لا يليق ولا يكون أبداً. ما للعباد عليه حق واجب كلا ولا سعي لديه ضائع إن عذبوا فبعدله أو نعموا فبفضله وهو الكريم الواسع فلا يجب على الله شيء، وإنما معنى (وجبت) أي: ثبتت له الجنة، فالأصل أنه لا يجب على الله شيء بل الثواب فضله، والعقاب عدله، لا يسأل عما يفعل. وقال أيضاً في قوله صلى الله عليه وسلم: (أنتم شهداء الله في الأرض) أي: المخاطبون بذلك من الصحابة ومن كان على صفتهم من الإيمان، وحكي أن ذلك مخصوص بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأنهم كانوا ينطقون بالحكمة، بخلاف من بعدهم، والصواب أن ذلك خاص بالثقات والمتقين، فالعبرة بشهادة الثقات والمتقين سواء من الصحابة أو من أتى بعدهم ممن يتحلى بهذه الصفات. ولـأبي داود في هذه القصة: (إن بعضكم على بعض لشهيد) قال النووي : والظاهر أن الذي أثنوا عليه شراً كان من المنافقين؛ لما رواه أحمد من حديث أبي قتادة بإسناد صحيح أنه صلى الله عليه وسلم: (لم يصل على الذي أثنوا عليه شراً، وصلى على الآخر) وقال صلى الله عليه وسلم: (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، فقلنا: وثلاثة قال: وثلاثة. قلنا: واثنان، قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد). يقول الداودي : والمعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق، يعني: المعتبر شهادة أهل العلم والفضل والصدق لا الفسقة؛ لأنهم قد يثنون على من يكون مثلهم، ومن كان بينه وبين الميت عداوة؛ فإنه يثني عليه شراً، وشهادة العدو لا تقبل. وفي هذا الحديث فضيلة هذه الأمة، وإعمال الحكم بالظاهر. وبعض الناس يتصور أنك لو جازفت بمدح الميت بأشياء لم تكن فيه فإن هذا ينفعه! ويستدلون بهذه الأحاديث، لا، العبرة بأن يكون الثناء على الميت موافقاً لما كان عليه في الواقع، وعلى الأقل في الظاهر، لا بشيء يجازف به الناس في مدح الميت كذباً وزوراً. وعن أنس مرفوعاً: (ما من مسلم يموت فيشهد له أربعة من جيرانه الأدنين أنهم لا يعلمون منه إلا خيراً، إلا قال الله تعالى: قد قبلت قولكم وغفرت له ما لا تعلمون). ومن الآيات التي لها تعلق بمنصب الشهادة على الناس قول الله تبارك وتعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ [النحل:89] فبين عز وجل أنه يوم القيامة يبعث في كل أمة شهيداً عليهم من أنفسهم، يشهد عليهم بما أجابوا به رسولهم، وأنه يأتي بنبينا صلى الله عليه وسلم شاهداً علينا، قال تعالى: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ [المائدة:109]، وقال تعالى: فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ [الأعراف:6].

هل النبي صلى الله عليه وسلم شهيد على أمته بعد موته؟!

النبي صلى الله عليه وسلم يكون شاهداً على أمته يوم القيامة، وهل النبي صلى الله عليه وسلم الآن حي في قبره أم لا؟ هذه قضية مختلفة تماماً عن هذه، وقد روي حديث نصه: (حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، تعرض علي أعمالكم، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت غير ذلك استغفرت لكم) وهذا الحديث يقول فيه الشيخ حامد الفقي رحمه الله تعالى: هذا حديث باطل سنداً ومتناً؛ إذ لم يروه إلا الديلمي عن أنس وابن سعد في الطبقات مرسلاً عن بكر بن عبد الله . وروى البزار عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه مرفوعاً: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام) قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حياتي خير لكم، تحدثون ويحدث لكم، ووفاتي خير لكم تعرض علي أعمالكم، فما رأيت من خير حمدت الله عليه، وما رأيت من شر استغفرت الله لكم) فهذا أيضاً ضعيف، وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله ملائكة سياحين يبلغوني عن أمتي السلام)، فهو صحيح، ولكن الكلام في تضعيف قوله: حياتي خير لكم، ومماتي خير لكم، والمحدثون لهم كثير من الكلام في تضعيف هذا الحديث وإثبات بطلانه، فإن الهيثمي قال في المجمع: رواه البزار ورجاله رجال الصحيح، وهذا خطأ منه رحمه الله تعالى، فالحديث ضعيف بجميع طرقه. وعن سمرة بن جندب رضي الله تعالى عنه -كما في صحيح البخاري- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في آخر حديث: (فرفعت رأسي فإذا فوقي مثل السحاب -وفي بعض الروايات: مثل الربابة- فقيل لي: ذاك منزلك، قلت: فدعاني أدخل منزلي، فقالا: إنه بقي لك عمر لم تستكمله، فلو استكملته أتيت منزلك). وهذا الحديث مما يبين بطلان الحديث السابق؛ لأن النبي صلى عليه السلام إذا استكمل عمره فإنه ينتقل إلى منزله الذي أريه في هذا الحديث. وقال الله تعالى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، وقال تعالى: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى [الضحى:5]، فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يحيا الآن حياة برزخية، ينعم فيها أيما نعيم، وقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة حق التبليغ، وجاهد بنفسه وماله حتى ترك الناس على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، والنبي صلى الله عليه وسلم لو أنه يطلع على ما عليه الأمة الآن من الإذلال والبدع والضلالات والشركيات والإعراض عن شرع الله عز وجل، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال، لا شك أنه لو اطلع على ذلك لتنغص وتألم أشد التنغيص والألم، ولغلب عليه بمقتضى هذا الخبر الضعيف الحزن والأسف؛ نظراً لكثرة المعاصي والشرور، وقلة الطاعات والخيرات في أمته صلى الله عليه وسلم، خاصة في زمننا هذا، فلا شك أن هذا يتنافى مع وجوده في هذا النعيم؛ لأن الحزن والحسرة والنصب يتنافى مع النعيم والثواب. والصحابة رضي الله عنهم قد حزنوا حزناً شديداً لوفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وقف الموقف الذي تعرفونه، فكيف يكون موته خيراً لهم؟ ولو كان مماته خيراً لهم لما حزنوا على ذلك، فكيف يكون موته خيراً لهم وقد كان في حياته صلى الله عليه وسلم ينزل عليه الوحي، ويحسم أمرهم، ويقطع الله به أسباب الخلاف. أيضاً قال الله تبارك وتعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه:82]، فهذه الآية تدل على أن المغفرة منوطة بالإيمان والعمل الصالح، فكيف يستغفر النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الذين حادوا الله ورسوله، وانحرفوا عن هديه، والله تعالى يقول: لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ [آل عمران:128]، وقال: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ [البقرة:119]، وقال تعالى: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف:9] يعني: في الدنيا، وإن كان يعلم أنه هو نفسه عليه الصلاة والسلام في الجنة?! وقال صلى الله عليه وسلم لابنته ولذوي رحمه: (اعملوا فلن أغني عنكم من الله شيئاً)، والحديث السابق من شأنه أن يقوي ويدعم روح التواكل والتواني عند الغافلين المفرطين، الذين يحسبون أنهم قد ضمنوا شفاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إن أشد الناس انغماساً في البدع والضلالات يستعملون عبارة شائعة خاصة عند الصوفية الذين يقولون: (يا بختنا بالنبي) ويقولون: نحن نغبط أنفسنا على أننا منتمون إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فهم مغترون؛ لأنهم على بدع وضلالات وانحراف عن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فأمثال هؤلاء المبتدعة أو المنحرفين إذا أتوا يوم القيامة بأوزارهم يقولون: يا رسول الله! اشفع لنا. فيقول لهم جميعاً: (قد بلغت لا أملك لكم من الله شيئاً)، وهذا لا يتعارض مع ما ذكرناه بالنسبة للشفاعة؛ لأن الشفاعة لا تكون إلا لمن ارتضاه الله، ولا تكون أيضاً إلا بإذن من الله سبحانه وتعالى، فالأمر في الحقيقة كله لله. ومن أقوى الوجوه الذي يبطل بها هذا الحديث ما رواه الشيخان بسنديهما أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا فرطكم على الحوض) يعني: أنا الذي أتقدمكم وأسبقكم إلى الحوض، قال: (أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم)، أي: من الحوض؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يتصدر الحوض ويسقي ويعطي المسلمين المتبعين له، يقول: (أنا فرطكم على الحوض، ليرفعن إلي رجال منكم حتى إذا أهويت لأناولهم اختلجوا دوني) (اختلجوا دوني) يعني: أبعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم: (فأقول: أي رب! أصحابي! فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك!) لا شك أن هذا نص واضح جداً يبطل الحديث الأول؛ لأنه إذا صح قوله: (تعرض علي أعمالكم، فإن وجدت خيراً حمدت الله، وإن وجدت) إلى آخره؛ فإنه يكون كان عالماً بما حصل من بعده، لكن هذا الحديث المتفق عليه دليل واضح وصريح بأنه لا يدري ما أحدثوا بعده، ففيه: (إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك). وقال البخاري رحمه الله تعالى: حدثني محمد بن بشار قال: حدثنا غندر قال: حدثنا شعبة عن المغيرة بن النعمان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب فقال: إنكم محشورون حفاة عراة غرلاً (كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104]، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم الخليل، وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي، فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة:117-118] قال: فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم). وهذا الحديث واضح الدلالة جداً على هذه المسألة؛ لأن فيه: (وإنه سيجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول: يا رب! أصيحابي -يعني: يقول ذلك على حسب علمه بهم- فيقول: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك) فيستشهد النبي صلى الله عليه وسلم هنا بقول المسيح عليه السلام: وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ [المائدة:117] أي: حاضراً معهم ومشاهداً لأفعالهم ما دمت فيهم، فقوله: (مَا دُمْتُ فِيهِمْ) (ما) معناها وقت دوامه فيهم، ((وكنت عليهم شهيداً)) وقت دوامي وبقائي فيهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ فخصص الرقابة والشهادة بعد وفاته لله سبحانه وتعالى (( وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ )) (فيقال: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقباهم). قوله صلى الله عليه وسلم: (فيؤخذ بهم ذات الشمال) يعني: إلى جهة النار. وفي البخاري : (فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلم -يعني: تعالوا- فقلت: إلى أين؟! قال: إلى النار). وفي حديث سهل : (ليردن علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم يوم القيامة). قوله صلى الله عليه وسلم: (فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا رب! أصيحابي) بالتصغير هذا خبر مبتدأ محذوف تقديره: أي: هؤلاء أصيحابي. ولـأحمد والطبراني من حديث أبي بكرة مرفوعاً: (ليردن علي الحوض رجال ممن صحبني ورآني) وهذا سنده حسن كما قال الحافظ . وقال الحافظ أيضاً: قال الفربري: ذكر عن أبي عبد الله البخاري عن قبيصة قال: هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر . فالمقصودون بهذا الحديث هم الذين ارتدوا على عهد أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقاتلهم أبو بكر فقتلوا أو ماتوا على الكفر، قال الخطابي رحمه الله تعالى: لم يرتد من الصحابة أحد، يعني: الذين ارتدوا ليسوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما ارتد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين؛ وذلك لا يوجب قدحاً في الصحابة المشهورين، ويدل عليه قوله عليه الصلاة والسلام: (أصيحابي) بالتصغير؛ لأن التصغير هنا يد

قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا [الأحزاب:45]، وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا أي: خياراً عدولاً، وسطاً: خياراً عدولاً، ويدل بأن الوسط الخيار العدول قوله تبارك وتعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران:110]، وذلك معروف في كلام العرب، ومنه قول زهير : وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم أي: خيار عدول. وقوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا لم يبين هل هذه الشهادة تكون عليهم في الدنيا أم في الآخرة؟! لكنه بين في موضع آخر أن هذه شهادة على الأمة تكون في الآخرة في قوله عز وجل: فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا * يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا [النساء:41-42]. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ): وكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً، والقرطبي رحمه الله تعالى أطلق هذه الكلمة أن الكعبة وسط الأرض، وربما لم يخطر بباله ما تنتهي إليه البحوث العلمية مؤخراً من أن مكة بالفعل هي مركز اليابسة وهي أم القرى فعلاً، فمركز اليابسة على سطح الأرض هو مكة المكرمة، فكما أن الكعبة وسط الأرض، كذلك جعلناكم أمة وسطاً أي: جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم، وسطاً في الرتبة ففوقكم الأنبياء، وتحتكم الأمم الأخرى، والوسط: العدل، وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها. روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (في قوله تعالى: (( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا ))[البقرة:143] قال: عدلاً) قال الترمذي : هذا حديث حسن صحيح. وقال تبارك وتعالى: قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ [القلم:28] أي: أعدلهم وخيرهم. وقال زهير : وهم وسط يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم وقال آخر: أنتم أوسط حي علموا بصغير الأمر أو إحدى الكبر وقال آخر: لا تذهبن بالأمور فرطاً لا تسألن إن سألت شططا وكن من الناس جميعاً وسطاً ووسط الوادي خير موضع فيه، وأكثره كلأً وماء، ولما كان الوسط مجانباً للغلو والتقصير كان محموداً أي: هذه الأمة لم تغل غلو النصارى في أنبيائهم، ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم، فالنصارى غلو في حق المسيح عليه السلام، حتى عبدوه من دون الله، واليهود جفوا في حق الأنبياء وقصروا حتى شتموا الأنبياء وسبوهم ونسبوا إليهم أقبح الكبائر، وأخس الخصال، كما في كتبهم التي افتروا فيها الكذب على الله سبحانه وتعالى، وجاء في بعض الآثار: (خير الأمور أوسطها). ( لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) يعني: في المحشر تكونون شهداء للأنبياء على أممهم، كما ثبت في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يدعى نوح عليه السلام يوم القيامة، فيقول: لبيك وسعديك، فيقال له: هل بلغت؟! فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير)؛ لأن الكفار يوم القيامة يحاولون أي حيلة لعل وعسى أو ليت بتعبير أدق، فيلجئون إلى الكذب حتى إنهم يلجئون إلى اليمين المغلظة، قال تعالى حاكياً عنهم: (( وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )) يقولون: الملائكة ظلمتنا، الملائكة تفتري علينا وتدعي علينا أننا كنا نشرك بالله، ويظنون أن هذا اليمين تنفعهم وقد عاينوا يوم القيامة، فلذلك يتذرعون بأي حيلة كالحلف باليمين الغموس الكاذبة: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [الأنعام:23]، كذلك الأمم حينما يسأل الله سبحانه وتعالى نوحاً: (هل بلغت؟ -يعني: قومك- فيقول: نعم، فيقال لأمة نوح: هل بلغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير؟ فيقول: من يشهد لك؟) يخاطب الله سبحانه وتعالى نوحاً عليه السلام يقول: (من يشهد لك؟ فيقول نوح عليه السلام: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ، ويكون الرسول عليهم شهيداً) فذلك قوله عز وجل: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة:143] وعند ابن المبارك نفس هذا الحديث بزيادة: (فتقول تلك الأمم كيف يشهد علينا من لم يدركنا؟!) يعني: كيف يقبل الله سبحانه وتعالى شهادة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته وهم لم يعاينوا نوحاً حينما بعث إلى قومه؟! (فيقول لهم الرب سبحانه وتعالى: كيف تشهدون على من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولاً، وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصصت علينا أنهم قد بلغوا، فشهدنا بما عهدت إلينا) أي: لأن القرآن الذي أنزلته إلينا، وهو كلامك الصدق والحق؛ هو الذي أخبرنا أن نوحاً أبلغ أمته الرسالة: (فيقول الرب عز وجل: صدقوا).