خطب ومحاضرات
تفسير سورة محمد [33-35]
الحلقة مفرغة
قوله الله تعالى: (( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ))، فهذا الجزء من هذه الآية من آيات الأحكام، حيث يشيع عند علماء التفسير -خاصة المصنفين في أحكام القرآن- الاستدلال بهذه الآية الكريمة في مسألة فقهية، وهي: هل يجوز لمن دخل في قربة نافلة أن يخرج منها قبل إتمامها؟ اختلف الفقهاء في ذلك إلى قولين: القول الأول: قول الإمامين الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى، قالا: له -إذا شرع في نافلة- أن يخرج منها قبل أن يتمها إلا في نافلة الحج والعمرة، فإنه يجب عليه إتمامهما، ويستدلون على ذلك بقول الله تبارك وتعالى:وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ [البقرة:196]، فمن شرع في نافلة حج أو عمرة وجب عليه إتمامها. وأما الصلاة والصوم فإنه يستحب له إتمامهما ولا يجب عليه، وقالوا: إن المتطوع أمير نفسه، كما سيأتي في الأحاديث، فإلزامه إياه بالإتمام مخرج عن وقت التطوع، فالله تبارك وتعالى يقول: (مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التوبة:91]، فهذا محسن أي: متطوع قطع ما لا يجب عليه أصلاً، فلا حرج عليه في ذلك. وقالوا: إن لفظ هذه الآية: (( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ))، وإن كان عاماً يعم كل الأعمال، سواء كانت نافلة أو فريضة، وسواء كان حجاً أو عمرة أوغير ذلك، إلا أن هذا العموم مخصَّص؛ لأن التطوع يقتضي تخييراً، فهو مخصَّص بالأدلة التي سوف نذكرها إن شاء الله تعالى. ومن الأدلة التي استدل بها الشافعي وأحمد على جواز ذلك: أنه قد ثبتت بعض الأحاديث التي فيها أن الإنسان إذا دعي إلى وليمة نكاح وكان صائماً فينبغي له أن يجيب فإجابة الدعوة أن يذهب إلى مكان الدعوة تقديراً لأخيه، وإدخال السرور عليه، فيجب عليه أن يجيب حتى لو كان صائماً، لكن لا يجب عليه أن يأكل؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن كان مفطراً فليطعم، وإن كان صائماً فليصل)، أي: فليدع. القول الثاني: قول الإمامين أبي حنيفة ومالك، فقد قالا: ليس له ذلك، فإذا شرع في نافلة فإنه يجب عليه الإتمام، فإذا أبطلها وجب عليه قضاؤها، ودليلهم عموم قوله تعالى: (( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ))، واستدلوا أيضاً بحديث عائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما. وأجاب الإمامان أبو حنيفة ومالك عن أدلة الشافعي وأحمد في قولهما: إن المتطوع أمير نفسه، فقالا: إن المتطوع أمير نفسه لكن ذلك مالم يشرع، فهو: أمير نفسه في أن يبتدئ بالفعل أو لا يبتدئ، وأما إذا شرع فيه فليس أمير نفسه، بل قد ألزم نفسه بالإتمام؛ لقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة:1]، ولعموم قوله عز وجل هنا: (( وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ )). وإذا كان متطوعاً في صيامه فله أن يفطر، خاصة إذا ألحّ عليه الداعي، أو كان قد تكلف له؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم وإن شاء ترك) . وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: (الصائم المتطوع أمير نفسه: إن شاء صام، وإن شاء أفطر). وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: هل عندكم شيء؟ فقلت: لا، قال: فإني صائم، ثم مرّ بي بعد ذلك اليوم وقد أهدي إلي حَيْس، فخبأت له منه، وكان يحب الحيس، قالت: يا رسول الله! إنه أهدي لنا حَيْس، فخبأت لك منه، قال: أدنيه، -أي: قربيه - أما إني أصبحت وأنا صائم، فأكل منه، ثم قال: إنما مثَل المتطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة، فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها)، ولم يذكر هنا قضاءً؛ بناء على أنه لا يجب قضاء النفل. وهذا هو الراجح، أي: ما ذهب إليه الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله، وذلك لحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: (صنعت لرسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً، فأتاني هو وأصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل من القوم: إني صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعاكم أخوكم وتكلف لكم، ثم قال له: أفطر، وصم مكانه يوماً إن شئت) وفي هذا مراعاة للأدب، وهو أنه إذا كان يشق على صاحب الدعوة ألا تأكل من طعامه، وكنت في صيام نافلة، ففي هذه الحالة الأفضل لك أن تفطر؛ إدخالاً للسرور على أخيك المسلم، وهذا في صيام النافلة فقط. وقوله: (إن شئت) يدل على التخيير، وأنه لا يجب عليه قضاء ذلك اليوم. وكذلك حديث أبي جحيفة رضي الله تعالى عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين سلمان وبين أبي الدرداء رضي الله عنهما، قال: فجاء سلمان يزوره فإذا أم الدرداء متبذلة - أي: لابسة ثياب المهنة، وتاركة لملابس الزينة -، فقال: ما شأنك يا أم الدرداء ؟! قالت: إن أخاك أبا الدرداء يقوم الليل، ويصوم النهار، وليس له في شيء من الدنيا حاجة، فجاء أبو الدرداء فرحب به، وقرب إليه طعامه، فقال له سلمان : اطعم -أي: كُل- قال: إني صائم، قال: أقسمت عليك لتفطرن، ما أنا بآكل حتى تأكل، فأكل معه - وهذا هو الشاهد، أنه أكل معه -، ثم بات عنده، فلما كان من الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم، فمنعه سلمان وقال له: يا أبا الدرداء ! إن لجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، صم وأفطر، وصل وأْتِ أهلك، وأعط كل ذي حق حقه، فلما كان في وجه الصبح قال: قم الآن إن شئت، قال: فقاما فتوضأا، ثم ركعا، ثم خرجا إلى الصلاة، فدنا أبو الدرداء ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي أمره سلمان ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا الدرداء ! إن لجسدك عليك حقاً، مثلما قال سلمان ، وفي رواية: قال له النبي صلى الله عيله وسلم: صدق سلمان), فأقر ما قاله سلمان لـأبي الدرداء . إذاً: فهذا هو الراجح في هذه المسألة، وهو: أن من دخل في قربة فإنه يجوز له بعد الشروع فيها الخروج منها قبل إتمامها، ولا يجب عليه القضاء إلا في نافلة الحج والعمرة؛ للنص على ذلك.
العبرة بالخواتيم والأدلة على ذلك
حكم لعن الكافر المعين
حكم لعن الكفار جملة من غير تعيين
حكم لعن العاصي المعين
تعريف اللعن والتحذير من التخلق به
الأسباب المكفرة للذنوب
قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [محمد:34]. هذه الآية الكريمة سبق أن تعرضنا لصدرها (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، وذكرنا أن الراجح في الصدّ أنه متعدٍّ، (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا )) أي: في أنفسهم، (( وَصَدُّوا )) أي: غيرهم (( عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، وهذا يرجح على قول من قال: إن (( وَصَدُّوا )) بمعنى: أعرضوا اللازمة؛ لأنا إذا قلنا: إن صدوا هنا بمعنى: أعرضوا عن سبيل الله، فسيكون هذا توكيداً، وأما إذا قلنا: إن المعنى: أنهم صدوا غيرهم (( عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ))، فسيكون تأسيساً، ولا شك أن التأسيس مقدَّم على التوكيد؛ لأنه يبني معنىً جديداً. قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ )) فيه بيان لافتراض الخاتمة، وأن الأعمال بالخواتيم، فالعبرة بالحال التي يموت عليها الإنسان، كما قال صلى الله عيه وسلم: (إنما الأعمال بالخواتيم)، فلو صام رجل يوماً طويلاً شديداً حره، ثم أفطر قبيل غروب الشمس بثوانٍ معدودات فقد حبط صيام هذا اليوم كله، وإذا صلى صلاة طويلة ثم أحدث قبل السلام، فصلاته باطلة كلها. وكذلك العمر، فإذا وفِّق الإنسان إلى خاتمة حسنة فإن الله سبحانه وتعالى يعفو عن كل ما مضى، والعكس أيضاً. إذاً: فهذه الآية الكريمة فيها بيان أن الوفاة على الكفر توجب الخلود في النار، فمجرد أن يكون الإنسان كافراً لا يكفي للحكم عليه بعينه أنه من أهل النار، وإنما لا بد من أن يثبت أنه قد مات على الكفر، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ، وهذا يشير إلى قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج:10]، فانظر إلى رحمه الله تعالى، فحتى هؤلاء الذين كفروا في أنفسهم، وفتنوا وعذبوا المؤمنين بالنيران في قصة الأخدود الشهيرة، اشترط الله في استحقاقهم هذا الوعيد أن يثبتوا على ذلك حتى الممات، فقال: (( إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا ))، فمفهومها أنهم إن تابوا فإن الله سبحانه وتعالى يغفر لهم، فهذا من رحمة الله الواسعة. وقد قيل: إن المراد بالآية أصحاب قليب بدر، وظاهر الآية العموم في كل من مات على الكفر وإن كان سببها خاصاً. وقد وضح هذه الآية آيات أخرى من كتاب الله تعالى، ومنها: قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:91]، فانظر إلى قوله: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ )) ففيها إشارة إلى الخاتمة. وروى الشيخان عن قتادة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهباً أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد كنت سئلت ما هو أيسر من ذلك)، كلفتك أن تعبدني ولا تشرك بي شيئاً وهذا لفظ البخاري. وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنظَرُونَ [البقرة:161-162]. قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ ))، الواو في قوله: (( وَهُمْ كُفَّارٌ ))، هي واو الحال، أي: ماتوا على حال الكفر. وقال الله تعالى: وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا [النساء:18]. وقال تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217].
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |