خطب ومحاضرات
تفسير سورة الأحقاف [15-20]
الحلقة مفرغة
قال الله تبارك وتعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]. قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً) وقرئ: (حسناً)، وهذا تمهيد لمن عقهما وعصاهما في الإيمان المذكور في قوله تعالى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا [الأحقاف:17] أي أن هذه مقدمة بذكر حق الوالدين قبل التعرض لذكر كل عاصٍ عاقٍ لوالديه. (حملته أمه كرهاً) قيل: المراد بهذا الكره شدة الطلق، وقيل: حملته أمه كرهاً أي: حملاً ذا كره وهو المشقة التي تعانيها في الحمل كلما ثقل، ((ووضعته كرهاً)) هذا هو الذي قيل إنه شدة الطلق، فشدة الطلق داخلة في قوله: (ووضعته كرهاً).
مدة الحمل والرضاع
معنى الكره في الحمل والوضع
معنى بلوغ الإنسان الأشد
معنى قوله: (وبلغ أربعين سنة...)
قال تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15] (( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ))، أي: حمله جنيناً في بطنها وفصاله من الرضاع ثلاثون شهراً، أي: تمضي عليها هذه المدة ثلاثون شهراً بمعاناة المشاق ومقاساة الشدائد لأجله، مما يوجب للأم مزيد العناية وأكيد الرعاية. ولو أننا حسبنا حمله وفصاله ثلاثين شهراً، فمدة الحمل تسعة أشهر، وأجل الرضاع: أربعة وعشرون شهراً، فيكون المجموع ثلاثة وثلاثون شهراً. فقوله: (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) إما أنهم أسقطوا الكسر واكتفوا بالعقود، أو أن مدة الرضاع لا يشترط أن تستوفى إلى غاية السنتين، فقد تكون أقل من ذلك كما هنا في هذه الآية، أو أن أقل مدة الحمل كما استنبط ذلك علي رضي الله تعالى عنه بضميمة هذه الآية إلى الآية الأخرى، تكون ستة أشهر. يقول: لا يقال: بقي ثلاثة أشهر؛ لأن أمد الرضاع حولان؛ لأنا نقول: إن الحولين أمد من أراد إتمام الأجل، وإلا فأصله أقل منهما كما ينبئ عنه قوله تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233] ، إذاً: لا يشترط أن تستوفى مدة الرضاعة حولين كاملين، ولنفرض أن أمد الرضاع لابد أن يكون سنتين، فيكون في الآية اكتفاء بالعقود وحذف الكسور، فبدل أن يقول: ثلاثة وثلاثون شهراً، اكتفى الله سبحانه وتعالى بذكر العقود الثلاثة وهي الثلاثون، وحذف الكسور جرياً على عرف العرب في ذلك، كما ذكروه في حديث أنس في وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنه توفي عليه الصلاة والسلام على رأس ستين سنة، مع أن الصحيح أنه توفي عن ثلاث وستين سنة، فهذا يحمل على أن أنساً رضي الله تعالى عنه اكتفى بذكر العقود وحذف الكسور، كما هي عادة العرب في ذلك. قالوا: إن الراوي للأولى اقتصر فيه على العقود وترك الكسور، وسر ذلك هو القصد إلى ذكر المهم وما يكتفى به فيما سيق له الكلام، لا ضبط الحساب وتدقيق الأعداد. قال ابن كثير : وقد استدل علي رضي الله تعالى عنه بهذه الآية مع الآية التي في سورة لقمان: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وقوله تبارك وتعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قوي صحيح، ووافقه عليه عثمان وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
قال العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية الكريمة: (( حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا )): قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وأبو عمر وهشام عن ابن عامر (كَرهاً) وقرأه عاصم وحمزة والكسائي وابن ذكوان عن ابن عامر (كُرهاً) بضم الكاف في الموضعين، وهما لغتان كالضُعف والضَعف، و(حملته كَرهاً أو كُرهاً) معناه: أنها في حال حملها به تلاقي مشقة شديدة، ومن المعلوم أن ما تلاقيه الحامل من المشقة والضعف إذا أثقلت وكبر الجنين في بطنها يكون كبيراً، ومعنى وضعته كرهاً: أنها في حالة وضع الولد تلاقي من ألم الطلق وكربه مشقة شديدة كما هو معلوم، وهذه المشاق العظيمة التي تلاقيها الأم في حمل الولد ووضعه، لا شك أنه يعظم حقها بها، ويتحتم برها والإحسان إليها كما لا يخفى، وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من المشقة التي تعانيها الحامل دلت عليه آية أخرى، وهي قوله تعالى في سورة لقمان: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14]، أي: ضعفاً على ضعف؛ لأن الحمل كلما تزايد وعظم في بطنها ازدادت ضعفاً على ضعف. وقوله هنا (كرهاً) في الموضعين مصدر منكر، وتعرب: كرهاً على أنها حال مع أنه نكرة، ومجيء المصدر المنكر حالاً كثير، كما أشار إلى ذلك في الخلاصة بقوله: ومصدر منكر حالاً يقع بكثرة كبغتة زيد طلع وقال بعضهم: كرهاً في الموضعين: نعت لمصدر، أي: حملته حملاً ذا كره، ووضعته وضعاً ذا كره، والعلم عند الله تعالى. قوله تعالى: (( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا ))، هذه الآية الكريمة ليس فيها بانفرادها تعرض لبيان أقل مدة الحمل، ولكن بضميمة بعض الآيات الأخرى إليها يعلم أقل أمد الحمل؛ لأن هذه الآية الكريمة من سورة الأحقاف صرحت بأن أمد الحمل والفصال معاً ثلاثون شهراً، فيكون مجموع الحمل مع الفصال ثلاثين شهراً، وقوله تعالى في سورة لقمان : وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، وكذلك قوله في سورة البقرة: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [البقرة:233]، ليبين أن أمد الفطام عامان، وهما أربعة وعشرون شهراً، فإذا طرحتها من الثلاثين بقيت ستة أشهر، فتعين كونها أمداً للحمل وهي أقله، ولا خلاف في ذلك بين العلماء، ودلالة هذه الآية على أن الستة الأشهر أمد للحمل هي المعروفة عند علماء الأصول بدلالة الإشارة. فالحمل إما تسعة أشهر وأقله ستة أشهر، أما الرضاع فأربعة وعشرون شهراً، فحمله وفصاله (9أشهر+24شهر=33شهراً) أو حمله وفصاله (6+24=30)، كما في هذه السورة، إذاً ستة أشهر هي أقل مدة الحمل.
قال تعالى: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً [الأحقاف:15]، قال القاسمي : حتى إذا استكمل قوته وعقله وبلغ أربعين سنة، وفي ضوء منهج تفسير القرآن بالقرآن هل نستطيع أن نوجد من القرآن الكريم تفسيراً دقيقاً لمعنى (أشده)؟ يقول تعالى في سورة النساء: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، إذا ضممنا هاتين الآيتين إلى بعض وفهمنا هذه الآية في ضوء تلك استطعنا أن نفسر قوله تعالى: (حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة)؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الأنعام: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ [الأنعام:152]، ما معنى أشده؟ أوضحها الله سبحانه وتعالى في سورة النساء في قوله تبارك وتعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، إذاً: في ضوء تفسير القرآن بالقرآن نفهم أن قوله تعالى هنا: (حتى إذا بلغ أشده) أي: بلغ الحلم، (وبلغ أربعين سنة) أي: بعد ذلك وهو غاية الكمال والنضج البدني والعقلي.
قوله تعالى: وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي [الأحقاف:15]، أي: أمهلني، أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ [الأحقاف:15]، أي: بالهداية بالتوحيد والعمل بطاعته وغير ذلك، وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي [الأحقاف:15] أي: واجعل الصلاح سارياً في ذريتي راسخاً فيهم، (( إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ )) أي: من ذنوبي التي سلفت مني، (( وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ )) أي: المستسلمين لأمرك ونهيك المنقادين لحكمك. إذاً: يستحب لمن شرع في الأربعين فما فوقها أن يكثر من هذا الدعاء: حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لأنه إذا بلغ هذه السن فقد بدأ المرحلة الأخيرة من العمر، أو بتعبير آخر يسمونها في الطب العمر المتوسط، وهو السن الذي يبدأ من الأربعين إلى الستين، وما بعد الستين يسمونه الشيخوخة، بخلاف العرب فإنهم يعدون من بلغ الأربعين شيخاً. وقال بعض السلف: تركت الذنوب حياءً من الناس أربعين سنة، وتركتها حياءً من الله أربعين سنة، وقال بعضهم: إن سن الأربعين هو مصدر لإلهام كثير من الأدباء والشعراء بكثير من المعاني التي تفيض بمساءة من قد اقترب من القبر جداً، ولذلك يقول بعضهم: تمسكت بعد الأربعين ضرورة ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ يعني: لم يبق لي إلا أن أتمسك، ولم يبق إلا أن تقوم الصوارخ عندما يأتيه أجله، فهي السن التي يبدأ الإنسان يترقب فيها حضور أجله، فإن الإنسان في فترات الفحولة والصبا والشباب إذا سلم من الآفات في كل هذه الفترات فهو كالزرع إذا سلم من الآفات في جميع مراحل نموه، لكن مهما نما ومهما سلم فسوف تكون نهايته الحصاد، فلابد أن يحصد حتى وإن سلم فيما مضى من السنين.
قال الله تبارك وتعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:16]. (أولئك)، أي: الموصوفون بالتوبة والاستقامة في الآيات السابقة. (الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا) أي: من الصالحات فنجازيهم عليها، ونتجاوز عن سيئاتهم، أي: فلا نعاقبهم عليها لتوبتهم منها، (في أصحاب الجنة) أي: في جملة من يتجاوز عنهم وهم معدودون في أصحاب الجنة وفي زمرتهم ثواباً ومقاماً. قال الشهاب : والظاهر أنه من قبيل: وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف:20] أي: أن كلمة: (في أصحاب الجنة) تعبير يستفاد منه المبالغة في علو منزلتهم في الجنة، فإن قولك: فلان معدود في العلماء، أو فلان من العلماء، أقوى من أن تقول: فلان عالم. وكذلك قوله تبارك وتعالى هنا: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ ))، أي: أولئك في أصحاب الجنة، فهذه أبلغ من قول: أولئك أصحاب الجنة، فتكون من باب قوله تعالى في يوسف عليه السلام: وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ [يوسف:20]، فيوسف الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم ومع ذلك (كانوا فيه من الزاهدين) إشارة إلى علو مقام يوسف عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. فمن لم يتنبه لهذا المعنى قال: إن قوله: (في أصحاب الجنة) بمعنى: مع أصحاب الجنة، والصواب أن هناك سراً في إيثار (في) على (مع) في اللفظ الكريم، فلم يقل تعالى: أولئك مع أصحاب الجنة، ولكن قال: (أولئك في أصحاب الجنة)؛ لأن (في) تفيد المبالغة في علو مكانهم ومنزلتهم. (وعد الصدق)، منصوب على أنه مصدر مؤكد لما قبله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (أولئك الذين نتقبل عنهم) فهذه فيها معنى الوعظ، كأنك تقول في التفسير: أولئك الذين وعدهم الله أن يتقبل عنهم أعمالهم فوعدهم بالقبول، فقال سبحانه وتعالى: (وعد الصدق) كأنه يقول: وعدتهم وعد الصدق أن أتقبل أعمالهم، يؤكد ذلك قوله تعالى: (الذي كانوا يوعدون) على ألسنة الرسل في الدنيا: رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ [آل عمران:194]، فقوله تعالى: (( وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ ))، أي: وعدهم تعالى هذا الوعد، وعد الحق في الدنيا وهو موفيه لهم في الآخرة، كما قال: وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الطور:21].
بين الله تعالى من عصى ما وصى به من الإحسان لوالديه من كل ولد عاق كافر، وبين مآله وماله في مآله؛ بقوله سبحانه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا . إذاً: هذه الآية نزلت لتشمل كل كافر عاق لوالديه المؤمنين: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأحقاف:17]. (والذي قال لوالديه) أي: حين دعواه إلى الإيمان والاستقامة، (أف لكما) أي: من هذه الدعوة؛ لأن (أف) اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر، (أتعدانني أن أخرج) أي: أبعث من قبري بعد فنائي، (وقد خلت القرون من قبلي) أي: قد هلكت ومضت ولم يرجع أحد منهم، وهذا يعني أن هذا الولد العاق الكافر يكذب بالبعث والنشور، ويقول: (قد خلت القرون من قبلي) ومضوا، ولم يعد منهم أحد. (وهما يستغيثان الله) أي: يطلبان الغياث بالله منه، والمراد إنكار قوله واستعظامه؛ كأنهما لجئا إلى الله في دفعه، كما يقال: العياذ بالله، أو المعنى: وهما يطلبان من الله أن يغيثه بالتوفيق حتى يرجع عما هو عليه، (ويلك آمن): صدق بوعد الله، وأقر بأنك مبعوث بعد موتك، والويل في الأصل معناها الدعاء بالهلاك، فأقيم مقام الحث على فعل أو ترك، أي أن أصل كلمة الويل: دعاء على الإنسان بالهلاك، لكن كثر وشاع استعمالها في الحث على الفعل أو الترك، يقال: ويلك ماذا تفعل؟ ويلك افعل كذا، فتستعمل في الحث على الفعل أو الترك للإيماء إلى أن مرتكبه حقيق بأن يطلب له الهلاك، فإذا سمع ذلك ترك ما هو فيه وأخذ الأصلح له. (إن وعد الله حق) أي: إن وعده تعالى لخلقه بأنه سوف يبعثهم من قبورهم إلى موقف الحساب لمجازاتهم بأعمالهم حق لا مرية فيه. (فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين): فيقول هذا الكافر العاق مجيباً لوالديه وراداً عليهما نصيحتهما وتكذيباً لوعد الله: (ما هذا) الذي تقولانه (إلا أساطير الأولين) أي: أباطيلهم التي كتبوها.
قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ [الأحقاف:18]. (أولئك) أي: الكفار، كأن قوله تعالى: (والذي قال لوالديه أف لكما) ثم قوله في أول الآية التي تليها: (أولئك الذين حق عليهم القول) إشارة إلى أولئك الكفار العاقين لوالديهم المؤمنين، وهذا الذي رجحه العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى. إذاً: قوله تعالى: (أولئك) أي: أولئك الكفار المشار إليهم في الآية السابقة من كل كافر عاق، (أولئك الذين حق عليهم القول) الإلهي، وهو العذاب المذكور في قوله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السجدة:13]، (( فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ )) أي: مع أمم قد خلت (( مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ )) أي: الذين كذبوا رسل الله وعتوا عن أمره (( إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ )) ببيعهم الهدى بالضلال والباقي بالفاني.
قال تعالى: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الأحقاف:19]. (ولكل): هذا تنوين تعويض عن اسم، وهو ما يضاف إلى (كل)، والمعنى: ولكل فريق من الفريقين المذكورين المؤمنين والكفار. والإشارة إلى الفريقين في قوله: (ولكل درجات مما عملوا) هي إشارة إلى الطرفين المذكورين: الفريق الأول: الذين قال تعالى فيهم: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأحقاف:13-14]، إلى قوله: وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ [الأحقاف:15-16]، هذا هو الفريق الأول. والفريق الثاني: (والذي قال لوالديه أف لكما).. إلخ. (ولكل درجات مما عملوا) أي: منازل ومراتب بحسب ما اكتسبوه من إيمان وكفر، فيتفاضل أهل الجنة في الكرامة وأهل النار في العذاب، فإن درجات الجنة تذهب علواً، كلما ارتفعت تكون أعلى، ودركات النار تذهب إلى أسفل، فالجنة درجات كما أن النار دركات. (ولكل درجات مما عملوا) أي: مراتب من جزاء ما عملوا من صالح وسيئ، (وليوفيهم أعمالهم) أي: جزاءها، (وهم لا يظلمون)، بنقص ثواب ولا زيادة عقاب.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |