خطب ومحاضرات
ما يعترض الداعية المسلم
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله أجمعين، محمد بن عبد الله الصادق الأمين، أما بعد:
فقد انتشر الإسلام في فجاج الأرض بدعاته العاملين به، وإنما يتقبل الله عمل العاملين بما وقر في قلوبهم من إيمان وتصديق، وبما بذلوا من جهود في سبيل الله.
فقد تصيب بعض العاملين للإسلام ودعاته أمراض يتوقف بها ثوابهم وعطاؤهم في بعض الأحيان.
وسأحاول في حديثي هذا أن ألقي ضوءاً على أحد هذه الأمراض التي قد تصيب دعاة الإسلام والعاملين للإسلام، وحديثي إنما هو تذكير لنفسي، وتذكير لإخواني، فالدين النصيحة.
فأقول: إن هناك ما يسميه بعض الناس بالجفاف الروحي، أو الهزال الذي يصيب روح الإنسان فيصبح آلة صماء تتحرك وتسعى ولكن من غير قلب.
وهذا مرض خطير، إذا أصاب الإنسان فقد العمل قيمته، وأصبح العمل الذي يبذله إما عديم الفائدة أو قليل الفائدة.
وقد شاء الله سبحانه وتعالى أن يكون الإنسان مخلوقاً من قبضة من طين، فشكله ونفخ فيه من روحه، فالإنسان يتكون من هذين العنصرين، فلقبضة الطين -وهي الجسد- مقتضياتها، وللروح التي تسري في كياننا متطلباتها ومقتضياتها، والناس منذ القديم بين إفراط وتفريط.
ففريق من الناس يفرطون في إعطاء الجسد متطلباته والعناية به عناية كبيرة تجعلهم يهملون الروح، وفريق غالى في الجانب الآخر.
فجاء دين الله سبحانه وتعالى الذي هو الإسلام الذي أنزل للناس منذ أن أُرسل نوح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ليجعل الإنسان ينتظم في منهج واحد، فليس هناك انشقاق أو انقسام في حياة الإنسان، وإنما هو طريق وسبيل واحد، فانتظمت مطالب الجسد والروح في هذا المنهج، فالذي أوجده هو خالق الإنسان، فمنزل القرآن ومنزل الإسلام هو خالق الإنسان.
وقلوب الناس إنما تحيا بهذا الإسلام وتستنير استنارة هذه المصابيح الكهربائية التي نشاهدها عندما تتصل بمصدرها، وكذلك هذه القلوب عندما تتصل بخالقها وبالنور الذي أنزله الله سبحانه وتعالى فعند ذلك يشرق قلب الإنسان وتشرق نفسه وتضيء.
قال الله تعالى: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ [النور:35] أي: مثل نوره في قلب عبده المؤمن كمشكاة فيها مصباح.
والقلوب فيها مصابيح، فإذا ما استمدت من كتاب الله ومن سنة رسول الله استضاءت استضاءة حقيقية لا شكلية، وأصبحت حياة الإنسان لها معنى، ولها قيمة ولها طعم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، فيجد الإنسان في قلبه حلاوة للإيمان يتذوقها، فهل نريد أن نصل إلى هذه الدرجة، وأن نستشعر الإيمان في قلوبنا، وأن يكون إيماننا إيماناً حقيقياً نحسه في ذوات أنفسنا، ونجد نداوته وحلاوته في قلوبنا؟
فإذا بقي العمل للإسلام عملاً ظاهرياً لا يغزو أعماقنا ولا يستقر في قلوبنا فسيكون حظنا من الإسلام قليلاً وضئيلاً.
وهناك أسباب عدة لما يجده الإنسان في بعض الأحيان من فقدان ما أسماه القرآن -مثلاً- بالخشوع، أو نداوة القلوب ولينها، كما قال الله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ [البقرة:74].
فقسوة القلوب تجعل الإنسان لا يستطيع أن يتحرك بإسلامه وبدينه، وإن تحرك فحركته بطيئة آلية لا تغني كثيراً.
انشغال القلب بالدنيا
وأنا لا أعني أن يشتغل الإنسان بالدنيا، فتلك طبيعة الإنسان، وذلك منهج الله، فنحن نعمل في الدنيا للآخرة، ونأخذ حظنا من الدنيا، ونأخذ حظنا من الآخرة، ولكن لا نريد أن تنشغل هذه القلوب بحيث تتعلق بالدنيا تعلقاً يعبِّدها لهذه الدنيا.
والرسول صلى الله عليه وسلم سمى هذا الانشغال عبودية فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، ونحن كلنا نلبس ونحرص على أموالنا، والقرآن أمرنا بذلك، فليست القضية أن يشتغل الإنسان بالدنيا، وإنما أن يتعلق قلبه بها فتصبح هي مدار حياته يدور بها كما يدور الحمار بالرحى.
وقد يقوم هذا الإنسان ببعض الأعمال للإسلام لكن قلبه متعلق بالدنيا، هي التي تسيِّره وهي التي توقفه، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط منها سخط، فدنياه ذات تأثير كبير عليه أكثر من تأثير دينه عليه.
فهذا الإنسان في خطر كبير، وينبغي أن يتدارك نفسه فيعالجها، وذلك بأن يعلم قيمة الدنيا كما وصفها الله في كتابه، ويعلم قيمة الآخرة، وينظر في قصر الدنيا وفي طول الآخرة كما بينه القرآن الكريم، ومن ذلك على سبيل المثال قوله جل وعلا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:14-16].
حتى إن الانشغال الدنيوي الذي ليس فيه شغل قلبي قد يقسي القلوب، ففي بعض الأحيان يحتاج القلب إلى علاجه السريع، وهو ألا يغفل المسلم عن ربه وعن ذكره وعبادته.
(لقي
والشاهد: أن الإنسان حين ينشغل بهذه الأمور يجف أحياناً ما يستشعره من إيمان، فيقسو قلبه شيئاً ما، فهذا شيء طبعي، لكن ينبغي له أن يعالج.
ولذلك شرع الله لنا أن نعمل في دنيانا ثم نعود إلى الصلاة، وهذا من حكمته سبحانه، فما يكاد الإنسان ينشغل في الدنيا حتى يعود إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى صلاة العصر، ثم يعود إلى صلاة المغرب، ثم إلى صلاة العشاء، وهو مع ذلك يذكر الله في أثناء عمله فلا يدع قلبه يقسو ويتأثر تأثراً كبيراً بالدنيا.
وينبغي أن يدمن المسلم العبادة وطاعة الله عز وجل، فهذه العبادة التي نتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى -والله غني عنها- ذات تأثير كبير في إصلاح النفوس والقلوب، وفي صلاح القلب صلاح للإنسان، وفي الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ومن أعظم ما يصلح القلوب: منهج التزكية في الإسلام ومن أعظمه: هذه العبادات التي جاء بها الإسلام من صلاة، وصيام، وذكر، ودعاء، واستغفار، وحج، وعمرة، وغير ذلك من العبادات التي شرعها الإسلام، فهي من أهم ما يصلح النفوس ويربيها، وحسبنا في ذلك قول الله عز وجل: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، والطمأنينة شيء عظيم عندما يفقده الإنسان يصبح في حياته كثير من الشقاء، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، فالذكر والاستغفار يذهب هذا الذي يصيب القلب من قسوة.
والمقصود: أن يستشعر المسلم من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصد أن يذكر الله، وأن يحرص على الذكر بالسبل التي شرعها الله، ومن جملة ذلك الاستغفار.
فما يفعله الإنسان وما يتكلم به أحياناً إذا كان فيه شيء من البعد عن منهج الله أو شيء من الخطأ قد يصيب الإنسان فيغشي قلبه نوعاً ما، فالاستغفار يذهب ذلك، والدعاء كذلك.
ومن جملة هذا أن الصلاة والعبادة والدعاء والاستغفار حصن يقي الإنسان من وساوس الشيطان التي تؤثر تأثيراً سيئاً على قلب الإنسان.
فالحرص على العبادة كما شرعها الله سبحانه وتعالى غذاء ودواء للقلب، ولعله مر على كثير منا مقولة المجاهد الكبير ابن تيمية رحمه الله عندما كان يجلس من الفجر إلى الضحى وهو يذكر الله، والتي ينقلها عنه ابن القيم أنه كان يقول: هذا زادي أي: هذه الجلسة زادي فلو فقدتها فلن أستطيع أن أستمر بقية يومي!
البعد عن التفكر في آيات الله الكونية والشرعية
فوصف الله أولي الألباب بأنهم الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، ويصلون إلى النتيجة من هذا التفكر وهي قولهم: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، والآيات التي تأمر بالتفكر والتذكر كثيرة، وعلى الإنسان أن يتفكر في أصل خلقته قال تعالى: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5]، وأن يتفكر في طعامه: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس:24-26]، وأن يتفكر في مخلوقات الله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:17-18] وهذا منهج واضح في كتاب الله ينبغي أن يحرص المسلم عليه حرصاً شديداً.
ثم إن التدبر في الآيات القرآنية المتلوة، لا يكون بإقامة حروف القرآن وتحسين تلاوته فقط، مع أن ذلك شيء طيب وجميل ومطلوب، لكن ينبغي أن ننظر فيما وراء الألفاظ، وأن ننظر في المعاني، وفيما ترشد إليه هذه الآيات فنعتبر ونستغفر.
ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (سيأتي أقوام يقيمون هذا القرآن إقامة القدح ثم لا يجاوز حناجرهم)، وهؤلاء هم الخوارج، فالقرآن لا يجاوز حناجرهم، فهم يحسنونه ويتلونه ويقومون به آناء الليل والنهار، ولكنهم لا يفقهون هذا الكتاب فقهاً حسناً.
فنحن مطالبون بأن نتدبر القرآن، وأن نتبصر فيه وفق المقاييس التي وضعها السلف الصالح في فهم القرآن الكريم، يقول جل وعلا: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
فالله سبحانه وتعالى ذم هذا الفريق وهذا الصنف من الناس الذي لا يتدبر هداية الكتاب، فالقرآن الكريم نور وهداية، يكشف الظلمات، وهو روح في نفس الوقت كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
فهو نور وروح يحيي موات القلوب، وهو نور يكشف ظلمات النفس والكفر والشرك والباطل، ويكشف حقيقة أهل الضلال والزيغ والطغاة والظالمين، ويكشف أعمالهم، وهو نور لا يستغني عنه الإنسان، فإنه يبصره بربه، ويعرفه بمنهجه وبحقيقته، فنحن في سبيل إزالة هذا المرض لابد أن نحرص على الإكثار من هذا المنهج الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، وأن نتفكر في آيات الله الكونية المشاهدة المنظورة، وأن نتفكر في آيات الله المتلوة المنزلة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ويدخل في ذلك فهم الأحاديث والتدبر في معانيها.
عدم محاسبة النفس
ففي زحمة الأعمال والأشغال تتداخل الأهداف وتتصارع، وإذا غفل الإنسان عن نفسه فسيجد أن كثيراً من أعماله -إن كان صادقاً مع نفسه- لم يقصد بها الله سبحانه وتعالى، ولم يرد أجره وجنته، ولم يخف من ناره، وإنما عمل ذلك من أجل نيل شهرة أو رياءً أو شيئاً من ذلك، وهذا الأمر خطير، ونحن نعلم مدى خطورة هذا الشيء، فأصحاب هذه الأعمال لا قيمة لعملهم عند الله سبحانه وتعالى، فالثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار هم: مجاهد ومتصدق وعالم، كانت أعمالهم لغير الله، ما فتشوا في نفوسهم وسألوها: لم فعلتِ هذا العمل؟ وما صبروا على أن يكون العمل خالصاً، فهذا يحتاج إلى جهاد، وإلى أن يبذل الإنسان في سبيل ذلك جهداً، وكلنا نحتاج إلى هذا، فالصحابة رضي الله عنهم احتاجوا إلى هذا التوجيه، ونحن بحاجة إليه، يقول أحد الصحابة: ما علمت أن فينا أحداً يريد الدنيا حتى أنزل الله قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152].
فنحن بحاجة إلى أن نفتش دائماً في نفوسنا ونسألها: لم نعمل هذا العمل؟ فهذا هو أول الدين كما يقول العلماء: أول الدين وآخره الإخلاص في العمل، وهو مضمون قول لا إله إلا الله، بل إن أصل الدين الذي هو محور القرآن الكريم ومحور دعوة الرسل جميعاً ومحور الرسالات السماوية: أن يكون الدين لله، وأن تكون العبودية لله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له، وفي اللحظة التي تتداخل الأهداف وتصبح عند الإنسان غايات مختلفة غير هذه الغاية يفتر كثيراً، وقد يخطئ في كل شيء.
فالدين لابد أن يكون خالصاً لله تعالى، عند ذلك يكون العمل مثمراً وخيراً، ويكون قليل العمل مباركاً، فالعمل القليل يصبح بالإخلاص عملاً كبيراً مباركاً؛ ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، فشق التمرة بالإخلاص ينفع، والعمل الكثير بدون الإخلاص لا خير فيه ولا بركة.
فمن أهم الأسباب: أن يشغل الإنسان قلبه بالدنيا.
وأنا لا أعني أن يشتغل الإنسان بالدنيا، فتلك طبيعة الإنسان، وذلك منهج الله، فنحن نعمل في الدنيا للآخرة، ونأخذ حظنا من الدنيا، ونأخذ حظنا من الآخرة، ولكن لا نريد أن تنشغل هذه القلوب بحيث تتعلق بالدنيا تعلقاً يعبِّدها لهذه الدنيا.
والرسول صلى الله عليه وسلم سمى هذا الانشغال عبودية فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة)، ونحن كلنا نلبس ونحرص على أموالنا، والقرآن أمرنا بذلك، فليست القضية أن يشتغل الإنسان بالدنيا، وإنما أن يتعلق قلبه بها فتصبح هي مدار حياته يدور بها كما يدور الحمار بالرحى.
وقد يقوم هذا الإنسان ببعض الأعمال للإسلام لكن قلبه متعلق بالدنيا، هي التي تسيِّره وهي التي توقفه، إن أعطي منها رضي، وإن لم يعط منها سخط، فدنياه ذات تأثير كبير عليه أكثر من تأثير دينه عليه.
فهذا الإنسان في خطر كبير، وينبغي أن يتدارك نفسه فيعالجها، وذلك بأن يعلم قيمة الدنيا كما وصفها الله في كتابه، ويعلم قيمة الآخرة، وينظر في قصر الدنيا وفي طول الآخرة كما بينه القرآن الكريم، ومن ذلك على سبيل المثال قوله جل وعلا: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:14-16].
حتى إن الانشغال الدنيوي الذي ليس فيه شغل قلبي قد يقسي القلوب، ففي بعض الأحيان يحتاج القلب إلى علاجه السريع، وهو ألا يغفل المسلم عن ربه وعن ذكره وعبادته.
(لقي
والشاهد: أن الإنسان حين ينشغل بهذه الأمور يجف أحياناً ما يستشعره من إيمان، فيقسو قلبه شيئاً ما، فهذا شيء طبعي، لكن ينبغي له أن يعالج.
ولذلك شرع الله لنا أن نعمل في دنيانا ثم نعود إلى الصلاة، وهذا من حكمته سبحانه، فما يكاد الإنسان ينشغل في الدنيا حتى يعود إلى صلاة الظهر، ثم يعود إلى صلاة العصر، ثم يعود إلى صلاة المغرب، ثم إلى صلاة العشاء، وهو مع ذلك يذكر الله في أثناء عمله فلا يدع قلبه يقسو ويتأثر تأثراً كبيراً بالدنيا.
وينبغي أن يدمن المسلم العبادة وطاعة الله عز وجل، فهذه العبادة التي نتوجه بها إلى الله سبحانه وتعالى -والله غني عنها- ذات تأثير كبير في إصلاح النفوس والقلوب، وفي صلاح القلب صلاح للإنسان، وفي الحديث: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
ومن أعظم ما يصلح القلوب: منهج التزكية في الإسلام ومن أعظمه: هذه العبادات التي جاء بها الإسلام من صلاة، وصيام، وذكر، ودعاء، واستغفار، وحج، وعمرة، وغير ذلك من العبادات التي شرعها الإسلام، فهي من أهم ما يصلح النفوس ويربيها، وحسبنا في ذلك قول الله عز وجل: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، والطمأنينة شيء عظيم عندما يفقده الإنسان يصبح في حياته كثير من الشقاء، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة)، فالذكر والاستغفار يذهب هذا الذي يصيب القلب من قسوة.
والمقصود: أن يستشعر المسلم من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصد أن يذكر الله، وأن يحرص على الذكر بالسبل التي شرعها الله، ومن جملة ذلك الاستغفار.
فما يفعله الإنسان وما يتكلم به أحياناً إذا كان فيه شيء من البعد عن منهج الله أو شيء من الخطأ قد يصيب الإنسان فيغشي قلبه نوعاً ما، فالاستغفار يذهب ذلك، والدعاء كذلك.
ومن جملة هذا أن الصلاة والعبادة والدعاء والاستغفار حصن يقي الإنسان من وساوس الشيطان التي تؤثر تأثيراً سيئاً على قلب الإنسان.
فالحرص على العبادة كما شرعها الله سبحانه وتعالى غذاء ودواء للقلب، ولعله مر على كثير منا مقولة المجاهد الكبير ابن تيمية رحمه الله عندما كان يجلس من الفجر إلى الضحى وهو يذكر الله، والتي ينقلها عنه ابن القيم أنه كان يقول: هذا زادي أي: هذه الجلسة زادي فلو فقدتها فلن أستطيع أن أستمر بقية يومي!
وبعض الناس لا يتدبرون الآيات الكونية ولا الآيات القرآنية، ومن وسائل تقويم النفس أن يكثر المسلم من التفكر في آيات الله، وهو منهج حثنا عليه القرآن الكريم فلا يجوز أن نغفل عنه وأن نهمله، فعلى الإنسان أن يتفكر في السماء ونجومها، وفي الشمس والقمر، وفي الليل والنهار، وفي السهل والجبل، وفي البر والبحر، وفي كل ما خلق الله سبحانه وتعالى من آيات مثل: قطرة الماء، وورق الشجر والثمر، ونسمة الهواء الباردة، ففي كل ذلك إعجاز وإبداع، وعندما يتفكر المسلم في ذلك فإن قلبه يستضيء بقدرة الله سبحانه وتعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ [آل عمران:190-192].
فوصف الله أولي الألباب بأنهم الذين يتفكرون في خلق السموات والأرض، ويصلون إلى النتيجة من هذا التفكر وهي قولهم: رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191]، والآيات التي تأمر بالتفكر والتذكر كثيرة، وعلى الإنسان أن يتفكر في أصل خلقته قال تعالى: فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق:5]، وأن يتفكر في طعامه: فَلْيَنْظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا [عبس:24-26]، وأن يتفكر في مخلوقات الله: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ [الغاشية:17-18] وهذا منهج واضح في كتاب الله ينبغي أن يحرص المسلم عليه حرصاً شديداً.
ثم إن التدبر في الآيات القرآنية المتلوة، لا يكون بإقامة حروف القرآن وتحسين تلاوته فقط، مع أن ذلك شيء طيب وجميل ومطلوب، لكن ينبغي أن ننظر فيما وراء الألفاظ، وأن ننظر في المعاني، وفيما ترشد إليه هذه الآيات فنعتبر ونستغفر.
ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (سيأتي أقوام يقيمون هذا القرآن إقامة القدح ثم لا يجاوز حناجرهم)، وهؤلاء هم الخوارج، فالقرآن لا يجاوز حناجرهم، فهم يحسنونه ويتلونه ويقومون به آناء الليل والنهار، ولكنهم لا يفقهون هذا الكتاب فقهاً حسناً.
فنحن مطالبون بأن نتدبر القرآن، وأن نتبصر فيه وفق المقاييس التي وضعها السلف الصالح في فهم القرآن الكريم، يقول جل وعلا: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24].
فالله سبحانه وتعالى ذم هذا الفريق وهذا الصنف من الناس الذي لا يتدبر هداية الكتاب، فالقرآن الكريم نور وهداية، يكشف الظلمات، وهو روح في نفس الوقت كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
فهو نور وروح يحيي موات القلوب، وهو نور يكشف ظلمات النفس والكفر والشرك والباطل، ويكشف حقيقة أهل الضلال والزيغ والطغاة والظالمين، ويكشف أعمالهم، وهو نور لا يستغني عنه الإنسان، فإنه يبصره بربه، ويعرفه بمنهجه وبحقيقته، فنحن في سبيل إزالة هذا المرض لابد أن نحرص على الإكثار من هذا المنهج الذي ذكره الله سبحانه وتعالى، وأن نتفكر في آيات الله الكونية المشاهدة المنظورة، وأن نتفكر في آيات الله المتلوة المنزلة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ويدخل في ذلك فهم الأحاديث والتدبر في معانيها.
ومما يسبب قسوة القلوب: أن الإنسان يقصر نظره على العمل فقط، ولا ينظر إلى ما وراء العمل من الغاية والهدف، فنحن بحاجة إلى أن نتذكر الغاية والهدف في كل خطوة، وينبغي أن يواجه الإنسان نفسه بأسئلة حتى يكون عمله خالصاً لله تعالى.
ففي زحمة الأعمال والأشغال تتداخل الأهداف وتتصارع، وإذا غفل الإنسان عن نفسه فسيجد أن كثيراً من أعماله -إن كان صادقاً مع نفسه- لم يقصد بها الله سبحانه وتعالى، ولم يرد أجره وجنته، ولم يخف من ناره، وإنما عمل ذلك من أجل نيل شهرة أو رياءً أو شيئاً من ذلك، وهذا الأمر خطير، ونحن نعلم مدى خطورة هذا الشيء، فأصحاب هذه الأعمال لا قيمة لعملهم عند الله سبحانه وتعالى، فالثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار هم: مجاهد ومتصدق وعالم، كانت أعمالهم لغير الله، ما فتشوا في نفوسهم وسألوها: لم فعلتِ هذا العمل؟ وما صبروا على أن يكون العمل خالصاً، فهذا يحتاج إلى جهاد، وإلى أن يبذل الإنسان في سبيل ذلك جهداً، وكلنا نحتاج إلى هذا، فالصحابة رضي الله عنهم احتاجوا إلى هذا التوجيه، ونحن بحاجة إليه، يقول أحد الصحابة: ما علمت أن فينا أحداً يريد الدنيا حتى أنزل الله قوله: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ [آل عمران:152].
فنحن بحاجة إلى أن نفتش دائماً في نفوسنا ونسألها: لم نعمل هذا العمل؟ فهذا هو أول الدين كما يقول العلماء: أول الدين وآخره الإخلاص في العمل، وهو مضمون قول لا إله إلا الله، بل إن أصل الدين الذي هو محور القرآن الكريم ومحور دعوة الرسل جميعاً ومحور الرسالات السماوية: أن يكون الدين لله، وأن تكون العبودية لله، فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً له، وفي اللحظة التي تتداخل الأهداف وتصبح عند الإنسان غايات مختلفة غير هذه الغاية يفتر كثيراً، وقد يخطئ في كل شيء.
فالدين لابد أن يكون خالصاً لله تعالى، عند ذلك يكون العمل مثمراً وخيراً، ويكون قليل العمل مباركاً، فالعمل القليل يصبح بالإخلاص عملاً كبيراً مباركاً؛ ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اتقوا النار ولو بشق تمرة)، فشق التمرة بالإخلاص ينفع، والعمل الكثير بدون الإخلاص لا خير فيه ولا بركة.
استمع المزيد من الدكتور عمر الأشقر - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
النجاة من الفتن | 2410 استماع |
كيف تستعيد الأمة مكانتها | 2299 استماع |
فتاوى عن الجماعات الإسلامية والجهاد | 2292 استماع |
أضواء العمل الإسلامي | 2214 استماع |
اليوم الآخر | 2192 استماع |
الانحراف عن المسيرة الإسلامية | 2162 استماع |
إخلاص النية | 2162 استماع |
مع آيات في كتاب الله | 2142 استماع |
أسباب الجريمة وعلاجها | 2125 استماع |
قيمة الاهتمام في زيادة الإيمان | 2105 استماع |