مع آيات في كتاب الله


الحلقة مفرغة

الإسلام دين ودولة، بدأ بالقيام بدولته الإسلامية محمد صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون على معاييرها وضوابطها الصحيحة من شورى وخدمة لدين الله وبيعة وغير ذلك، ولدولة الإسلام ميزات كثيرة في اختيار من يسوسها وقيامها على الشورى والعدل وخدمة المسلمين

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد:

فإن الذي يقرأ كتاب الله تبارك وتعالى ببصيرة نافذة، يدرسه، ويتأمله، ويفقه ما فيه؛ فإنه يضع نفسه في الإطار الصحيح الذي ينبغي أن يوضع فيه، فيعرف طريقه في الحياة، ويعرف المهمة التي ينبغي أن يتحملها، وذلك أن الإنسان لا يستقر له بال ما لم يحمل مهمة في هذه الحياة، ويشغل نفسه بقضية.

وفي كثير من الأحيان يشغل الإنسان نفسه بقضايا تعود عليه بالضرر والوبال، فجاء القرآن الكريم ليضعنا في المسار الصحيح، وفي الطريق الحق، وفي هذا المقام سوف نستعرض ونقف مع تلك الآيات التي افتتح الله بها سورة آل عمران؛ لنتبين الإطار السليم الذي يضع القرآن فيه الإنسان.

يقرر الله تبارك وتعالى أنه صاحب الأمر والنهي في هذا الكون، والمتفرد في ذلك، وهو إله الناس، ورب الناس، ومالك الناس، وهو السيد المتفرد قال تعالى: الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [آل عمران:2]، لا يوجد في هذا الوجود معبود يستحق العبادة إلا الله، ولا يتصف بصفات الجلال والكمال إلا الله، فهو الذي أنشأ الكون، وخلق الوجود، ويدبر الأمر ويصرفه، فهو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخر فليس بعده شيء، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل)، فهو حي كامل الحياة، لا يموت، قيوم قائم بنفسه لا يحتاج إلى غيره، ويقيم غيره، فلا يحتاج إلى أحد، لا من ملائكته، ولا من البشر، ولا من الجن، ولا من جميع المخلوقات، بل كل الوجود بحاجة إليه، الملائكة بحاجة إليه، والعرش بحاجة إليه، والسماوات بحاجة إليه، والبشر بحاجة إليه.

ويقول الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران:18]، فقوله: وَالْمَلائِكَةُ أي: والملائكة كلهم يشهدون أنه السيد المطاع، وأنه المعبود الحق، وأنه المالك والخالق الموجد الذي يستحق أن يعبد دون غيره.

وقوله: وَأُوْلُوا الْعِلْمِ أي: أصحاب العلم الذين فتح الله بصائرهم وهداهم إلى طريقه الحق، يشهدون بذلك، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18].

قضيتنا: كيف ننتسب إلى هذا الإله المتفرد الواحد الأحد؟ وكيف نقيم حياتنا وفق منهجه؟ وكيف نحمل رسالته إلى العالمين؟ وكيف ندعو البشرية لأن يحكموا الحياة الإنسانية بمنهج الله تبارك وتعالى؟

إن القضية التي جاءت بها الرسل من عند الله هي: أن يكون الناس عبيداً لهذا الإله الواحد الأحد، وأن يقيموا وجوههم لله تبارك وتعالى، وأن يحكموا حياتهم وحياة مجتمعاتهم بحكم الله، وبمنهج الله، قال تبارك وتعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [آل عمران:3-4].

منهج الله تتضمنه الكتب السماوية التي أنزلها الله تبارك وتعالى هداية للبشرية، يلتزم بها الفرد في نفسه فيمثل الهداية على وجه الأرض، ويلتزم بها المجتمع فيحكم نفسه بالكتاب المنزل، فيكون المجتمع السوي الذي يريده الله تبارك وتعالى للبشرية، كما يقول الله أيضاً في أوائل هذه السورة: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، فالدين والمنهج الحق الذي ينبغي أن يحكمك ويحكم المجتمع هو الإسلام، والإسلام علم على هذا المنهج الذي وضعه الله تبارك وتعالى ليصلح عقيدتك، وفكرك، وسلوكك، وأسرتك، والمجتمع الإنساني.

وهذا المنهج اسمه الإسلام؛ لأنك تستسلم فيه لله، وتنفذ منهج الله، ويستسلم فيه المجتمع لله، قال الله تبارك وتعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ، لا الشيوعية ولا القومية، ولا البوذية، ولا عبادة الأصنام، ولا عبادة الفئران، ولا أي نظرية في الأرض.

إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [آل عمران:19]، هذه الانحرافات التي عند اليهودية، وعند النصرانية، وعند البشرية، حدثت والرسالات تتلى وتتوالى على البشر، فيختارون منهجاً غير منهج الله تبارك وتعالى، وأنت تحمل القضية وهي: أنك تنتسب إلى الله تبارك وتعالى، وبمجرد انتسابك إلى الله عز وجل، بأن قبلت رسالة الله عز وجل، وحملت الأمانة، وأصبحت ذا مهمة محددة تحققها في واقع الحياة؛ فإنك لا بد أن تواجه الذين يرفضون منهج الله تبارك وتعالى، ودين الله، وكتب الله عز وجل.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ [آل عمران:4]، هناك فريق لا يستجيب، لا يؤمن بما أنزل الله تبارك وتعالى؛ فهؤلاء يصبحون أعداء لخالق الوجود الإله المعبود، وهم أعداء أيضاً للمؤمنين، والله تبارك وتعالى يعادي هؤلاء، ويتهددهم ويتوعدهم بالعذاب الدنيوي والعذاب الأخروي في الوقت الذي يؤمنك فيه، ويسكب في قلبك عظمته، وأنك تنتسب إلى قوة عليا تستطيع أن تواجه بها العالم، وعندما تأكد هذا المعنى في نفوس الصحابة، والقرآن يدفق عليهم بقوة أصبحوا قوة هائلة، بضع مئات كانوا يغلبون ألوفاً، وتهتز الدنيا من حولهم، ثم يرتد العرب الذين آمنوا ودخلوا في دين الله أفواجاً، يرتدون ولا يثبت منهم إلا فئة قليلة، ولكن هذه الفئة التي فقهت دورها وارتباطها بربها، وعلمت مدى قدرة الله وقوته، استطاعت أن تعيد المياه إلى مجاريها، وأن تحول التيار الذي أراد أن يجتاح الإسلام إلى قوة تزيل الكفر، وتدمر عروش الظالمين، فقهوا قوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ [آل عمران:10-11] أي: قل للذين كفروا الذين لا يؤمنون بي، ولا يوحدونني، ولا يؤمنون برسالتي، ولا يحكمون شرعي وديني، ولا ينهجون منهجي: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران:12].

والمثال قريب: قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:13]، في يوم الفرقان يوم التقى الجمعان -الكفر والإيمان- في معركة بدر، والمؤمنون قلة، والكفار كثرة، أنزل الله نصره على الذين آمنوا، وأمدهم بألوف من الملائكة تنزل فوجاً بعد فوج، فيثبت بهم قلوب الذين آمنوا، ونصرهم على أعدائهم.

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ هؤلاء أعداء لله، وهؤلاء قد يصولون ويجولون، وقد يقتلون المؤمنين، بل وقد يقتلون الأنبياء، وتلك معركة ينال الكفار منا فيسقط من يسقط شهيداً، وننال منهم فننال العزة والنصر، ولكن أين مصيرهم؟ غضب الله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ [آل عمران:21]، ليس المؤمنون فقط هم الذين يقتلون، بل الأنبياء أيضاً قد يقتلون، وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنْ النَّاسِ [آل عمران:21] أي: يأمرون بالعدل، وتنفيذ حكم الله وشرع الله.

فلا تظنوا الذين يسقطون الآن لأنهم يطالبون بحكم الله أنهم ظالمون، كلا، رب العزة يقول في هؤلاء الذين يقومون بهذه الأعمال التي تسميها الدول خيانة عظمى، وهي كذلك في ميزان الله، ولكنهم يخونون الله تبارك وتعالى: الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22].

ثم قال بعد ذلك: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ [آل عمران:23]، أي: بقية اليهود والنصارى الذين عندهم بقية من كتاب يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ [آل عمران:23]، وإلى منهج الله ودين الله فيقفون في صف الأعداء، وكان الأحرى بهم أن يقفوا في صف خاتم الرسل الذي جاء امتداداً لموسى وعيسى عليهما السلام.

يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23]، حجتهم إنما هي ترهات، وأباطيل، وكذب ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:26-25]، بمقدار ما يعظم ربنا في صدورنا، وبمقدار ما نؤمن بقدرته وعظمته وقيوميته وحياته، وبمقدار ما نتوكل عليه، ونعتمد عليه، ونعلم أنه يفعل ما يشاء، ويقدر على ما يشاء، بمقدار ما نستطيع من تحقيق هذه الأمانة، وتفجيرها في واقع الحياة، وجعلها هي السائدة في الوجود.

والله تبارك وتعالى يبين لنا شيئاً من قدرته، وشيئاً من عظمته؛ لنعيش في الأرض وقلوبنا معلقة بخالق الوجود، ورب الأرض والسماء، لا بأمريكا، ولا بريطانيا، ولا فرنسا، ولا مجلس الأمن، ولا أي قوة في الأرض قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27]، ذلك ربنا، وإلهنا، وسيدنا، وواضع منهجنا وطريقنا، فمن له حاكم كحاكمنا؟ ومن له سيد كسيدنا؟

إذا لجأ الناس إلى قوى الأرض، ولجأ المؤمنون إلى ربهم، فإنه يزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم، ويخسف بهم من السماء، ويزيلهم من الأرض؛ لأنه قادر على ذلك كله، وقد فعل بأسلافنا من قبل مثل هذا، فأعزهم ونصرهم، ودانت لهم الدول، وكان ذلك واقعاً حياً مشهوداً.

قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ ، لا يظن الناس أنهم يحصلون الملك بمشيئتهم، فالله تبارك وتعالى هو الذي يؤتي الملك، وهو الذي ينزع الملك؛ أمة مقهورة يصبح جنابها عالياً، كانت لا ذكر لها في التاريخ، ولا يؤبه لها، ثم آتاها الملك، ثم ينزع الله الملك بعد أن تعلو وترتفع ويصبح لها سلطان كبير، ويزيل الله تبارك وتعالى ملكها: وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ .

وكم حكى لنا التاريخ عن أقوام عزوا وبزوا، ثم ذلوا وهانوا، والله تبارك وتعالى هو المعز وهو المذل: َتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هذا فعله في البشر، وهو الذي يفعل في الكون تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27].

فإذا التجأ الناس إلى الله، وأقاموا حياتهم على منهجه، فالله تبارك وتعالى يؤتيهم الملك ويعزهم، ويذل أعداءهم، وينزع منهم الملك، فالله تبارك وتعالى هو الحاكم في كونه، والحاكم في خلقه تبارك وتعالى، وعندما نفقه كتاب الله يضعنا كتاب الله في الإطار الصحيح، ويقيمنا على المسار الصحيح، فيبني نفوسنا وعقولنا، ويهذب طباعنا، ويصحح سلوكنا، ويصبح الإسلام منهجاً لحياتنا؛ فنعرف طعم الحياة في ظلال الإسلام على منهج الله تبارك وتعالى.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد عبد الله ورسوله.

إن من أعظم ما يحرف مسار الفرد بل مسار البشرية عن الاستقامة على منهج الله تبارك وتعالى هو ما ركب في الإنسان وفي البشر من شهوات، ينحرف الإنسان إذا ما استولت الشهوات على نفسه، أو عندما يقوم شياطين الإنس والجن ليوقعوا البشرية في حمأة الرذيلة والفسق والفساد، وإن أعظم سلاح يواجه به أعداء الإسلام المسلمين أن يحطموا عقائدهم وأخلاقهم بأن يجعلوهم يرتعون في الشهوات.

في حروب صلاح الدين عندما رأى الصليبيون الجدار الصلب الذي يملكه صلاح الدين من القوة التي بناها الإسلام، وغذاها الإيمان أرادوا أن يحطموا ذلك، فجاءوا بمئات من فتياتهم ووضعوهن في معسكرات قرب معسكرات المسلمين؛ ليحطموا الأخلاق، ويحطموا الرجال؛ فتهتز العقيدة، ويهتز الإيمان، فتتبدل الغاية، وعند ذلك يسهل عليهم أن يقتنصوا المسلمين، ولكن صلاح الدين علم بالمؤامرة واحتاط لها، وهي الفعلة نفسها التي يفعلها أعداؤنا بنا في هذه الأيام لتحطيم الشخصية الإسلامية، والعقيدة الإسلامية، والخلق الإسلامي.

زينوا للمرأة أن تخرج من بيتها متكشفة ومتهتكة، ومتبرجة، وأرسلوا فتياتهم إلينا على وصف أبلغ من هذا، فذهب شبابنا إلى ديارهم التي يسودها جو من الإباحية النتن القذر، كل ذلك ليغرقونا في حمأة الرذيلة، والإنسان مزين في نفسه حب الشهوات، والإسلام يريد من أتباعه أن يرتفعوا فوق هذا المستوى، وأن يستقيموا على منهج الله زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ [آل عمران:14]، هذا هو متاع الدنيا: أموال، زروع، قصور، مراكب فارهة، هذا متاع الحياة الدنيا.

ثم يعرض الله تبارك وتعالى صورة أخرى لا للمتاع، ولكن لنعيم الآخرة، وهو لا يسمى متاعاً، فإن ما في الدنيا من زينة يسمى متاعاً؛ لأنه يتمتع به ثم يزول ولا يبقى، أما نعيم الآخرة فلا يتوقف ولا ينتهي، ولا يتلاشى قال تعالى: قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ [آل عمران:15]، هذا هو نعيم الآخرة في جانب متاع الدنيا العارض الزائل الذي لا يدوم، وهو شيء تافه يسير بالنسبة لنعيم الآخرة، وليس معنى ذلك أن الإسلام يقول لك: انزع الشهوات من قلبك وعش راهباً. فالإسلام جاء بمحاربة الرهبانية، لكنه وضع ضوابط للشهوات، أحل الزواج وحرم الزنا، وحرم اللواط، ووضع حدوداً للزواج، فيحل أن يتزوج الرجل من امرأة أو اثنتين أو ثلاث أو أربع فلا يزيد، ولا يحل له أن يتزوج من كافرة، فقد وضع الإسلام منهجاً فلا تتعد منهج الله، ولا تحرم ما أحل الله.

وكذا المال شرع لك الطرق التي تمكنك من أن تستفيده منها، وحرم عليك أن تأخذ المال من طريق الربا، وأن تأخذه من طريق الرشوة، وأكل مال اليتيم، وأكل مال الناس بالباطل، وحرم عليك الإسراف، وأمرك بالاعتدال؛ فالله لم يحرم علينا هذه الزينة قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف:32]، لكن الإغراق فيها، وأخذها من حيث لا تحل، ونسيان أنك عبد لله تبارك وتعالى هذا هو المرفوض في دين الله وفي منهج الله.

فإذا ما استقام المسلمون عرفوا حقيقة الحياة، وكيف يأخذونها، وكيف يكونون في هذه الحياة، وكيف يسيرون بمنهج الله تبارك وتعالى؛ عند ذلك يستقيم أمرهم، ولا يجد أعداؤهم طريقاً إلى أنفسهم، فيكونون أولياء لله، وأولياء للإسلام، وأولياء للمؤمنين، يقيمون أنفسهم بهذا المنهج، ويستقيمون على هذا المنهج؛ فيعزهم الله تبارك وتعالى بالإسلام، ويعز الإسلام بهم، وتعود المسيرة الإسلامية التي اضطربت في أيامنا الأخيرة اضطراباً شديداً في مواجهة أعداء الإسلام؛ فذل المسلمون وهانوا، فليعودوا مرة أخرى إلى الاستقامة على الطريق، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يكون ذلك قريباً.

اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وكفر عنا سيئاتنا وألهمنا رشدنا.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، والباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك قريب مجيب سميع الدعوات.