تفسير سورة الأحقاف [1-12]


الحلقة مفرغة

نشرع بإذن الله تبارك وتعالى في تفسير سورة الأحقاف. سميت هذه السورة باسم وادي الأحقاف موطن قوم عاد كما قال الله: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ [الأحقاف:21]. وهذه السورة مكية، واستثني البعض منها خمس آيات هي: قوله تعالى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي [الأحقاف:17]، وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10]، وكذلك قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، وقوله تعالى أيضاً: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في مواضعه. وعدد آياتها خمس وثلاثون آية.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: حم [الأحقاف:1]، سبق أن تكلمنا مراراً عن الحروف المقطعة التي تأتي في أوائل السور فلتراجع تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الأحقاف:2-3]، أي: بالحكمة وإقامة العدل في الخلق. وَأَجَلٍ مُسَمًّى ، أي: لتقدير أجل معين لكل منها، لينهيه إذا هو بلغه وهو يوم القيامة. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ، (عما أنذروا) من هول ذلك اليوم. (معرضون)، لا يؤمنون، أي: معرضون مولون لاهون غير مستعدين له.

استحقاق الله تعالى للعبادة وحده لا شريك له

قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الكلمة: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الأحقاف:3]: صيغة الجمع في قوله تعالى: (مَا خَلَقْنَا)، للتعظيم، (إلا بالحق) أي: إلا خلقاً متلبساً بالحق، فالباء تدل على التلبس، كما تقول: سبحان الله وبحمده، أي: أسبح الله متلبساً مع ذلك بحمده، فكذلك هنا (إلا بالحق) أي: ما خلقنا السماوات والأرض إلا خلقاً متلبساً بالحق، والحق ضد الباطل، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبساً بالحق: أنه خلقهما لحكم ظاهرة ولم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً ولا لعباً، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسان به: إقامة البرهان على أنه هو الواحد المعبود وحده جل وعلا، كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، ثم أقام البرهان على أن الله هو الإله الواحد بقوله بعد ذكل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، فتلبس خلق السماوات والأرض بالحق واضح جداً من قوله تعالى: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ))، إلى قوله تعالى: (( لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ))، بعد قوله تعالى: (( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ))؛ لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى: (لا إله إلا الله)، هو أعظم الحق. فبدأ الآيات بقوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، ثم ذكر ما يبرهن على أنه لا إله حق إلا الله، فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، إلى قوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، فهذا مظهر من مظاهر تلبس خلق السماوات والأرض بالحق، أي: أن يكون في خلقهما وفي الآيات المبثوثة فيهما دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى، وأنه لا إله حق إلا هو سبحانه. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، وهذه أول صيغة أمر في القرآن الكريم: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22]، وقد تضمنت هاتان الآيتان معنى لا إله إلا الله؛ لأن قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، هذا هو قسم الإثبات، وهو ما يدل عليه قوله: (إلا الله)، أما قسم النفي فهو في قوله: (( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ))، وهو ما يدل عليه قوله: (لا إله)، فقوله: ( واعبدوا ربكم ) فيه معنى الإثبات في لا إله إلا الله، وقوله: ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه. وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما في قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بناء [البقرة:21-22] .. إلى آخر الآية، وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بأعظم الحق الذي هو: إقامة البرهان القاطع على توحيده جل وعلا. ومن كثرة الآيات القرآنية الدالة على إقامة هذا البرهان المذكور القاطع على توحيده جل وعلا ومن استقراء القرآن الكريم علم أن العلامة الفارقة بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها هي كونه خالقاً لغيره، فمن كان خالقاً لغيره فهو المعبود بحق، ومن كان لا يقدر على خلق شيء فهو مخلوق محتاج لا يصح أن يعبد بحال. والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً؛ كقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فقوله: ( الذي خلقكم ) يدل على أن المعبود هو الخالق وحده. وقوله تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، يعني: أن خالق كل شيء هو المعبود وحده، وهو وحده الذي يستحق العبادة. وفي سورة النحل لما ذكر تعالى فيها البراهين القاطعة على توحيده جل وعلا في قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:3]، إلى قوله: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، أتبع ذلك مباشرة بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، وذلك واضح جداً في أن من يخلق غيره هو المعبود، وأن من لا يخلق شيئاً لا يصح أن يعبد؛ ولهذا قال تعالى بعد ذلك: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20]، وقال في الأعراف: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وقال في الحج: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، فمن لا يقدر أن يخلق شيئاً لا يصح أن يكون معبوداً بحال. وقال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2]، كذلك في أول سورة الفرقان لما بين تعالى صفات من يستحق أن يعبد ومن لا يستحق أن يعبد، قال في صفات من يستحق العبادة: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقال في صفات من لا يصح أن يعبد: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان:3]، والآيات في ذلك كثيرة جداً، وكلها تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، يعني: أنه خلقهما لكي يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما آية وعلامة وبرهاناً على أعظم حقيقة في الوجود وهي: أن لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى. فهذا أحد معاني قوله تعالى في أول هذه السورة الكريمة: (( مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ))، أي: خلق متلبس بالحق، لحكم عظيمة، أعظمها وأجلها: أن يكون خلق السماوات والأرض دليلاً وبرهاناً للناس على أنه لا إله إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يعبد إلا من يخلق.

قدرة الله تعالى على كل شيء وإحاطته بكل شيء علماً

وقد بين جل وعلا أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، فمن الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض: أن يعلم العباد ويستدلون بخلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما على قدرته جل وعلا، وأنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، كما قال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، فلا شك أن هذه الآية مصرحة بمظهر من مظاهر هذا الحق الذي خلقت السماوات والأرض متلبسات به، فإن قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)، ذكر بعده لام التعليل في هذا الخلق، فقال: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)، وهذا من الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض، فلام التعليل في قوله: (لتعلموا) متعلق بقوله: (خلق سبع سماوات) إلى آخر الآية، وبه تعلم أنه ما خلق الله السماوات السبع والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن إلا خلقاً متلبساً بالحق.

التكليف والابتلاء والجزاء

ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى في أول سورة هود: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، فمن الحق الذي تلبس بخلق السماوات والأرض: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فلام التعليل في قوله: (ليبلوكم) متعلقة بقوله: (خلق السماوات والأرض)، فيكون قوله: (وهو الذي خلق السماوات والأرض)، إلى قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، يدل على أنه ما خلقهما إلا خلقاً متلبساً بالحق. ونظير ذلك قوله تعالى في أول سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، وقال في أول الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وقال في آخر الذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أي: إلا ليعبدوني وحدي ولا يشركوا بي شيئاً. وسواء قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم؛ لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته والخضوع له، كما قال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، وقال تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، أو قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا ليقروا لي بالعبودية ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي؛ لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعاً، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه تعالى كرهاً. ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقاً متلبساً به جزاء الناس بأعمالهم. وقال في سورة النجم: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، فقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي: هو خالقهما وخالق ما فيهما، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). وهذا أيضاً إعلام منه عز وجل بأنه خلق ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الناس بأعمالهم، ويوضح ذلك قوله تعالى في سورة يونس: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:4]. لما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً -بغير حق- لا لحكمة التكليف ولا الحساب ولا الجزاء؛ أبدلهم الويل من النار بسبب ذلك الظن السيئ، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن كونه خلق الخلق عبثاً لا لتكليف وحساب وجزاء، وأنكر ذلك على من ضل في قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:116]، تعالى وتنزه عن أن يخلق خلقه عبثاً، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]. وهذا الذي نزه الله تعالى عنه نفسه نزهه عنه أولو الألباب من خلقه، كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191-191]، فمعنى: (سبحانك) تنزيهاً لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلاً لا لحكمة تكليف وبعث وحساب وجزاء. وقوله تبارك وتعالى هنا في آية الأحقاف: (( مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ))، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلاً ولا لعباً ولا عبثاً كما صرح بهذا المفهوم في قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ص:27]، وفي قوله: (( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا ))[آل عمران:191]، وفي قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39]. وقوله: (( وَأَجَلٍ مُسَمًّى ))، هذا معطوف على قوله: (بالحق)، أي: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، وبتقدير أجل مسمى، أي: وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض، وهو يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في أخريات سورة الحجر في قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وانظر كيف قرن خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق بقوله: ( وإن الساعة لآتية ) إشارة إلى ما ذكر هنا في هذه الآية: ( إلا بالحق وأجل مسمى ). وقد بين تعالى في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمداً ينتهي إليه أمرهما، كما قال تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وقال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]، وقال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، وقال تعالى: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ [التكوير:11]، وقال: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ [المزمل:14]، إلى غير ذلك من الآيات.

إعراض الكافرين عما أنذروا

قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، أي: معرضون عما أنذرتهم به الرسل، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، وقال في سورة يس: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]، وقال أيضاً: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4]. والإعراض عن الشيء هو الصدود عنه وعدم الإقبال عليه، قال بعض العلماء: وأصله من العرض، وهو الجانب؛ لأن المعرض عن الشيء يوليه جانب عنقه صاداً عنه، والإنذار: هو الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذاراً، فالإنذار نوع خاص من الإعلام؛ إذ هو إعلام مقترن بتهديد، والإنذار يأتي عاماً ويأتي خاصاً، فقد يأتي عاماً لكل الخلق، وقد يأتي خاصاً لخاصة الخلق، وهم المؤمنون والمتقون. وفي هذه الحالة إذا قصر الإنذار على المؤمنين والمتقين يكون لهم فقط؛ لأنهم هم الذين إذا أنذروا ينتفعون بهذا الإنذار، فكأنه ما أنذر سواهم. وإذا كان للكافرين فإنه لإعلامهم وتهديدهم؛ فهو إعلام مقترن بتهديد. قوله هنا: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ))، ما: هنا إما أنها موصولة، وإما أنها مصدرية، فإذا قلنا: إنها مصدرية فيكون المعنى: والذين كفروا معرضون عن الإنذار. وإذا قلنا: إنها موصولة والعائد محذوف فيكون في غير القرآن: والذين كفروا عن الذي أنذروه معرضون؛ لأنها إذا كانت موصولة فلابد لها من عائد، وهو ضمير يكون في جملة الصلة يعود على الاسم الموصول، فقوله: (عما أنذروا) قال بعض العلماء: هي موصولة والعائد محذوف، أي: الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه وخوفوه من عذاب يوم القيامة، وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مطرد كما هو معلوم.

قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الكلمة: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الأحقاف:3]: صيغة الجمع في قوله تعالى: (مَا خَلَقْنَا)، للتعظيم، (إلا بالحق) أي: إلا خلقاً متلبساً بالحق، فالباء تدل على التلبس، كما تقول: سبحان الله وبحمده، أي: أسبح الله متلبساً مع ذلك بحمده، فكذلك هنا (إلا بالحق) أي: ما خلقنا السماوات والأرض إلا خلقاً متلبساً بالحق، والحق ضد الباطل، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبساً بالحق: أنه خلقهما لحكم ظاهرة ولم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً ولا لعباً، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسان به: إقامة البرهان على أنه هو الواحد المعبود وحده جل وعلا، كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، ثم أقام البرهان على أن الله هو الإله الواحد بقوله بعد ذكل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، فتلبس خلق السماوات والأرض بالحق واضح جداً من قوله تعالى: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ))، إلى قوله تعالى: (( لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ))، بعد قوله تعالى: (( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ))؛ لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى: (لا إله إلا الله)، هو أعظم الحق. فبدأ الآيات بقوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، ثم ذكر ما يبرهن على أنه لا إله حق إلا الله، فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، إلى قوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، فهذا مظهر من مظاهر تلبس خلق السماوات والأرض بالحق، أي: أن يكون في خلقهما وفي الآيات المبثوثة فيهما دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى، وأنه لا إله حق إلا هو سبحانه. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، وهذه أول صيغة أمر في القرآن الكريم: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22]، وقد تضمنت هاتان الآيتان معنى لا إله إلا الله؛ لأن قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، هذا هو قسم الإثبات، وهو ما يدل عليه قوله: (إلا الله)، أما قسم النفي فهو في قوله: (( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ))، وهو ما يدل عليه قوله: (لا إله)، فقوله: ( واعبدوا ربكم ) فيه معنى الإثبات في لا إله إلا الله، وقوله: ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه. وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما في قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بناء [البقرة:21-22] .. إلى آخر الآية، وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بأعظم الحق الذي هو: إقامة البرهان القاطع على توحيده جل وعلا. ومن كثرة الآيات القرآنية الدالة على إقامة هذا البرهان المذكور القاطع على توحيده جل وعلا ومن استقراء القرآن الكريم علم أن العلامة الفارقة بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها هي كونه خالقاً لغيره، فمن كان خالقاً لغيره فهو المعبود بحق، ومن كان لا يقدر على خلق شيء فهو مخلوق محتاج لا يصح أن يعبد بحال. والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً؛ كقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فقوله: ( الذي خلقكم ) يدل على أن المعبود هو الخالق وحده. وقوله تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، يعني: أن خالق كل شيء هو المعبود وحده، وهو وحده الذي يستحق العبادة. وفي سورة النحل لما ذكر تعالى فيها البراهين القاطعة على توحيده جل وعلا في قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:3]، إلى قوله: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، أتبع ذلك مباشرة بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، وذلك واضح جداً في أن من يخلق غيره هو المعبود، وأن من لا يخلق شيئاً لا يصح أن يعبد؛ ولهذا قال تعالى بعد ذلك: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20]، وقال في الأعراف: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وقال في الحج: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، فمن لا يقدر أن يخلق شيئاً لا يصح أن يكون معبوداً بحال. وقال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2]، كذلك في أول سورة الفرقان لما بين تعالى صفات من يستحق أن يعبد ومن لا يستحق أن يعبد، قال في صفات من يستحق العبادة: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقال في صفات من لا يصح أن يعبد: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان:3]، والآيات في ذلك كثيرة جداً، وكلها تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، يعني: أنه خلقهما لكي يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما آية وعلامة وبرهاناً على أعظم حقيقة في الوجود وهي: أن لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى. فهذا أحد معاني قوله تعالى في أول هذه السورة الكريمة: (( مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ))، أي: خلق متلبس بالحق، لحكم عظيمة، أعظمها وأجلها: أن يكون خلق السماوات والأرض دليلاً وبرهاناً للناس على أنه لا إله إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يعبد إلا من يخلق.

وقد بين جل وعلا أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، فمن الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض: أن يعلم العباد ويستدلون بخلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما على قدرته جل وعلا، وأنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، كما قال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، فلا شك أن هذه الآية مصرحة بمظهر من مظاهر هذا الحق الذي خلقت السماوات والأرض متلبسات به، فإن قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)، ذكر بعده لام التعليل في هذا الخلق، فقال: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)، وهذا من الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض، فلام التعليل في قوله: (لتعلموا) متعلق بقوله: (خلق سبع سماوات) إلى آخر الآية، وبه تعلم أنه ما خلق الله السماوات السبع والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن إلا خلقاً متلبساً بالحق.

ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى في أول سورة هود: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، فمن الحق الذي تلبس بخلق السماوات والأرض: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فلام التعليل في قوله: (ليبلوكم) متعلقة بقوله: (خلق السماوات والأرض)، فيكون قوله: (وهو الذي خلق السماوات والأرض)، إلى قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، يدل على أنه ما خلقهما إلا خلقاً متلبساً بالحق. ونظير ذلك قوله تعالى في أول سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، وقال في أول الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وقال في آخر الذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أي: إلا ليعبدوني وحدي ولا يشركوا بي شيئاً. وسواء قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم؛ لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته والخضوع له، كما قال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، وقال تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، أو قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا ليقروا لي بالعبودية ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي؛ لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعاً، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه تعالى كرهاً. ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقاً متلبساً به جزاء الناس بأعمالهم. وقال في سورة النجم: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، فقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي: هو خالقهما وخالق ما فيهما، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). وهذا أيضاً إعلام منه عز وجل بأنه خلق ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الناس بأعمالهم، ويوضح ذلك قوله تعالى في سورة يونس: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:4]. لما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً -بغير حق- لا لحكمة التكليف ولا الحساب ولا الجزاء؛ أبدلهم الويل من النار بسبب ذلك الظن السيئ، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن كونه خلق الخلق عبثاً لا لتكليف وحساب وجزاء، وأنكر ذلك على من ضل في قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:116]، تعالى وتنزه عن أن يخلق خلقه عبثاً، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]. وهذا الذي نزه الله تعالى عنه نفسه نزهه عنه أولو الألباب من خلقه، كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191-191]، فمعنى: (سبحانك) تنزيهاً لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلاً لا لحكمة تكليف وبعث وحساب وجزاء. وقوله تبارك وتعالى هنا في آية الأحقاف: (( مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ))، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلاً ولا لعباً ولا عبثاً كما صرح بهذا المفهوم في قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ص:27]، وفي قوله: (( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا ))[آل عمران:191]، وفي قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39]. وقوله: (( وَأَجَلٍ مُسَمًّى ))، هذا معطوف على قوله: (بالحق)، أي: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، وبتقدير أجل مسمى، أي: وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض، وهو يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في أخريات سورة الحجر في قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وانظر كيف قرن خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق بقوله: ( وإن الساعة لآتية ) إشارة إلى ما ذكر هنا في هذه الآية: ( إلا بالحق وأجل مسمى ). وقد بين تعالى في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمداً ينتهي إليه أمرهما، كما قال تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وقال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]، وقال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، وقال تعالى: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ [التكوير:11]، وقال: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ [المزمل:14]، إلى غير ذلك من الآيات.

قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، أي: معرضون عما أنذرتهم به الرسل، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، وقال في سورة يس: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]، وقال أيضاً: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4]. والإعراض عن الشيء هو الصدود عنه وعدم الإقبال عليه، قال بعض العلماء: وأصله من العرض، وهو الجانب؛ لأن المعرض عن الشيء يوليه جانب عنقه صاداً عنه، والإنذار: هو الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذاراً، فالإنذار نوع خاص من الإعلام؛ إذ هو إعلام مقترن بتهديد، والإنذار يأتي عاماً ويأتي خاصاً، فقد يأتي عاماً لكل الخلق، وقد يأتي خاصاً لخاصة الخلق، وهم المؤمنون والمتقون. وفي هذه الحالة إذا قصر الإنذار على المؤمنين والمتقين يكون لهم فقط؛ لأنهم هم الذين إذا أنذروا ينتفعون بهذا الإنذار، فكأنه ما أنذر سواهم. وإذا كان للكافرين فإنه لإعلامهم وتهديدهم؛ فهو إعلام مقترن بتهديد. قوله هنا: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ))، ما: هنا إما أنها موصولة، وإما أنها مصدرية، فإذا قلنا: إنها مصدرية فيكون المعنى: والذين كفروا معرضون عن الإنذار. وإذا قلنا: إنها موصولة والعائد محذوف فيكون في غير القرآن: والذين كفروا عن الذي أنذروه معرضون؛ لأنها إذا كانت موصولة فلابد لها من عائد، وهو ضمير يكون في جملة الصلة يعود على الاسم الموصول، فقوله: (عما أنذروا) قال بعض العلماء: هي موصولة والعائد محذوف، أي: الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه وخوفوه من عذاب يوم القيامة، وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مطرد كما هو معلوم.

قال الله تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]. (قل أرأيتم ما تدعون) أي: تعبدون. (من دون الله) من الأوثان والأنداد التي تعبدونها. (أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات)، أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضي بالاستقلال، أو في شيء سماوي بالشركة؛ حتى تستحق العبادة، فقوله: (ماذا خلقوا من الأرض) يريد به على سبيل الاستقلال بخلقه. (أم لهم شرك في السماوات)، هل خلقوا شيئاً سماوياً بالشركة حتى يستحقوا العبادة؟! (ائتوني بكتاب من قبل هذا)، أي: من قبل هذا القرآن، وهذا تيئيس لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تيئيسم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي، فالدليل العقلي في قوله: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)، ائتوني بدليل عقلي على أنهم خلقوا فيستحقون أن يعبدوا. (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا)، وهذا تعجيز لهم بطلب دليل نقلي مما أثر في الكتب السابقة، اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]، أي: ائتوني بكتاب إلهي من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم. (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، أو بقية من علم بقيت لكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم للعبادة. (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم؛ فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو سلطان نقلي، وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبين بطلانها. والمفسرون في هذا الموضع عند قوله تعالى: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، يتعرضون إلى الكلام في قضية الخط في الرمل، ويشيرون إلى حديث رواه مسلم في صحيحه: (كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك)، وهذه القضية شغلت العلماء كثيراً وتكلموا فيها كثيراً، وممن تكلم فيها: الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي المتوفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة من الهجرة في رسالة له بعنوان: الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط، لما روي في ذلك من أحاديث ووجه تأويلها، وهو وإن لم يصحح الحديث فالحديث صحيح ثابت في صحيح مسلم ، وإنما قال بفرض صحته فإنه يجاب عنه بكذا وكذا، وذكر بعض التأويلات، وقد أجاد في ذكر هذه التأويلات التي لابد منها بعدما بين أن الله سبحانه وتعالى كذب مدعي علم الغيب، وأنه لا يظهر أحداً على غيبه، فقال عز وجل: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26-27]، وغير ذلك من الآيات. وهذه إشارة موجزة بحيث من قرأ منكم ذلك في بعض كتب التفسير يعلم أن العلماء قاموا بتأويل هذا الحديث حتى وإن صح سنده، فقد تأولوه على أن ذلك كان آية خاصة بهذا النبي بالذات، وأن هذه كانت علامة خاصة به وليس لأحد أن يدعي علم الغيب عن طريق ذلك.

قال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]. قوله: (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) دعاءه؛ لعجزه عنه. (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)؛ لأنهم إما جمادات، وإما مسخرون مشغولون بأحوالهم. (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، قال الناصر في قوله تعالى: (( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))، قال: في قوله: (إلى يوم القيامة) نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها، يعني: كأن عدم الاستجابة ممتد إلى يوم القيامة، فيفهم لأول وهلة أنه بعد يوم القيامة قد يستجيب، لكن الأمر ليس كذلك في الحقيقة؛ فعدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية قطعاً؛ لأنهم في يوم القيامة أيضاً لا يستجيبون لهم. فالوجه والله تعالى أعلم أنها من الغايات المستمرة؛ لأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه؛ لأن عدم الاستجابة بعد القيامة أشد من عدم الاستجابة فيما قبلها؛ إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالتالي، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعاً واحداً لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، فعدم استجابتهم لهؤلاء التي تنتهي في الظاهر إلى يوم القيامة هي بعد يوم القيامة أشد، وذلك لأن الحالة الأولى التي جعلت غايتها إلى يوم القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، بل تقتصر فقط على عدم الاستجابة. لكن الحالة الثانية التي في القيامة وما بعدها فيها زيادة على عدم الاستجابة العداوة والكفر بعبادتهم إياهم، فهم ينقلبون عليهم أعداء كما في الآية الثانية مباشرة، وهي قوله تعالى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، فمع عدم الاستجابة ينضاف إليها في القيامة وبعد القيامة: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، فليس هم فقط في غفلة عنهم أثناء الدنيا ويوم تقوم القيامة، وهذا هو معنى الغاية، فإن الغاية فقط هي عدم الاستجابة، وفي القيامة عدم الاستجابة ممتدة لكن ينضاف إليها أن يصيروا لهم أعداءً وأن يكفروا بعبادتهم إياهم. ,كنت قد طالعت كتاباً قديماً جداً من كتب التوحيد التي كان لها شأن عظيم في الماضي إلا أنه كتاب منقرض وهو كتاب: صراع بين الحق والباطل، تأليف الأستاذ سعد صادق محمد، أرجو أن يكون الله قد مد في عمره إلى الآن، والكتاب مطبوع سنة ثمان وستين وتسعمائة وألف، وهو كتاب قيم جداً في التصدي للضلالات الصوفية، والأستاذ سعد صادق محمد -رحمه الله حياً أو ميتاً- يعد من دعاة أبطال السنة الذين كان لهم قدم صدق في التصدي لبدع الصوفية والضالين. وأرى أنه من المناسب أن نذكر هذا المثال العابر عند هذه الآية: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، يقول وهو يتكلم عن صور من هذا الضلال، (يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) يدعو الشافعي ، يدعو الدسوقي ، والبدوي ، والموتى، والمقبورين، وهم في غفلة عما هو مهلك نفسه فيه، يقول: منذ سنوات مضت وجد في صندوق السيد البدوي ظرف ختم بالشمع الأحمر وبه ورقة بعشرة جنيهات، يقول: أنا الذي استغربت له: ما الذي أتى بالشمع الأحمر؟! وكأن الرجل أتى كيما يقدم شكوى أو طلباً للبدوي في ظرف مختوم حتى لا يفتحه إلا البدوي بنفسه!! ختم بالشمع الأحمر وبه عشرة جنيهات، ومكتوب في الخطاب: أرجو المعذرة يا سيدي! فهذه الجنيهات العشرة هي كل ما حصلت عليه وما قدرت على جمعه، لذلك أرجو رجاءً خاصاً أن تنتظرني حتى شهر أكتوبر وهو شهر المحصول فأسدد لك باقي الحساب، فعليك الصفح وعلينا الوفاء. وفي أحد صناديق النذور وجد عقد اتفاق قانوني بين السيد صاحب الضريح والسيدة الناذرة، حيث نذرت لصاحب الضريح في هذا العقد القانوني بين هذه الناذرة الحية وبين هذا الميت، أن الطرف الثاني يتعهد بأن يدفع للطرف الأول مبلغ جنيه واحد كل شهر بدون تأخير ولا مماطلة ولا تسويف، إذا ما توسط الطرف الأول عند الله في أن يعيش ابن الطرف الثاني!! إلى آخر هذا الكلام. يقول: وهنا يروى أيضاً أن أحدهم وضع في صندوق نذور البدوي مبلغاً من المال على سبيل النصب، ثم رفع قضية إلى وزارة الأوقاف مدعياً أنه أراد أن يضع ورقة من فئة الجنيه فوضع بدلاً منها ورقة من فئة الخمسين جنيهاً!! والكتاب مليء وحافل بنماذج من هذا القبيل، وإنما أردت أن آتي بمثال، ولعل هذا يحتاج إلى درس مستقل بمفرده. والأفظع من ذلك أن بعض المسلمين يذهبون إلى قبر ما يسمى بالبابا بولس السادس أو الثالث، ويكتبون أمثال هذه الشكاوى وهذه الطلبات من مثل هذا المخلوق!! قبر البابا بولس تكتب له شكاوى ويخاطب ويطلب منه كل شيء مما لا ينبغي أن يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى!! ويوجد في مجلة البيان عدد شهر رجب ألف وأربعمائة وتسعة عشر، ملف كبير بعنوان: فسطاط الخرافة، ولأول مرة تتعرض المجلة لهذا الأمر، وهو بحث رائع جداً، وللأسف فإنه تأخر عن وقته؛ لأن المفروض أن مثل هذه القضايا هي أولى أن يهتم بها؛ لأن خطرها معلوم، وشيوع الضلال في هذا الباب معلوم، فالحمد لله أن القائمين على المجلة استدركوا هذا التقصير، وهذه أول مرة يفتح فيها هذا الملف ويتعامل معه معاملة سلفية نقية مائة بالمائة.

قال تعالى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، (وإذا حشر الناس) أي: جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب، (كانوا) أي: آلهتهم التي عبدوها، (لهم أعداءً) أي: لتبروئهم منهم، (وكانوا بعبادتهم كافرين) أي: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا، فالتكذيب بلسان المقال فضلاً عن بيان أن معبودهم في الحقيقة هم الشياطين وأهواؤهم. قال القاسمي في قوله تعالى: (( وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً )): (كانوا أعداءً)؛ لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم لا تكون إلا لغرض نفساني، وكذا استعباد الموالي لخدمهم، فإذا ارتفعت الأغراض، وزالت العلل والأسباب كانوا لهم أعداءً، وأنكروا عبادتهم، يقولون: ما خذلتمونا ولكن خذلتم أنفسكم، كما قيل في تفسير قوله: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:81-82]، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:7]، أي: بادروه بالجحود أول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعمال روية. (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) اللام هنا لام الأجل، وهي متعلقة بقال، وقيل: هي بمعنى الباء، وهي متعلقة بكفروا، وعدي الكفر باللام حملاً على نقيضه وهو الإيمان؛ لأن الإيمان يعدى باللام، كقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]. وهذا الذي تضمنته هذه الآية بينه قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:30]، وقوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:2-3]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [هود:7].




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2817 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع