خطب ومحاضرات
تفسير سورة طه [133-135]
الحلقة مفرغة
قال الله تبارك وتعالى: وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى [طه:133]، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة أظهر الأقوال عندي في معنى هذه الآية الكريمة: أن الكفار اقترحوا على عادتهم في التعنت: آية على النبوة كالعصا واليد من آيات موسى وكناقة صالح، واقتراحهم في ذلك بحرف التحضيض الدال على شدة الحض في طلب ذلك: (( لَوْلا يَأْتِينَا ))، أي: هلا يأتينا محمد بآية كناقة صالح وعصا موسى، أي نطلب ذلك منه بحرص وحث. فأجابهم الله بقوله: (( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ))، وهي هذا القرآن العظيم؛ لأنه آية هي أعظم الآيات وأدلها على الإعجاز! وإنما عبر عن هذا القرآن العظيم بأنه (( بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ))؛ لأن القرآن برهان قاطع على صحة جميع الكتب المنزلة من عند الله تعالى، فهو بينة واضحة على صدقها وصحتها. فالقرآن الكريم يشهد بصدق وصحة الكتب السابقة التي أوحاها الله سبحانه وتعالى إلى أنبيائه. هذا معنى: (( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ))، وهو القرآن الكريم الذي هو حجة وبرهان قاطع على صحة ما أنزله الله من قبل من الكتب كالتوراة والإنجيل وغير ذلك كما قال تبارك وتعالى: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48] وقال تعالى: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل:76]، وقال تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران:93].. إلى غير ذلك من الآيات. وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية على هذا التفسير الذي هو الأظهر أوضحه جل وعلا في سورة العنكبوت في قوله تعالى: وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:50-51]، فقوله في سورة العنكبوت: (( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ )) هو معنى قوله تبارك وتعالى في سورة طه: (( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى )) كما أوضحنا، والعلم عند الله تعالى. ويزيد ذلك إيضاحاً الحديث المتفق عليه: (ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، معنى الحديث: أنه ما من نبي إلا أوتي من المعجزات ما آمن البشر على مثله، وهي معجزات مؤقتة مثل عصا موسى، هل هي باقية حتى الآن هذه العصا يحدث بها ما كان يحصل لموسى عليه السلام؟ ومثل معجزات عيسى عليه السلام أو ناقة صالح.. أو غير ذلك من هذه الآيات التي كان فيها خرق للعادة مقترنة بدعوى النبوة لتأييد الأنبياء، فهي معجزات للأنبياء لكنها معجزات موقوتة، وهي خارقة وقاهرة لمن يرونها، ثم بعد ذلك تبقى خبراً كما نخبر نحن عنها الآن، وكما أخبر بها من أتوا بعد الأنبياء عليهم السلام. أما القرآن العظيم فهو معجزة باقية حية متجددة لا تنقضي أبداً؛ لأنه معجزة بكل معنى الكلمة، وبكل مظاهر الإعجاز، وكما قلنا مراراً: نأمل أن تأتي فرصة نناقش فيها قضية إعجاز القرآن وتعطى حقها الذي تستحقه، لأن هذا باب من العلم في غاية الأهمية خاصة في مثل هذا الزمان. بعض الخبثاء من أعداء الله في موقع على الإنترنت ادعى أنه يقبل التحدي، وأنه يأتي بضد القرآن وهذا الكلام لا يصدر إلا عن إنسان جبان، ولو كان على مستوى التحدي فلماذا لم يظهر نفسه واختبأ كالفئران والجرذان؟ ولا أحد يستطيع أن يصل إليه، وعلى الأقل يفتح مكاناً في نفس الموقع للتعليقات، لكنه لم يترك أي وسيلة يمكن لإنسان أن يرد عليه بها في نفس الموقع؛ إذا كنت تتحدى! هل تختبئ في الخندق؟! الإنسان عندما يتحدى يقف ويثبت أمام التحدي. فهل يعجز أحد عن السباب والشتائم؟ كل إنسان قادر على أن يسب وأن يشتم وينتقي أقبح الألفاظ. فعندما يأتي مثلاً بسورة: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون:1-3] هل يعجز أحد أن يقول: أنا سأقبل التحدي، ويأخذ كلمة (الكافرون) ويقول: يا أيها المسلمون! هل هكذا يكون التحدي؟! كثير منا لا يعرف ما معنى إعجاز القرآن ومن سبقوه كانوا أكثر منه علماً وواقعية، فهذا قام بوضع البدائل ويقول: أنا قابل للتحدي، وسوف أعمل نفس القرآن الكريم، ويظل يكتب: يا محمد! لما أضللت عبادي، وأدخلتهم النار، وجعلتهم من الكافرين؟.. إلى آخره!! فمثل هذه الخزعبلات وهذا الضلال لو كان كاتبها عنده شجاعة أدبية لأظهر نفسه، وبدأ يناقش العلماء الذين يتحداهم، لكنه لما خاف أن يظهر عجزه للناظرين اختبأ! هذا الأمر الأول. الأمر الثاني: نحن من غير قصد أحياناً نتعرض لمثل هذه المحاولات ونتعامل معها بطريقة تخدم سياسة الأعداء، فمثل هذه القضية التي انشغل الناس بها ونشروها في الجرائد لو كان عندهم نوع من الفقه لامتنعوا من نشرها أصلاً؛ لأن كثيراً من الناس لا يقصدون بذلك إلا أن يلقوا إلينا مثل هذه الشبهات ونحن الذين ننشرها على أوسع نطاق! وكمثال عابر بعض الأدوية التي يتحدث عنها الناس نجد طريقة الدعاية التي حصلت لها ما كانت تحلم بها شركات الأدوية ولو أنفقت على ذلك البلايين، لا يمكن أنها كانت تصل للمستوى الإعلامي الذي حصل نتيجة تناولها بشكل غير مدروس، فيحدث أن كل الناس تتكلم عنها: ولماذا لا نرد؟ لازم نرد، لكن أين سترد؟ على موقع آخر؛ لأن الموقع الذي كتب فيه لا يسمح بالرد، أو لا يوجد به مكان للرد عليه. فالمصيبة أن بعض من ليس عندهم فقه يرد في موقع آخر، ويكون بذلك قد ساهم في إطلاع من لم يطلع على الأمر في الأساس، فالأولى أن يترك الموضوع ولا يثار، وإلا كان كالتراب الي بتحريكه ينتشر في الجو فعدم الرد على مثل هذه الأشياء هذا أفضل؛ لأن الشخص المجهول قد جبن عن أن يواجه، ولم يترك فرصة لأحد ليرد عليه، ثم لا يعجز أحد كما قلنا عن الشتائم؛ فلنعامل هذا كما في قوله تبارك وتعالى: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10]؛ لأنه لا يوجد أحد يعجز عن الشتائم، فما علينا إلا الصبر وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران:186]، فالمطلوب الصبر على هذا الأذى كما أمرنا الله تبارك وتعالى. فإذاً قوله عليه الصلاة والسلام: (ما من نبي من الأنبياء إلا أوتي ما آمن البشر على مثله، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إلي)، هذه معجزة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة باقية حجة على البشرية إلى نهاية الزمان، وهذا يتوافق مع وصفه عليه الصلاة والسلام بأنه خاتم الأنبياء، لأنه إذا كان خاتم الأنبياء فلا يوجد نبي بعده، ومقتضى ذلك أن تبقى معجزته أيضاً قائمة ظاهرة.. باهرة.. قاهرة لكل من عاندها، وهي معجزة القرآن الكريم؛ ففي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة)، أرجو أن تكون أمتي أكثر أمم الأنبياء جميعاً، لماذا؟ لأن المعجزة باقية ودائمة ومتجددة إلى قيام الساعة، وليست كمعجزات الأنبياء السابقين الذين حصل لهم خرق العادة ثم توقفت وصارت بعد ذلك خبراً، أما القرآن فتكفل الله بحفظه لكي يبقى حجة على البشر، ودلالة واضحة قاطعة على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
تفسير القاسمي لقوله تعالى: (وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه)
القرآن معجزة النبي الكبرى
يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (( وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ ))، يعنون ما تعنتوا في اقتراحه مما تقدم في سورة بني إسرائيل، كما في قوله تعالى: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ [الإسراء:90-93] -من ذهب- أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُه قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا [الإسراء:93]، أنا أقترح على الله؟! ليس هذا من شأني. وقوله تعالى: (( وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ )) فأجابهم تعالى: (( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى )) أي: أولم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب؟! وهذا تفسير آخر، لكن الشنقيطي رحمه الله تعالى فسر بينة ما في الصحف الأولى بأنها القرآن الكريم. أولم يأتهم بيان ما في الكتب التي قبل هذا الكتاب من أنباء الأمم من قبلهم التي أهلكناهم لما سألوا الآيات فسخروا بها لما أتتهم، ثم عجلنا لهم العذاب، وأنزلنا بهم بأسنا لكفرهم بها؟! يقول: فماذا يؤمنهم إن أتتهم الآية أن يكون حالهم حال أولئك؟ وهذا قاله ابن جرير رحمه الله تعالى؛ (( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى ))، فأقوام الأنبياء طلبوا واقترحوا الآيات، ولم يكتفوا بما أيد الله به الأنبياء من المعجزات، فلما أجيبوا إلى ذلك وكفروا نزل بهم العذاب العاجل! وهذه سنة الله فيمن تعنت واقترح آية ثم أجيب إلى هذه الآية فكفر بها، فيأتيه العذاب. يقول القاسمي رحمه الله تعالى بعدما حكى قول ابن جرير : وذهب غيره إلى أن المعنى: أولم يأتهم آية هي أم الآيات وأعظمها، وهي معجزة القرآن المبينة لما في الكتب الأولى من التوراة والإنجيل والزبور، مع أن الآتي بها أمي لم يرها ولم يتعلم ممن علمها، فنقب منها على الصحيح من أنبائها فصدقه، وعلى الباطل المحرف ففنده، وفيه إشعار بكفاية التنزيل في الإعجاز والبرهان. ينبغي أن يكون الدليل الأعظم على صحة الكتب السابقة هو القرآن الكريم، لا بد أن نكون على يقين من ذلك، وأن هذا يكفي، ليس معنى يكفي أننا ننفي ما عداه من المعجزات، لكن نقول: إنه معجزة المعجزات لأن الآية تقول: وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍِ مِنْ رَبِّهِ ، فماذا جاء الجواب؟ (( أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى )) أي: أولم يأتهم القرآن الكريم؟ وهذا السياق يفهم منه: أن القرآن كاف في إقامة الدليل على صدق نبوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم. وكما قال الله أيضاً في سورة العنكبوت: وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ [العنكبوت:50-51] انظر إلى كلمة (( أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ )) يعني: أن القرآن فيه الكفاية في إقامة الدلالة على معجزته عليه الصلاة والسلام وعلى نبوته أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [العنكبوت:51].
قال أحد حكماء الإسلام: إن الخارق للعادة الذي يعتمد عليه الإسلام في دعوته إلى التصديق برسالة النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو الخارق الذي تواتر خبره ولم ينقطع أثره، وهو الدليل وحده؛ وما عداه مما ورد من الأخبار سواء صح سندها أو اشتهر أو ضعف أو وهى فليس مما يوجب القطع عند المسلمين، فإذا أورد في مقام الاستدلال فهو على سبيل التقوية للعقد لمن حصل أصله، وحظ من التأكيد لمن سلمه من أهله؛ ذلك الخارق المتواتر المعول عليه في الاستدلال لتحصيل اليقين هو القرآن وحده. والدليل على أنه معجزة خارقة للعادة وأن موحيه هو الله وحده وليس من اختراع البشر هو: أنه جاء على لسان أمي لم يتعلم الكتابة، ولم يمارس العلوم، وقد نزل على وتيرة واحدة.. هادياً للضال.. مقوماً للمعوج.. كافلاً بنظام عام لحياة من يهتدي به من الأمم.. منقذاً لهم من خسران كانوا فيه وهلاك أشرفوا عليه، وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه؛ حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف. مع أن التحدي كان تحدياً صارخاً لأعظم بلغاء عرفهم تاريخ العرب وهم قريش، مع ذلك ما يعرف عن رجل منهم أنه استجاب لهذا التحدي، إنما لجئوا إلى المجالدة والقتال بالسيف، لكن هل عرف عن أحد منهم أنه استجاب لهذا التحدي؟! لا. يقول: فعجزوا والآية تتحداهم، وهل تحدي أقوى من أن يقول الله لهم: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]؟ وهذه الآية من أعظم إعجاز القرآن الكريم حيث قال: (( فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ))، فقطع بأنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم! وهو مع ذلك من بلاغة الأسلوب على ما لم يرتق إليه كلام سواه؛ حتى لقد دعي الفصحاء والبلغاء أن يعارضوه بشيء من مثله فعجزوا ولجئوا إلى المجالدة بالسيوف، وسفك الدماء، واضطهاد المؤمنين؛ إلى أن ألجئوهم إلى الدفاع عن حقهم، وكان من أمرهم ما كان من انتصار الحق على الباطل وظهور شمس الإسلام تمد عالمها بأضوائها، وتنشر أنوارها في جنباتها. وهذا الخارق قد دعا الناس إلى النظر فيه بعقولهم، وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، وقال تعالى: وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس:38]. يقول: وطولبوا بأن يأتوا في نظرهم على آخر ما تنتهي إليه قوتهم، فإما وجدوا طريقاً لإبطال إعجازه أو كونه لا يصح دليلاً على المدعى، فعليهم أن يأتوا به، قال تعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [البقرة:23-24]، وقال تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82]. فالقرآن يطالبهم بمقاومة الحجة بالحجة، ولم يطالبهم بمجرد التسليم على الرغم من العقل، فالإسلام ما طالب الناس أن يدخلوا فيه بالإكراه وبالإرغام وبالإجبار، وإنما أمرهم بإعمال العقل، وأن يستعملوا العقل الذي ميزهم الله به عن العجماوات، حتى يهتدوا به إلى إعجاز هذا القرآن الكريم. يقول: معجزة القرآن جامع من القول العلم، وكل منهما مما يتناوله العقل بالفهم، فهي معجزة عرضت على العقل وعرفته القاضي فيها، وأطلقت له حق النظر في أحنائها، ونشر ما انطوى في أثنائها، وله منها خطة الذي لا ينتقص؛ وله أن يأخذ حقه الذي لا ينتقص من التدبر في القرآن الكريم، فهي معجزة أعجزت كل قوم أن يأتوا بمثلها، ولكنها دعت كل قدرة أن تتناول ما تشاء منها. أما معجزة موت حي بلا سبب معروف للموت، أو حياة ميت، أو إخراج شيطان من جن، أو شفاء علة من بدن؛ فهي مما ينقطع عنده العقل، ويجمد لديه الفهم. هذا الفارق بين معجزة القرآن ومعجزات من سبق من الأنبياء؛ كإحياء الموتى مثلاً بالنسبة لعيسى عليه السلام، هل معجزة إحياء الموتى أو معجزة العصا من الأشياء التي يفسح فيها المجال للعقل لكي يتفكر ويتعقل كيف حصلت؟ لا، لأنها خرق للأسباب العادية، فهذا هو المقصود من قوله: فهي مما ينقطع عنده العقل ويجمد لديه الفهم. وإنما يأتي بها الله سبحانه وتعالى على يد رسله لإسكات أقوام غلبهم الوهم، ولم تضئ عقولهم بنور العلم، وهكذا يؤتي الله بقدرته الآيات للأمم على حسب الاستعدادات. يقول: وقال فاضل آخر: قضت رحمة الله جل شأنه أن تكون الأكوان في الطبيعة على ترتيب محكم، يبسط بلسان الصمت للمتبصر، ويظهر بلباس الوضوح للمتفكر، ويحبب إليهم انتقال منه إلى غيره بدون أن يشعر بملل ولا سآمة، ولا يئوب من استبطائه بنجاح، بدون هذا الاعتبار للعقل لا يأتي للنفس أن تصح عقيدتها، ولا يتأتى لها تبعاً لذلك أن تسكن من اضطرابها، هذا ولا ننكر أنه قد مضى على النوع الإنساني زمن كان فيه العقل في دور الطفولية، وكان الله سبحانه وتعالى يرأف بعباده فيرسل إليهم رسلاً يمتعهم بخصائص تعجز عن الإحاطة بها عقولهم، وتندهش لها ألبابهم، فيستدلون بهذه المعجزات على صدق الرسول وضرورة اتباعه. وأما الآن حيث بلغ العقل أشده، والنوع الإنساني رشده؛ فلا تجدي فيه معجزة، ولا تنفع فيه غريبة؛ لأن الشكوك قد كثرت مع كثرة المواد العلمية، فإن حدث حادث من هذا القبيل رموا فاعله بالتدليس أولاً، ثم إذا ظهر لهم برآته منه صاروا يعللون معجزته بكل أنواع التعليلات! ومحمد عبده له موقف فيه ملاحظات كثيرة بالنسبة لقضية المعجزات، وهذا الكلام في الحقيقة لا يخفى أن فيه ما يرد؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام له معجزات حسية، وكان القرآن قطعاً أكبر معجزة، لكن هل اقتصر الله سبحانه وتعالى في تأييد نبيه محمد عليه الصلاة والسلام على معجزة القرآن فقط؟ لا! نعم هو معجزة المعجزات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أيد بمعجزات أخرى؛ كنبع الماء من بين أصابع يده الشريفة عليه الصلاة والسلام والإسراء والمعراج وغير ذلك والمعجزات كثيرة جداً. فالكلام السابق يشم منه رائحة كلام من مدرسة محمد عبده الغير مرضي في قضية المعجزات. ومن الكلام الذي لا نقبله قوله: مما يدل على أن هذه القرون الأخيرة لا تجوز فيها مسائل المعجزات تكذيب علماء أوروبا لكل المعجزات السابقة، وهو وإن كان تهوراً منهم إلا أنهم مصيبون في قولهم: إننا في زمان لا ينشئ فيه الاعتقاد إلا النور العقلي والدليل العلمي. هذا الكلام فيه نظر! فلا زالت المعجزة وخرق العادة دليلاً واضحاً جداً على أن هذا الإنسان مؤيد من عند الله سبحانه وتعالى. الفارق فقط أنه لم توجد في زمننا معجزة خارقة للعادة كمعجزات الأنبياء؛ لأن رسولنا صلى الله عليه وسلم قد قبض عليه الصلاة والسلام وذهب إلى الرفيق الأعلى، وترك معجزاته الحسية خبراً يخبر به. أما المعجزة الحية التي هي متجددة وقائمة فهي لا شك القرآن الكريم، لكن هذا لا ينفي الإعجاز بما عدا القرآن الكريم من المعجزات بأنواعها. يقول: لهذه الأسباب جاءت الشريعة الإسلامية تدعو إلى السبيل الحق بأعمال العقل واتباع قواعد العلم بصرف النظر عن المعجزات وإظهار المدهشات. وهذا الكلام أيضاً غير صحيح، وأنا أعجب كيف أن القاسمي مع سلفيته الواضحة جداً يتورط في موافقة مدرسة محمد عبده في مثل هذه الأشياء؟! يقول: لعلم الله سبحانه وتعالى بأنه سيأتي زمان تؤثر فيه المقررات العلمية على القوة العقلية ما لا تؤثر عليها الخوارق للنواميس الطبيعية. انتهى.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |