خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/337"> الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/337?sub=60519"> سلسلة تفسير القرآن الكريم.
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة طه [66-79]
الحلقة مفرغة
قال تعالى: قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى [طه:66]. هذا يدل على نوع السحر الذي جاء به سحرة فرعون، وأنه سحر تخييلي وليس سحراً حقيقياً، فقد سحروا أعين الناس؛ لأن السحر إما أن يؤثر في الرائي، وإما أن يؤثر في المرئي، فالسحر قد يحصل في العين نفسها، فالعين ترى حصول الشيء وهو لم يحصل، أو ربما يحصل في الشيء الذي هو مرئي. قال الشنقيطي : هذه الآية الكريمة تدل على أن السحر الذي جاء به سحرة فرعون كان سحر تخييل لا حقيقة له في نفس الأمر، وهذا الذي دلت عليه آية طه هذه، دلت عليه آية الأعراف، وهي قوله تعالى: فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف:116]، وهذا يدل على أنهم خيلوا لأعين الناظرين أمراً لا حقيقة له، وبهاتين الآيتين احتجت المعتزلة ومن قال بقولهم على أن السحر خيال لا حقيقة له، فالمعتزلة ينكرون حقيقة السحر. والتحقيق الذي عليه جماهير العلماء من المسلمين أن السحر منه ما هو أمر له حقيقة لا مطلق تخييل، ومما يدل على أن منه ما له حقيقة قوله تبارك وتعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ [البقرة:102]، فهذه الآية تدل على أنه شيء موجود له حقيقة تكون سبباً بالتفريق بين الرجل وامرأته، وقد عبر الله عنه بما الموصولة، وهي تدل على أنه شيء له وجود حقيقي، ومما يدل على ذلك أيضاً قوله تعالى: وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ [الفلق:4] يعني: السواحر اللاتي يعقدن في سحرهن وينفثن في عقدهن، فلولا أن السحر له حقيقة لم يأمر الله بالاستعاذة منه. إذاً: لا يوجد تعارض بين الآيات التي تدل على أن السحر له حقيقة، وبين الآيات الدالة على أنه خيال، بل يجمع بينهما بأن من السحر ما هو تخييل كما أخبر عن سحرة فرعون، ومنه ما هو حقيقة كما ذكرنا. فإن قيل: قوله في طه: (( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ ))، وقوله في الأعراف: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ [الأعراف:116]، الدالان على أن سحر سحرة فرعون خيال لا حقيقة له، يعارضهما قوله في الأعراف: وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ [الأعراف:116]؛ لأن وصف سحرهم بالعظم يدل على أنه غير خيال، فالذي يظهر في الجواب -والله تعالى أعلم- أنهم أخذوا كثيراً من الحبال والعصي، وخيلوا بسحرهم لأعين الناس أن الحبال والعصي تسعى، وهي كثيرة، فظن الناظرون أن الأرض ملئت بحيات تسعى؛ لكثرة ما ألقوا من الحبال والعصي، فخافوا من كثرتها، وبتخييل سعي ذلك العدد الكثير وصف سحرهم بالعظمة، وهذا ظاهر لا إشكال فيه. وقد قال غير واحد: إنهم جعلوا الزئبق على الحبال والعصي، فلما أصابها حر الشمس تحرك الزئبق فحرك الحبال والعصي، فخيل للناظرين أنها تسعى. وعن ابن عباس : أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحراً، مع كل ساحر منهم حبال وعصي، وقيل: كانوا أربعمائة، وقيل: كانوا اثني عشر ألفاً، وقيل: أربعة عشر ألفاً، وقال ابن المنكدر : كانوا ثمانين ألفاً، وقيل: كانوا مجمعين على رئيس يقال له: شمعون ، وقيل: كان اسمه يوحنا معه اثنا عشر نقيباً، مع كل نقيب عشرون عريفاً، مع كل عريف ألف ساحر، وقيل: كانوا ثلاثمائة ألف ساحر من الفيوم، وثلاثمائة ألف ساحر من الصعيد، وثلاثمائة ألف ساحر من الريف، فصاروا تسعمائة ألف، وكان رئيسهم أعمى. وهذه الأقوال كلها من الإسرائيليات، ونحن نتجنبها دائماً، ونقلل من ذكرها، وربما ذكرنا قليلاً منها منبهين عليه.
تكلم الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى [طه:69]، ببحث طويل كثير النفع في حوالى اثنتين وثلاثين صفحة، ونحن سوف نمر على رءوس الكلام بحيث يعلم عموم معنى كلامه، ومن أراد التوسع فليرجع إلى كتابه المبارك (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن). قوله: (( لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى )) هذه الصيغة للعموم؛ لأن الفعل في سياق النفي من صيغ العموم كما هنا: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى فهو أيضاً من صيغ العموم. قال الشنقيطي : فقوله تعالى: (( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ )) نفي يعم جميع أنواع الفلاح عن الساحر، وأكد ذلك بالتعميم في الأمكنة بقوله: (( حَيْثُ أَتَى ))، وذلك دليل على كفره؛ لأن الفلاح لا ينفى بالكلية نفياً عاماً إلا عمن لا خير فيه وهو الكافر، ويدل على ما ذكرنا أمران: الأول: هو ما جاء من الآيات الدالة على أن الساحر كافر، كقوله تعالى: وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ [البقرة:102]. فقوله تعالى: (( وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ )) يدل على أنه لو كان ساحراً -وحاشاه من ذلك- لكان كافراً. وقوله: (( وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ )) صريح في كفر معلم السحر، وقوله تعالى عن هاروت وماروت مقرراً له: وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ [البقرة:102] -يعني: (( فَلا تَكْفُرْ )) بتعلم السحر- وقوله تعالى: وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ [البقرة:102]. فقوله تعالى: (( وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنْ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ )) أي: من نصيب، ونفي النصيب في الآخرة بالكلية لا يكون إلا للكافر عياذاً بالله تعالى، وهذه الآيات أدلة واضحة على أن من السحر ما هو كفر بواح، وذلك مما لا شك فيه. الأمر الثاني: أنه عرف باستقراء القرآن الكريم أن الغالب فيه أن لفظة: (لا يفلح) يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة يونس: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا [يونس:68] يعني: ما عندكم دليل على هذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمْ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:68-70]. فهذا يدل على أن نفي الفلاح كان عن الكافر. وقوله تعالى في سورة يونس أيضاً: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ [يونس:17]، فنفى الفلاح عن الكافرين أيضاً. وقال في الأنعام: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]. ويفهم من مفهوم مخالفة الآيات المذكورة: أن من جانب تلك الصفات التي استوجبت نفي الفلاح عن السحرة والكفرة فإنه ينال الفلاح، وهو كذلك، فالذي ينال الفلاح هو المؤمن الذي يتجنب هذه الأفعال وهذه الصفات التي اتصف بها السحرة والكافرون، كقوله تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5]، وقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [المؤمنون:1]، والآيات بمثل ذلك كثيرة. وقوله تعالى: (( وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ )) مضارع أفلح بمعنى: نال الفلاح، والفلاح يطلق في العربية على الفوز بالمطلوب، ومنه قول لبيد : فاعقلي إن كنت لما تعقلي ولقد أفلح من كان عقل فقوله: (ولقد أفلح من كان عقل) يعني أن من رزقه الله العقل فاز بأكبر المطلوب. ويطلق الفلاح أيضاً على البقاء والدوام في النعيم، ومنه قول لبيد : لو أن حياً مدرك الفلاح لناله ملاعب الرماح فقوله: (مدرك الفلاح) يعني: البقاء، وبكل واحد من المعنيين فسر بعض أهل العلم: (حي على الفلاح) في الأذان والإقامة، فحي على الفلاح تحتمل معنيين: إما الفوز بالمطلوب، أي: هلموا إلى الصلاة لتفوزوا بمطلوبكم، أو البقاء والدوام لنعيم الجنة. (( حَيْثُ أَتَى )) حيث كلمة تدل على المكان، كما تدل حين على الزمان، وربما ضمّنت معنى الشرط، وقوله تعالى: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى أي: حيث توجه وسلك.
مسائل تتعلق بقوله تعالى: (ولا يفلح الساحر حيث أتى )
ذكر الشنقيطي مسائل تتعلق بهذه الآية الكريمة: المسألة الأولى: اعلم أن السحر يطلق في اللغة على كل شيء خفي سببه، ولطف ودق، ولذلك تقول العرب في الشيء الشديد الخفاء: أخفى من السحر. المسألة الثانية: اعلم أن الفخر الرازي قسم السحر إلى ثمانية أنواع: النوع الأول: سحر الكلدانيين والكسدائيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها تصدر الخيرات والشرور والسعادة والنحوسة، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عليه السلام مبطلاً لمقالتهم، وراداً عليهم. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ومعلوم بأن هذا النوع من السحر كفر بلا خلاف؛ لأنهم كانوا يتقربون فيه إلى الكواكب كما يتقرب المسلمون إلى الله، ويرجون الخير من الكواكب، ويخافون الشر من قبلها، كما يرجو المسلمون ربهم ويخافونه، فهم كفرة يتقربون إلى الكواكب في سحرهم بالكفر البواح. النوع الثاني من السحر: سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية، وفصل في ذلك. النوع الثالث: من أنواع السحر: الاستعانة بالأرواح. النوع الرابع من أنواع السحر: التخيلات والأخذ بالعيون. النوع الخامس: الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب الآلات المركبة على النسب الهندسية كفارس على فرس في يده بوق، كلما مضت ساعة من النهار ضربت بالبوق من غير أن يمسه أحد! ومنها: الصور التي يصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان، حتى أنهم يصورونها ضاحكة وباكية، حتى يفرق فيها بين ضحك السرور، وبين ضحك الخجل، وضحك الشامت، فهذه الوجوه من لطيف أمور المخايل. قال ابن كثير بعد ذكر كلام الرازي : ومن هذا القبيل حيل النصارى. يعني: من أنواع السحر الذي يكون فيه نوع من الحيل وخفة اليد ونحو هؤلاء الناس أصحاب الألاعيب، وليس له في الحقيقة واقع، والرازي يرى أن سحر سحرة فرعون هو من هذا النوع الذي هو تخييل (( يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ))؛ لأن السحرة جعلوا الزئبق على الحبال والعصي، فألقوه في وقت الضحى، فجاءت الشمس على هذا الزئبق وتمدد، فبالتالي الزئبق حرك هذه العصي وظنوا أنها حركة طبيعية. يقول ابن كثير : ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار، يعني: النصارى -أضلهم الله- خبراء في هذا الدجل، وهذا النوع من الدجل هو أقصى ما يستطيعون أن يموهوا به على أتباعهم ممن أظلم الله قلوبهم بالشرك والتثليث؛ لأنهم لا عقول لهم، فإنهم يسهل جداً أن يؤسروا بمثل هذه الأشياء التي نذكرها، وكنت قرأت يوماً وأنا عابر شعاراً يتعلق بالتمثال المزعوم لـمريم عليها السلام، ويقولون: هناك حركات معينة تلتمس من هذا التمثال! وقد تعودنا على سماع هذا الكلام، وهم لا يملكون إلا هذا الدجل، وليس هناك ما يؤيدون به باطلهم سوى الدجل، وهذه الألاعيب، فالقوم لهم خبرة عريقة في مجال الدجل والخداع وأسر الجهلة بمثل هذا الكلام. يقول ابن كثير : ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببيت المقدس. وهكذا ابن كثير وغيره من العلماء إذا ذكروا كنيسة القيامة يسمونها كنيسة القمامة، استهزاء بها؛ أولاً: لأننا لا نعترف بما يسمونه قيامة؛ لأن معنى كلامهم أن المسيح -والعياذ بالله كما كذبوا- صلب، ودفن ثلاثة أيام، ثم قام من بين الأموات في هذا اليوم الثالث وصعد إلى السماء، فهذا لا شك أنه تكذيب بالقرآن الكريم، وكفر بواح صراح، فـالمسيح عليه السلام رفع، ولم يتمكن منه اليهود لعنهم الله، وإنما رفع إلى السماء، والنصارى عندهم كنيسة يسمونها (القيامة) ويحتفلون بالعيد فيها. ويحصل ممن ينتسبون إلى الإسلام وهم غارقون في الجهل ومنافاة التوحيد، أن بعضهم يهنئ النصارى بعيد المسيح (المجيد)، وهذا قد يخرج من الإسلام والملة إذا كان معتقداً لذلك، فمعناها أنه يكذب القرآن، وهم يقيمون هذا العيد في كنيسة القيامة، ويبدو أن النصارى سموها بهذا الاسم للتعظيم، وزرع الهيبة في النفوس لباطلهم. وفي هذه الكنيسة التي في بيت المقدس يحتالون في إدخال النار خفية إليها، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطغام منهم، وأما الخواص فهم يعرفون أنها حيلة من حيلهم التي يستعينون بها، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغًا لهم! وقد حصل منذ سنوات خرافات منها: الزعم أن مريم عليها السلام ظهرت في كنيسة الزيتون في القاهرة، ووقعت ضجة كبيرة في هذا الأمر، حتى فتن بهذا الأمر الكثير من الطغام من المسلمين الجهال... إلى آخر هذا الدجل. فالنصارى لهم خبرة عظيمة جداً في هذا المجال، والآن بواسطة التكنولوجيا الحديثة سهل جداً إيهام الناس أن نوراً يظهر وسط الظلام، ولكن هل مريم عليها السلام تظهر لهؤلاء المشركين الذين يعبدونها من دون الله، والذين يشتمون ويسبون الله؟! إن الشياطين تتلاعب بعقولهم، فخوارق العادات بحد ذاتها لا تدل على إيمان أو صلاح، وخوارق العادات لا تدل على أن هذا هو حق، وإلا كان سحرة الهند وأصحاب حركات الخفة على حق. خوارق العادات لابد فيها من شرطين: أولاً: أن تكون غير مخالفة للشرع. ثانياً: أن ينظر في سيرة الرجل الذي كانت له هذه الخوارق، فإن كان رجلاً صالحاً مستقيماً على السنة، وعلى الشرع، مجانباً للكبائر والمعاصي، وكانت الكرامة لا تتنافى مع الشريعة، ففي هذه الحالة نسميها كرامة. أما خرق العادة في حد ذاته فقد يحصل بأسباب كثيرة، منها: السحر والتخييل، ونحو هذه الأشياء التي يفعلها صاحب خفة اليد. وأما النصارى، فحتى لو حصلت لهم هذه، وفعلوا ما فعلوا، فمجرد أن الإنسان يجوز أن يكون دينهم مرضياً عنه أو فيه شيء من الحق؛ فإنه يخرج من الإسلام، ومن ذلك أن يجوز أن مريم موالية لهؤلاء المشركين الذين يعبدونها، ويعبدون المسيح من دون الله. فهل مريم عليها السلام تكون مع هؤلاء أو تؤيدهم؟! هذا مستحيل. فالشاهد: أن هذه الأشياء لا يضحك بها إلا على بسطاء العقول. يقول: وأما الخواص منهم فمعترفون بذلك، ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم، فيرون ذلك سائغاً لهم، وفيهم شبه من الجهلة الأغبياء من متعبدي الكرامية الذين يرون جواز وضع الأحاديث في الترغيب والترهيب، فيدخلون في عداد من قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم: (من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (حدثوا عني ولا تكذبوا عَلَيّ؛ فإنه من يكذب عليّ يلج النار). ثم ذكر الرازي حكاية عن بعض الرهبان، وهي: أنه سمع صوت طائر حزين الصوت، ضعيف الحركة، فإذا سمعته الطيور ترق له، فتذهب في وكره من ثمر الزيتون، ليتبلغ به، فعمد هذا الراهب إلى صنعة طائر على شكله، وتوصل إلى أن جعله أجوف، فإذا دخلته الريح يسمع منه صوت كصوت ذلك الطائر، وانقطع في صومعة ابتناها، وزعم أنها على قبر بعض صالحيهم، وعلق ذلك الطائر في مكان منها، فإذا كان زمان الزيتون فتح بابًا من ناحيته، فتدخل الريح إلى داخل هذه الصورة، فسمع صوتها كل طائر في شكله أيضًا، فتأتي الطيور فتحمل من الزيتون شيئًا كثيرًا، فلا ترى النصارى إلا ذلك الزيتون في هذه الصومعة، ولا يدرون ما سببه؟ يعني: النصارى يرون ذلك منه وهو في الصومعة، فهو عمل هذه الحيلة كي يأتي بهم، فيرون الزيتون، فيعتبرون أن هذا من كراماته على الله؛ ففتنهم بذلك، وأوهم أن هذا من كرامات صاحب ذلك القبر، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى. من ذلك أيضاً: أن بعضهم كان يعمل تمثالاً ويعمل فيه تجويف؛ بحيث إنه في وقت معين يوهم الناس أن التمثال يدر لبناً في وقت معين، وقد جعل أنبوباً موصلاً، ويصب اللبن من فوق وينزل، ويوهم الناس أنه يدر لبناً! وهذه الأشياء لا تزلزل قلب المؤمن أبداً؛ لأن الإنسان دائماً عندما يذكر خوارق العادات عليه أن يتذكر المسيح الدجال ، ويقارن ما يفعله هؤلاء بما سيفعله المسيح الدجال ، فهل يساوون شيئاً بالنسبة لما سيفعله المسيح الدجال ؟! لا، فهو سيفعل أشياء مذهلة، ويدعي الألوهية، ويفتن الناس بهذه الخوارق وهذه الأفعال، فهل هذا دليل على أنه على حق؟! الجواب: لا، إذاً: هؤلاء الناس سيسهل على المسيح الدجال أن يقنعهم، ولا شك أن هذا منهج غير صحيح في البحث عن الحق، فالبحث عن الحق لا يكون عن طريق هذه الأشياء. ثم قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وعلوم الشر كثيرة، وقصدنا بذكر ما ذكرنا منها التنبيه على خستها وقبحها شرعاً، وأن منها ما هو كفر بواح، ومنها ما يؤدي إلى كفر، وأقل درجاتها التحريم الشديد. المسألة الثالثة: اختلف العلماء فيمن يتعلم السحر ويستعمله، فقال بعضهم: إنه يكفر بذلك، وهو قول جمهور العلماء، منهم: مالك وأبو حنيفة وأصحاب أحمد وغيرهم، وعن أحمد ما يقتضي عدم كفره، وعن الشافعي : أنه إذا تعلم السحر قيل له: صف لنا سحرك؛ فإن وصف ما يستوجب الكفر مثل سحر أهل بابل من التقرب للكواكب، وأنها تفعل ما يطلب منها؛ فهو كافر، وإن كان لا يوجب الكفر، واعتقد إباحته فهو كافر أيضاً وإلا فلا، وأقوال أهل العلم في ذلك كثيرة معروفة. قال الشنقيطي : التحقيق في هذه المسألة هو التفصيل: فإن كان السحر مما يعظم فيه غير الله كالكواكب والجن وغير ذلك مما يؤدي إلى الكفر؛ فهو كفر بلا نزاع، وإن كان السحر لا يقتضي الكفر كالاستعانة بخواص بعض الأشياء من دهانات وغيرها فهو حرام حرمة شديدة، ولكنه لا يبلغ بصاحبه الكفر.
قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تبارك وتعالى: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى [طه:70]: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن سحرة فرعون لما عاينوا عصا موسى تبتلع جميع حبالهم وعصيهم خروا سجداً لله تبارك وتعالى قائلين: آمنا بالله الذي هو رب هارون وموسى، فهداهم الله بذلك البرهان الإلهي هذه الهداية العظيمة، وقد أوضح تعالى هذا المعنى في مواضع أخر، كقوله في الأعراف: وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ [الأعراف:117] إلى قوله: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:120-122]. قال الله تبارك وتعالى: (( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً )) يدل على قوة البرهان الذي عاينوه؛ لأن هذه الحجة كانت حجة في غاية القوة، وكأنهم أمسكهم إنسان وألقاهم ساجدين بالقوة لعظم المعجزة التي عاينوها، فلشدة تأثرهم بهذه المعجزة كأن هناك من أمسكهم بغاية القوة وألقاهم بحيث يسقطون ساجدين من شدة وعظم المعجزة التي عاينوها! وذكر في قصتهم أنهم عاينوا منازلهم في الجنة في سجودهم، والظاهر أن هذا من الإسرائيليات. وأطلق عليهم اسم السحرة في حال سجودهم لله مؤمنين به نظراً إلى حالهم الماضية، فقوله: (( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً )). فهم في هذه اللحظة كانوا مؤمنين، ولم يعودوا ساحرين كافرين، لكن أطلق عليهم اسم السحرة باعتبار حالهم الماضية، كقوله تعالى: وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ [النساء:2]، فهل اليتامى يؤتون المال وهم يتامى قبل أن يبلغوا؟ لا، بل لا يدفع إليهم مالهم حتى يبلغوا سن الرشد بعد بلوغهم النكاح فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، لكن عبر عنهم باليتامى باعتبار حالهم الماضية. واعلم أن علم السحر مع خسته، وأن الله صرح بأنه يضر ولا ينفع، قد كان سبباً لإيمان سحرة فرعون؛ لأنهم لمعرفتهم بالسحر عرفوا معجزة العصا، وأنها خارجة عن طور السحر، وأنها أمر إلهي؛ فلم يداخلهم شك في ذلك. وهذه سنة الله سبحانه وتعالى في نوع المعجزة التي يؤيد بها أنبياءه، أنها تكون من جنس الشيء الذي يتميزون به، كما أيد عيسى عليه السلام بكثير من المعجزات الطبية؛ لأنه كان في عصر تفوق أهله في علم الطب جداً، وكذلك أيد سليمان عليه السلام بالقصور والملك الكبير؛ لأنه كان يتعامل مع اليهود الماديين، وكذلك لما دعا بلقيس أظهر لها ما يدهشها ويذهلها. كذلك النبي صلى الله عليه وسلم كان له أعظم معجزة على الإطلاق، وهي القرآن الكريم؛ لأن العرب كانوا في قمة البلاغة في ذلك الوقت، ولذلك أتى بمعجزة من جنس العلم الذي تفوقوا فيه، وهكذا. إذاً هؤلاء السحرة كانوا بارعين جداً في السحر، وفرعون بلا شك قد انتقى أكثرهم تفوقاً في علم السحر: يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف:112]، فحذقهم في هذا السحر هي التي جعلتهم يؤمنون أن هذا من عند الله سبحانه وتعالى، وأنها أمر إلهي، ولم يشكوا في ذلك، فكان ذلك سبباً لإيمانهم الراسخ الذي لا يزعزعه الوعيد والتهديد. فانظر كم كان عمر إيمانهم؟ ثواني معدودة، ومع ذلك انظر كيف صمدوا أمام فرعون هذا الصمود: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72]، ولو كانوا غير عالمين بالسحر، لأمكن أن يظنوا أن العصا من جنس الشعوذة والعلم عند الله تعالى.
قال تعالى: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [طه:71]، لما آمن السحرة بالله عز وجل قال لهم فرعون منكراً عليهم: (( آمَنْتُمْ لَهُ )) أي: صدقتموه بأنه نبي مرسل من الله وآمنتم له قبل أن آذن لكم؟ يعني: أنهم لم يكفوا عن الإيمان حتى يأذن لهم؛ لأنه يزعم أنه لا يحق لهم أن يفعلوا شيئاً إلا بعد إذنه لهم. فانظر إلى الأعجب من ذلك! فرعون بعدما كان يمني السحرة ويعدهم، ويقول لهم: وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:42]، ويكون لكم الحظ، فإذا به يتهم موسى عليه السلام بأنه كبير السحرة، وبأنه أستاذهم الذي علمهم السحر، ثم هددهم مقسماً على أنه سيقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف، اليد اليمنى والرجل اليسرى مثلاً، وهذا أشد على الإنسان من قطعهما من جهة واحدة؛ لأن قطعهما من جهة واحدة يبقى معه شق كامل صحيح بخلاف قطعهما من خلاف، فالجنب الأيمن يضعف بقطع اليد، والأيسر يضعف بقطع الرجل كما هو معلوم، وكذلك يصلبهم في جذوع النخل، وجذع النخل هو أخشن جذع من جذوع الشجر، والتصليب عليه أشد من التصليب على غيره من الجذوع كما هو معروف. وقد بين هذا قوله تبارك وتعالى: قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [الشعراء:49]، وقال تعالى في سورة الأعراف: قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ [الأعراف:123-124]، فقوله هنا في سورة طه: وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، هو المراد بقوله: (( لأصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ )). يعني: آية الأعراف بينت آية طه. وقوله: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى [طه:71]. (( وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا ))، أنا أم رب موسى (( أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى )). إذاً: فرعون كان يدعي أن عذابه أشد وأبقى من عذاب الله، وهذا أيضاً كقوله: قال أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقوله: لَئِنْ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنْ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]. وقال بعضهم: (( وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا )) يعني: أنا أم موسى أشد عذاباً وأبقى، وعلى هذا فهو يتهكم بموسى؛ لأن موسى يعتقد أنه قطعاً لن يكون أقوى منه، وأنه ضعيف بالنسبة إليه، فهذا التهكم بموسى عليه السلام لاستضعافه له، وأنه يقدر على أن يعذب من لم يطعه، كقوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، والله جل وعلا أعلم. قال الشنقيطي : واعلم أن العلماء اختلفوا: هل فعل فيهم فرعون ما توعدهم به أو لم يفعله بهم؟ فقال قوم: قتلهم وصلبهم، وقوم أنكروا ذلك، وأظهرهما عندي أنه لم يقتلهم، وأن الله عصمهم منه لأجل إيمانهم الراسخ بالله تعالى؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول لـموسى وهارون: أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص:35]، والعلم عند الله تعالى. إذاً: هذا هو الشيء الوحيد الذي استند إليه العلامة الشنقيطي في هذا الترجيح؛ لأن الله قال: أَنْتُمَا وَمَنْ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ [القصص:35]، فعموماً هذا الوعد من الله عز وجل يقتضي أنهم غالبون، وأن فرعون لن يقتلهم ولن يصلبهم كما توعدهم. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (( فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً )) أي: فألقى موسى عصاه فتلقفت ما صنعوا؛ فألقي السحرة سجداً لما تيقنوا أن ذلك ليس من باب السحر، وإنما هي آية ربانية و(( قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى )) فقال فرعون: آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ [طه:71] أي: فاتفقتم معه ليكون لكم الملك، فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [طه:71] أي: من جانبين متخالفين، وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] أي: التي هي أقوى الأخشاب وأخشنها وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى [طه:71] يعني: أنكم إنما آمنتم برب موسى خوفاً من شدة عذابه أو من تخليده في العذاب وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى فإن رب موسى لم يقطع من أحد يده ورجله من خلاف، ولم يصلبه في جذوع النخل، ولم يبقه مصلوباً، قاله المهايمي : وضعفه الزمخشري ؛ لأن فرعون يريد نفسه وموسى عليه السلام، بدليل قوله: (( آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ )) أي: لموسى، واللام مع الإيمان في كتاب الله لغير الله تعالى. إذاً: قوله تعالى: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ، فيها قولان: القول الأول: أنا أم رب هارون وموسى (( أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى )). القول الثاني: (( َلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا )) أنا أم موسى (( أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ))، والراجح القول الثاني لقوله: (( قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ))، يقول: إن اللام مع الإيمان في كتاب الله تعالى لغير الله تعالى، يعني إذا استقرأنا القرآن الكريم لوجدنا أن فعل الإيمان حينما يتعدى باللام يكون في حق غير الله عز وجل، كما في قول إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ [يوسف:17]، وكذلك هنا: آمَنْتُمْ لَهُ [الشعراء:49] يعني: صدقتم موسى عليه السلام، وقال تبارك وتعالى في حق النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ [التوبة:61]؛ فمع الله عداها بالباء، أما مع المؤمنين فقال: (( يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ )). إذاً: تعدي فعل الإيمان باللام يكون في حق غير الله تعالى، فهذا الوجه هو الذي رجح به كون قول فرعون: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ، المقصود بـه: أنا أم موسى؛ لأن في السياق قبله مباشرة: (( آمَنْتُمْ لَهُ )) أي: بموسى عليه السلام، وقصده إظهار اقتداره وبطشه، وما جرى به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، وتوضيع موسى عليه السلام واستضعافه مع المسلمين؛ لأن موسى ما عذب أحداً ولا هدد أحداً بالتعذيب، فهو يريد أن يتهكم بموسى.
قال تعالى: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا [طه:72]. قال الشنقيطي : قوله: (( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ )) أي: لن نختار اتباعك وكوننا من حزبك وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات، كمعجزة العصا التي أتتنا وتيقنا صحتها. والواو في قوله: (( وَالَّذِي فَطَرَنَا )) عاطفة على (ما) من قوله: (( عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ )) أي: لن نختارك (على ما جاءنا من البينات)، ولا على (الذي فطرنا) أي: خلقنا وأبرزنا من العدم إلى الوجود. وقيل: هي واو القسم. يعني: والله الذي فطرنا؛ على أنها قسم، وقيل: هي واو القسم والمقسم عليه محذوف دل عليه ما قبله، أي: (( وَالَّذِي فَطَرَنَا )) لا نؤثرك على ما جاءنا من البينات. (( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ )) أي: اصنع ما أنت صانع فلسنا راجعين عما نحن عليه (( إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )) أي: إنما ينفذ أمرك فيها فقط، فتكون (هذه) منصوبة على الظرف على الأصح، أي: وليس فيها شيء يهم لسرعة زوالها وانقضائها. وما ذكره جل وعلا عنهم في هذا الموضع من ثباتهم على الإيمان، وعدم مبالاتهم بتهديد فرعون ووعيده؛ رغبة فيما عند الله سبحانه وتعالى، مذكور في غير هذا الموضع، كقوله في الشعراء عنهم في هذه القصة بعينها: قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ [الشعراء:50]، وقال في الأعراف: قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ * وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:125-126]. وقوله: (( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ )) عائد الصلة محذوف، أي: ما أنت قاضيه؛ لأنه مخفوض بالوصف (( إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ))، على أن الأقرب هو إعراب (هذه) على أنها ظرف، يعني: يمكن أن تقضي أو تحسم فقط علينا في الدنيا ولا سلطان لك على الآخرة.
قال تعالى: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73]. ذكر جل وعلا في هذه الآيات الكريمة أن فرعون لعنه الله لما قال للسحرة ما قال لما آمنوا قالوا له: (( إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا ))، يعنون ذنوبهم السالفة كالكفر وغيره من المعاصي (( وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ )) أي: ويغفر لنا ما أكرهتنا عليه من السحر، وهذا الذي ذكره عنهم أشار له في غير هذا الموضع، كقوله تعالى في الشعراء عنهم: إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:50-51]، وقال عنهم في الأعراف: رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ [الأعراف:126]. وفي آية طه هذه سؤال معروف، وهو أن يقال: قولهم: (( وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ )) يدل على أنه أكرههم عليه مع أنه دلت آيات أخر على أنهم فعلوه طائعين غير مكرهين، كقوله في طه: فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى * قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى* فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى [طه:62-64]، فقولهم: (( فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً )) صريح في أنهم غير مكرهين، وكذلك قوله عنهم في الشعراء حينما قالوا لفرعون: أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ [الشعراء:41-42]. سبحان الله! هؤلاء فعلوا ما فعلوا تقرباً إلى فرعون لينالوا القربة والزلفى من فرعون على ما هو عليه، قالوا لفرعون: (( أَئِنَّ لَنَا لأَجْراً )) مكافآت وجوائز (( إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ )) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ . وقوله في الأعراف: قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف:113-114]. إذاً: هذه الآيات تدل على أنهم كانوا غير مكرهين، فما الجواب عن هذا الإكراه المذكور في آية طه؟ قال: للعلماء عن هذا السؤال أجوبة معروفة: منها: أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم. يعني هو أكرههم على القدوم والحضور من كافة البلاد في مصر كي يحضروا هذه المواجهة، قال: فهو أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أكرهوا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم بالنسبة إلى أول الأمر، وطواعهم نسبة إلى آخر الأمر، فانفكت الجهة، وبذلك ينتفي التعارض، ويدل لهذا قوله: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء:36]، وفي الآية الأخرى: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الأعراف:111] يعني: كأن هناك قواتاً معينة ستذهب وتحضر السحرة، وتجندهم لكي ينفذوا أمر فرعون، فهذا دليل على أنهم لم يأتوا طوعاً، وإنما أرسل إليهم من يجتذبهم ويحضرهم إلى هذا الموعد. جواب آخر: قالوا: إنه كان يكرههم على تعليم أولادهم السحر في حال صغرهم، وأن ذلك هو مرادهم بإكراههم على السحر، ولا ينافي ذلك أنهم فعلوا ما فعلوا من السحر بعد تعلمهم وكبرهم طائعين. (( وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ )) يعني: أكرهتنا صغاراً، ثم تعلموا وتخرجوا بالسحر وبعد ذلك كانوا يمارسونه. جواب آخر: أنهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائماً، ففعل فوجدوا أن عصاه تحرسه، فقالوا: ما هذا بسحر الساحر؛ لأن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى إلا أن يعارضوه، وألزمهم بذلك، فلما لم يجدوا بداً من ذلك فعلوه طائعين، وأظهرها عندي الأول، والعلم عند الله تبارك وتعالى. إذاً: أظهر هذه الأجوبة هو الجواب الأول: أنه أكرههم على الشخوص من أماكنهم ليعارضوا موسى بسحرهم، فلما أجبروا على القدوم وأمروا بالسحر أتوه طائعين، فإكراههم هو بالنسبة إلى أول الأمر، وبالنسبة إلى آخر الأمر تنفك الجهة، وبذلك انتفى التعارض، ويدل لهذا قوله: وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الشعراء:36]، وقوله: وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ [الأعراف:111]. وظاهر قوله: (( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )) أن المعنى: والله خير من فرعون وأبقى منه؛ لأنه باق لا يزول، ولا يذل ولا يموت ولا يعدم كما يدل على ذلك قوله تعالى في سورة النحل: وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً [النحل:52] أي: دائماً لا ينقطع أبداً، وغيره من الملوك يذهب عنهم ملكه، إما أن يذهب هو عن ملكه، أو يذهب الملك عنه، وآيات الله كثيرة في ذلك. والله جل وعلا لا يزول ملكه أبداً، أما غيره من الملوك فإما أن يزول هو عن الملك أو يزول عنه الملك، وأكثر المفسرين على أن معنى قوله تعالى: (( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )) يعني: أن ثوابه خير مما وعدهم به فرعون في قوله قَالُوا إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ [الأعراف:113-114]، فردوا على هذا بقولهم: (( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )) وأبقى أي: أدوم؛ لأن ما وعدهم به فرعون زائل، وثواب الله باق، كما قال تعالى: مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ [النحل:96]، وقال تعالى: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [الأعلى:16-17]. وفسر بعض العلماء قوله: (( وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى )) خير ثواباً، وأبقى عذاباً من عذابك وأدوم منه؛ فهو الأجدر بأن نخافه، ونشفق منه، ونفر منه، وعليه فهو رد لقول فرعون: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى ، ومعنى أبقى: أكثر بقاء.
قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [طه:74]. ( إنه ) هذه هاء الأمر أو الشأن (( مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ )) يعني: يوم القيامة (( مُجْرِماً )) يعني: في حال كونه مجرماً، أي: مرتكباً للجريمة في الدنيا حتى مات على ذلك كالكافر عياذاً بالله تعالى (( فَإِنَّ لَهُ )) أي: عند الله ((جَهَنَّمَ )) يعذب فيها (( لا يَمُوتُ )) يعني: لا يموت فيستريح، ولا يحيا حياة فيها راحة؛ لأنه إذا مات يستريح، فيكون أعظم أمنية عندهم أن يموتوا، لكن الموت يذبح وينتهي، ويقال: خلود ولا موت، (( وَلا يَحْيَا )) حياة هنيئة، وإنما يحيا حياة العذاب والشقاء، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36]، وقال تعالى: وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم:15-17]، وقال تعالى: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56]، وقال تعالى: وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا [الأعلى:11-13]، وقال تعالى: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ [الزخرف:77]، فأعظم أمنية لأهل النار هي أن يموتوا، فيجيبهم مالك خازن النار فيقول لهم: (( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ )) لا أمل لكم في الخروج على الإطلاق (( إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ))، ونظير ذلك من كلام العرب قول عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أحد فقهاء المدينة السبعة: ألا من لنفس لا تموت فينقضـي شقاها ولا تحيا حياة لها طعم
قال تعالى: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا [طه:75]. (( وَمَنْ يَأْتِهِ )) يوم القيامة في حال كونه مؤمناً (( قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ )) أي: في الدنيا حتى مات على ذلك ((فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ)) أي: عند الله ((الدَّرَجَاتُ الْعُلا)) والعلا: جمع عليا، وهي تأنيث الأعلى، وورد هذا المعنى في قوله عز وجل أيضاً: وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً [الإسراء:21]، وقال: وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا [الأنعام:132]، ونحو ذلك من الآيات. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ )) أي: لن نختارك بالإيمان والاتباع ( على ما جاءنا ) أي: من الله على يد موسى (( مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا )) أي: وهذا الذي خلقنا، واختيار هذا الوقف للإشعار بعلة الحكم، فلم يقولوا مثلاً: قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وعلى ربنا، أو: وعلى الله، وإنما قالوا: (( وَالَّذِي فَطَرَنَا )) يعني: لن نؤثرك على الذي فطرك، فاختيار الوقف على أن الله الذي خلقهم وفطرهم للإشعار بعلة الحكم؛ فإن خالقيته تعالى لهم، وكون فرعون من جملة مخلوقاته، مما يوجب إيثارهم عليه سبحانه وتعالى، وهذا جواب منهم لتوبيخ فرعون بقوله: آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ [الأعراف:123]، فأجابوا بقولهم: (( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا )) يعني: هو الذي خلقنا، فهو أحق أن نؤمن به، أما أنت فلست سوى مخلوق مثلنا، فكيف نعبدك؟! وكيف نحتاج إلى إذنك قبل أن يدخل الإيمان قلوبنا؟! وقيل: إن قوله: (( وَالَّذِي فَطَرَنَا )) قسم محذوف الجواب، (( فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ )) أي: اصنع ما أنت صانع، وهذا جواب عن قوله لهم: لأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ [الأعراف:124]. (( إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا )) أي: تقضي في هذه الحياة الدنيا، وهي لا بقاء لها، ولا سلطان لك بعدها، وإنما نريد الآخرة: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى [طه:73] أي: خير وأبقى ثواباً، (( إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا )) يعني: فينقضي عذابه (ولا يحيا) أي: حياة طيبة. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا [طه:75] أي: المنازل الرفيعة بسبب إيمانهم وعملهم الصالح.
قال تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه:76] أي: تطهر من دنس الكفر والمعاصي بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة. ثم ذكر القاسمي رحمه الله تعالى بعض اللطائف فيقول: اللطيفة الأولى: في تخيير السحرة بين إلقاء موسى وإلقائهم قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى [طه:65] استعمال أدب حسن معه، فهم تأدبوا مع موسى عليه السلام، وفيه أيضاً تواضع له وخفض جناح، وربما ببركة هذا الأدب مع موسى هداهم الله سبحانه وشرح قلوبهم للإيمان، فتأدبوا معه مع ما كان تقتضيه الخصومة والمواجهة. وفيه تنبيه على إعطائهم النصفة من أنفسهم، وكأن الله عز وعلا ألهمهم ذلك، وعلَّم موسى صلوات الله عليه اختيار إلقائهم قَالَ بَلْ أَلْقُوا ، مع ما فيه من مقابلة أدب بأدب حينما قال: (( بَلْ أَلْقُوا ))، حتى يخرجوا ما معهم من مكايد السحر، ويستنفذوا أقصى مجهودهم، فإذا فعلوا أظهر الله سلطانه، وقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وقذف المعجزة على السحر فمحقه، وكانت آية نيرة للناظرين، وعبرة بينة للمعتبرين، وقبل ذلك تأدبوا معه بقولهم: فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ [طه:58]، ففوضوا ضرب الموعد إليه، وكما ألهم الله عز وجل موسى ها هنا أن يجعلهم مبتدئين بما معهم ليكون إلقاؤه العصا قذفاً بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق، كذلك ألهمه أن يجعل موعدهم يوم زينتهم وعيدهم ليكون الحق أبلج على رءوس الأشهاد، فيكون أفضح بكيدهم، وأهتك لستر حرمهم. اللطيفة الثانية: قوله تعالى: (( مَا فِي يَمِينِكَ ))، ما الحكمة من أن اللفظ الكريم آثر: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه:69]، ولم يقل: وألق عصاك تلقف ما صنعوا؟ المشهور قولان: القول الأول: أن هذا لتعظيم العصا. القول الثاني: أن هذا لتحقير العصا. الوجه الأول: أن يكون تعظيماً لها، والإبهام وهو يستعمل أحياناً للتعظيم أو للتحقيق، فالاحتمال الأول: أنه أريد بذلك تعظيم العصا وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ يعني: العصا العظيمة التي في يمينك، أي: لا تبالي بهذه الأجرام الكبيرة، وهذه العصي التي ألقوها وهي كثيرة وكبيرة، فإن ما في يمينك شيء أعظم منها كلها، وهذه على كثرتها أقل شيء، فألق ما في يمينك يتلقفها بإذن الله ويمحقها. الوجه الثاني: أن يكون تصغيراً لها: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ يعني: ألق هذا الشيء الحقير الذي في يمينك، وهو عصا صغيرة هي فرع من شجرة، أي: لا تبال بكثرة حبالهم وعصيهم وألق الشيء الصغير الذي في يمينك؛ فإنه بقدرة الله يتلقفها على وحدته وكثرتها وصغره وعظمها، وإنما المقصود بتحقيرها في جنب القدرة تحقير كيد السحرة بطريق الأولى، فتحقير العصا على هذا الوجه ليس تحقيراً لآيات الله سبحانه وتعالى، بل المقصود من ذلك تحقير كيد السحرة، فهذه العصا الهينة الصغيرة أبطلت هذا السحر العظيم الذي أتوا به؛ لأنها إذا كانت أعظم منة وهي حقيرة في جانب قدرة الله تعالى؛ فما الظن بكيدهم وقد تلقفته هذه الحقيرة الضئيلة؟ ففي الحقيقة يئول الأمر إلى تحقير السحر الذي أتوا به، وأنه سحر حقير إلى حد أن مثل هذه العصا الضئيلة بقدرة الله تلقفته وأبطلت كيدهم وسحرهم! ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، فقد كان علماء البلاغة والذين يتذوقون البلاغة حق التذوق لهم أساليب، فإذا أرادوا أن يمدحوا أنفسهم بعد الانتصار على العدو وجيشه فيظل يمدح أحدهم هذا الجيش وهو في الحقيقة يمدح نفسه أو يمدح جيشه، فإن كان هذا الجيش بهذه القوة وبهذه الإمكانات والعدة والعتاد، وفيه الشجعان وكذا وكذا، ثم هزم أمام جيشنا؛ فإن هذا يتضمن مدح جيشنا في الحقيقة، فهذا أسلوب من أساليب العرب. يقول: ولأصحاب البلاغة طريق في علو المدح بتعظيم جيش عدو الممدوح، ويلزم من ذلك تعظيم شيء ممدوح قهره واستولى عليه، فكسر الله أمر العصا ليلزم منه كيد السحرة الداحض بها في طرفة عين، فدحض السحرة بالعصا الصغيرة التي ذكرها الله هنا بقوله: (( مَا فِي يَمِينِكَ )) يعني: كأنه شيء ما يستحق أن يذكر لصغره، لكن مع صغرها دحضت سحرهم وأبطلته في طرفة عين، فكيف بكيد السحرة أنفسهم؟ لا شك أنه أحقر، لأنه هو الذي هزم. واعلم أنه لابد من نكتة تناسب الأمرين: التعظيم والتحقير، وتلك -والله تعالى أعلم- هي إرادة المذكور مبهماً؛ لأن ما في يمينك أبهم من عصاك، وللعرب مذهب في التنكير والإبهام والإجمال تسلكه مرة في تحقير شأن ما أخذته، وأنه عند الناطق به أهون من أن يذكره ويوضحه، ومرة لتعظيم شأنه، وليوهم أنه من عناية المتكلم والسامع بمكان، فيكفي فيه الرمز والإشارة، فهذا هو الوجه المناسب لهما جميعاً. ثم قال الناصر : وعندي في الآيات وجه سوى قصد التعظيم والتحقير والله تعالى أعلم، وهو: أن موسى عليه السلام أول ما علم أن العصا من الله تبارك وتعالى آية، وذلك عندما سأله عنها، وقد قال الله تعالى له في أول موقف علم فيه موسى أن العصا آية من آيات الله التي يؤيده بها: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17] ثم أظهر الله له تعالى آيتها. فلما دخل وقت الحاجة إلى ظهور الآية منها، قال تعالى: وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ يذكره بكلمة (يمينك)، ليتيقظ بهذه الصيغة للوقت الذي قال الله تعالى له: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ [طه:17]، وقد أظهر له آيتها فيكون ذلك تنبيهاً له وتأنيساً حيث خوطب بما عهد أن يخاطب به وقت ظهور آيتها، وذلك مقام يناسب التثبيت والتأنيس، ألا ترى إلى قوله تعالى: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى * وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ [طه:67-69] إذاً: هذا تأنيس لموسى وإذهاب للوحشة والخوف منه، حيث يذكره بكلمة: (بيمينك)، فإنه قيل له ذلك من قبل ثم ظهر له أنها آية. ولـأبي حيان نكتة أخرى، وهي ما في اليمين من الإشعار باليمن والبركة، فاليمين مرتبطة دائماً باليُمن والبركة.