تفسير سورة طه [44-59]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، هذا من خطاب الله لموسى وهارون عليهما السلام، والمعنى: لعله يخشى عقابي؛ فإن تزيين القول مما يكسر ثغرة عناد العتاة ويلين عريكة الطغاة، وقد بين الله ذلك في قوله تعالى: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:18-19]، وهذا من مظاهر تلطف موسى بفرعون: فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى [النازعات:18]، تلطف في العبارة: (هل لك)، ولم يقل: تعال كي أزكيك، وإنما نسب التزكية إلى نفسه هو: (إلى أن تزكى)، والفاعل ضمير مستتر تقديره: أنت. وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:19]. وبمثل ذلك أمر نبينا صلوات الله وسلامه عليه في قوله تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]. وقوله تبارك وتعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]، الرجاء في (لعله) إنما هو منهما، لا من الله، فإنه لا يصح منه، ولذا قال القاضي أي: باشرا الأمر على رجائكما وطمعكما أنه يثمر ولا يخيب بعدكما، فإن الراجي مجتهد والآيس متكلف، والفائدة في إرسالهما والمبالغة عليهما في الاجتهاد مع علمه بأنه لا يؤمن: إلزام الحجة، وقطع المعذرة، وإظهار ما في تضاعيف ذلك من الآيات. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [طه:44]: أمر الله جل وعلا نبييه موسى وهارون عليهما السلام أن يقولا لفرعون في حال تبيين رسالات الله إليه: (قولاً ليناً) أي: كلاماً لطيفاً سهلاً رقيقاً ليس فيه ما يغضب وينفر، وقد بين جل وعلا المراد بالقول البين في هذه الآية بقوله: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى [النازعات:17-19]، وهذا -والله- غاية لين الكلام ولطافته ورقته كما ترى. وقد كانت عادة قدماء المصريين عموماً -للأسف الشديد- عبادة ملوكهم ومن يلي أمرهم، واتخاذهم آلهة، إلى حد أن الشعب كأنه لا قيمة له ولا وزن، كذلك نلاحظ خلاف من كان قبلهم من الأمم يقول الله: وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا [الأعراف:73]، وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف:65]، يتكلم عن القبيلة كلها، أو الأمة بمجموعها. أما موسى فكثير من الآيات تخبر أن الله أرسله إلى فرعون، كما قال هنا: اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:43]، وقال أيضاً: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [النازعات:17]، وإذا ذكر شعبه معه فعلى سبيل التبعية له، لذا كان من حكمة الله سبحانه وتعالى التعبير بهذا التعبير: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [النازعات:17]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: يؤخذ من الآية الكريمة: أن الدعوة إلى الله يجب أن تكون بالرق واللين لا بالقسوة والشدة والعنف، كما قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [المائدة:105]. وقال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: قال يزيد الرقاشي عند قوله: (( فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا )): يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ فانظر إلى لطف الله سبحانه وتعالى، وتحببه إلى عدوه الطاغي الذي قال: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، ومع ذلك انظر كيف أن الله سبحانه وتعالى من رحمته ولطفه به يحرض نبييه الكريمين عليهما السلام أن يقولا له قولا ليناً؛ لأن الهدف هو انقياده إلى الحق؛ فلذلك كان يقول يزيد الرقاشي عندما يتلو هذه الآية: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى : يا من يتحبب إلى من يعاديه، فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ كيف بالمؤمن الذي يتولى الله ويناديه ويناجيه ويسأله الهداية والتوفيق؟! ولقد صدق الله من قال: ولو أن فرعون لما طغى وقال على الله إفكاً وزورا أناب إلى الله مستغفراً لما وجد الله إلا غفورا قوله تعالى: (( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى )) يقول: قد قدمنا قول بعض العلماء: إن (لعل) في القرآن بمعنى التعليل، إلا التي في سورة الشعراء: وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ [الشعراء:129]، فهي بمعنى: كأنكم، وقد قدمنا أيضاً: أن لعل تأتي في العربية للتعليل، ومنه قوله: فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا نكف ووثقتم لنا كل موثق فلما كففنا الحرب كانت عهودكم كشبه سراب في الملا متألق وهذا مثل واقع المسلمين الآن مع اليهود لعنهم الله، وقوله: (لعلنا نكف) يعني: لأجل أن نكف. فأحياناً كلمة (لعل) في القرآن الكريم تستعمل للتعليل، بمعنى لكي أو لأجل، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:183] يعني: لأجل أن تتقوا، فإن الصيام وسيلة إلى التقوى، وهذا خلاف الكلام الذي ذكره القاسمي رحمه الله تعالى؛ لأن القاسمي لما جعلها على بابها؛ أي: أن لعل للترجي، قال: إن الرجاء هنا صادر عن موسى وهارون، أما الشنقيطي رحمه الله تعالى فيقول: إن لعل في القرآن تأتي أحياناً بمعنى التعليل، إلا في سورة الشعراء: (( وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ))، فإن معناها: كأنكم تخلدون. وقال بعض أهل العلم: (( فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ))، معناه: على رجائكما وطمعكما، فالترجي والتوقع المدلول عليه بلعل راجع إلى جهة البشر، وعزى القرطبي هذا القول لكبراء النحويين كـسيبويه وغيره.

قال تعالى: قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى [طه:45] يعني: يبادرنا بالعقوبة، (أو أن يطغى) أي: يزداد طغياناً بالعناد في قطع حججنا، ثم يأمر بقتلنا، أو بالتجرؤ على أن يقول في شأنك ما لا ينبغي لجرأته وقسوة قلبه، واقتصر على الثاني الزمخشري. إذاً: المعنى: أن يبادرنا بالعقوبة، (أو أن يطغى) يزداد في العناد ثم يأمر بقتلنا. وقول آخر في تفسير: (إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى) أن يقول في حق الله سبحانه وتعالى كلاماً لا ينبغي لجرأته وقسوة قلبه. قال الزمخشري : إن في المجيء به هكذا على الإطلاق، وعلى سبيل الرمز؛ باباً من حسن الأدب، وتحاشياً عن التفوه بالعظيمة. قالا: ( أو أن يطغى)، ولم يذكرا تفاصيل هذا الطغيان، فلم يقولا: نخاف أن يسب الله سبحانه وتعالى، أو يقول كلمته العظيمة، وهذا كله من أجل التحاشي عن التفوه بالكلام الذي لا يليق في حق الله تبارك وتعالى، وهذا هو الأدب الذي ينبغي أن يلزم، حتى إذا حكى الإنسان كلاماً من الكفر؛ فينبغي أن يغير في العبارة بحيث يتجنب ويتحاشى التلفظ بما لا يليق بحق الله سبحانه وتعالى، وإلا فإن الإنسان يصاب أحياناً من كلمات بعض الملاحدة من العلمانيين وغيرهم ممن يقولون في حق الله سبحانه وتعالى وفي حق دينه ما تقشعر له الجلود، فلا بد من استعمال الرمز بحكاية ما فيه إيذاءً لله سبحانه وتعالى. قَالَ لا تَخَافَا [طه:46]، هذا الخوف خوف فطري جبلي، وهو خوف من الأذى أو القتل، وهذا لا يلام عليه الإنسان، فهذا من الخوف الجبلي الذي هو من جبلة وطبيعة البشر، وليس الخوف الذي هو شرك. (قال لا تخافا) أي: من صلفه وطغيانه. إِنَّنِي مَعَكُمَا [طه:46]، بالحفظ والنصرة، فهذه المعية الخاصة وليست المعية العامة التي هي معية الله مع جميع الخلق، بالسمع والبصر والرقابة والشهادة.. وغير ذلك، وإنما هذه المعية معية خاصة بالمؤمنين ولأهل التقوى وللأنبياء، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:128]، بالنصرة والتأييد والتولي. أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] أي: ما يجري بينكما وبينه، فأرعاكما بالحفظ، فالمفعول محذوف للقرينة، أو نزل منزلة اللازم تتميماً لما يستقل به الحفظ، كأنه قيل: أنا حافظ لكما وناصر، سامع وبصير، وإذا كان الله الحافظ تم الحفظ والتأييد، وذهبت المبالاة بالعدو؛ ولذلك موسى عليه السلام في أحرج اللحظات لما طارده فرعون وجيشه، فلما وصل موسى وقومه إلى ساحل البحر قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ [الشعراء:61]، ماذا يفعل؟ البحر أمامه، والعدو من خلفه! فانظر إلى جواب موسى لثقته بهذا الوعد من الله، وقد يكون موسى لا يعرف كيف يكون المخرج؟ لكن في أشد اللحظات هو واثق بوعد الله، مع أن العدو على وشك أن يصلهم، فقالوا له: (إنا لمدركون) أي: حقاً سوف ينالون منا ويصلون إلينا، قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء:62]، هذه هي المعية الموعود بها هنا: (إنني معكما أسمع وأرى).

قال تعالى: فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى [طه:47]. (( فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )) أي: أطلقهم من الأسر والعبودية؛ لأن بني إسرائيل عانوا في مصر أشد العذاب والعناء على يد فرعون وملئه، فمعنى: (أرسل معنا بني إسرائيل) أي: لإطلاقهم من الأسر والعبودية وتسريحهم معنا إلى وطننا فلسطين، (ولا تعذبهم) أي: بإبقائهم على ما هم عليه من التسخير والتذليل في الأمور الشاقة. (قد جئناك بآية من ربك) أي: آية تحقق رسالتي إليك منه تعالى بذلك. (والسلام على من تبع الهدى) أي: آمن بآيات الله المبينة للحق، وفيه من ترغيبه لاتبعاهما على ألطف وجه ما لا يخفى. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ألف الاثنين في قوله: (فأتياه فقولا)، راجعة إلى موسى عليه السلام وهارون، والهاء في قوله: (فأتياه) تعود إلى فرعون، أي: فأتيا فرعون (فقولا له إنا رسولا ربك) أي: إنا رسولان إليك من ربك، (فأرسل معنا بني إسرائيل) أي: خل عنهم وأطلقهم لنا يذهبون معنا حيث شاءوا. (ولا تعذبهم)، العذاب الذي نهى الله فرعون أن يفعله ببني إسرائيل هو المذكور في قوله تعالى في سورة البقرة: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [البقرة:49]، وجاء ذكره أيضاً في سورة إبراهيم والأعراف والدخان في قوله: وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ * مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ [الدخان:30-31]، وقال في سورة الشعراء: وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:22]، وقال أيضاً في سورة الشعراء: فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [الشعراء:16-17]. وقوله تبارك وتعالى: (قد جئناك بآية من ربك) الآية هنا جاءت مفردة؛ وهي اسم جنس، وهذه الآية مفردة يراد بها جنس الآية الصادق على العصا واليد وغيرهما لدلالة آيات أخرى على ذلك، بل آيات أخرى تدل على أن موسى أوتي تسع آيات وليس آية واحدة. إذاً: المقصود (بآية) هنا جنس الآية. (والسلام على من اتبع الهدى) يدخل فيه السلام على فرعون إن اتبع الهدى، ويفهم من الآية أن من لم يتبع الهدى لا سلام عليه، وفرعون كذلك؛ ولذلك كان في أول كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم: (بسم الله الرحمن الرحيم: من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام..)، إلى آخر كتابه صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48]، والآيات في هذا كثيرة، كقوله: فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى [النازعات:37-39]، وقوله تعالى: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى * لا يَصْلاهَا إِلَّا الأَشْقَى * الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى [الليل:14-16]، وقال تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى * وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى* ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى * أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى * ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى [القيامة:31-35] .. إلى غير ذلك من الآيات. قوله هنا: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا [طه:48] يعني: من ربنا، أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ [طه:48] أي: بآياته تعالى، وَتَوَلَّى [طه:48] أي: أعرض عنها. وفيه التنصيص بالوعيد، ولم يصرح بحلول العذاب به، وهذا منتهى التلطف به بالوعيد، رغم أن فرعون أتى بهذه الأمور العظام لكن انظر إلى التلطف، لم يقل: إن العذاب سوف يحل عليك، وإنما قال: أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى [طه:48]، فلم يصرح بحلول العذاب به، وتلطف في إثبات الوعيد لمن كذب وتولى. (( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى )) (قال) أي: فرعون، قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] أي: منح كل شيء من الأنفس البشرية والأعضاء التي تطابق المنفعة المنوطة بها، فسواها بها وعدلها، ثم هداه بأن وهبه العقل الذي يميز به بين الخير والشر، وهذه الآية في معناها آية: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:7-8]، وآية: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10]. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن موسى وهارون لما بلغا فرعون ما أمرا بتبليغه إياه قال لهما: من ربكما الذي تزعمان أنه أرسلكما إلي. زاعماً أنه لا يعرف الله سبحانه وتعالى، وأنه لا يعلم لهما إلهاً غير نفسه، كما قال في الآية الأخرى: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقال: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]، وقد دلت آيات القرآن الكريم على أن فرعون كاذب في دعواه أنه هو ربهم الأعلى، وأنه يعلم أنه عبد مربوب لرب العالمين، وقوله: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38] كان على سبيل المكابرة، كذلك هنا في قوله: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ، على سبيل الاستنكاف أن يكون لهما إله غير نفسه، وقال أيضاً: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]. إذاً: قوله: (( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا ))، هذا تجاهل عارف؛ لأنه عبد مربوب لرب العالمين، ففرعون بطبعه يأكل ويشرب وينام ويمرض، والناس قد رأوه ولد من أب وأم، وتجري عليه كل الأعراض البشرية، فمن أين له أن يدعي هذه الألوهية؟! وقبل أن يولد أين كان؟! أين عقول هؤلاء القوم الذين استساغت عقولهم الضعيفة أو المريضة هذا القول؟! (( قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى ))، هذا تجاهل عارف، وادعاء منه بالجهل وعدم معرفته بالله، وأنه لا يعرف الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في سورة الإسراء على لسان موسى أنه قال لفرعون: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا [الإسراء:102]، فموسى الصادق المصدوق عليه السلام يخبره بالحقيقة: (لقد علمت) يعني: أنت تعرف جيداً يا فرعون، (ما أنزل هؤلاء)، أي: هؤلاء الآيات، (( إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا )). كذلك أيضاً قال تبارك وتعالى في سورة النمل: (( فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ )) أي: فرعون وقومه، آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ * وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:13-14]، رغم أنهم كانوا على يقين أن هذا من عند الله، لكنه الجحود، وادعاء الجهل والنكران بعد العلم: وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14]. وسؤال فرعون عن رب موسى وجواب موسى له جاء موضحاً في سورة الشعراء بأبسط مما هنا، وذلك في قوله: قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ [الشعراء:23-24]، انظروا للحوار، فرعون يقول: وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ [الشعراء:23-25]، يتعجب من جواب موسى: قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي [الشعراء:26-29]، انظر للفرق بين الحجة وبين الإقناع بالسطوة والسلطة: قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ * قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ * قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ [الشعراء:29-32].

قال الله تعالى: الَذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50] أي: أن الله عز وجل أعطى كل شيء نظير خلقه في الصورة والهيئة، كالذكور من بني آدم أعطاهم نظير خلقهم من الإناث أزواجاً، فجعل للرجال أزواجاً من بني آدم من جنس آخر، وكالذكور من البهائم أعطاها نظير خلقها في صورتها وهيئتها من الإناث أزواجاً، فلم يعط الإنسان خلاف خلقه، فلم يزوجه بالإناث من البهائم مثلاً، ثم هدى الجميع لطريق المنكح الذي منه النسل والنماء، وهدى الجميع لسائر منافعهم من المطاعم والمشارب وغير ذلك. (( ثُمَّ هَدَى )) أي: هداه إلى الألفة والاجتماع والمناكحة، وقال بعض أهل العلم: أعطى كل شيء صلاحه ثم هداه إلى ما يصلحه، وهذا مروي عن الحسن وقتادة . وهذا المعنى فصله العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، حيث بين فيه النوع الأول من أنواع الهداية، وهو الهداية العامة لكافة المخلوقات إلى ما يصلحها. هذا هو معنى قوله: (( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ))؛ حتى الرضيع حينما يخرج من بطن أمه هداه إلى كيفية الرضاعة، مع أن لها ميكانيكية محددة في غاية الدقة، وهذا لم يسبق له، كما قال الله: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً [النحل:78]، لكنه بنداء الفطرة يتجه إلى الأم ويرضع بالطريقة المعروفة. كذلك عالم الحيوانات والنباتات والحشرات وكل هذه العوالم إذا الإنسان تطلع إلى آيات الله سبحانه وتعالى فيها وتدبر لوجد شرحاً لهذه الآية الكريمة: أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]، فهناك علم من العلوم الحديثة التي تكشف آيات الله سبحانه وتعالى، وأيضاً العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى ذكر هذا بالتفصيل في قضية القضاء والقدر، وذكر أمثلة كثيرة جداً من هداية الحيوانات إلى ما يصلحها، والعلم الحديث الآن ذكر آلاف الأمثلة أكثر مما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى. يقف يتأمل في مملكة النحل والعجائب التي أعطاها الله للنحل من خلقه، ثم هداها إلى الوظائف التي تؤديها، وهكذا مملكة النمل أعطى كل نملة خلقها، ثم هداها إلى ما فيه صلاحها، ومن الأمثلة التي ذكرها ابن القيم رحمه الله تعالى أن فأراً وقف على برميل زيت، وهو يريد أن يشرب من هذا الزيت، وكان مستوى الزيت إلى حد لا يصل إليه الفأر، فأتى بماء في فمه ثم صبه على الزيت، ومعلوم أن كثافة الزيت أقل من كثافة الماء، وهو ما درس هذا ولا تعلم قوانينه، فصار الزيت يعلو الماء ويرتفع في البرميل، إلى أن استطاع أن يشرب منه! (( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )). ومنها: أن شخصاً أتى بإناء فيه عسل وطعام ووضعه داخل إناء آخر فيه ماء، لكن النمل حاولت أن تصل إلى العسل فلم تستطع، فماذا فعلت؟ صعدت على السقف، ثم تدلت واحدة على الأخرى حتى بلغ السرب الإناء فأخذت منه! وعجائب صنع الله سبحانه وتعالى كثيرة جداً في هذا الباب. وقال بعض أهل العلم: (( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى )) أي: أعطى كل شيء صورته المناسبة له، فلم يجعل الإنسان في صورة البهيمة، ولا البهيمة في صورة الإنسان، ولكنه خلق كل شيء على الشكل المناسب له فقدره تقديراً، كما قال الشاعر: وله في كل شيء خلقة وكذاك الله ما شاء فعل يعني: له لكل شيء صورة (( ثُمَّ هَدَى ))، كل صنف إلى رزقه وإلى زوجه. وقال بعض أهل العلم: من العجائب موضوع هجرة الأسماك وهجرة الطيور، وكيف أنها تقطع كل هذه المسافات الهائلة، ثم تعود من حيث أتت! ما الذي يهديها في الظلام، لا توجد معالم في الأرض تميز بها طريق الهجرة، كيف تميز؟ وكيف تعرف؟ كل هذا بلا شك من آيات الله سبحانه تعالى. وقال بعض أهل العلم: (( أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ )) أي: أعطى كل شيء صورته وشكله الذي يطابق المنفعة المنوطة به، كما أعطى العين الهيئة التي تطابق الإبصار، إذ كل جزئية في العين لها وظيفة تناسبها، فالأذن خلقت على شكل يوافق الاستماع، كذلك الأنف والرجل واللسان وغيرها، وكذلك كل موضع في الإنسان، كما قال تعالى: وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات:21]. ومن أعظم آيات الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان أن كل شيء في مكانه، ومع ذلك الملاحدة الذين طمس الله على قلوبهم يزعمون أن الطبيعة هي الخالق! إن أي جزئية في جسم الإنسان نجد أنها في الموقع المناسب لها والملائم للوظيفة التي خلقت من أجلها، ولو نظرنا للأسنان مثلاً لرأينا حكمة الله في هذه الأضراس، ترتيب الأسنان بهذا الوصف وبهذه الصورة العجيبة لحكمة مطلقة من فعل الله سبحانه وتعالى. فأفعال الربوبية ترشد كلها لقوله: (( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ))، العين مثلاً كان ممكن أن توضع في القفا، أو يوضع الحاجب أسفل منها، أو الفم يكون على صورة أخرى بخلاف خلق الله سبحانه وتعالى، وعندها فإنه لا يتطابق مع الوظيفة التي خلق لها. وانظر إلى أنواع الشعر: الشعر الذي في الرأس، وشعر الحاجب، والرموش، واللحية، ثم انظر إلى حكمة الله سبحانه وتعالى: لو أن شعر الرموش صار نموه بنفس معدل نمو شعر الرأس ماذا سيحصل؟! وغير ذلك من هذه الأحوال، بل كل بحكمة الله يتواءم مع وظيفة خلق الله الإنسان لكي يؤديها، فكل واحد منها مطابق لما علق به من المنفعة غير نائب عن الآخر. إذاً: (( الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ ))، (كلَّ) مفعول، (أعطى) فعل يتعدى لمفعولين، والمفعول الثاني (خلقه). وقيل في المعنى: أنه تعالى أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه، ثم هداهم إلى طريق استعماله. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: ولا مانع من شمول الآية الكريمة لجميع الأحوال المذكورة؛ لأنه لاشك أن الله أعطى الخلائق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا، ثم هداهم إلى طريق الانتفاع به، ولا شك أنه أعطى كل صنف شكله وصورته المناسبة له، وأعطى كل ذكر وأنثى الشكل المناسب له من جنسه في المناكحة والألفة والاجتماع، وأعطى كل عضو شكله الملائم للمنفعة المنوطة به؛ فسبحانه جل وعلا ما أعظم شأنه وأكمل قدرته! وكما يقول الشاعر: تأمل سطور الكائنات فإنها من الملأ الأعلى إليك رسائل وقد خط فيها لو تأملت خطها ألا كل شيء ما خلا الله باطل فهذه آيات الله سبحانه وتعالى كلها خلقت وبثت في الأرض وفي أنفسنا كي تدلنا عليه عز وجل، نتدبر ونتفكر في خلق السماوات والأرض وفي خلق أنفسنا؛ كي نتعرف على قدرة الله سبحانه وتعالى، ونصل إلى توحيده عز وجل. وابن القيم رحمه الله فصل الكلام في كتابة التبيان في أقسام القرآن وفصل كثيراً جداً على أساس المستوى العلمي الذي وصلوا إليه في زمانهم، وهو مما يكشف عن ثقافة عالية جداً بالنسبة لزمانهم، ولا شك أننا الآن لدينا أضعاف أضعافها، ولكن للأسف الشديد نحن نتلقاها من الكفار الملاحدة، وهذه الآيات يطلع عليها الكفار والملاحدة سواء في الشرق أو في الغرب ولكن شاء الله سبحانه وتعالى أن يطمس على قلوبهم إلا من رحم الله، ومع أن هذه الآيات أمام أحدهم لكن أعماه الله مما يدل على أن القوة هي التي عطلت عقولهم عن أن تنتفع بهذه الآيات التي بين أيديهم، فمن يطالع موسوعة الطبيعة يلاحظ تفاصيل كثيرة جداً لهذه الآية، وأيضاً موسوعة الألف الأمريكية فيها كثير جداً من هذه الآيات. وفي معنى هذه الآية الكريمة براهين قاطعة على أنه جل وعلا رب كل شيء، وهو المعبود وحده جل وعلا، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88]. وقد حرر العلامة الشيخ تقي الدين أبو العباس بن تيمية رحمه الله تعالى في رسالته في علوم القرآن أن مثل هذا الاختلاف من اختلاف السلف في معاني الآيات ليس اختلافاً حقيقاً يكذب بعضه بعضاً، ولكنه اختلاف تنوعي لا يكذب بعضه بعضاً، والآيات تشمله جميعاً، فينبغي حملها على شمول ذلك كله، وسأوضح أن ذلك هو الجاري على أصول الأئمة الأربعة رضي الله عنهم، وعزاه إليهم جماعة من خيار أهل المذاهب الأربعة، والعلم عند الله تبارك وتعالى.

قال تعالى: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]. قال فرعون: (( فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ))؟ يعني: ما حال القرون السالفة؟ وما جرى عليهم؟ لنا استفسار عن قوى فرعون، فقد كان في قمة الغباء، ولديه عقلية ضعيفة كما هو واضح من هذه الآيات، وكان يقول: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، يرمي موسى بأنه لا يعرف الفصاحة، ثم: وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ [الزخرف:51] هل هذه هي مؤهلات الحجة والعلم، أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، ولكن لما أخذه الله جعل الماء يجري من فوقه وأغرقه بعد ذلك! وانظر إلى المناظرة التي ذكرها الله في سورة الشعراء، والنقاش الذي يدل على أن عقليته مشوهة تماماً، وليس عنده أي قدر من المفهومية أو العقل أو الذكاء. كذلك هنا أيضاً يسأل موسى عليه السلام ويقول له: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:49-50]، وانظر إلى المراوغة، يريد أن يصرف النقاش عن صلبه، ومحوره الأساسي، قال الله عنه: قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى [طه:51]، وما دخل القرون الأولى بالموضوع الذي نتكلم فيه؟! لقد كان هذا السؤال إما لصرف موسى عليه السلام عما يدعوه إليه أمام ملئه أو لشغله عن دعوته إلى التوحيد، وتوضيح الحقيقة أكثر وأكثر في الدعوة إلى (لا إله إلا الله)، وإشغاله عما أرسل به، وإما أنه كان يتوهم أن موسى يعرف الغيب فلذلك سأل عن أحوال الْقُرُونِ الأُولَى، فأراد أن يقف على نبأ ما مضى، كل هذا من أجل أن يقطع موسى عن الوصول إلى هدفه وغايته! فلما قال: (( فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى ))، أجابه موسى عليه السلام بأن هذا سؤال عن الغيب، وقد استأثر الله به فلا يعلمه إلا هو، وليس من شأن الرسالة أن تتكلم عن تفاصيل القرون الأولى، وإنما علمها مكتوب في اللوح المحفوظ محصي غير منسي، (( قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ ))[طه:52]، وهو اللوح المحفوظ، لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى [طه:52]، ويجوز أن يكون قوله: (في كتاب) تمثيلاً لتمكنه وتقريره في علم الله عز وجل بما استحفظه العالم وقيده بالكتبة، فنشبه علمه تعالى الذي لا يتغير بمن علم شيئاً وكتبه في جريدته حتى لا يذهب أصلاً، والذي يسجل المعلومات في كتاب لا ينسى. كما في الحديث: (قيدوا العلم بالكتابة). العلم صيـد والكتابة قيده قيد صيودك بالحبال الواثقه نحن نحتاج إلى كتابة؛ لأننا نضل وننسى، أما الله سبحانه وتعالى فقد كتب كل شيء في اللوح المحفوظ، لكن هذا ليس عن خوف نسيان كما يحصل بالنسبة للمخلوقات، لذلك نزه موسى الله سبحانه وتعالى: قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ، فمن يفعل ذلك إنما يفعله لخوف النسيان، والله سبحانه وتعالى منزه عنه، فالكتاب على هذا القول بمعناه اللغوي هو السفر لا اللوح المحفوظ.

قال تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى [طه:53]. (( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً )) فراشاً، (( وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى )) أي: أصنافاً من نبات مختلفة الأجناس في الطعم، والرائحة، والشكل، والنفع. انظر إلى موسى عليه السلام لم يسمح له أن يحول مجرى النقاش، وهو لما بدأ بهذا السؤال: قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ * قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى * قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى* الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً [طه:49-53]. شرع يسرد أدلة توحيد الربوبية ليتوصل بها إلى توحيد الألوهية، الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى قال الزمخشري في قوله تعالى: (( وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ )): هذا من باب الالتفات، وناقشه الناصر بأن الالتفات إنما يكون في كلام المتكلم الواحد، يصرف كلامه على وجوه شتى، وما نحن فيه ليس كذلك، فإن الله تعالى حكى عن موسى عليه السلام قوله لفرعون: (( عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى )). ثم قوله تعالى: (( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً )). إلى قوله: (( فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ))، فإما أن يجعل من قول موسى ويكون من باب قول خواص الملك: أمرنا وعمرنا، وإنما يريدون الملك، وليس هذا بالتفات، وإما أن يكون كلام موسى قد انتهى عند قوله: (( لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى ))، ثم ابتدأ الله تعالى وصف ذاته بصفات إنعامه على خلقه، فليس التفاتاً أيضاً، وإنما هو انتقال من حكاية إلى إنشاء خطاب، وعلى هذا التأويل ينبغي للقارئ أن يقف عند قوله: (( وَلا يَنسَى )) ليستقر بانتهاء الحكاية. ويحتمل معنىً آخر، وهو: أن موسى وصف الله تعالى بهذه الصفات على ظهر الغيبة، فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى ، فلما حكاه الله تعالى عنه أسند الضمير إلى ذاته؛ لأن الحاكي هو المحكي في كلام موسى ، فمرجع الضميرين واحد، وهذا الوجه وجه حسن رقيق الحاشية، وهذا أقرب الوجوه إلى الالتفات، لكن الزمخشري لم يعنه، والله تعالى أعلم.اهـ قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قرأ هذا الحرف عاصم وحمزة والكسائي (مَهْداً) بفتح الميم وإسكان الهاء من غير ألف، وقرأ الباقون من السبعة بكسر الميم وفتح الهاء بعدها ألف، والمهاد: الفراش، والمهد بمعناه. (( الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ))، بين تبارك وتعالى في هاتين الآيتين أربع آيات من آياته الكبرى الدالة على أنه المعبود وحده، ومع كونها من آيات كمال قدرته، واستحقاقه العبادة وحده دون غيره، فهي من النعم العظمى على بني آدم. الأولى: فرشه الأرض على هذا النمط العجيب. الثانية: جعله فيها سبلاً يمر بها بنو آدم ويتوصلون بها من قطر إلى قطر. الثالثة: إنزاله الماء من السماء على هذا النمط العجيب. الرابعة: إخراجه أنواع النبات من الأرض. ثم شرع الشنقيطي رحمه الله تعالى في ذكر أنواع كثيرة من الآيات التي تشرح وتفصل هذا فنتجاوزها، ونأتي للخطاب وقوله تعالى: (( وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً )) وقد قدمنا أن معنى السلك الإدخال، وقوله: (( َسَلَكَ )) معناه: أنه جعل في داخل الأرض بين أوديتها وجبالها سبلاً فجاجاً يمر الخلق منها، وعبر عن ذلك هنا بقوله: (( وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً ))، وعبر في مواضع أخر عن ذلك بالجعل كقوله عز وجل في سورة الأنبياء: وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [الأنبياء:31]، وقال في الزخرف: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [الزخرف:10]، وعبر في بعض المواضع عن ذلك بالإلقاء كقوله في النحل: وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [النحل:15]؛ لأن عطف السبل على الرواسي ظاهر في ذلك. (( كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ )) أي: كلوا -أيها الناس- من الثمار والحبوب التي أخرجناها لكم من الأرض بالماء الذي أنزلناه من جميع ما هو غذاء لكم من الحبوب والفواكه ونحو ذلك. (( وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ )) أي: أسيموها وسرحوها في المرعى الذي يصلح لأكلها، والأمر في قوله: (( كُلُوا وَارْعَوْا )) للإباحة، ولا يخفى ما تضمنه من الامتنان والاستدلال على استحقاق المنعم بذلك العبادة وحده. (( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى )) أي: لأصحاب العقول، فالنهى جمع نهية وهي العقل؛ لأنه ينهى صاحبه عما لا يليق، تقول العرب: نهو الرجل بصيغة فعُل بالضم: إذا كملت نهيته أي: عقله.

قال تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى [طه:55]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى [طه:54] (منها) أي: من الأرض (خلقناكم) أي: خلقنا أصلكم وهو آدم ، أو: خلقنا أبدانكم من النطفة المتولدة عن ما في الأرض، (( وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ )) أي: بالإماتة، مثل إعادة البذر إلى الأرض (( وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى )) أي: بردهم كما كانوا أحياء. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: قوله: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى قد ذكر في هذه الآية الكريمة ثلاث مسائل: الأولى: أنه خلق بني آدم من الأرض. الثانية: أنه يعيدهم فيها. الثالثة: أنه يخرجهم منها مرة أخرى. ثم ذكر آيات كثيرة جداً في تفصيل كل واحدة من هذه المسائل الثلاث.

ثم أشار تعالى إلى عتو فرعون وعناده، فقال عز وجل: وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى * قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى [طه:56-58]. (( وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا )) أي: من العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والسنين (( فَكَذَّبَ وَأَبَى )). قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى أي: مستوياً واضحاً يجمعنا. قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ [طه:59]، وهو يوم مشتهر عندهم باجتماع الناس فيه، وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى [طه:59] أي: في النهار لكي يكون الأمر مكشوفاً لا سترة فيه. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ [طه:60] أي: انصرف عن المجلس، فَجَمَعَ كَيْدَهُ [طه:60] أي: ما يكيد به موسى من السحرة وأدواتهم، ثم أتى إلى الموعد ومعه من جمعه. قوله تبارك وتعالى: قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى ، قال الشنقيطي : ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لما أرى فرعون آياته على يد نبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة السلام قال: إن الآيات التي جاء بها موسى سحر، وأنه يريد بها إخراج فرعون وقومه من أرضهم. أما دعواه هو وقومه أن موسى ساحر، فقد ذكر ذلك عز وجل في مواضع كثيرة من كتابه كقوله: فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [النمل:13]، وقوله: فَلَمَّا جَاءَهُمْ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ [يونس:76]، وقوله: إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ [طه:71]، وقوله: وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ [الزخرف:49]، إلى غير ذلك من الآيات. وأما ادعاؤهم أنه يريد إخراجهم من أرضهم بالسحر: فقد ذكره الله جل وعلا أيضاً في مواضع من كتابه، كقوله تعالى في هذه السورة: (( أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى )) * (( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ )) * (( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ )) -واضح تماماً أن فرعون كانت أعمدة حكمه قائمة على السحر تماماً كما هو الآن أن إحدى الممالك قائمة على السحر، والله المستعان!- وقوله تعالى: قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ [الأعراف:109-110]، وقوله في سورة يونس: قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ [يونس:78]، وقال سحرة فرعون: إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى [طه:63]. قوله عز وجل: (( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ )) ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن فرعون لعنه الله لما رأى آيات الله ومعجزاته الباهرة، وادعى أنها سحر؛ أقسم ليأتين موسى بسحر مثل آيات الله التي يزعم هو أنها سحر، وقد بين في غير هذا الموضع أن إتيانهم بالسحر وجمعهم السحرة كان عن اتفاق ملئهم على ذلك: قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ [الأعراف:109-112]، فقوله عز وجل حاكياً عن فرعون: (فَمَاذَا تَأْمُرُونَ) في الموضعين يدل على أن قول فرعون: (( فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ )) وقع بعد مشاورة واتفاق الملأ منهم على ذلك. (( فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ ))، والإخلاف عدم إنجاز الوعد، وقرر أن يكون مكان الاجتماع للمناظرة والمغالبة في السحر في زعمه (( مَكَاناً سُوًى ))، وأصح الأقوال في قوله: (( سُوًى )) أن أصله من الاستواء؛ لأن المسافة من الوسط إلى الطرفين لا تفاوت فيها بل هي مستوية، وقوله: (سوى) فيه ثلاث لغات: الضم والكسر مع القصر وفتح السين مع المد.