تفسير سورة الكهف [65-82]


الحلقة مفرغة

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:66-70]. ((هَلْ أَتَّبِعُكَ)) أي: أصحبك، ((عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا)) أي: مما علمت من عند ربك، ((رشداً))، أي: علماً ذا هدى وإصابة خير. قال القاضي : وقد رأى في ذلك غاية التواضع والأدب، لم يقل له: (علمني)، وإنما قال: (هل أتبعك) فاستجهل نفسه، ووصف نفسه بعدم العلم، فأظهر الفقر والحاجة إلى ما عنده من العلم، واستأذن أن يكون تابعاً له، وسأل منه أن يرشده وينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم الله عليك. وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم. وفي قوله: ((مما علمت)) تذكير له بنعمة الله عليه أي: كما علمك الله عليك أن تعلم طالب العالم. ((قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا))، نكر (صبراً) لبيان أنه لن تستطيع معي صبراً بوجه من الوجوه، ثم علل معتذراً بأنه لن يستطيع أن يصبر، قال: ((وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا))، أي: إن صحبتني سترى مني أموراً ظواهرها مناكير وبواطنها لم يحط بها خبرك. قال: ((سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا))، أي: لا أخالفك في شيء. قال الزمخشري: رجا موسى عليه السلام لحرصه على العلم وازدياده أن يستطيع معه صبراً بعد إفصاح الخضر عن حقيقة الأمر، فوعده بالصبر معلقاً بمشيئة الله علماً منه بشدة الأمر وصعوبته، وأن الحمية التي تأخذ المصلح عند مشاهدة الفساد شيء لا يطاق، هذا مع علمه أن النبي المعصوم الذي أمره الله بالمسافرة إليه واتباعه واقتباسه العلم بريء من أن يباشر ما فيه غميزة في الدين، وأنه لابد لما يستمج ظاهره من باطن حسن جميل، فكيف إذا لم يعلم؟ قال بعض المفسرين في تفسير فاتحة القرآن عند قوله: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]: إن الإنسان إذا كان في الجماعة أي: إذا أدخل نفسه في زمرة الجماعة كان بركة عليه، ولذلك صبر إسماعيل لأبيه وقال: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، أما موسى فقال: ((ستجدني إن شاء الله صابراً)) وهذه لفتة عارضة. وإنما قال: (إن شاء) لما يعلم من صعوبة الأمر، وصعوبة أن يرى منكراً ثم يصبر عن إنكاره. ((قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا)). شرط المرافقة الموافقة، أي: لا تفاتحني بالسؤال عن شيء أنكرته مني، ولن تعلم وجه صحته حتى أبدأ أنا ببيانه، وهذا من آداب المتعلم مع العالم، والمستمع مع المسمع، فلا يبادر الإنكار حتى يتبين سبب هذا القول أو الفعل.

((فَانطَلَقَا))، على ساحل البحر يطلبان سفينة، ((حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا))، أي: شيئاً عظيماً من إتلاف السفينة: قتل الجماعة من غير نفع، وكفران نعمة الحمل بغير نول، فكيف تتسبب في إهلاكهم وإغراق أهلها، بغير ذنب، وهل هذا جزاء أنهم حملونا بغير أجرة؟! ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا))، ذكره الخضر بما تقدم من الشرط، فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [الكهف:70] يعني: هذا الصنيع وأنا أتعمده، وسبق أن اشترطت عليك أن لا تعترض على شيء حتى أحدث لك منه ذكراً، وهو من الأمور الذي اتفقت معك على أن لا تنكر علي فيها؛ لأنك لم تحط بها خبراً؛ إذ لها سر لا تعلمه أنت، ((قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ))، أي: قال موسى: لا تؤاخذني بما نسيت من الشرط، فإن المؤاخذة به تفضي إلى العسر، وسيكون هذا أمراً عسيراً علي، والمراد: التماس عدم المؤاخذة لقيام المانع وهو النسيان: ((وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا))، أي: لا تحمل علي من أمري في تحصيل الأمر منك عسراً؛ لأنه يلجئني إلى تركه، فلا تعسر علي متابعتك بل يسرها علي بالإغضاء وترك المناقشة. ((فانطلقا)) بعد أن نزلا من السفينة إلى الساحل، ((حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ))، يعني: نفساً ستقتل، بل هل نفس زكية طاهرة من موجبات القتل؛ لأنه لم يقتل غيره، فكيف تقتله؟ ((لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا)) أي: شيئاً منكراً، أو أنكر من الأول، فالأول كان خرقاً يمكن تداركه بالسد، أما القتل فلا سبيل إلى تداركه. ((قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا)) تأكيد في التذكار، ونكتة زيادة (لك) كما قال الزمخشري : زيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصية، والوسم بقلة الصبر عند الكرة الثانية. أي: كما لو أتى إنساناً ما نهيته عنه فلمته وعنفته، ثم أتى به مرة أخرى فإنك تزيد في عتابك، قال: وهذا موضع تدق عن العثور عليه مبادرة النظر). يعني من قرأ قراءة سريعة دون تأمل لا يلتفت لمثل هذا المعنى، لكن من تأمل القرآن وبلاغته أدرك هذا في المرة الأولى. قال موسى: ((قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي))، أي: وجدت من جهتي عذراً؛ إذ أعذرت إلي مرة بعد مرة فخالفتك ثلاث مرات بمقتضى الاستعجال. ((فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ)) اختلف في تسميتها، قال الحافظ ابن حجر في الفتح: الخلاف فيها كالخلاف في مجمع البحرين، ولا يوثق بشيء منه، يعني: لا يهمنا اسم القرية، والمقصود أخذ العبرة. ((اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا)) أي: امتنعوا من أن يطعموا الطعام الذي هو حق ضيافتهما عليهم، وقرئ: (فأبوا أن يُضِيْفُوهما) من الإضافة، يقال: ضافه إذا نزل به، وأضافه وضيَّفه: أنزله ليطعمه في منزله على وجه الإكرام. ((فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ))، أي: ينهدم. تقول: انقض الطائر إذا أسرع سقوطه، يقول هنا: والإرادة مستعارة للمداناة والمشاركة لما فيهما من الميل، استعارة تصريحية أو مكنية أو تخيلية، أو هي مجاز مرسل بعلاقة السبب، إذ الإرادة سبب لقرب الوقوع. وقد أكثر الزمخشري من الشواهد على مثل هذا المجاز. ((فأقامه))، أي: عمره وأصلحه، ((قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا))، أي: لو طلبت على عملك جعلاً حتى تنتفع به، ففيه لوم على ترك الأجرة مع مسيس الحاجة إليها، أي: هؤلاء الناس ضيعوا حقنا في الضيافة، فكيف تصلح لهم هذا الجدار وتقيمه وتضيع الأجر ((قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ)) هذا إشارة إلى الفراق الموعود، بقوله: ((إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني))، أو إشارة إلى الاعتراض الثالث، أو هذا الوقت الحاضر فراق بيني وبينك. ((سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) يعني: عاقبة أو مآل مالم تصبر على ظاهره؛ لأن التأويل يطلق أحياناً على العاقبة والمآل. وتأويل هذا الذي لم يستطع عليه صبراً هو خلاص السفينة من اليد العادية، وخلاص أبوي الغلام من شره مع الفوز بالبديل الأحسن، واستخراج الكنز لليتيمين. قال أبو السعود : وفي جعل صلة الموصول عدم استطاعة موسى عليه السلام الصبر، دون أن يقول: بتأويل ما فعلت، أو: بتأويل ما رأيت ونحوهما، نوع تعريض به عليه السلام وعتابه. ثم أخذ الخضر في تفسير ما أشكل أمره على موسى، وما كان أنكره ظاهراً، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على باطنه.

إثبات إرادة حقيقية للجدار

قوله: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)). يقول الشنقيطي رحمه الله : هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون بالمجاز في القرآن، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هي مجاز، وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة؛ لأن الله تعالى يعلم للجمادات إيرادات وأفعالاً وأقوالاً لا يدركها الخلق، كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها الله سبحانه وتعالى ونحن لا نعلمها، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن والسنة. يقول: فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك؛ لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، فقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ)[الأحزاب:72]، فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه. ومن الأحاديث على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إني لأعرف حجراً كان يسلم علي بمكة) وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعاً لفراقه)، وكان هذا بمحضر من جميع الصحابة الذين حضروا في صلاة الجمعة، فكلهم رأى هذا الموقف في اليوم الذي اتخذ له فيه المنبر فمر على الجذع ولم يستند إليه كما كان يستند أثناء الخطبة عليه، فصعد المنبر فإذا الجذع يبكي كبكاء الصبي ويحن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نزل عليه الصلاة والسلام من على المنبر وضم الجذع إليه وأخذ يمسح عليه ويهدئه حتى سكت وله خنين كخنين الطفل إذا كان يبكي وينضم إلى صدر أمه، وكأنما نفسه ستطير، فالجذع وهو جماد حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجزع من فراقه. إذاً: فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق إرادة في مثل هذه الجمادات. قال: فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، كما صرح بمثله في قوله: وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]. وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال، وهذا زعم باطل؛ لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وأمثال هذا كثيرة جداً، وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها؛ لأن العقل لا يحيل مثل هذا. ((يريد أن ينقض فأقامه)) جدار خلق الله فيه إرادة بحيث يريد أن ينقض، ولا إشكال في ذلك، ولا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها، لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة، وهذا واضح جداً كما ترى، مع أن من الأساليب العربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء، كما في قول الشاعر: يريد الرمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل وكقول راعي نمير : في مهمه قلقت به هامتها قلق النفوس إذا أردن نضولا يعني: إذا قاربنه، وقول آخر: إن دهراً يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان يعني: لزمان يقع الإحسان فيه. وقد بينا في رسالتنا المسماة: (منع جواز المجاز في المنزل للتعجب والإعجاز) أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز، أن ذلك لا يتعين بشيء منها، وبينا أدلة ذلك، والعلم عند الله تعالى.

قوله: ((فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه)). يقول الشنقيطي رحمه الله : هذه الآية الكريمة من أكبر الأدلة التي يستدل بها القائلون بالمجاز في القرآن، زاعمين أن إرادة الجدار الانقضاض لا يمكن أن تكون حقيقة وإنما هي مجاز، وقد دلت آيات من كتاب الله على أنه لا مانع من كون إرادة الجدار حقيقة؛ لأن الله تعالى يعلم للجمادات إيرادات وأفعالاً وأقوالاً لا يدركها الخلق، كما صرح تعالى بأنه يعلم من ذلك ما لا يعلمه خلقه في قوله جل وعلا: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، فصرح بأننا لا نفقه تسبيحهم وتسبيحهم واقع عن إرادة لهم يعلمها الله سبحانه وتعالى ونحن لا نعلمها، وأمثلة ذلك كثيرة في القرآن والسنة. يقول: فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [البقرة:74]، فتصريحه تعالى بأن بعض الحجارة يهبط من خشية الله دليل واضح في ذلك؛ لأن تلك الخشية بإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، فقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ)[الأحزاب:72]، فتصريحه جل وعلا بأن السماء والأرض والجبال أبت وأشفقت دليل على أن ذلك واقع بإرادة وإدراك يعلمه هو جل وعلا ونحن لا نعلمه. ومن الأحاديث على ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إني لأعرف حجراً كان يسلم علي بمكة) وما ثبت في صحيح البخاري من حنين الجذع الذي كان يخطب عليه صلى الله عليه وسلم جزعاً لفراقه)، وكان هذا بمحضر من جميع الصحابة الذين حضروا في صلاة الجمعة، فكلهم رأى هذا الموقف في اليوم الذي اتخذ له فيه المنبر فمر على الجذع ولم يستند إليه كما كان يستند أثناء الخطبة عليه، فصعد المنبر فإذا الجذع يبكي كبكاء الصبي ويحن إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حتى نزل عليه الصلاة والسلام من على المنبر وضم الجذع إليه وأخذ يمسح عليه ويهدئه حتى سكت وله خنين كخنين الطفل إذا كان يبكي وينضم إلى صدر أمه، وكأنما نفسه ستطير، فالجذع وهو جماد حن إلى النبي عليه الصلاة والسلام وجزع من فراقه. إذاً: فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يخلق إرادة في مثل هذه الجمادات. قال: فتسليم ذلك الحجر، وحنين ذلك الجذع كلاهما بإرادة وإدراك يعلمه الله ونحن لا نعلمه، كما صرح بمثله في قوله: وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]. وزعم من لا علم عنده أن هذه الأمور لا حقيقة لها، وإنما هي ضرب أمثال، وهذا زعم باطل؛ لأن نصوص الكتاب والسنة لا يجوز صرفها عن معناها الواضح المتبادر إلا بدليل يجب الرجوع إليه، وأمثال هذا كثيرة جداً، وبذلك تعلم أنه لا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها؛ لأن العقل لا يحيل مثل هذا. ((يريد أن ينقض فأقامه)) جدار خلق الله فيه إرادة بحيث يريد أن ينقض، ولا إشكال في ذلك، ولا مانع من إبقاء إرادة الجدار على حقيقتها، لإمكان أن يكون الله علم منه إرادة الانقضاض وإن لم يعلم خلقه تلك الإرادة، وهذا واضح جداً كما ترى، مع أن من الأساليب العربية إطلاق الإرادة على المقاربة والميل إلى الشيء، كما في قول الشاعر: يريد الرمح صدر أبي براء ويعدل عن دماء بني عقيل وكقول راعي نمير : في مهمه قلقت به هامتها قلق النفوس إذا أردن نضولا يعني: إذا قاربنه، وقول آخر: إن دهراً يلف شملي بجمل لزمان يهم بالإحسان يعني: لزمان يقع الإحسان فيه. وقد بينا في رسالتنا المسماة: (منع جواز المجاز في المنزل للتعجب والإعجاز) أن جميع الآيات التي يزعمون أنها مجاز، أن ذلك لا يتعين بشيء منها، وبينا أدلة ذلك، والعلم عند الله تعالى.

يقول تبارك وتعالى على لسان الخضر عليه السلام: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:79-82]. ((أما السفينة)) التي خرقتها، ((فكانت لمساكين يعملون في البحر)) أي: لفقراء يحترفون العمل في البحر لنقل الناس من ساحل إلى آخر، ((فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً))، أي: إنما خرقتها لأعيبها؛ لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة يأخذ كل سفينة جيدة غصباً، فأردت أن أعيبها لأرده عنها بعيبها؛ لأنه إذا كان فيها هذا العيب لن يأخذها، لكن إذا كانت السفينة صالحة -كما قال ابن عباس - فإنهم يأخذونها غصباً وظلماً وعدواناً. يقول الشنقيطي : ظاهر هذه الآية الكريمة أن ذلك الملك يأخذ كل سفينة صحيحة كانت أو معيبة، ولكنه يفهم من آية أخرى أنه لا يأخذ المعيبة وهي قوله: ((فأردت أن أعيبها))، أي: لئلا يأخذها هذا الملك، وذلك هو الحكمة في خرقه لها المذكور في قوله: ((حتى إذا ركبا في السفينة خرقها)) ثم بين أن قصده بخرقها سلامتها لأهلها من أخذ ذلك الملك الغاصب؛ لأن عيبها يزهده فيها. ولأجل ما ذكرنا كانت هذه الآية الكريمة مثالاً عند علماء العربية لحذف النعت، أي: وكان وارءهم ملك يأخذ كل سفينة صحيحة غير معيبة، بدليل ما ذكرنا، كما سبق في قوله: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا [الإسراء:58]، واسم ذلك الملك: هدد بن بدر ، وقوله: (وراءهم)، أي: أمامهم، كما تقدم في سورة إبراهيم عليه السلام، في قول الله: ((مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ ))[إبراهيم:16] يعني: من أمامه. ((وأما الغلام)) الذي قتلته، ((فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا))، لو تركناه حياً، ((أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا))، أي: أن ينزل بهما طغيانه وكفره، ويلحقه بهما لكونه طبع على ذلك، فيخشى أن يعديهما بدائه؛ إذ الكفر ينتقل منه إليهما فيفتنهما عن دينهما، ((فَأَرَدْنَا)) بقتله، ((أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً))، أي: طهارة عن الكفر والطغيان، وهذا يشير إلى أن الإيمان تطهير وتزكية، ((خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا)) أي: رحمة بأبويه وبراً. وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ [الكهف:82]. قوله: ((فأراد ربك أن يبلغا أشدهما))، أي: قوتهما في العقل وكمال الرأي، ((ويستخرجا كنزها))، ليتصرفا فيه، ((رحمة من ربك)) أي: تفضلاً به عليهما، ورحمة: مفعول له، أو مصدر مؤكد (لأراد)، فإن إرادة الخير رحمة. (( وَمَا فَعَلْتُهُ ))، ما فعلت ما رأيت مني، (( عَنْ أَمْرِي ))، أي: عن اجتهادي ورأيي، وإنما فعلته بأمر الله تعالى، ((ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا)) من الأمور التي رأيتها، أي مآله وعاقبته. قال أبو السعود : ((ذلك)) إشارة إلى العواقب المنظومة في سلك البيان، وما فيه من معنى البعد، للإيذان ببعد درجتها في الفخامة، و((تسطع)) مخفف بحذف التاء.