تفسير سورة يونس [26-39]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:25-26]. ذكر الله سبحانه وتعالى الدنيا وسرعة زوالها رغب في الجنة ودعا إليها، وسماها دار السلام، أي: من الآفات والنقائص، فقال سبحانه وتعالى: وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [يونس:25]. ((اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلامِ)) أي: يدعو الخلق بتوحيده إلى جنته. ((وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)) أي: إلى دين قيم يرضاه وهو الإسلام. ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)). أي: للذين أحسنوا النظر فعرفوا الدنيا وشهواتها فأعرضوا عنها، وتوجهوا إلى الله تعالى فعبدوه كأنهم يرونه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فهذا هو معنى قوله: ((للذين أحسنوا)) أي: عبدوا الله كأنهم يرونه، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان، فكما أنهم أحسنوا جازاهم الله سبحانه وتعالى بالحسنى من جنس عملهم. والمقصود بالحسنى المثوبة، وهي الجنة، ثم هناك فضل وزيادة على هذه المثوبة كما قال سبحانه وتعالى: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [النساء:173] وأعظم أنواع هذا الفضل النظر إلى وجهه الكريم، ولذا تواتر تفسيرها بالرؤية عن غير واحدٍ من الصحابة والتابعين ورفعها ابن جرير إلى النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي موسى وكعب بن عجرة وأبي رضي الله عنهم وكذا ابن أبي حاتم. وروى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية: ((لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)) وقال: إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار نادى منادٍ: يا أهل الجنة! إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: ما هو؟ ألم يثقل موازيننا، ألم يبيض وجوهنا ويدخلنا الجنة ويزحزحنا عن النار؟ قال: فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه عز وجل، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم) وهكذا رواه مسلم أيضاً. ((وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ)) أي: ولا يغشاها غبرة سوداء من أثر حب الدنيا والشهوات. ((وَلا ذِلَّةٌ)) أي: ولا يوجد على وجوههم أثر الذل والهوان، وكسوف البال من أثر الالتفات إلى ما دون الله تبارك وتعالى، وفي تعقيب الزيادة بهذه الجملة ((وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ)) مصداق لصحة تفسير الزيادة بالرؤية الكريمة؛ لأن فيها تنبيهاً على إكرام وجوههم بالنظر إلى الله تعالى. هذه الوجوه الذي كرمت وشرفت بالنظر إلى الله سبحانه وتعالى هي جديرة ألا ترهق بقتر البعد ولا ذلة الحجاب، عكس المحرومين المحجوبين، فإن وجوههم مرهقة بقتر الحجاب وذلة البعد. ((أُوْلَئِكَ)) أي: الذين أحسنوا ((أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).

وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [يونس:27] الشرك والمعاصي. ((جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ)) أي: واق يقيهم العذاب. ((كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ)) أي: كأنما ألبست وجوههم. ((قِطَعًا)) أي: أجزاءً. ((مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا)) لشدة السواد والظلمة التي على وجوههم والعياذ بالله؛ بسبب الشرك والمعاصي، فكأنهم لبسوا ثوباً أسود غطوا وجوههم به، والقصد الإخبار بأبدع تشبيه عن سواد وجوههم. ((أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)).

لقد بين تعالى ما ينال المشركين يوم الحشر من التوبيخ والخزي فقال عز وجل: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ [يونس:28]. ((وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا)) أي: نحشر المشركين ومعبوداتهم، الضمير في قوله: (نحشرهم) عائد على المشركين ومعبوداتهم التي عبدوها من دون الله؛ للمقاولة بينهم. ((ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا)) أي: أشركوا معبوديهم بالله. فهؤلاء في هذه الحالة وقد حشروا مع هذه الآلهة التي كانوا يعبدونها، يتوقعون أن تشفع لهم هذه الآلهة كما كانوا يؤملون من قبل، فيجمع الله سبحانه وتعالى العابدين والمعبودين من دونه في نفس الموقف فيقول الله سبحانه وتعالى لهم: ((مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ)) أي: الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. قال القاشاني : معناه: قفوا مع ما وقفوا معه في الموقف من قطع الوصل والأسباب التي هي سبب محبتهم وعبادتهم، وتبرؤ المعبود من العابد لانقطاع الأغراض الطبيعية التي توجب ذلك الوصل ((فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ)) أي: مع أنهم مجموعون في موقف واحد وفي صعيدٍ واحد، لكن فرق الله سبحانه وتعالى بينهم وقطع الوصل الذي كان بينهم، فلا يبقى من العابدين توقع شفاعة ولا من المعبودين إفادتها، ولو أمكنتهم فرضاً. ((وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)) إذ لم تكن عبادتكم عن أمرنا، وإنما كنتم تعبدون الشيطان؛ لأنه هو الذي أمركم بهذه العبادة، فأنتم ما عبدتمونا نحن بل عبدتم الشيطان، كما يقول إبليس لهم في الخطبة التي يخطبها: وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [إبراهيم:22]. فجميع الآلهة التي عبدت من دون الله كاللات والعزى وغيرهما يقولون: ((مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ)) أي: يتبرءون منهم. قال بعض المفسرين: إن هذه الأوثان جمادات وهي لا تنطق، فمن ثم ذهب بعضهم إلى أن هذا مجاز، وقال بعضهم: بل ينطقها الله سبحانه وتعالى الذي أنطق كل شيء، فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي كانوا يتوقعونها، وتحملهم مسئولية هذا الشرك. فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ [يونس:29]. أي: الله يعلم أن ما أمرناكم بذلك، وما أردنا عبادتكم إيانا.

هُنَالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [يونس:30]. ((هُنَالِكَ)) في ذلك المقام المدهش حين قطع المواصلة، وإنكار الشركاء العبادة لهم ممن عبدهم. ((تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ)) تختبر وتذوق كل نفس ما أسلفت من العمل فتعاين أثره من قبيح وحسن، ورد وقبول، كما يختبر الرجل الشيء ليتعرف حاله، وهذا كقوله تعالى: يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ [القيامة:13]، وقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ [الطارق:9]. ((وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ)) الضمير يعود على الذين أشركوا، أي: هؤلاء المشركون ردوا إلى الله المتولي جزاءهم بالعدل والقسط. ((وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) أي: ضاع عنهم ما افتروه من اختراعاتهم وأصول دينهم ومذهبهم، وتوهماتهم الكاذبة وأمانيهم الباطلة، فلم يبق له أثر فيهم. وفي هذه الآية توبيخ شديد للمشركين الذين عبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئاً، ولم يأمرهم بذلك ولا رضي به ولا أراده، بل تبرأ منهم أحوج ما يكونون إلى المعونة منه. والمشركون أنواع وأقسام، وقد ذكرهم الله تعالى في كتابه وبين أحوالهم، ورد عليهم أتم رد.

لقد احتج على المشركين على وحدانيته باعترافهم بربوبيته وحده وذلك بقوله سبحانه وتعالى: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ [يونس:31]. ألزمهم بإقرارهم بتوحيد الربوبية على وجوب توحيد العبادة والألوهية. ((قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ)) بالإمطار والإنبات، ولا يكون ذلك إلا ممن له التصرف العام فيهما، فلا يمكن أن يصدر هذا الرزق إلا ممن يملك ما في السماوات وما في الأرض، وهو الله سبحانه وتعالى. ((أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ)) من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحد الذي هي عليه من الفطرة العجيبة؟! قال تعالى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [الملك:23]. ((وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ)) يخرج النسمة من النطفة، أو الطير من البيضة، أو السنبلة من الحب. ((وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ)) كأن يخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر. وقيل: المراد أن يخرج الرجل المؤمن من ظهر أب كافر، ويخرج الرجل الكافر من الأب الصالح، فالحياة هنا والموت باعتبار الإيمان والكفر. ((وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ)) أي: من يلي تدبير أمر العالم كله؟! وهذا تعميم بعد تخصيص أي: ما تقدم آنفاً وكل الأمور. ((فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ)) إذ لا مجال للمكابرة لشدة وضوحه. لم يقل تبارك وتعالى: (قالوا الله)، لكن قال: (فسيقولون الله) فألزمهم بهذا الجواب؛ لأنهم لا يملكون إلا هذا الجواب، لشدة الوضوح في هذه الحقيقة. ولو قالوا بخلاف هذا الجواب فلن يكون هذا إلا عن مكابرة. ((فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ)) أي: بعد اعترافكم أنه لا يملك هذا كله إلا الله سبحانه وتعالى؛ أفلا تتقون وتخافون من غضبه لعبادة غيره اتباعاً للهوى؟!

فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ [يونس:32]. ((فَذَلِكُمُ)) إشارة إلى من هذه قدرته وإلى من هذه أفعاله سبحانه وتعالى. ((فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ)) أي: الثابت الدائم في وحدانيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر. (( فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)) أي: لا توجد مرتبة متوسطة بين الحق والباطل، فمن تخطى الحق وقع في الضلال. فما بعد أحقية ربوبيته إلا بطلان ربوبية ما سواه وعبادة غيره انفراداً أو شركة. ((فَأَنَّى تُصْرَفُون)) عن الحق الذي هو التوحيد إلى الضلال الذي هو الشرك، وأنتم تعترفون بأنه الخالق لكل شيء؟!

كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:33]. ((كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)) أي: ثبت حكمه وقضاؤه على الذين تمردوا وخرجوا إلى الحد الأقصى في هذا الكفر. إعراب كلمة: ((أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)) بدل من قوله تعالى: ((كَلِمَةُ رَبِّكَ)) يعني: حق عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله سبحانه وتعالى منهم ذلك. أو أراد بقوله: ((كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)) أنهم سوف يعذبون. وقد سبق من قبل أن ذكرنا: أن الأصل في تفسير مثل هذه المواضع: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي [السجدة:13] أو: ((حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ)) أنها إشارة إلى قوله تعالى: لَأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود:119]. وكذلك قوله تعالى: قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ [الزمر:71]، وقوله تعالى: أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ [الزمر:19]. قوله: ((عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا)) لم يقل: عليهم، فقد مر ذكرهم فيما قبل، لكن أظهر موضع الإضمار للإشعار بالعلية لهذا الوعيد من كونهم فسقوا. والفسق هنا هو التمرد في الكفر، فآل الكلام إلى أن كلمة العذاب حقت عليهم لتمردهم وكفرهم، ولأنهم لا يؤمنون، وهو تكرار.

لقد احتج أيضاً على أحقية التوحيد وبطلان الشرك، بما هو من خصائصه عز وجل من بدء الخلق وإعادته، فقال سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [يونس:34]. ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: هل يوجد أحد من هذه الآلهة التي تشركون بها مع الله سبحانه وتعالى من يبدأ الخلق من النطفة، ويجعل فيه الروح ليتعرف إليه، ثم يحييه يوم القيامة ليجزيه بما أسلف في الأيام الخالية؟! وإنما نظمت الإعادة في سلك الاحتجاج مع عدم اعترافهم بها إيذاناً بظهور برهانها من الأدلة القائمة على الإعادة والبعث والنشور سمعاً وعقلاً، وأن إنكارها مكابرة وعناد لا يلتفت إليه. يعني: كنتم تقولون: إن الله سبحانه وتعالى هو الذي بدأ الخلق، فليس لكم عذر في أن تجحدوا أنه يعيد الخلق؛ لأن الذي يقدر على الإبداء قادر بطريق الأولى على أن يعيده. ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يبين لهم من يفعل ذلك بقوله: ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)) أي: كيف تصرفون إلى عبادة غيره ممن لا يقدر على ما لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى.

ثم احتج عليهم أيضاً إفحاماً إثر إفحام بقوله سبحانه وتعالى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [يونس:35]. ((قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)) أي: يهدي إلى الحق بوجه من الوجوه كبعثة الرسل، وإيتاء العقل، وتمكين النظر في آيات الكون، والتوفيق للتدبر، فالله سبحانه وتعالى هدى الخلق إلى الحق من وجوه عديدة، فهو الذي بعث الرسل ليهدوا ويوضحوا ويبينوا، وهو الذي أعطاهم العقل؛ كي يستعملوه في الاهتداء إلى التوحيد، وهو الذي بث لهم آياته في الآفاق وفي أنفسهم؛ كي يعملوا عقولهم ويتفكروا في هذه الآيات، ويستدلوا بها على توحيد الله سبحانه وتعالى، وهو الذي وفقهم وخلق فيهم القدرة؛ كي يتدبروا في هذه الآيات ويصلوا إلى توحيده عز وجل. فهل من شركائكم من عنده القدرة على الهداية إلى الحق كما فعل الله سبحانه وتعالى بهذه الوجوه وغيرها؟! ((قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ)) وهو الله سبحانه وتعالى: ((أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ)) أي: يعبد ويطاع. ((أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)) أم من لا يهتدي إلا أن يهديه الله سبحانه وتعالى، نزل منزلة من يعقل لإفحامهم، بمعنى: هل الله سبحانه وتعالى أحق أن يعبد ويطاع، أم هذه الأوثان التي لا يمكن لها أن تهتدي إلا أن يهديها الله؟! فكيف يتصور أن مثل هذه الآلهة تعبد من دون الله، وهي عاجزة عن هداية نفسها فضلاً عن معبوديها؟! وهي أحجار لا تسمع ولا تملك نفعاً ولا ضراً. وقيل معناه: أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه إلا أن ينقل؛ لأنه لا يستطيع أن يتحرك حتى يأتي من يحركه وينقله، أو لا يهتدي ولا يصح منه الاهتداء إلا أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه. وإذا كان هذا شأن المخلوق الجماد الضعيف غير القادر، فالإنسان نفسه الذي أكمل من هذا الجماد. أما هذا الإله الصنم من الخشب أو الحجر فهو يحتاج إلى أن يترقى أولاً إلى مستوى من يعبده، أي: يترقى من كونه خشباً أو حجراً إلى أن يصبح كائناً حياً تنفخ فيه الروح، ثم يكون مكلفاً عاقلاً كبني آدم، ثم يخلق الله سبحانه وتعالى فيه إرادة الهداية، فإنه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا [الكهف:17]. بهذه الكيفية يتضح لنا أن العابدين أفضل من الأنداد والأوثان المعبودة؛ لأنهم أحياء لهم أرواح ولهم عقول ولا يهتدون إلا أن يهديهم الله سبحانه وتعالى. وقد قرئ: ((أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى)) وقرئ ((أمن لا يَهدِي إلا أن يهدى)) والعرب تقول: يهدِّي بمعنى: يهتدي، يقال: هديته فهدي أي: اهتدى. (فما لكم) مبتدأ وخبر، والاستفهام للإنكار والتعجب. أي: أي شيء لكم باتخاذ هؤلاء العاجزين عن هداية أنفسهم فضلاً عن هداية غيرهم شركاء؟! ((كَيْفَ تَحْكُمُونَ)) مستأنف أي: كيف تحكمون بالباطل حيث تزعمون أنهم أنداد لله.

قال تعالى: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [يونس:36]. ((وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ)) أي: في اعتقادهم ألوهية الأصنام. ((إِلَّا ظَنًّا)) اعتقاداً غير مستند إلى برهان، بل لخيالات فارغة وأقيسةٍ فاسدة. والمراد بالأكثر هنا الجميع. ((إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ)) أي: من العلم والاعتقاد الحق ((شيئاً)) أي: من الإقناع. ((إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ)) وعيد على ما يفعلون من اتباع الظن وإعراضهم عن البرهان. يلفت الرازي رحمه الله النظر إلى وجود ارتباط وثيق في القرآن الكريم بين آية الخلق وآية الهداية. يقول الرازي في هذه الآيات: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ * قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [يونس:34-36]: اعلم أن الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً عادة مطردة في القرآن، فحكى الله تعالى عن الخليل عليه السلام أنه ذكر ذلك فقال: الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء:78]. وحكى عن موسى عليه السلام في سورة طه: قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى [طه:50]. وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3]. فذكر الخلق ثم الهداية، وهو في الحقيقة دليل شريف؛ لأن الإنسان له جسد وروح، فهاهنا أيضاً لما ذكر دليل الخلق في الآية الأولى، وهو قوله: (أمن يبدئ الخلق ثم يعيده) أتبعه بدليل الهداية في هذه الآية، والمقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح كما قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78]. ((أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ)) أي: هذا الجسد، ثم بعد ذلك جعل لكم السمع والأبصار والأفئدة تعلمون بها ((لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) وهذا كان كالتصريح بأنه تعالى إنما خلق الجسد وإنما أعطى الحواس؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف والعلوم. ثم يقول: فالأحوال الجسدية خفيفة متعلقة بالحواس، أما الأحوال الروحانية والمعارف الإلهية فإنها كمالات باقية أبد الآباد، مصونةٌ عن الفساد، فعلمنا أن الخلق تبع للهداية. والمقصود أن الأشرف والأعلى هو حصول الهداية؛ ولكن لاضطراب العقول وتشعب الأفكار، كانت الهداية وإدراك الحق بإعانته تعالى وحده، والهداية إما أن تكون عبارةً عن الدعوة إلى الحق، أو عن تحصيل معرفتها، وعلى كلٍ فقد بينا أنها أشرف المراتب وأعلى السعادات، وأنها ليست إلا منه تبارك وتعالى، وهذه أدلة على توحيد الله سبحانه وتعالى أنه الذي خلق ثم هدى. أما الأصنام فإنها جمادات لا تأثير لها في الدعوة إلى الحق، ولا في الإرشاد إلى الصدق، فثبت أنه تعالى هو الموصل إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة، والمرشد إلى كل الكمالات في النفس والجسد، وأن الأصنام لا تأثير لها في شيء من ذلك، وإذا كان كذلك كانت عبادتها جهلاً محضا وسفهاً. فهذا حاصل الكلام في هذا الاستدلال.