تفسير سورة يونس [1-25]


الحلقة مفرغة

نشرع بإذن الله تعالى في تفسير سورة يونس، وسميت باسم يونس عليه السلام؛ لأنها تضمنت قوله تبارك وتعالى: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ [يونس:98]. هذه السورة مكية واستثني منها قوله تعالى: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ [يونس:94] إلى آخر الآيتين، وقوله: وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ [يونس:40] قيل: نزلت في اليهود. وقيل: من أولها إلى رأس أربعين مكي، والباقي مدني، وآياتها مائة وتسع آيات. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس:1]. الكلام على الحروف المقطعة كالكلام في سوابقها من فواتح السور، وقد تقدم اختلاف العلماء وأولى الأقوال في ذلك أن يقال: الله أعلم بمراده من هذه الأحرف المقطعة. أما الأقوال الأخرى فأقواها أنها جاءت على سبيل التحدي للعرب الفصحاء البلغاء أن يأتوا بمثل هذا القرآن المؤلف من نفس الحروف التي ينطقون بها، ولذلك غالباً ما ترد الإشارة إلى القرآن الكريم عقب هذه الآيات مباشرة الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [يونس:1] الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ [البقرة:1-2] هذا في الغالب. وقوله: ((تلك)) في اسم الإشارة معنى البعد للتنبيه على بعد منزلتها في الفخامة. والمراد بالكتاب: إما جميع القرآن العظيم، حتى لو لم يكن قد نزل كل القرآن العظيم حينئذ، باعتبار تعينه وتحققه في علم الله تعالى؛ لأن القرآن العظيم بصورته الكاملة الشاملة متحقق في علم الله سبحانه وتعالى، فالله يشير إلى هذا القرآن الذي يعلمه كله، وإن لم يكن البشر قد علموا كله حينئذ. أو المقصود بالكتاب ما نزل منه حتى وقت مخاطبتهم بهذه الآية. و((الحكيم)) ذو الحكمة، وصف به لاشتماله على فنون الحكم الباهرة ونطقه بها، أو هو من باب وصف الكلام بصفة صاحبه، أو من باب الاستعارة المكنية المبنية على تشبيه الكتاب بالحكيم الناطق بالحكمة.

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ [يونس:2]. هذا تعجب من تعجبهم، ولذلك هذا الاستفهام تعجبي ((أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا)). ((أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ)) هل هذا شيء يستحق أن يتعجبوا منه، بل هذا منهم أعجب! ((وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ)) الهمزة لإنكار تعجبهم، وللتعجيب من هذا الإنكار، وإنما أنكر ذلك لكون سنة الله جاريةً على هذا الأسلوب في الإيحاء إلى الرجال، كما قال عز وجل في الآية الأخرى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:9] أي: لست أول رسول من البشر يرسل إليه من عند الله سبحانه وتعالى، وإنما هذه سنة الله سبحانه وتعالى، وقوله عز وجل: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ [الأنبياء:7]. وإنما كان تعجبهم لبعدهم عن مقامه، وعدم مناسبة حالهم لحاله ومنافاة ما جاء به لما اعتقدوه. (( وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ )) (قدم صدق) أي: السبق باعتبار أن القدم هي آلة السبق. فليس المقصود بالقدم هنا القدم الجارحة، وإنما المقصود السبق؛ لأن السبق لا يكون إلا عن طريق الأقدام، كما يطلقون اليد على النعمة، يقال: فلان له عندي أيادٍ كثيرة، أو: لولا يد لك عندي لم أجزك بها لرددت عليك، كما قال ­المشرك لـأبي بكر رضي الله تعالى عنه في صلح الحديبية، وذلك لأن الإحسان غالباً ما يكون باليد، وكما تطلق العين على الجاسوس؛ لأنه يستعمل عينه للتجسس، كذلك الرأس تطلق على الرئيس. ثم إن السبق مجاز عن الفضل والتقدم المعنوي إلى المنازل الرفيعة، هذا هو الاحتمال الأول. وقيل: القدم بمعنى المقام كقوله تعالى: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:55]. بإطلاق الحال، وإرادة المحل، وإضافته إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة فقال: (قدم صدق). وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق، وتنبيه على أنهم إنما نالوا ما نالوا بصدقهم ظاهراً وباطناً. (( قَالَ الْكَافِرُونَ )) أي: هؤلاء المتعجبون (( إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ )) كما هي قراءة حفص عن عاصم، على أن الإشارة إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أما إذا قرأناها (إن هذا لسحر مبين) أي: أن هذا القرآن سحر مبين. وهذا دليل عجزهم وأنهم كانوا كاذبين في تسميته سحراً؛ وذلك لأن التعجب أولاً، ثم التكلم بما هو معلوم الانتفاء قطعاً حتى عند المعارض، هو دأب العاجز؛ لأنه ليس عنده أي حجة يواجه بها هذا الحق، فهو يتعجب!

قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يونس:3] لقد بين تعالى بطلان تعجبهم السابق وما بنوا عليه، وحقق فيه أحقية ما تعجبوا منه وصحة ما أنكروه، بالتنبيه على بعض ما يدل عليه من شئون الخلق والتقدير، ولذلك فإن سورة يونس من السور المشتملة على آيات عظيمة من آيات التوحيد، سواء توحيد الربوبية، أو توحيد الألوهية، أو توحيد الأسماء والصفات، ونحن نعلم كما درسنا من قبل في كتاب "دعوة التوحيد" أن من أساليب القرآن الكريم في الدعوة إلى توحيد الألوهية الاستدلال بتوحيد الربوبية كمقدمة يبنى عليها توحيد الألوهية، فهذا يكثر في هذه السورة. بعدما تعجب الله سبحانه وتعالى من عجبهم من إرسال الرسل من البشر بين عز وجل ونبه على بعض ما يدل على توحيده عز وجل من شئون الخلق والتقدير، وأرشدهم إلى معرفتها بأدنى تذكير، فقال سبحانه وتعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [يونس:3]. قال البخاري في صحيحه في الرد على الجهمية: قال أبو العالية: ((اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) أي: ارتفع وعلا على العرش. وقال مجاهد: ((اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)) علا بلا تمثيل ولا تكييف، والعرش هو الجسم المحيط بجميع الكائنات وهو أعظم المخلوقات. والأيام قيل: ستة أيام من أيام الدنيا. وقيل: إن كل يوم من هذه الأيام كألف سنة؛ وذلك لقوله عز وجل: وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47]. ((يُدَبِّرُ الأَمْرَ)) أي: يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة أمر الخلق كله. ((مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ)) تقرير لعظمته وجلاله، ورد على من زعم أن آلهتهم تشفع لهم عند الله عز وجل. ((ذَلِكُمُ اللَّهُ)) إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي: ذلكم العظيم الموصوف بما وصف به. ((رَبُّكُمْ)) أي: الذي رباكم ونماكم ونشأكم وخلقكم لتعبدوه. ((فَاعْبُدُوهُ)) أي: وحدوه بالعبادة ولا تشركوا في عبادته أحداً. ((أَفَلا تَذَكَّرُون)) أي: تتفكرون أدنى تفكر، فينبهكم على أنه المستحق للربوبية والعبادة لا ما تعبدونه.

قال تعالى: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ * هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:4-5]. تأتي آيات توحيد الربوبية للاستدلال بها على توحيد الألوهية، وللإلزام بتوحيد الألوهية، فقوله: ((إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا)) أي: بالموت والنشور وأنكم لا ترجعون في العاقبة إلا إليه، فاستعدوا للقائه. ((وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا)) أي: صدقاً. ثم علل وجوب المرجع إليه بقوله سبحانه وتعالى: ((إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ)) أي: من النطفة. ((ثُمَّ يُعِيدُهُ)) أي: بعد الموت. ((لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ)) أي: بعدله، أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم؛ لأن الإيمان هو العدل القويم كما أن الشرك هو الظلم العظيم، فالمؤمن عادل لأنه وضع الإيمان في محله، والمشرك ظالم لأنه وضع الأشياء في غير محلها، وهذا القول هو الأوجه لمقابلة قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ [يونس:4]. ((شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ)) أي: من ماء حار قد تناهى حره. ((وَعَذَابٌ أَلِيمٌ)) أي: وجيع يخلص ألمه إلى قلوبهم. ((بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ)) أي: بسبب كفرهم.

قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس:5]. نبه تعالى للاستدلال على توحيده في ربوبيته بآثار صنعه في النيرين، وهما الشمس والقمر، والاستدلال بما مر من إبداع السماوات والأرض، فقال عز وجل: ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً))[يونس:5] (ضياءً) أي: للعاملين بالنهار. ((وَالْقَمَرَ نُورًا)) أي: بالليل، والضياء أقوى من النور. ((وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ)) إما أن الضمير هنا يعود على الشمس والقمر بتأويل كل واحد منهما، أي: قدر الشمس منازل وقدر القمر منازل، أو أن الضمير يعود فقط على أقرب مذكور وهو القمر. وخص القمر دون الشمس بأنه قدر منازل، كما قال تبارك وتعالى في الآية الأخرى: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39] لكون منازله معلومةً محسوسة، وتعلق أحكام الشريعة به، وكونه عمدةً في تواريخ العرب. ((لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ)) أي: حساب الشهور والأيام مما نيط به المصالح في المعاملات والتصرفات. ((مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ)) أي: بالحكمة البالغة. ((يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) أي: يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية؛ لأن الآيات إما تكوينية مبثوثة في السماوات والأرض، وإما آيات تنزيلية مما يأتي في الوحي الشريف. فهو يبين الآيات التكوينية أو التنزيلية المنبهة على ذلك. ((لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ)) الحكمة في إبداع الكائنات، فيستدلون بذلك على وحدانية مبدعها. قال السيوطي : هذه الآية أصل في علم المواقيت والحساب، ومنازل القمر والتاريخ.

لقد نبه للاستدلال على وحدانيته سبحانه أيضاً بقوله عز وجل: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [يونس:6]. ((إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ)) أي: في تعاقبهما، وكون كل منهما خلفةً للآخر. ((وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)) أي: من الشمس والقمر والنجوم والشجر والدواب والجبال والبحار وغير ذلك. ((لَآيَاتٍ)) أي: لآيات عظيمةً دالةً على وحدانية مبدعها وكمال قدرته وحكمته. ومعنى ((لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ)) أي: يتقون الله ويخافون العاقبة. وخص المتقين؛ لأنهم المنتفعون بنتائج التدبر فيها، فإن الداعية إلى النظر والتدبر إنما هو تقواه تعالى، والحذر من العاقبة. وفي هذه الآيات إشارة إلى أن الذي أوجد هذه الآيات الباهرة، وأودع فيها المنافع الظاهرة، وأبدع في كل كائن صنعه، وأحسن كل شيء خلقه، وميز الإنسان وعلمه البيان، يكون من رحمته وحكمته اصطفاء من يشاء لرسالته؛ ليبلغ عنه شرائع عامة، تحدد للناس سيرهم في تقويم نفوسهم، وكبح شهواتهم، وتعلمهم من الأعمال ما هو مناط سعادتهم وشقائهم في الآخرة.

قال عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8]. ((إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا)) أي: أنهم يئسوا من الآخرة كما يئس الكفار من أصحاب القبور، فهم لا يرجون لقاء الله ولا يعتقدون البعث والنشور؛ لأنهم لا يتوقعون الجزاء على أعمالهم ((وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)) أي: لا يتفكرون في آيات الله ((أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون)).

قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9]. (( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)) الباء سببية، أي: بسبب إيمانهم. لم يذكر الشيء الذي يهديهم إليه، والمقصود أنه يهديهم إلى مأواهم في الآخرة وهو الجنة، وإنما لم تذكر تعويلاً على ظهورها، وانسياق النفس إليها، لا سيما بملاحظة ما سبق من بيان مأوى الكفرة، ولذلك قال عز وجل: ((يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ)) أي: إلى الجنة. ((تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)) أي: من تحت منازلهم أو بين أيديهم.

قال تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]. ((دَعْوَاهُمْ فِيهَا)) أي: دعاؤهم ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)). ومعنى قوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) أي: اللهم إنا نسبحك، كقول القانت: اللهم إياك نعبد، يقال: دعا يدعو دعاءً ودعوى، كما يقال: شكا يشكو شكايةً وشكوى، فإذاً دعواهم هنا تساوي الدعاء، ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله تعالى: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم:48] أي: وما تعبدون من دون الله. ((وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ)) أي: تحيتهم التي يحيي بها بعضهم بعضاً هي أنهم يسلم بعضهم على بعض. أو أنها تحية الملائكة إياهم بالسلام، كما في قوله تعالى: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [الرعد:23-24]. أو هي تحية الله عز وجل لهم، كما في قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] والتحية التكرمة بالحالة الجلية، أصلها أحياك الله حياةً طيبة، والسلام: بمعنى السلامة من كل مكروه. ((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ)) أي: وخاتمة دعائهم هو التحميد بقولهم: ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) يعني: أن أول دعائهم (سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) وآخر دعائهم ((أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) فهم يختمون دعاءهم بحمد الله سبحانه وتعالى. والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك كما في الحديث الصحيح، مع أنهم في دار ليست دار تكليف وليست بدار عبادة، لكنهم يلهمون التسبيح كما تلهمون النفس، فالذي ينام ليس هو الذي يتولى تنظيم تنفسه، وضربات قلبه، وخلجات عضلاته، فكذلك أهل الجنة ليسوا في دار تكليف، فلذلك هذا التسبيح يخرج منهم إلهاماً من الله سبحانه وتعالى. في كثير من النصوص يقرن التسبيح بالتحميد، فإن قلت: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فمعنى سبحانك: هو تنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق أن ينسب إليه. أما الحمد فهو إثبات ما يليق من صفات الكمال والجمال والجلال. وفي القرآن الكريم يربط التسبيح بالتحميد كما في قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء:44] لكن الصيغة الغالبة هي سبحانك اللهم وبحمدك. أي: أقول ذلك متلبساً بحمدك. فهنا عدل عن هذه الصفة كما يقول القاسمي هنا. والمراد من الآيات أن دعاء أهل الجنة وعبادتهم هو قولهم: سبحانك اللهم وبحمدك، وإيثار التعبير عن (وبحمدك) بقوله: ((وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)) رعايةً للفواصل، واهتماماً بالحمد وما معه من النعوت الجليلة. والآية تدل على سمو هذا الذكر؛ لأنه دعاء أهل الجنة، ولأنه ذكر الملائكة كما قالوا: وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ [البقرة:30] ولذلك يفضل الإمام أحمد أن يقال بعد تكبيرة الإحرام في دعاء الاستفتاح: (سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك)؛ لأن فيه ثناءً محضاً، وفيه الاشتغال بالثناء على الله سبحانه وتعالى، وهو أفضل من الاشتغال بالسؤال، وفي كل خير. قال الرازي : لما استسعد أهل الجنات بذكر سبحانك اللهم وبحمدك، وعاينوا ما فيه من السلامة عن الآفات والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية والمقامات القدسية، إنما تيسرت بإحسان الحق سبحانه وتعالى وإفضاله وإنعامه، فلا جرم لم يشتغلوا إلا بالحمد والثناء، هذا هو دعاؤهم أوله: ((سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ)) وآخره: ((الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)).

الحكمة من تأخير العذاب إلى يوم القيامة

لما بين تبارك وتعالى وعيده الشديد كما في قوله: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8] أتبعه بما دل على أن هذا الوعيد من حقه أن يتأخر عن الدنيا؛ لأنه إذا حصل لهم في الدنيا وعاينوه في الدنيا، فإن هذه المعاينة تكون مانعاً من بقاء التكليف. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يكشف الحجب لجميع الخلق فيرون الجنة عياناً ويرون النار عياناً، ويرون الملائكة وغيرها من الغيبيات، ففي هذه الحالة ستنتقل الدنيا من كونها دار عمل إلى دار جزاء، ولم يبق للتكليف معنى؛ لأننا إذا عاينا هذه الآيات آمن الناس كلهم كما قص الله سبحانه وتعالى أن الكفار يوم القيامة يقولون: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] فهذا يقين اضطراري. وكذلك إذا حصل أن كشفت الحجب ورأوا هذه الغيبيات فإنه لن يحصل تفاضل في الإيمان بين الناس؛ لأن الإيمان بالغيب هو أول صفة من صفات المتقين في القرآن الكريم. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]. وهذا الإيمان الاضطراري لا ينجي، وإنما ينجي المرء الإيمان الاختياري، فهذا فرعون آمن إيماناً اضطرارياً حينما عاين الموت، وقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] فلم ينفعه ذلك؛ لأن العبرة بأن يؤمن الإنسان بالغيب في حالة الاختيار؛ لأنه يعمل عقله ويتفكر ويتدبر ويبذل جهداً، لكن إذا كشفت له الحجب فإنه سيؤمن إيماناً اضطرارياً. ومن حكمته أنه حليم على هؤلاء الذين يحاربون دين الله سبحانه وتعالى ليل نهار في كل أطراف الأرض، فهم يعذبون المسلمين ويذبحونهم، ويبارزون الله بالمعاصي، ويعبدون الشيطان والأوثان والكواكب والبشر، فهؤلاء سوف يستوون جميعاً في الإيمان إذا كشفت لهم الحجب في الدنيا، وذلك يتنافى مع استمرار الابتلاء والامتحان بالتكليف في هذه الدار الدنيا.

لما بين تبارك وتعالى وعيده الشديد كما في قوله: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [يونس:7-8] أتبعه بما دل على أن هذا الوعيد من حقه أن يتأخر عن الدنيا؛ لأنه إذا حصل لهم في الدنيا وعاينوه في الدنيا، فإن هذه المعاينة تكون مانعاً من بقاء التكليف. والمعنى أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يكشف الحجب لجميع الخلق فيرون الجنة عياناً ويرون النار عياناً، ويرون الملائكة وغيرها من الغيبيات، ففي هذه الحالة ستنتقل الدنيا من كونها دار عمل إلى دار جزاء، ولم يبق للتكليف معنى؛ لأننا إذا عاينا هذه الآيات آمن الناس كلهم كما قص الله سبحانه وتعالى أن الكفار يوم القيامة يقولون: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12] فهذا يقين اضطراري. وكذلك إذا حصل أن كشفت الحجب ورأوا هذه الغيبيات فإنه لن يحصل تفاضل في الإيمان بين الناس؛ لأن الإيمان بالغيب هو أول صفة من صفات المتقين في القرآن الكريم. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]. وهذا الإيمان الاضطراري لا ينجي، وإنما ينجي المرء الإيمان الاختياري، فهذا فرعون آمن إيماناً اضطرارياً حينما عاين الموت، وقال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ [يونس:90] فلم ينفعه ذلك؛ لأن العبرة بأن يؤمن الإنسان بالغيب في حالة الاختيار؛ لأنه يعمل عقله ويتفكر ويتدبر ويبذل جهداً، لكن إذا كشفت له الحجب فإنه سيؤمن إيماناً اضطرارياً. ومن حكمته أنه حليم على هؤلاء الذين يحاربون دين الله سبحانه وتعالى ليل نهار في كل أطراف الأرض، فهم يعذبون المسلمين ويذبحونهم، ويبارزون الله بالمعاصي، ويعبدون الشيطان والأوثان والكواكب والبشر، فهؤلاء سوف يستوون جميعاً في الإيمان إذا كشفت لهم الحجب في الدنيا، وذلك يتنافى مع استمرار الابتلاء والامتحان بالتكليف في هذه الدار الدنيا.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2817 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع