تفسير سورة الأنعام [36-49]


الحلقة مفرغة

قال تبارك وتعالى: إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ [الأنعام:36]. قوله عز وجل: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون) تقرير لما مرَّ من أن على قلوبهم أكنة وأغطية وحجب، وتحقيق لكونهم بذلك من قبيل الموتى لا يتصور منهم الإيمان البتة، ففي هذا بيان للرسول صلى الله عليه وآله وسلم في ترك الطمع والرجاء في إيمانهم، وبيان أن الذين يستجيبون للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هم الذين يسمعون، وهؤلاء الموتى لا يسمعون فلن يستجيبوا، فمعنى الاستجابة: قبول دعوتك إلى الإيمان. وقوله: (يسمعون) يعني: يسمعون سماع قبول وسماع تعقل وتفهم وتدبر، لا مجرد السماع الذي تفصله وتتقنه البهائم والعجماوات؛ لأنك لو وقفت تتلو قصيدة أو كتاباً على أي شيء من العجماوات والبهائم فهي تسمع الصوت، لكن لا تعقل، فهذا هو نفس المقصود بمثل هذه الآيات التي تصفهم بعدم السماع، فهم يسمعون كما تسمع العجماوات التي لا عقل لها، لكن لا يفقهون شيئاً من هذا الكلام، كما قال تعالى: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني: مع رسلهم: كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171] فهو لا يسمع، لكن يسمع الدعاء والنداء فقط، فكما تنادى البهائم بأصوات مميزة فتسمع دون أن تعقل فكذلك هؤلاء، وهذا يتكرر كثيراً في القرآن الكريم في وصف هؤلاء الكفار، أي: إنما يستجيب لك بقبول دعوتك إلى الإيمان الأحياء الذين يسمعون ما يلقى إليهم سماع تفهم، دون الموتى الذين هؤلاء منهم. وهذا كقوله تعالى: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى [النمل:80]، فليس المراد الموتى حقيقة فحسب، بل الآية تشمل الكفار الذين هم في الظاهر أحياء، لكنهم في الحقيقة موتى القلوب لا يفقهون ولا يعقلون، فالمقصود بالموتى الكفار؛ لأنهم موتى في الحقيقة، ولأن الحياة لا تنفعهم ما داموا غير مؤمنين. فقوله تعالى: (إنك لا تسمع الموتى) أي: وإن كانوا أحياءً بالحياة الحيوانية فهم أموات بالنسبة إلى الإنسانية، لموت قلوبهم بسموم الاعتقادات الفاسدة والأخلاق الرديئة. ثم ابتدأ الله تعالى كلاماً آخر فقال: (والموتى يبعثهم الله) يعني أن الكفار الذين لا يسمعون ولا يستجيبون يبعثهم الله عز وجل يوم القيامة. وقوله: (ثم إليه يرجعون) يعني: سيجزيهم بأعمالهم، فالموتى مجاز عن الكفرة، كما قيل: لا يعجبن الجهول بزته فذاك ميت وثوبه كفن فقوله: (لا يعجبن الجهول بزته) يعني أن الشخص الجاهل يعجب بملابسه ورونقها وزينتها، وقوله: (فذاك ميت وثوبه كفن) يعني أن الإنسان الميت لا يتزين بالكفن، ولا يفخر بالكفن، فكذلك هذا الكافر الذي لا يؤمن بالله، فمهما كان عليه من حسن ثياب فإنما هي كالكفن الذي يكون على الموتى، فكيف يفخر بها؟! قيل: فيه رمز إلى أن هدايتهم كبعث الموتى لا يقدر عليه إلا الله، فهذه الآية رمز ترمز إلى هذه المعنى العظيم، وهو أن هدايتهم لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى وحده، كما قال سبحانه وتعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56] لأن الهداية هي كبعث الميت من الموت إلى الحياة، وبعث الميت وإعادته إلى الحياة لا يقدر عليه إلا الله سبحانه وتعالى، وكذلك الهداية لا يملكها إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأنها من خصوصيات الله، فكما أنه يستأثر بالقدرة على إحياء الموتى فكذلك يستأثر بالقدرة على إحياء أموات القلوب بالكفر بأن يحيي قلوبهم بالإيمان وبالهداية. فقوله تعالى: (إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله) قيل: إن فيه رمزاً لقدرة الله على هدايتهم، وأن ذلك كالبعث، ففيه إخلاص للرسول صلى الله عليه وسلم عن إيمانهم، يعني: أنت تبلغ، لكن ليس عليك هداية القلوب، إنما عليك هداية البيان والتوضيح والإبلاغ، أما هداية القلب وانقياده فهذا النوع من الهداية لا يملكه أحد إلا الله سبحانه وتعالى، وفي مقارنتهم بالموتى من التهكم بهم والإغراء عليهم ما لا يخفى.

قال تعالى: وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام:37]. قوله: (وقالوا) يعني مشركي مكة، وهذا بيان لنوع آخر من تعنتهم؛ إذ لم يقتنعوا بما شاهدوا من البينات التي تخر لها صم الجبال، فطلب الآيات ما هو إلا نوع من التعنت والتزمت، وقد ذكر أن الله سبحانه وتعالى في هذه السورة أنهم لو آتاهم من الآيات ما يطلبون فإنهم يتمادون في كفرهم وفي غيهم، فلا يزيدهم هذا إلا جحوداً وكفراً وعناداً، وحينئذ يستحقون نزول العذاب إذا أجيبوا إلى ما اقترحوه من الآيات، فكأن الله سبحانه وتعالى أمسك عن أن يجيبهم إلى ما اقترحوه إبقاءً عليهم، وإلا فما أعظم الآيات التي أيد الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وآله وسلم، وأعظمها على الإطلاق هذا القرآن الكريم، وغيره من المعجزات الخوارق التي تقطع بصدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم. وقوله تعالى: (وقالوا لولا نزل عليه آية من ربه) يعني: خارقة على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون. وهذا كقولهم: وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعًا [الإسراء:90] إلى آخر الآيات. وقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) أي أن اقتراحها جهل، فإن الله سبحانه وتعالى قادر -بلا شك- على أن ينزل آية، ولكن اقتراح الآيات على سبحانه وتعالى جهل به عز وجل؛ لأن في تنزيلها قلعاً لأساس التكليف المبني على قاعدة الاختبار؛ لأنه لو جرت أمور الدنيا على خرق العادة باستمرار بأن يستجيب الله لهم فبهذه الحالة نصير كأننا في عالم الآخرة ولسنا في عالم هذه الدنيا، فالدنيا دار ابتلاء ودار تكليف، فلا شك في أنه لو كشفت الحجب وكشفت لهم الآيات وأجيبوا إلى كل ما اقترحوا من الخوارق فلن نبقى في هذا العالم الذي يكون الإيمان فيه اختيارياً، بل سنتحول إلى العالم الذي يكون فيه إيمان افتراضياً، قال تعالى: وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [السجدة:12]. فهذا الإيمان وهذا اليقين لا يفيد؛ لأنه ليس في ذلك تكليف، فالقيمة هي في أن توقن هنا بالغيب في دار الابتلاء والتكليف، وأما الآخرة فهي دار ظهور النتائج، فلا يستقيم أن يبقى التكليف مع تحول الأمور إلى خوارق إجابة مقترحاتهم، بل سيقضى على أساس التكليف ويقتلع من أساسه. أو أن في اقتراح هذه الآيات وفي إجابتهم ما يترتب عليه استئصالهم بالكلية؛ لأن سنة الله سبحانه وتعالى أنه إذا طلب قوم آية أو اقترحوا آية فأجابهم إليها فإنه يجيب إليها بشرط أنهم إذا لم يؤمنوا إذا رأوها فإنهم يعاقبون بالاستئصال بالكلية، فكأنه لم يجبهم رحمةً بهم وإبقاءً عليهم؛ فإن من لوازم جحد الآية الهلاك، جرياً على سنته تعالى في الأمم السالفة، وتخصيص عدم العلم بأكثرهم لأن بعضهم واقفون على حقيقة الحال، وإنما يفعلون ما يفعلون مكابرة وعناداً. فقوله: (ولكن أكثرهم لا يعلمون) في هذا إشارة إلى أن بعض هؤلاء الكفار واقفون على حقيقة الحال، ويعلمون هذا المعنى، وأن الله قادر على أن ينزل آية، وأنه لم ينزل آية من أجل كذا وكذا من الحكم التي ذكرنا، لكنهم مع ذلك يتعنتون مكابرةً وعناداً.

يقول تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38]. قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض) (في) هنا تعطي معنى الاستقرار، ولذلك يقول القاسمي في تفسيرها: (وما من دابة في الأرض) أي: مستقرة في الأرض لا ترتفع عنها. وقوله: (ولا طائر يطير بجناحيه) يعني: الطائر يرتفع عن الأرض حين يطير، أما الدابة فهي مستقرة على الأرض. وقوله: (إلا أمم أمثالكم) أي: إلا أصناف مصنفة في ضبط أحوالها وعدم إهمال شيء منها وتدبير شئونها وتقدير أرزاقها. وقوله: (ما فرطنا في الكتاب) يعني: ما تركنا وما أرسلنا في الكتاب، والكتاب هو لوح القضاء المحفوظ. وقوله: (من شيء) يعني: سواء أكان جليلاً أم دقيقاً، فإن اللوح المحفوظ أو هذا الكتاب الذي هو أم الكتاب مشتمل على ما يجري في العالم، ولم يهمل فيه أمر شيء، والمعنى أن الجميع علمهم عند الله، ولذا قال: (وما من دابةٍ في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء) فعلم هذا كله عند الله لا ينفك واحد منها عن رزقه وتدبيره، وهذا كقوله تعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [هود:6] أي: كتاب مفصح بأسمائها وأعدادها ومضانها، وحاصر لحركاتها وسكناتها. وقوله: (ثم إلى ربهم يحشرون) يعني الأمم كلها من الدواب والطير، فيقتص لبعضها من بعض، حتى يبلغ من عدله أن يأخذ للجماء من القرناء، فلابد من العدل حتى بين هذه البهائم يوم القيامة، حتى يقتص للجماء التي لا قرن لها من القرناء التي كانت ذات قرن ونطحتها وآذتها بقرنها، فتبعث هذه ويقتص لهذه من تلك عدلاً من الله سبحانه وتعالى. وقوله تعالى: (ثم إلى ربهم يحشرون) أورد الضمير على صيغة جمع العقلاء لإجرائها مجرى العقلاء. قال الزمخشري : إن قلت: فما الغرض في ذكر ذلك؟! أي أن سياق الكلام في مناقشة الكفار في تعنتهم وعنادهم واقتراحهم الآيات، فما غرضه من ذكر هذه الآية: (وما من دابةٍ في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه) إلى آخره؟! قلت: الدلالة على عظم قدرته، ولطف علمه، وسعة سلطانه، وتدبيره تلك الخلائق المتفاوتة الأجناس المتكاثرة الأصناف، وهو حافظ لها وما عليها، مهيمن على أحوالها، لا يشغله شأن عن شأن، وأن المكلفين ليسوا مخصوصين بذلك دون ما عداهم من سائر الحيوان، إشارة إلى عظم قدرة الله سبحانه وتعالى وسعة علمه. والإنسان يتخيل أنه لا يوجد شيء مهما دق إلا والله سبحانه وتعالى هو الذي يدبر أمره، وهذا هو معنى توحيد الربوبية: أن تؤمن أن كل ما في الوجود هو من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يقوى أحد على شيء أبداً إلا بالله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فليس الله سبحانه وتعالى يدبر أمر الخلائق مؤمنهم وكافرهم وإنسهم وجنهم فحسب، وإنما يدبر أمر كل ما في هذا الوجود، فكل سمكة في البحار، وكل طائر في السماء، وكل نملة في الجحر، وكل حشرة، وكل حيوان، وكل ما تتخيله، حتى الذرات والإلكترونات، وكل ما يوجد في هذا الوجود لا يتحرك شيء منه بحركة إلا بأمر من الله سبحانه وتعالى وتدبير من الله عز وجل. يقول الرازي المقصود: أن عناية الله لما كانت حاصلةً لهذه الحيوانات، فلو كان إظهار آية مصلحة لأظهرها، فيكون كالدليل على أنه تعالى قادر على أن ينزل آية. وقال القاضي : إنه تعالى لما قدم ذكر الكفار وبين أنهم يرجعون إلى الله ويحشرون بيَّن بعده بقوله: (وما من دابة) إلى آخره أن البعث حاصل في حق البهائم أيضاً؛ لأنه فسر الآيات بقوله: (ثم إلى ربهم يحشرون). أما (من) في قوله تعالى: (وما من دابةٍ) فالنحويون يقولون: إنها هنا زائدة. وهذا أسلوب من أساليب العرب، ومعروف عند العرب أنهم قد يتكلمون بمثل هذه الحروف للتوكيد، فليس معنى أنها زائدة أنه لا فائدة منها، وإنما فائدتها التوكيد، وهذا من أساليب العرب في كلامهم، والقرآن نزل بلغة ولسان العرب. فقوله: (وما من دابة) (من) هنا لتأكيد الاستغراق، وقوله: (في الأرض) الجار والمجرور متعلق بمحذوف صفة لـ(دابة)، والمقصود: وما فرد من أفراد الدواب يستقر في قطر من أقطار الأرض إلا أمم أمثالكم. ومن التأكيد أيضاً قوله تعالى: (يطير بجناحيه)؛ لأن الطائر معروف عنه أنه يطير بجناحيه، لكن هذا نوع من التأكيد للمعنى. قال الزمخشري : إن قلت: كيف تقيل الأمم مع أن الدابة مفرد والطائر مفرد؟ قلت: لما كان قوله تعالى: (وما من دابة في الأرض ولا طائر) دالاً على معنى الاستغراق -استغراق جميع الدواب- ومغنياً عن الذي قالوا: (وما من دواب ولا طير) حمل قوله: (إلا أمم) على المعنى. فما جاء في آخر الآية من قوله: (أمم) جاء على سياق المعنى؛ لأنه يدل على الاستغراق. فدلت الآية على أن كل صنف من البهائم أمة، وجاء في الحديث: (لولا أن الكلاب أمة من الأمم لأمرت بقتلها) رواه أبو داود والترمذي عن عبد الله بن مغفل رضي الله عنه. وقوله: (إلا أمم أمثالكم) يعني: إلا أمم من أمثالكم يدبر الله سبحانه وتعالى وحده أمورها كما يدبر أموركم. فوجه المماثلة أن الله تعالى يتكفل برزقها، ويدبر أمرها، ولا يغفل شيئاً منها، مما يبين شمول القدرة وسعة العلم، وهذا هو الأظهر، موافقة لقوله تعالى: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) والقرآن يفسر بعضه بعضاً. وقيل: إن المماثلة في قوله تعالى: (إلا أمم أمثالكم) هي في معرفته تعالى وتوحيده وتسبيحه وتحميده، فقوله: (إلا أمم أمثالكم) يعني: إلا أمم يسبحون الله سبحانه وتعالى ويحمدونه أمثالكم. وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء:44]، وقوله: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41]. وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: أبهمت عقول البهائم عن كل شيء إلا عن أربعة أشياء: معرفة الإله، وطلب الرزق، ومعرفة الذكر والأنثى، وتهيؤ كل واحد منهما لصاحبه. وقيل: المماثلة في أنها تحشر يوم القيامة كالناس. القاسمي هنا اعتمد في تفسير قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أن الكتاب المقصود به اللوح المحفوظ، أي: أن القاسمي يقول: وما بيناه في معنى الكتاب من أنه اللوح المحفوظ في العطف، وهذه الآية توافق غيرها من الآيات التي تشير إلى اللوح المحفوظ وشموله علم أحوال جميع المخلوقات على التفصيل التام. ولم يذكر الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى -رغم أنه يتوسع في مثل هذه المواضع- سوى هذا القول، وهو أن المقصود بالكتاب اللوح المحفوظ، وهذا يكاد يكون هو الأظهر، أي أن الكتاب هنا هو اللوح المحفوظ؛ لأن الله تعالى قال في الآية: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون) فالسياق يشير إلى أن الأقرب والأظهر هو أن الكتاب هنا المقصود به اللوح المحفوظ، مع أن القول بأن الكتاب هو القرآن الكريم له ما يؤيده، كما سنبينه إن شاء الله تعالى. يقول القاسمي : وقيل: المراد منه القرآن، كقوله تعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89] فالقرآن الذي قال الله فيه سبحانه وتعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء) هو الكتاب الذي قال الله تعالى فيه: (ما فرطنا في الكتاب) أي: في القرآن (من شيء). قال: فإن قيل: حمله على القرآن لا يلائم ما قبله وما بعده. أي: إذا قلنا: إنه هو القرآن الكريم فلن يستقيم مع السياق الذي قبله والسياق الذي بعده؛ لأن قبله: (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء) فإذا قلنا: إنه القرآن الكريم فلن يتناسب هذا التفسير مع السياق قبله وبعده، لكن هذا القول من الخفاجي دفع ورد بأن المعنى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي: لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه. فقوله: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يعني: ما تركنا حجة من الحجج القوية على ما يستدل عليه من قضايا الإيمان وغيرها في هذا القرآن الكريم إلا دللنا عليه؛ لأن السياق كله في الآيات والبينات والدلالة على الحق، فالمعنى: لم نترك شيئاً من الحجج وغيرها إلا ذكرناه، فكيف يحتاج إلى آية أخرى مما اقترحوه وهم يكذبون بآياتنا؟! فالكلام بعضه آخذ بحجز بعض بلا شبهه. وقال أبو السعود : أي: ما تركنا في القرآن شيئاً من الأشياء المهمة التي من جملتها بيان أنه تعالى مراعٍ لمصالح جميع مخلوقاته إلا بيناه. وقال الشهاب في قول البيضاوي : (فإنه قد دون فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مفصلاً أو مجملاً): القرآن الكريم احتوى على أمور الدين كلها وأدلتها، إما على سبيل الإثبات، وإما على سبيل التفصيل. يشير إلى أن ما ثبت بالأدلة الثلاثة ثابت بالقرآن الكريم؛ لإشارته بنحو قوله تعالى: فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ [الحشر:2] وهذا من الأدلة التي استدل بها على حجية دليل من الأدلة الشرعية، وهو القياس، ففي قوله تعالى: (فاعتبروا يا أولي الأبصار) إشارة إلى القياس وحجية القياس، أما قوله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7] فهو إشارة إلى حجية السنة، بل قيل: إنه بهذه الطريقة يمكن استنباط جميع الأشياء منه في نفس هذه الطريقة في الاستدلال؛ فيمكن أن نستنبط كل شيء من العلوم من القرآن الكريم، كما سأل بعض الملحدين بعض العلماء عن طبق الحلوى: أين ذكر في القرآن؟ فقال في قوله تعالى: (

اشتمال القرآن على كل العلوم

إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم، وليس فيه تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ونحو ذلك؟ والجواب: أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يجب أن يكون مخصوصاً لبيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، فمن يقول: ما دليل نظرية فيثاغورس والنظريات الهندسية، وتفاصيل الطب والحساب، وكل هذه العلوم الموجودة ما دليلها في القرآن إذا قلنا: إن الكتاب هو القرآن الكريم؟ فالجواب أنه يجب أن يخصص تفسير هذه الآية (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، فيقال: ما فرطنا في الكتاب من شيء، بل بينا كل ما يجب علمه والإحاطة به. وأما الدليل على وجوب هذا التفسير، أي أن قوله: (ما فرطنا في الكتاب شيء) هو في بيان ما تجب معرفته ويجب علمه في أمور الدين فيستدل له بأن الله سبحانه وتعالى قال: (ما فرطنا)، ولفظ التفريط لا يستعمل نفياً ولا إثباتاً إلا فيما يجب أن يبين؛ لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير بأن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه، فإذا قلت لشخص: افعل كذا. فإذا كان مما يجب عليه أن يفعله ولم يفعله فقد فرط، لكن إذا كان هذا الأمر الذي خاطبته به أو كلفته به أمر تافه أو يستغنى عنه فلا يوصف عدم فعله بالتفريط؛ لأنه شيء يستغنى عنه ولا قيمة له، فلا يستعمل هذا الوصف إلا فيما يجب علمه وبيانه وعمله، هذا أمر. الأمر الثاني: أن جميع آيات القرآن -أو الكثير- منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله، وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق هنا محمولاً على ذلك المقيد، أي: أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي: الشيء الذي يجب معرفته والإحاطة به من أمور الدين لا من أمور الدنيا. ولو استقرأنا القرآن الكريم لخرجنا بهذا الاستنباط؛ لأن المقصود الأساسي من إنزال هذا الكتاب هو أنه كتاب هداية، وليس كتاب تكنولوجيا، فليس مقصوده أن يدلنا ويهدينا إلى النظريات، وأما هذه الحقائق الحسية فإن الله سبحانه وتعالى جهزنا بالآلات والإمكانات والقدرات التي ترشدنا إلى اكتشافها شيئاً فشيئاً؛ لأنها من الأشياء المحسوسة الموجودة، وهي تبنى على التجربة والمشاهدة، ويأتي الاستنتاج بعد ذلك، فالقدرة إما بالنظر، أو بالشم، أو باللمس، أو بالذوق، أو بالحس، وقد زودنا الله سبحانه وتعالى بالعقل وبالأدوات التي نستطيع أن نكتشف بها هذه الحقائق، ونترقى في معرفتها شيئاً فشيئاً، فهذه لهوانها على الله صرفها للبشر، ولكن هل يمكن أن نهتدي إلى الأمور الغيبية من تفاصيل الجنة والنار، والقضاء والقدر، وأحوال الأنبياء السابقين، وما يحصل قبل يوم القيامة، وأسرار النفس البشرية وما يصلحها، والذي يرضي الله والذي يغضبه تعالى، وما هو الواجب وما هو المستحب في العبادات وغير ذلك، كل ذلك هل يمكن أن نهتدي إليه بغير وحي؟! أقول: كل ذلك لا يمكن أن تستقل العقول بالوصول إليه، فلذلك لم يفرط الله سبحانه وتعالى في الكتاب من شيء، بل بين لنا كل ما ينفعنا في أمور الدين لا في أمور الدنيا؛ لأن أمور الدنيا تركت لنا في الغالب، أما أمور الدين فما فرط الله عز وجل في شيء من أمور الدين. فإذاً: المطلق ها هنا في قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يحمل على المقيد، وجاء التقييد من استقراء القرآن، فعند استقراء القرآن الكريم نجد أن في القرآن آيات كثيرة كلها تشير إلى أن المقصود من إنزال القرآن هو هداية الناس إلى صلاح دينهم وأمور آخرتهم. أما أن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع فإن علم الأصول هو العلم بالعقائد والتوحيد، وهو بتمامه حاصل فيه، ولا شك في أن كل قضايا الأصول وقضايا الدين والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قد بينها لنا القرآن الكريم؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه، فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل فلا حاجة إليها؛ لأن الإنسان يستطيع أن يقيم دينه دون أن يحتاج إليها. أما تفاصيل علم الفروع فقال العلماء: إن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة، فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن؛ لأن القرآن أساس الأدلة الشرعية كلها. فالقرآن دلنا على حجية السنة، والقرآن دلنا على حجية الإجماع، وحجية القياس، وعلى حجية خبر الواحد، ومن ثم أصبح العمل بهذه الأدلة كلها هو عمل بالقرآن نفسه. فإذاً: يعتبر القرآن -أيضاً- فيه الدلالة على قضايا الفروع في قضايا الفقه وغيرها من فروع المسائل والتفاصيل الدقيقة؛ لأنه إما أن يستدل عليها بالقرآن فيكون القرآن مشتملاً على الدليل، أو من السنة والسنة حجة في ذاتها، والقرآن أيضاً دل على حجيتها، وإما أن يستدل بإجماع، والقرآن هو الذي دل على حجيته، وإما أن يستدل بالقياس فكذلك، وإما يستدل بخبر الواحد فكذلك. فإذاً: القرآن -أيضاً- دلنا على الاحتجاج بهذه الأدلة.

أمثلة على دلالة القرآن على حجية السنة

ذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى ثلاثة أمثلة: المثال الأول: روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) فسمعت ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب ، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: (ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟!) فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول! لأنه قال لها: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو في كتاب الله. وكأنه أراد أن يستفزها ليبين لها أن دليل السنة هو مثل الدليل الذي في القرآن، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. أي: أنها قرأت ما بين جلدتي المصحف فما وجدت فيه آية تقول: لعن الله الواشمة والمستوشمة.. إلى آخره، فقال لها: (لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟!) فهذا مما أتانا الرسول، وهذا مما نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذه الطريقة يمكن إرجاع دليل كل قضايا الفروع وكل تفاصيل الفقه مهما كانت إلى الكتاب الكريم، وبهذا يتأيد قول من فسر قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) بأنه هو القرآن الكريم، وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه. يقول الرازي : يمكن وجدان هذا المعنى -أي: لعن من ذكرهن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك؛ لأنه تعالى قال في سورة النساء: إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَه الله [النساء:117] فحكم على الشيطان باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله، وذكر من جملتها أنه قال: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن، فيمكن استنباط نفس المعنى من هذه الآية الكريمة. وكذلك تتمة الحديث من هذا الباب، وتتمة الحديث: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله). المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله تعالى كان جالساً في المسجد الحرام، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى. فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه. فقال أين هذا في كتاب الله؟ قال: قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، ثم ذكر إسناداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور. فانظر كيف تدرج إلى الاستنباط خلال ثلاث درجات، فقال أولاً: إن القرآن الكريم دلنا على حجية سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أتى بالحديث الذي هو قول الرسول عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ثم أتى بسنة أحد هؤلاء الراشدين، وهو عمر رضي الله عنه، فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات. قال الرازي : وأقول ها هنا طريق آخر أقرب منه. أي أن الرازي يستدرك على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فيقول: هناك طريق أخصر من الطريق الذي سلكه الشافعي. لكن لا شك في أن طريق الشافعي مفيد في غير هذه المسألة، وإن كان هنا طريق آخر أقرب، فنحن نريد طريقة الاستنباط نفسها؛ لأن هناك مسائل أخرى قد لا نجد فيها إلا قولاً واحداً من الأئمة الراشدين المهديين الخلفاء. يقول الرازي : أقول: هنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة، قال تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] وقال: ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36]، وقال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [البقرة:188] فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل زنبوراً شيء؛ وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة. المثال الثالث: قال الواحدي : روي في حديث الأجير الزاني -والحديث معروف في صحيح البخاري - عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه -وكان أفقه منه- فقال أقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم -يعني: قلت له: بدل أن يقام الحد على ولدي فأنا أدفع مائة شاة وخادم ولا يقام عليه الحد -ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد -يعني: رد عليك- وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس ! إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت فرجمها) وأخرجه أيضاً مسلم . فهنا نجد أن هذا الرجل قال للنبي عليه الصلاة والسلام: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، وقال الآخر: اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله) وليس للجلد والتغريب ذكر في القرآن الكريم، وليس فيه دليل على الجمع بين الجلد والتغريب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله؛ لأن كلمة كتاب الله قد يعنى بها حكم الله، كما قال تعالى: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24] يعني: حكم الله عليكم. قال الرازي : وهذا حق؛ لأنه تعالى قال لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] يعني: السنة تبين ما نزل؛ لأن أصل الآية: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فقوله: (وأنزلنا إليك الذكر) يعني السنة (لتبين للناس ما نزل إليهم) يعني القرآن، فكلاهما منزل من عند الله تبارك وتعالى، وكل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم يكون داخلاً تحت هذه الآية، وبالجملة فالقرآن الكريم كلية الشريعة، والمجموع فيه أمور كليات، والشريعة تمت بتمام نزوله، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وقد طول البحث في هذه المسألة المهمة العلامة الشاطبي في (الموافقات) في الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل، فارجع إليه. وقد دلت الآية على حشر الدواب والبهائم والطير كلها يوم القيامة، كقوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5]. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر ! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما). قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجلحاء لتقتص من القرناء يوم القيامة، ثم بعد ذلك يقول لها: كوني تراباً. فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراباً) كما قال تعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]. وروى الإمام أحمد والبخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء). واستدل بهذه الآية على مسألة أخرى، فقد أخرج أبو الشيخ عن أنس أنه سئل: من يقبض أرواح البهائم؟ قال: ملك الموت. فبلغ الحسن فقال: صدق، وإن ذلك في كتاب الله. ثم تلا هذه الآية: (( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ))، فاعتبر أن من المثلية أن يقبض روحها ملك الموت أيضاً؛ لأنها تحشر أيضاً.

إذا ثبت هذا فلقائل أن يقول: كيف قال تعالى: ((ما فرطنا في الكتاب من شيء)) مع أنه ليس فيه تفاصيل علم الطب وتفاصيل علم الحساب، ولا تفاصيل كثير من المباحث والعلوم، وليس فيه تفاصيل مذاهب الناس ودلائلهم في علم الأصول والفروع ونحو ذلك؟ والجواب: أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يجب أن يكون مخصوصاً لبيان الأشياء التي يجب معرفتها والإحاطة بها، فمن يقول: ما دليل نظرية فيثاغورس والنظريات الهندسية، وتفاصيل الطب والحساب، وكل هذه العلوم الموجودة ما دليلها في القرآن إذا قلنا: إن الكتاب هو القرآن الكريم؟ فالجواب أنه يجب أن يخصص تفسير هذه الآية (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، فيقال: ما فرطنا في الكتاب من شيء، بل بينا كل ما يجب علمه والإحاطة به. وأما الدليل على وجوب هذا التفسير، أي أن قوله: (ما فرطنا في الكتاب شيء) هو في بيان ما تجب معرفته ويجب علمه في أمور الدين فيستدل له بأن الله سبحانه وتعالى قال: (ما فرطنا)، ولفظ التفريط لا يستعمل نفياً ولا إثباتاً إلا فيما يجب أن يبين؛ لأن أحداً لا ينسب إلى التفريط والتقصير بأن لا يفعل ما لا حاجة إليه، وإنما يذكر هذا اللفظ فيما إذا قصر فيما يحتاج إليه، فإذا قلت لشخص: افعل كذا. فإذا كان مما يجب عليه أن يفعله ولم يفعله فقد فرط، لكن إذا كان هذا الأمر الذي خاطبته به أو كلفته به أمر تافه أو يستغنى عنه فلا يوصف عدم فعله بالتفريط؛ لأنه شيء يستغنى عنه ولا قيمة له، فلا يستعمل هذا الوصف إلا فيما يجب علمه وبيانه وعمله، هذا أمر. الأمر الثاني: أن جميع آيات القرآن -أو الكثير- منها دالة بالمطابقة أو التضمن أو الالتزام على أن المقصود من إنزال هذا الكتاب بيان الدين ومعرفة الله ومعرفة أحكام الله، وإذا كان هذا التقييد معلوماً من كل القرآن كان المطلق هنا محمولاً على ذلك المقيد، أي: أن قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) أي: الشيء الذي يجب معرفته والإحاطة به من أمور الدين لا من أمور الدنيا. ولو استقرأنا القرآن الكريم لخرجنا بهذا الاستنباط؛ لأن المقصود الأساسي من إنزال هذا الكتاب هو أنه كتاب هداية، وليس كتاب تكنولوجيا، فليس مقصوده أن يدلنا ويهدينا إلى النظريات، وأما هذه الحقائق الحسية فإن الله سبحانه وتعالى جهزنا بالآلات والإمكانات والقدرات التي ترشدنا إلى اكتشافها شيئاً فشيئاً؛ لأنها من الأشياء المحسوسة الموجودة، وهي تبنى على التجربة والمشاهدة، ويأتي الاستنتاج بعد ذلك، فالقدرة إما بالنظر، أو بالشم، أو باللمس، أو بالذوق، أو بالحس، وقد زودنا الله سبحانه وتعالى بالعقل وبالأدوات التي نستطيع أن نكتشف بها هذه الحقائق، ونترقى في معرفتها شيئاً فشيئاً، فهذه لهوانها على الله صرفها للبشر، ولكن هل يمكن أن نهتدي إلى الأمور الغيبية من تفاصيل الجنة والنار، والقضاء والقدر، وأحوال الأنبياء السابقين، وما يحصل قبل يوم القيامة، وأسرار النفس البشرية وما يصلحها، والذي يرضي الله والذي يغضبه تعالى، وما هو الواجب وما هو المستحب في العبادات وغير ذلك، كل ذلك هل يمكن أن نهتدي إليه بغير وحي؟! أقول: كل ذلك لا يمكن أن تستقل العقول بالوصول إليه، فلذلك لم يفرط الله سبحانه وتعالى في الكتاب من شيء، بل بين لنا كل ما ينفعنا في أمور الدين لا في أمور الدنيا؛ لأن أمور الدنيا تركت لنا في الغالب، أما أمور الدين فما فرط الله عز وجل في شيء من أمور الدين. فإذاً: المطلق ها هنا في قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) يحمل على المقيد، وجاء التقييد من استقراء القرآن، فعند استقراء القرآن الكريم نجد أن في القرآن آيات كثيرة كلها تشير إلى أن المقصود من إنزال القرآن هو هداية الناس إلى صلاح دينهم وأمور آخرتهم. أما أن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع فإن علم الأصول هو العلم بالعقائد والتوحيد، وهو بتمامه حاصل فيه، ولا شك في أن كل قضايا الأصول وقضايا الدين والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، قد بينها لنا القرآن الكريم؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه، فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل فلا حاجة إليها؛ لأن الإنسان يستطيع أن يقيم دينه دون أن يحتاج إليها. أما تفاصيل علم الفروع فقال العلماء: إن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة، فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن؛ لأن القرآن أساس الأدلة الشرعية كلها. فالقرآن دلنا على حجية السنة، والقرآن دلنا على حجية الإجماع، وحجية القياس، وعلى حجية خبر الواحد، ومن ثم أصبح العمل بهذه الأدلة كلها هو عمل بالقرآن نفسه. فإذاً: يعتبر القرآن -أيضاً- فيه الدلالة على قضايا الفروع في قضايا الفقه وغيرها من فروع المسائل والتفاصيل الدقيقة؛ لأنه إما أن يستدل عليها بالقرآن فيكون القرآن مشتملاً على الدليل، أو من السنة والسنة حجة في ذاتها، والقرآن أيضاً دل على حجيتها، وإما أن يستدل بإجماع، والقرآن هو الذي دل على حجيته، وإما أن يستدل بالقياس فكذلك، وإما يستدل بخبر الواحد فكذلك. فإذاً: القرآن -أيضاً- دلنا على الاحتجاج بهذه الأدلة.

ذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى ثلاثة أمثلة: المثال الأول: روي أن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله) فسمعت ذلك امرأةً من بني أسد يقال لها: أم يعقوب ، فجاءت فقالت: إنه بلغني أنك لعنت كيت وكيت! فقال: (ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله؟!) فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول! لأنه قال لها: ومالي لا ألعن من لعنه رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو في كتاب الله. وكأنه أراد أن يستفزها ليبين لها أن دليل السنة هو مثل الدليل الذي في القرآن، فقالت المرأة: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. أي: أنها قرأت ما بين جلدتي المصحف فما وجدت فيه آية تقول: لعن الله الواشمة والمستوشمة.. إلى آخره، فقال لها: (لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه، أما قرأت: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]؟!) فهذا مما أتانا الرسول، وهذا مما نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذه الطريقة يمكن إرجاع دليل كل قضايا الفروع وكل تفاصيل الفقه مهما كانت إلى الكتاب الكريم، وبهذا يتأيد قول من فسر قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) بأنه هو القرآن الكريم، وهذا الحديث أخرجه مسلم في صحيحه. يقول الرازي : يمكن وجدان هذا المعنى -أي: لعن من ذكرهن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه- في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك؛ لأنه تعالى قال في سورة النساء: إِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا لَعَنَه الله [النساء:117] فحكم على الشيطان باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله، وذكر من جملتها أنه قال: وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ [النساء:119] وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن، فيمكن استنباط نفس المعنى من هذه الآية الكريمة. وكذلك تتمة الحديث من هذا الباب، وتتمة الحديث: (لعن الله الواشمات والمستوشمات، والنامصات والمتنمصات، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله). المثال الثاني: ذكر أن الشافعي رحمه الله تعالى كان جالساً في المسجد الحرام، فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى. فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟ فقال: لا شيء عليه. فقال أين هذا في كتاب الله؟ قال: قال الله تعالى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر:7]، ثم ذكر إسناداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) ثم ذكر إسناداً إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور. فانظر كيف تدرج إلى الاستنباط خلال ثلاث درجات، فقال أولاً: إن القرآن الكريم دلنا على حجية سنة النبي عليه الصلاة والسلام، ثم أتى بالحديث الذي هو قول الرسول عليه السلام: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ثم أتى بسنة أحد هؤلاء الراشدين، وهو عمر رضي الله عنه، فأجابه من كتاب الله مستنبطاً بثلاث درجات. قال الرازي : وأقول ها هنا طريق آخر أقرب منه. أي أن الرازي يستدرك على الإمام الشافعي رحمه الله تعالى فيقول: هناك طريق أخصر من الطريق الذي سلكه الشافعي. لكن لا شك في أن طريق الشافعي مفيد في غير هذه المسألة، وإن كان هنا طريق آخر أقرب، فنحن نريد طريقة الاستنباط نفسها؛ لأن هناك مسائل أخرى قد لا نجد فيها إلا قولاً واحداً من الأئمة الراشدين المهديين الخلفاء. يقول الرازي : أقول: هنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة، قال تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ [البقرة:286] وقال: ولا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ [محمد:36]، وقال: وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [البقرة:188] فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة، فعند عدم التجارة وجب أن يبقى على أصل الحرمة، وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المحرم الذي قتل زنبوراً شيء؛ وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة. المثال الثالث: قال الواحدي : روي في حديث الأجير الزاني -والحديث معروف في صحيح البخاري - عن أبي هريرة وزيد بن خالد رضي الله عنهما قالا: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقام رجل فقال: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، فقام خصمه -وكان أفقه منه- فقال أقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، قال: قل، قال: إن ابني كان عسيفاً على هذا -يعني: أجيراً- فزنى بامرأته، فافتديت منه بمائة شاة وخادم -يعني: قلت له: بدل أن يقام الحد على ولدي فأنا أدفع مائة شاة وخادم ولا يقام عليه الحد -ثم سألت رجالاً من أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام، وعلى امرأته الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله: المائة شاة والخادم رد -يعني: رد عليك- وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام، واغد يا أنيس ! إلى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها، فغدا عليها، فاعترفت فرجمها) وأخرجه أيضاً مسلم . فهنا نجد أن هذا الرجل قال للنبي عليه الصلاة والسلام: أنشدك الله إلا قضيت بيننا بكتاب الله، وقال الآخر: اقض بيننا بكتاب الله، وائذن لي، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسي بيده! لأقضين بينكما بكتاب الله) وليس للجلد والتغريب ذكر في القرآن الكريم، وليس فيه دليل على الجمع بين الجلد والتغريب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم فهو عين كتاب الله؛ لأن كلمة كتاب الله قد يعنى بها حكم الله، كما قال تعالى: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء:24] يعني: حكم الله عليكم. قال الرازي : وهذا حق؛ لأنه تعالى قال لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44] يعني: السنة تبين ما نزل؛ لأن أصل الآية: وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل:44]، فقوله: (وأنزلنا إليك الذكر) يعني السنة (لتبين للناس ما نزل إليهم) يعني القرآن، فكلاهما منزل من عند الله تبارك وتعالى، وكل ما بينه الرسول صلى الله عليه وسلم يكون داخلاً تحت هذه الآية، وبالجملة فالقرآن الكريم كلية الشريعة، والمجموع فيه أمور كليات، والشريعة تمت بتمام نزوله، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كلياتها وجدناها قد تضمنها القرآن على الكمال، وقد طول البحث في هذه المسألة المهمة العلامة الشاطبي في (الموافقات) في الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل، فارجع إليه. وقد دلت الآية على حشر الدواب والبهائم والطير كلها يوم القيامة، كقوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5]. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر ! هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: لكن الله يدري، وسيقضي بينهما). قال أبو ذر: ولقد تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً. وروى عبد الله بن الإمام أحمد في مسند أبيه عن عثمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الجلحاء لتقتص من القرناء يوم القيامة، ثم بعد ذلك يقول لها: كوني تراباً. فحينئذ يتمنى الكافر أن يكون تراباً) كما قال تعالى: وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ:40]. وروى الإمام أحمد والبخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء). واستدل بهذه الآية على مسألة أخرى، فقد أخرج أبو الشيخ عن أنس أنه سئل: من يقبض أرواح البهائم؟ قال: ملك الموت. فبلغ الحسن فقال: صدق، وإن ذلك في كتاب الله. ثم تلا هذه الآية: (( إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ))، فاعتبر أن من المثلية أن يقبض روحها ملك الموت أيضاً؛ لأنها تحشر أيضاً.

يقول تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39]. قوله تبارك وتعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:39]. أي: مثلهم في جهلهم وعدم فهمهم وسوء حالهم كمثل الصم، والصم: جمع أصم، والأصم هو الذي لا يسمع، والبكم: جمع أبكم، والأبكم هو الذي لا يتكلم، وهم مع ذلك في ظلمات لا يبصرون، ولذا قال: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:39]، فنفى عنهم السمع والكلام والرؤية، يعني: فهم صم وبكم، وهم في ظلمة لا يهتدون ولا يرون، فإذا كانوا على هذه الحالة -أي: كانوا صماً وبكماً وفي ظلمات لا يهتدون- فكيف يهتدي مثلهم إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه؟ وقد كثر تشبيههم بذلك في التنزيل، إعلاماً ببيان كمال عراقتهم في الجهل، وانسداد باب الفهم والتفهيم عنهم بالكلية. ثم أشار إلى أنهم من الذين طبع الله سبحانه وتعالى على قلوبهم وختم عليها، فقال عز وجل: مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:39] أي: فهو المتصرف في خلقه بما يشاء، فمن أحب هدايته وفقه بفضله وإحسانه للإيمان، ومن شاء ضلالته تركه على كفره، كما قال تعالى: وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:40-41]. أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبكتهم بما لا سبيل لهم إلى إنكاره، وذلك ببيان أنهم إذا نزلت بهم شدة فإنهم يفزعون إليه تعالى لا إلى الأصنام، فقال عز وجل: قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [الأنعام:40]. قوله: (قل أرأيتكم) أي: أخبروني (إن أتاكم عذاب الله) يعني: مثل ما نزل بالأمم الماضية الكافرة من قبلكم (أو أتتكم الساعة) أي: القيامة (أغير الله تدعون) يعني: في كشف العذاب عنكم. وهذا محط التبكيت، يعني: أتخصون آلهتكم بالدعوة لرفع تلك الشدة؟! بل هل تدعونها مع الله أيضاً؟! وقوله: (إن كنتم صادقين) هذا كاشف عن كذبهم، أي: أخبروني إن كنتم صادقين. فالحقيقة جاءت في الآية الثانية: بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ [الأنعام:40-41] ولم يقل: بل تدعونه وإنما قال: (بل إياه) يعني: أنكم تخصونه سبحانه وتعالى بالدعوة. وقوله: (( فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ )) يعني: إن شاء كشفه. والتقييد بالمشيئة هو لبيان أن إجابتهم غير مطردة، أي: أن إنجاءهم من هذه الكربات إنما يكون بمشيئة الله سبحانه وتعالى؛ لأن الإنجاء وعدم الإنجاء ينبني على حِكَم يستأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها، فإن كانت الحكمة تقتضي إنجاءهم أنجاهم، وإلا أهلكم. وقوله: (وتنسون ما تشركون) أي: تتركون ما تشركون فالنسيان هنا بمعنى الترك، فقوله: (تنسون) يعني: تتركون وتعرضون عن الآلهة والأصنام، وتمحضون الدعوة لله سبحانه وتعالى، فتتركون ما تشركون تركاً كلياً؛ لأنكم في هذا الوقت -وقت الشدة- تعلمون أنها لا تضر ولا تنفع.

بيَّن تعالى أن من كفار الأمم السالفة من بلغوا في القسوة إلى أن أُخذوا بالشدائد ليخضعوا ويلتجئوا إلى الله تعالى فلم يفعلوا، وهذا تسلية لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم؛ حيث إن بعض الأمم السالفة بلغوا من العتو والإيغال في الكفر وقسوة القلوب إلى حد أن الشدائد التي أُخذوا بها لم تجد شيئاً في ترقيق قلوبهم ودفعهم إلى الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، فقال سبحانه وتعالى وتعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:42-43]. وهذا نظير أحوال كثيرة من أعداء الدين في هذا العصر، فإن الكربات والمصائب تتنزل بهم من كل نوع ومن كل لون، ثم يكشفها الله سبحانه وتعالى، ولا يزدادون إلا عتواً وعناداً، وفي أيام حرب رمضان لما حصل ما حصل من فتح الله سبحانه وتعالى على المسلمين، ثم بدأ الناس يعزون ذلك إلى أن الجنود كانوا متسلحين بـ(الله أكبر)، وأن الكلمة غطت على كل جبهات القتال، وصار الناس عامهم وخاصهم ينسبون الفضل إلى صاحبه وهو الله سبحانه وتعالى وعلموا أن النصر من عند الله ظهر في اليوم الثاني أو الثالث، مقالة في الجرائد وفي الأخبار لأحد المسئولين الكبار يقول فيها: انتصرنا بالعلم والتكنولوجيا، والكلام الذي فيه أننا انتصرنا بـ(الله أكبر) غير صحيح، فنحن انتصرنا بالعلم وبالتكنولوجيا وبالأسلحة! والعياذ بالله! فنكسهم الله سبحانه وتعالى بالثغرة التي أحدثها اليهود في الضفة الغربية من القناة، كما هو معروف، وجاءت جولدا مائير إلى داخل الضفة الغربية كما هو معلوم. فالشاهد أن بعض الناس يبلغ من قسوة القلب -والعياذ بالله- إلى أنه لو أخذ بالشدة لا يلين قلبه، ولا يتوب، بخلاف غيره من أصناف الكفار الذين هم أقل قسوة. وما حوادث الزلازل عنا ببعيدة، وانظر كيف يصير حال الناس بعد الزلزال الذي يستغرق ثوانٍ معدودة، فهل عندنا تأمين وصك بأن الله سبحانه وتعالى لا يجعل الأرض تنشق وتبتلعنا جميعاً؟! ليس عندنا ذلك، وما ذلك على الله بعزيز، ولكن انظر إلى العتو، وكأننا في الليل والنهار في أمان كامل من أن ينزل علينا عذاب الله، ولذلك تجد الفجور والإسراع في الفساد والإسراع في الصد عن سبيل الله سبحانه وتعالى بكل لون، وكلما جاء بلاء كلما ازداد بعض الناس عتواً في الأرض؛ لشدة قسوة قلوبهم، فهذا هو صنف مخصوص من العتاة ومن الظالمين والجبارين، فهم الذين تزداد قلوبهم قسوة وعتواً حتى لو نزل الكرب والبلاء. وقوله: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك) أي: أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلاً فكذبوهم، ولم يبالوا بهم؛ لكونهم في الرخاء. وقوله: (فأخذناهم بالبأساء) أي: بالشدة والقحط (والضراء) أي: المرض ونقصان الأنفس والأموال (لعلهم يتضرعون) أي: لعلهم يتذللون ويخشعون لربهم ويتوبون إليه من كفرهم ومعاصيهم، فالنفوس تخشع عند نزول الشدائد، لكن بعض الكفار -كما ذكرنا- يبلغ من قسوة قلبه إلى كون الشدائد لا تحرك فيه ساكناً، والعياذ بالله تعالى! وقوله: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا) يعني: بالتوبة والتمكن. ومعناه: نفي التضرع، فهم لم يتضرعوا في الحقيقة، وجيء بـ(لولا) ليفيد أنه لم يكن لهم عذر في ترك التضرع إلا عنادهم، كما قال عز وجل: (ولكن قست قلوبهم)، فلم يكن فيها لين يوجب التضرع، ولم ينـزجروا، وإنما ابتلوا به. وقوله: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) أي: من الشرك. والاستدراك بقوله: (وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)، على المعنى لبيان الصارف لهم عن التضرع، يعني أن الذي صرفهم عن التضرع هو وجود قسوة القلوب، والعياذ بالله، فلا مانع من التضرع إلا قساوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي زينها لهم الشيطان، وهذه نفس أحوال العلمانيين والزنادقة والملحدين في زماننا هذا. والله سبحانه وتعالى هنا يقول: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) فأسند سبحانه وتعالى التزيين هنا إلى الشيطان، وأسنده إلى نفسه في قوله تبارك وتعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:108]، فوقع التزيين في مواقع كثيرة، فتارة أُسند إلى الشيطان، كهذه الآية: (وزين لهم الشيطان)، وتارة أسند الله تعالى إلى نفسه، كما قال عز وجل: (كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ)، وتارة إلى البشر أنفسهم، كقوله عز وجل: وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ [الأنعام:137] إلى آخر الآية، وتارة جعله غير مذكور فاعله، كما قال عز وجل: (زُيِّن للمشركين)؛ لأن التزيين له معان يشهد بها الاستعمال واللغة: أحدها: إيجاد الشيء حسناً مزيناً في نفس الأمر، فيكون الشيء خلقاً مزيناً، كقوله تبارك وتعالى: وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ [الملك:5]، أي أنها مزينة بالمصابيح التي هي النجوم. الثاني: جعله مزيناً من غير إيجاد، كتزيين الماشطة العروس، فهي أصلاً تكون غير مزينة، ثم تأتي الماشطة فتزينها بزينة مكتسبة. الثالث: جعله محبوباً للنفس مشتهىً للطبع، وهذا نوع من التزيين، فيصبح هذا الشيء مزيناً في نظر الإنسان، أي: أنه يشتهيه، وطبعه يميل إليه، فهذا إن كان بمعنى خلق الميل في النفس والطبع لا يسند إلا إلى الله؛ لأنه الفاعل له حقيقة؛ لإيجاده له، وإن كان بمجرد تزويره وترويجه من قبل، بأن كان غير مزين، لكن حصل تزيين في شكله وفي طبعه بحيث يفتن به الناس، فهذا يكون من الشيطان بالوسوسة والإغواء، فهذا لا يسند إلى الله سبحانه وتعالى، وإنما يسند إلى البشر أو الشيطان، وإن لم يذكر فاعله يقدر في كل مكان بما يليق به، فهذا فيما يتعلق باستعمال مادة التزيين.

قال تبارك وتعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]. قوله تعالى: (فلما نسوا ما ذكروا به)، يعني: من البأساء والضراء، فتركوا الاتعاظ. (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) أي: لما تركوا الاتعاظ -رغم البأساء والضراء- فتنهم الله بأن فتح عليهم الدنيا استدراجاً وفتنة لهم، ولا شك في أن هذا هو تفسير ما نراه من رغد العيش وزينة الدنيا عند الكفار، وهذا كما قال تعالى: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [آل عمران:178]، فهذا استدراج من الله سبحانه وتعالى، وهذا أخطر أنواع العقوبات التي يعاقب الله سبحانه وتعالى بها العبد، أي: أنه يُعاقب ولا يحس أنه يعاقب، وحينئذٍ لا يستدرك ولا يفكر في التوبة؛ لأنه زين له سوء عمله فرآه حسناً. يقول تعالى: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ) أي: من البأساء والضراء، وتركوا الاتعاظ به (فتحنا عليهم أبواب كل شيء) أي: من النعم، كالصحة والسعة وراحة البال والأمن استدراجاً وإبلاءً ومكراً بهم، عياذاً بالله سبحانه وتعالى من مكره! وقوله: (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) لا شك في أنهم إذا عظمت فرحتهم ثم أخذوا بغتة تتعاظم حسرتهم، فيكون أشد في إيلامهم، فلذلك قال تعالى: (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا)، يعني: من مطالبهم ورغائبهم مع الشرك (أخذناهم) أي: بالعذاب المستأصل (بغتة) أي: فجأة بلا تقديم ذكر؛ إذ لم يفدهم التذكير في المرة الأولى (فإذا هم مبلسون) أي: متحسرون يائسون من كل خير.

قال تبارك وتعالى: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]. قوله: (فقطع دابر القوم الذين ظلموا) يعني: إذا كان آخرهم قد قطع فما بالك بأولهم؟! وهذا -كما يقولون- كناية عن الاستئصال، فإذا كان آخرهم قضي عليه فبالأولى أولهم، فقوله: (فقطع دابر) أي: آخر (القوم الذين ظلموا)، فهو كناية عن الاستئصال؛ لأن ذهاب آخر الشيء يستلزم ذهاب ما قبله، وهو من (دبر دبره) إذا تبعه فكان في دبره، أي: خلفه، فالدابر هو ما يكون بعد الآخر، ويطلق عليه أنه دابر تجوزاً، وقال أبو عبيد : دابر القوم: آخرهم. وقال الأصمعي : الدابر الأصل، ومنه (قطع الله دابره)، أي: أصله. وقوله: (والحمد لله رب العالمين) أي: على ما جرى عليهم من الهلاك، فلا شك في أن هذا العقاب وهذا العدل من الله سبحانه وتعالى من الصفات التي يتمدح بها الله سبحانه وتعالى، ويُحمد الله عليها، فانتقامه من الطغاة والظالمين بعد الإنذار وبعد الاعذار وبعد إقامة الحجة والتذكير من عدله. وقوله: (والحمد لله رب العالمين)، على ما جرى على هؤلاء الظالمين من الهلاك، فإن إهلاك الكفار والعصاة من حيث إنه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم وأعمالهم نعمة جليلة يحمد الله عليها، لاسيما مع ما فيه من إعلاء كلمة الحق التي نطقت بها رسلهم عليهم السلام. وقد روي في هذه الآية أخبار وآثار، منها: ما أخرجه الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ))[الأنعام:44]). إذاً: هذا يؤيد لك المعنى الذي ذكرنا، وهو أن بعض الجهلة المغرقون في الجهالة بالله سبحانه وتعالى وسننه وأيامه عندهم أموال، ونسمع من المفسدين في الأرض أو الفاسقين أنهم يقولون: ربنا يحبنا. ويقول أحدهم: كنت سأهلك في الحادثة، لكن الله يحبني؛ لأنه أعطاني مالاً أو كذا وكذا. فهو يستدل بفضل الله عليه أنه نجاه من هلكة على أن الله يحبه، وهذا ليس دليلاً على أن الله يحبك، ولكن انظر إلى حالك، فإن كنت مستقيماً على طاعة الله فيمكن أن تكون هناك أمارة مخيلة أن الله يحبك، أما إن كنت عاتياً متمرداً ظالماً باغياً تاركاً للصلاة، لا تذكر الله سبحانه وتعالى، وتهجر القرآن، وترتكب غير ذلك من الجرائم والفسوق والعصيان ثم تزعم أن الله يحبك فاعلم أن هذا استدراج، فما أكثر ما نسمع: إن ربنا يحبني؛ لأني نجوت من الحادثة الفلانية. وما أدراك؟! فانظر إلى حالك حتى تعلم هل يحبك الله أم لا؟ كما قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، والله لا يحب الظالمين، ولا يحب الفاسقين، ولا يحب الفجار، إنما يحب من يحب الله ويحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فيقول الرسول عليه السلام: (إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استداج)، يعني: بالرغم من أنه مستمر على المعاصي ومتمادٍ فيها يعطيه الله سبحانه وتعالى، فإياك أن تكون كهؤلاء المغفلين الذين يظنون أن هذا علامة محبة من الله، فهذا هو تشخيص الرسول عليه السلام لهذه الحالة، فإنه يشخصها بأنها استدراج، ثم أكد المعنى بالاستدلال بهذه الآية (فلما نسوا ما ذكروا به). وهؤلاء الذين يتكلم الله عنهم هم الذين قال في شأنهم من قبل: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43-44] أي: مع حصول البأساء لم يتضرعوا. ولذا قال: وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام:43] فمن تزيين الشيطان أن هؤلاء المساكين يقولون: إن ربنا يحبنا، ولذلك صنع بنا كذا وكذا. يقول تعالى: (( فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ )) أي: لما لم يجد معهم التذكير بالبأساء والضراء، وما نفعتهم المواعظ زاد الله سبحانه وتعالى في فتنتهم. وقوله: (( فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ )) تأمل كلمة (كل شيء) في قوله تعالى: فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:44-45]. فعن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: (إذا أراد الله بقوم اقتطاعاً فتح لهم)، أي: إذا أراد أن يقطع دابرهم ويستأصلهم فتح عليهم باب خيانة، حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]. وقال الحسن البصري رحمه الله تعالى: من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له) يعني أن هذا إنسان غير عاقل، وليس عنده عقل ولا رأي حسن، قال: (ومن قتِّر عليه ولم ير أنه ينظر له فلا رأي له). فإذا كان الله كتب عليك ضيق الرزق فأحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، واعلم أن الله سبحانه وتعالى يرى أن هذا هو الذي يصلحك، وأنه لو فتح عليك في المال والرزق لفسدت، وكثير من الناس كذلك. إذاً: فوِّض أمرك إلى الله، فهو أدرى بما يصلحك، كما قال صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير: إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له) فأنت لا تدري بالعواقب، ولا تدري بالذي يصلح دينك، فقد يفسد دينك الفقر فيعطيك المال، وقد يفسد دينك الغنى فيحجب عنك المال؛ لأن هذا هو الذي يصلحك، وهذا مشاهد في كثير من الناس، فإنهم يفسدون إذا جرى المال في أيديهم، وكثير من الناس يفسد دينه إذا لم يجر المال في يده، فالله سبحانه وتعالى أدرى بما يصلح العبد، فيجب عليك أن ترضى بما قسم الله لك، وترى في تقتير وتضييق الرزق أن هذا أفضل لك وخير لك؛ لأن هذا اختيار الله سبحانه وتعالى، فعليك أن تفوِّض الأمر إلى الله. فالحسن يقول: كما يقول الحسن : من وسع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له). فلابد من أن تخاف من أن هذا مكر من الله سبحانه وتعالى، وأن هذا استدراج لهذه الآية ونظائرها. وفي الحالة الأخرى (من قتر عليه ولم ير أنه ينظر له) وأن هذه مصلحته، وأن هذا هو الخير في حقه فلا رأي له، ثم قرأ: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ [الأنعام:44]، قال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. وقال قتادة : بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم. يتركهم حتى يفرحوا بالزينة وبالدنيا كي يتحسروا عند فراقها أشد الحسرة، وهذا استدراج، كقوله تعالى: إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ [يونس:24] أي: كأن لم يكن لها وجود من قبل. ولذا قال الحسن : مكر بالقوم ورب الكعبة، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا. وقال قتادة : بغت القوم أمر الله، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم، فلا تغتروا بالله؛ فإنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون. وقال الرازي : قال أهل المعاني: وإنما أخذوا في حال الرخاء والراحة ليكون أشد لتحسرهم على ما فاتهم من السلامة والعافية. وقال الزمخشري في قوله تعالى: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]: هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة. إذاً: على الإنسان إذا رأى هلاك الظلمة أن يحمد الله سبحانه وتعالى؛ لأن الله بذلك يكون قد أراح البلاد والعباد من هؤلاء الظالمين. وختم الله قصص ما مضى من أحوال هؤلاء المهلكين فقال عز وجل: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، فهو يستحق الحمد على أنه أهلك هؤلاء الذين عتوا وتجبروا، وفي هذا إيذان بوجوب الحمد عند هلاك الظلمة، وأن هذا من أجل النعم وأجزل القسم، فهو إخبار بمعنى الأمر تعليماً للعباد. فـالزمخشري يذهب إلى أن قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] معناه: فاحمدوا الله رب العالمين. أي: أنه أمر جاء في سياق الخبر، كما في قوله: فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ [الروم:17] فقد جاء في بعض التفاسير أن المعنى: فسبحوا الله حين تمسون وحين تصبحون. وكذلك تكون الآية هنا -على قول الزمخشري-: فاحمدوا الله رب العالمين على إهلاك الظلمة. قال ابن عقيل في (الانتصاف): ونظيرها قوله تعالى: وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا [النمل:59] أي