تفسير سورة الأنعام [1-12]


الحلقة مفرغة

يقول الجلال السيوطي رحمه الله تعالى: هذه السورة سورةٌ مكية، إلا قوله تعالى: (( وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ ))[الأنعام:91] إلى آخر الآيات الثلاث، وإلا قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151] الآيات الثلاث أيضاً، وهي مائة وخمس -أو ست- وستون آية.

قال عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]. قوله: (الحمد لله) الحمد هو: الوصف بالجميل، والحمد ثابت ومستقر لله سبحانه وتعالى، والحمد هنا المقصود به الوصف بالجميل والمدح والثناء. وهل المراد الإعلام بذلك للإيمان به، أو الثناء به، أو هما؟ هناك ثلاثة احتمالات في قوله تعالى: (الحمد لله): فقد يكون المقصود بقوله: (الحمد لله): أن تؤمنوا بذلك، وأن تعتقدوا ثبوت صفات الجلال والكمال لله سبحانه وتعالى. أو أن المقصود بـ(الحمد لله) الثناء على الله عز وجل، أو أن المقصود الأمران معاً، فهذه احتمالات، وآكدها الثالث، أي أن ذلك للإيمان وللثناء معاً، قاله الشيخ الجلال المحلي في تفسير أول سورة الكهف. وقوله: (الذي خلق السماوات والأرض) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات للناظرين، مع أن الله سبحانه وتعالى خلق غير السماوات والأرض من الملائكة والجن وغير ذلك، لكن خصَّ السماوات والأرض بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات البارزة للناظرين. وقوله: (وجعل الظلمات والنور) (جعل) هنا بمعنى (خلق) أي: خلق الظلمات والنور. أنه خلق كل ظلمة ونور، وجمع الظلمات لكثرة أسبابها، وهذا من دلائل وحدانيته؛ لأن الظلمات ومظاهر الضلال والباطل كثيرة ومتعددة، أما النور فهو واحد وحق، فهذا المشار إليه في هذه الآية الكريمة هو من دلائل وحدانيته تبارك وتعالى. وقوله: (ثم الذين كفروا) (ثم) هنا استبعادية، كما تقول للرجل: أحسنت إليك وأكرمتك ثم تشتمني. أي: يستبعد منك أن تقابل إحساني بهذه الإساءة. فكذلك هنا، فقوله تعالى: (ثم الذين كفروا) يعني: كفروا مع قيام هذا الدليل على وحدانيته تبارك وتعالى. وقوله: (بربهم يعدلون) أي: يسوون به غيره في العبادة.

ذكر الإمام القاسمي رحمه الله تعالى في مقدمة السورة أنها مكية، وأنها مائة وخمس وستون آية، وبعض العلماء -كما ذكرنا- يقول: إنها مائة وخمس -أو ست- وستون آية، والآيات هي نفس الآيات، ولكن الاختلاف أحياناً يكون في العد. قال القاسمي : روى العوفي وعكرمة وعطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أنزلت سورة الأنعام بمكة)، وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: (هي مكية، نزلت جملة واحدة، نزلت ليلاً، وكتبوها من ليلتهم غير ست آيات منها فإنها مدنية). فهذه السورة لها خصائص ليست لغيرها، منها: أنها بكمالها نزلت جملة واحدة، ونزلت ليلاً، وبمجرد أن نزلت بالليل كتبها الصحابة رضي الله تعالى عنهم، إلا ست آيات منها نزلت في المدينة، وهي قوله تعالى: قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام:151]، إلى آخر الثلاث الآيات، وقوله عز وجل: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91] وقوله تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام:21] إلى آخر الآيتين. ومن خصائص هذه السورة ما أخرجه الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة، حولها سبعون ألف ملك يجأرون بالتسبيح). وروى السدي عن ابن مسعود قال: (نزلت سورة الأنعام يشيعها سبعون ألفاً من الملائكة). وعن جابر رضي الله عنه قال: (لما نزلت سورة الأنعام سبَّح رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق) وهذا رواه الحاكم وقال: صحيح على شرط مسلم . وأخرج ابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت سورة الأنعام معها موكب من الملائكة سدَّ ما بين الخافقين، لهم زجل بالتسبيح، والأرض بهم ترتج، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: سبحان الله العظيم، سبحان الله العظيم). وأخرج -أيضاً- عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزلت عليَّ سورة الأنعام جملة واحدة، وشيعها سبعون ألفاً من الملائكة، لهم زجل بالتسبيح والتحميد). قال الرازي : قال الأصوليون: هذه السورة اختصت بنوعين من الفضائل: أحدهما: أنها نزلت دفعة واحدة. فهذه السورة نزلت -كما ذكرنا- جملة واحدة، ولم تنجم، ولم تقطع كغيرها من سور القرآن الكريم. الثاني: أنها شيعها سبعون ألفاً من الملائكة، والسبب فيه أنها -أي: هذه السورة العظيمة- مشتملة على دلائل التوحيد والعدل والنبوة والمعاد، وإبطال مذهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الجلالة والرفعة، وعلم الأصول المقصود به هنا أصل العقيدة والتوحيد وأمور الإيمان. وإنزال ما يدل على الأحكام قد تكون المصلحة أن ينزله الله تعالى على قدر حاجة المكلفين وبحسب الحوادث والنوازل، وآيات الأحكام منها ما له أسباب نزول معينة، وكل هذا يكون متوافقاً مع حكمة الله سبحانه وتعالى في التدرج في التشريع بقدر حاجة الناس أو بحسب الحوادث والنوازل التي تنزل بهم. أما ما يدل على علم الأصول مما في هذه السورة الكريمة فقد أنزله الله جملة واحدة، وذلك يدل على أن تعلُّم علم الأصول واجب على الفور لا على التراخي؛ لأنه لم ينجَّم ولم يقطَّع. وأخرج الدارمي في مسنده عن عمر رضي الله عنه قال: (الأنعام من نواجب -أو نجائب- القرآن) يعني: أفضله ومحضه ولبابه.

وسميت بسورة الأنعام لأن أكثر أحكامها تبين جهالات المشركين في التقرب بالأنعام إلى أصنامهم؛ لأنه حصل عند المشركين كثير من مظاهر الجهالة والإشراك بالله سبحانه وتعالى وتحريم الطيبات من هذه الأنعام، وكانوا يتقربون بها إلى أصنامهم، وهذا كله ذكر في هذه السورة الكريمة.

قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1]. قوله: (الحمد لله) أي: له جميع المحامد، أي أن كل حمد فهو لله، سواء بما حمد به نفسه سبحانه وتعالى، أو حمد به الخلق ربهم، أو بعضهم، كل ذلك مخصوص بالله عز وجل. ثم أخبر عن قدرته الكاملة التي هي موجبة لاستحقاقه جميع المحامد. فإن قيل: لماذا يستحق الله سبحانه وتعالى جميع المحامد؟ فالجواب: لأنه هو (الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور). قوله: (الذي خلق السماوات والأرض) خصهما بالذكر لأنهما أعظم المخلوقات فيما يرى العباد، وفيهما العبر والمنافع للعباد؛ لأن السماوات بأوضاعها وحركاتها أسباب الكائنات التي هي مظاهر الكمالات الإلهية، والأرض مشتملة على قوابل الكون. وقوله: (وجعل الظلمات والنور) أي: أوجدهما لمنفعة عباده في ليلهم ونهارهم. وهاهنا لطائف: الأولى: أن المقصود من الآية التنبيه على أن المنعم بهذه النعم الجسام هو الحقيق بالحمد والعبادة دونما سواه، فكما أنه لم ينعم بهذه النعم العظيمة -سواءٌ التي ذكرتت في صدر السورة أو التي جاءت بعد- فإذاً: لا يستحق أن يحمد وأن يعبد إلا الله عز وجل. الثانية: أن لفظ (جعل) المذكور في قوله سبحانه: (وجعل الظلمات والنور) يأتي أحياناً متعدياً إلى مفعوله، وذلك إذا أتى بمعنى (أحدث وأنشأ) كما هنا في هذه الآية (الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور) فإن جعل تعدى إلى مفعول واحد فقط، والنور معطوف على هذا المفعول. أما إذا تعدى (جعل) إلى مفعولين فإن معناه حينئذٍ (صيَّر) كقوله سبحانه وتعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً [الزخرف:19] فـ(الملائكة) مفعول أول، و(إناثاً) مفعول ثانٍ. والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التضمين، كإنشاء شيء من شيء، أو تضمين شيء شيئاً أو نقله من مكان إلى مكان. وقد وردت (جعل) و(خلق) مورداً واحداً، فقال عز وجل: وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1]، وقال -أيضاً-: وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا [الأعراف:189] فـ(جعل) تأتي بمعنى (خلق) كما ذكرنا؛ لأن بينهما نوعاً من الترابط.

وقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) (ثم) استبعادية، وهي مناسبة للمقام؛ إذ يبعد من العاقل الناظر بعد إقامة الدليل اختيار الباطل، فالشخص العاقل الذي يتأمل في هذه الآيات ينبغي أن تقوده إلى التوحيد، ويبعد جداً من العاقل أنه بعد أن يرى الدليل وتقام عليه الحجة يختار مع ذلك الباطل، ولذلك قال: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) وعليه فجمع الظلمات وإفراد النور ظاهر؛ فإنه قال: (وجعل الظلمات والنور) فأتى بالظلمات بصيغة الجمع، أما النور فأتى به مفرداً؛ لأن الهدى واحد، والضلال متعدد، كما قال في آخر هذه السورة الكريمة: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ [الأنعام:153] فأفرده، ثم قال: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] فجمع السبل. فجمع الظلمات لظهور كثرة أسبابها عند الناس، فالباطل كثير جداً ومتعدد، وهو كثير عند الناس كما هو معروف، ولكل جرم ظلمة، وليس لكل جرم نور، وأما تقديمها فلسبقها في التقدير والتحقق على النور؛ لأن الظلام يسبق النور، فلذلك قدم الظلمات على النور؛ لأن الأصل هو الظلمة، والدليل على ذلك قوله تعالى في سورة يس: وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ [يس:37] أن الأصل هو الليل، ثم يسلخ ويزال هذا الليل فيكون النهار، ولو أن إنساناً ركب مركبة فضائية وانطلق من الغلاف الجوي فإنه إذا خرج عن الغلاف الجوي -وقد يكون في وقت الضحى وفي شدة النهار والشمس- يكون في ظلمة مطبقة. إذاً: فموضوع النهار ظاهرة محلية في الكرة الأرضية فقط. فالظلمة هي المتقدمة على النور من حيث الإيجاد والخلق، ولذلك قدمها تبارك وتعالى هنا فقال: (وجعل الظلمات والنور). وقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) هذا الجزء من الآية منسوب لإنكار ما عليه الكفرة، واستبعاده من مخالفتهم لمضمونها، وإصرارهم على ما يقضي على بطلانه بديهة العقول، والمعنى أنه تعالى مختص باستحقاق الحمد والعبادة باعتبار ذاته عز وجل، وباعتبار ما فصَّل من شئونه العظيمة الخاصة به الموجبة لقصر الحمد والعبادة عليه، ثم هؤلاء الكفرة لا يعملون بموجبه، ويعدلون به سبحانه وتعالى، ويسوون بينه وبين الأنداد والشركاء، أي: يسوون به غيره في العبادة؛ لأن العبادة هي أقصى غايات الشكر لله سبحانه وتعالى، فإذا وجهوا هذه العبادة لغير الله فقد سووا مع الله سبحانه وتعالى خلقه، وأقصى غايات الشكر ورأس الشكر هو الحمد؛ لأن الحمد أعم من الشكر، مع كون كل ما سواه عز وجل مخلوقاً له، والمخلوق غير متصف بشيء من مبادئ الحمد، ومع ذلك وقع منهم ذلك. فقوله: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) كلمة (ثم) لاستبعاد الشرك بعد وضوح ما ذكر من الآيات التكوينية القاضية ببطلانه. وقوله تعالى: (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون) العدل: مساواة الشيء بالشيء. والمعنى أنهم يجعلون له عديلاً من خلقه، أي: عدلاً مساوياً له تبارك وتعالى وهو لا يقدر على شيء، فيعبدون الحجارة مع إقرارهم بأن الله خلق السماوات والأرض. قال النضر بن شميل : الباء في قوله: (بربهم يعدلون) بمعنى (عن) يعني: عن ربهم يعدلون. ومعنى (يعدلون): ينحرفون. يقال: عدلت عن كذا، أي: انحرفت وملت. والمراد: ينحرفون عن عبادة ربهم تبارك وتعالى. وقال ابن عطية رحمه الله تعالى: (ثم) دالة على قبح فعل الذين كفروا؛ لأن المعنى أن خلقه السماوات قد تقرر، وآياته قد سطعت، وإنعامه بذلك قد تبين، ثم بعد هذا كله قد عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: أعطيتك وأحسنت إليك ثم تشتمني.

ثم يقول تبارك وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2]. يقول الجلال السيوطي رحمه الله تعالى: (هو الذي خلقكم من طين) يعني: بخلق أبيكم آدم منه؛ لأن خلق الإنسان كان أولاً من طين، ثم بعد ذلك من سلالة من ماء مهين، كما فصله تعالى في سورة السجدة، فالمقصود بقوله: (هو الذي خلقكم من طين) أي: هو الذي خلق أباكم آدم عليه السلام من طين. وقوله: (ثم قضى أجلاً) يعني: كتب وقدَّر لكم أجلاً تموتون عند انتهائه. وقوله: (وأجل مسمى عنده) يعني: وأجل آخر مسمىً ومضروب عنده لبعثكم، وهو أجل البعث والنشور. وقوله: (ثم أنتم تمترون) أي: ثم أنتم -أيها الكفار- تمترون، أي: تشكون في البعث، وذلك بعد علمكم أنه ابتدأ خلقكم، ومن قدر على الابتداء فهو على الإعادة أقدر. يقول القاسمي : (هو الذي خلقكم من طين) استئناف مسوق لبيان بطلان كفرهم بالبعث، مع مشاهدتهم لما يوجب الإيمان به ويبين بطلان إشراكهم به تعالى، مع معاينتهم لموجبات توحيده، وهي خلق السماوات والأرض، وتخصيص خلقهم بالذكر من بين سائر دلائل صحة البعث -يعني أن القرآن الكريم هنا هو في سياق ذكر الدلائل لصحة الاعتقاد في البعث والنشور، فخص ذكر خلقنا من طين هنا دون غيره من أدلة البعث والنشور- مع أن ما ذكره من خلق السماوات والأرض من أوضحها وأظهرها.

بعض الأدلة على البعث والنشور

الأدلة على البعث والنشور كثيرة جداً في القرآن الكريم، والواجب على كل مسلم أن يعرفها حتى ولو لم يدرس في كتاب؛ لأن هذه عقيدة من العقائد الأساسية، فإذا سئلت: كيف تدلل على البعث والنشور فلابد من أن تكون عندك الإجابة، وإذا سئلت: ما هي أدلة صحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وإذا سئلت عن إعجاز القرآن فلابد من أن تكون عندك الإجابة؛ لأن هذه الأشياء هو أصول الدين، فلابد من أن يتقنها الإنسان بالأدلة، ولابد من أن تكون حاضرة تماماً في ذهنه. فأول الأدلة من أدلة البعث والنشور الاستدلال بأن الذي بدأ الخلق قادر على أن يعيده، وهو أهون عليه. الدليل الثاني: الاستدلال بخلق السماوات والأرض، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فإذا كان الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض فهو أقدر على إعادتهم ونشورهم. الدليل الثالث: الاستدلال بإحياء الله سبحانه وتعالى الأرض بعد موتها، وهذا مذكور كثيراً في القرآن، فالآيات كثيراً ما تشير بعد ذكر إحياء الأرض بعد موتها بالمطر إلى البعث والنشور، كما في أوائل سورة البقرة، وفي سورة الحج وغيرهما من السور. ومن الأدلة -أيضاً- وقوع بعض الحوادث التي حكاها القرآن الكريم وفيها إحياء الموتى بالفعل، كقوله تعالى في سورة البقرة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]. وكذلك أحيا الله بني إسرائيل لما رفع فوقهم الطور، كما في قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ... [البقرة:92] إلى آخر الآيات المعروفة في أوائل سورة البقرة. وهكذا قصة أصحاب الكهف دليل من هذه الأدلة. وهكذا قصة الرجل الذي مر على قرية، كما قال عز وجل: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]. وعلى أي حال فالأدلة في هذا كثيرة، ومع ذلك بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض خص هنا ذكر خلق الإنسان من طين، كما ورد في قوله تبارك وتعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس:81] أي: دلالة بدء خلقهم على بعثهم أظهر، وهم بشئون أنفسهم أعرف، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح. والسياق فيه التفات؛ لأن أول الآية في سياق الغيبة، أما هنا فالتفت، قال عز وجل في أول الآية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] ثم التفت فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2] فالالتفات هنا هو لمزيد التشنيع والتوبيخ. أي: ابتدأ خلقكم من الطين؛ فإنه المادة الأولى للكل؛ لأنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر، ولكن نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم عليه السلام، مع أن آدم هو المخلوق منه حقيقة، ولم يقل: هو الذي خلق أباكم، مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه في إيجاب البعث وبطلان الامتراء بتوضيح منهاج القياس، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس. ولاشك في أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من أبيه آدم عليه السلام؛ لأن آدم كان منطوياً انطواءً إجمالياً على ذريته، أي: أن ذريته كانت في صلبه، فصح أن نوصف نحن بأننا خلقنا من طين باعتبار أن أبانا خلق من هذا الطين، فكان خلقه عليه السلام من الطين خلقاً لكل أحد من فروعه منه. ولذلك قال تعالى في سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [الأعراف:11]. وقوله: (ثم قضى أجلاً) أي: كتب لموت كل واحد منكم أجلاً خاصاً به. يعني: حداً معيناً من الزمان يفنى عند حلوله. وقوله: (وأجل مسمى عنده) أي: وجعل حداً معيناً لبعثكم جميعاً، فالأجل الأول هو خاص بكل إنسان، أما هذا فهو الأجل الذي هو حد معين لبعث الخلق أجمعين، وهو مثبت ومعين في علمه لا يقبل التغيير ولا يقف على وقت حلوله أحد، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف:187]. فمعنى قوله: (وأجل مسمى عنده) يعني أنه مستقل بعلمه. وقوله: (ثم أنتم تمترون) هذا استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث بعد معاينتهم لما ذكر من الحجج الباهرة الدالة عليه، أي أنكم تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه مع أنكم تشاهدون في أنفسكم ما يقطع مادة الإمتراء، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها على ما يشاء أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها مرة ثانية.

الأدلة على البعث والنشور كثيرة جداً في القرآن الكريم، والواجب على كل مسلم أن يعرفها حتى ولو لم يدرس في كتاب؛ لأن هذه عقيدة من العقائد الأساسية، فإذا سئلت: كيف تدلل على البعث والنشور فلابد من أن تكون عندك الإجابة، وإذا سئلت: ما هي أدلة صحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ وإذا سئلت عن إعجاز القرآن فلابد من أن تكون عندك الإجابة؛ لأن هذه الأشياء هو أصول الدين، فلابد من أن يتقنها الإنسان بالأدلة، ولابد من أن تكون حاضرة تماماً في ذهنه. فأول الأدلة من أدلة البعث والنشور الاستدلال بأن الذي بدأ الخلق قادر على أن يعيده، وهو أهون عليه. الدليل الثاني: الاستدلال بخلق السماوات والأرض، وخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس، فإذا كان الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض فهو أقدر على إعادتهم ونشورهم. الدليل الثالث: الاستدلال بإحياء الله سبحانه وتعالى الأرض بعد موتها، وهذا مذكور كثيراً في القرآن، فالآيات كثيراً ما تشير بعد ذكر إحياء الأرض بعد موتها بالمطر إلى البعث والنشور، كما في أوائل سورة البقرة، وفي سورة الحج وغيرهما من السور. ومن الأدلة -أيضاً- وقوع بعض الحوادث التي حكاها القرآن الكريم وفيها إحياء الموتى بالفعل، كقوله تعالى في سورة البقرة: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243]. وكذلك أحيا الله بني إسرائيل لما رفع فوقهم الطور، كما في قوله تعالى: ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ... [البقرة:92] إلى آخر الآيات المعروفة في أوائل سورة البقرة. وهكذا قصة أصحاب الكهف دليل من هذه الأدلة. وهكذا قصة الرجل الذي مر على قرية، كما قال عز وجل: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا [البقرة:259]. وعلى أي حال فالأدلة في هذا كثيرة، ومع ذلك بعدما ذكر الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض خص هنا ذكر خلق الإنسان من طين، كما ورد في قوله تبارك وتعالى: أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ [يس:81] أي: دلالة بدء خلقهم على بعثهم أظهر، وهم بشئون أنفسهم أعرف، والتعامي عن الحجة النيرة أقبح. والسياق فيه التفات؛ لأن أول الآية في سياق الغيبة، أما هنا فالتفت، قال عز وجل في أول الآية: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [الأنعام:1] ثم التفت فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ [الأنعام:2] فالالتفات هنا هو لمزيد التشنيع والتوبيخ. أي: ابتدأ خلقكم من الطين؛ فإنه المادة الأولى للكل؛ لأنه منشأ آدم الذي هو أبو البشر، ولكن نسب هذا الخلق إلى المخاطبين لا إلى آدم عليه السلام، مع أن آدم هو المخلوق منه حقيقة، ولم يقل: هو الذي خلق أباكم، مع كفاية علمهم بخلقه عليه السلام منه في إيجاب البعث وبطلان الامتراء بتوضيح منهاج القياس، وللمبالغة في إزاحة الاشتباه والالتباس. ولاشك في أن كل فرد من أفراد البشر له حظ من أبيه آدم عليه السلام؛ لأن آدم كان منطوياً انطواءً إجمالياً على ذريته، أي: أن ذريته كانت في صلبه، فصح أن نوصف نحن بأننا خلقنا من طين باعتبار أن أبانا خلق من هذا الطين، فكان خلقه عليه السلام من الطين خلقاً لكل أحد من فروعه منه. ولذلك قال تعالى في سورة الأعراف: وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ [الأعراف:11]. وقوله: (ثم قضى أجلاً) أي: كتب لموت كل واحد منكم أجلاً خاصاً به. يعني: حداً معيناً من الزمان يفنى عند حلوله. وقوله: (وأجل مسمى عنده) أي: وجعل حداً معيناً لبعثكم جميعاً، فالأجل الأول هو خاص بكل إنسان، أما هذا فهو الأجل الذي هو حد معين لبعث الخلق أجمعين، وهو مثبت ومعين في علمه لا يقبل التغيير ولا يقف على وقت حلوله أحد، كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ [الأعراف:187]. فمعنى قوله: (وأجل مسمى عنده) يعني أنه مستقل بعلمه. وقوله: (ثم أنتم تمترون) هذا استبعاد واستنكار لامترائهم في البعث بعد معاينتهم لما ذكر من الحجج الباهرة الدالة عليه، أي أنكم تمترون في وقوعه وتحققه في نفسه مع أنكم تشاهدون في أنفسكم ما يقطع مادة الإمتراء، فإن من قدر على خلق المواد وجمعها وإيداع الحياة فيها وإبقائها على ما يشاء أقدر على جمع تلك المواد وإحيائها مرة ثانية.

ثم قال عز وجل: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ [الأنعام:3] هذه الآية تحتاج إلى نوع من الاهتمام الخاص؛ لأنها مما يستدل به بعض الضالين المنحرفين الذين يزعمون أن الله سبحانه وتعالى موجود في كل مكان بذاته تبارك وتعالى، ولا شك في أن هذا من الضلال المبين المنافي لعقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى، فأولئك يستدلون بهذه الآية ويحملونها على غير معناها الصحيح الذي فهمه عليه السلف. وقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) أي: المعبود الذي يعبده أهل السماوات وأهل الأرض. وقوله: (يعلم سركم وجهركم) يعني: من الأقوال أو الدواعي والصوارف القلبية وأعمال الجوارح. وقوله: (ويعلم ما تكسبون) أي: ما تفعلونه من خير أو شر، فيثيب عليه ويعاقب، وخصه بالذكر لإظهار كمال الاعتناء به؛ لأن هذا السر هو الذي يتعلق به الجزاء، وهو السر في إعادة قوله تعالى: (يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون). يقول الناصر في (الانتصاف): وأما هاتان الآيتان الكريمتان -يعني: هذه الآية وآية الزخرف، وهي قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84]- فإن التمدح في آية الزخرف وقع لما وقع التمدح به هاهنا من القدرة على الإعادة، والاستئثار بعلم الساعة، والتوحد في الألوهية، وفي كونه تعالى المعبود في السماوات والأرض، فقوله في هذه الآية: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) يعني أنه إله من في السماء وإله من في الأرض، ولا يمكن أبداً حملها على عقيدة الحلول والعياذ بالله؛ لأن السلف قاطعون وجازمون بأن الله عز وجل بائن من خلقه، والله سبحانه وتعالى لا يخالط خلقه ولا يحل فيهم، فهو ينزه عن ممازجة خلقه، بل هو بائن عنهم تبارك وتعالى، وعلمه في كل مكان، لكنه على العرش استوى. ولم يقل: وهو الذي في السماء رب وفي الأرض رب، ولم يقل: وهو الرب في السماوات وفي الأرض، إنما عنون له هنا بالإلهية (وهو الله)؛ لأن المعنى: هو المعبود. فيليق بمن سواه أن يعبر بلفظ الجلالة (الله) أي: المعبود، ولذلك فكلمة التوحيد هي (لا إله إلا الله) وأما (لا رب إلا الله) فلا تعتبر كلمة التوحيد، وإن كانت هي توحيد الربوبية، إلا أن كلمة توحيد الربوبية لا تنجي من النار؛ لأنه لو كانت كلمة التوحيد (لا رب إلا الله) لكان أبو جهل موحداً؛ لأن أبا جهل وأبا لهب وغيرهما من الكفار كانوا يعتقدون أنه لا رب إلا الله، ومشركوا مكة كانوا يعتقدون أنه لا رب إلا الله، لكنهم كانوا يشركون في العبادة، وينقضون توحيد الإلهية بأن يعبدوا مع الله غيره، ولذلك كانت كلمة النجاة (لا إله إلا الله) أي: لا تعبدوا إلا الله، ولا إله يستحق العبادة إلا الله، وليست (لا رب إلا الله)؛ لأن جميع المشركين يقرون بأنه لا رب إلا الله. يقول ابن كثير : للمفسرين في هذه الآية أقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية الأول. يعني أوائل الجهمية القائلين -تعالى الله عز وجل عن قولهم علواً كبيراً- بأنه في كل مكان، فهذا مما لا يليق أن ينسب إلى الله سبحانه وتعالى، ولنتفطن لشيوع هذه العقيدة عند كثير من العوام وهم لا يشعرون حين يقولون: إن الله موجود في كل وجود. أو: ربنا موجود في كل مكان. نعم هو موجود في كل مكان بعلمه وبسمعه وببصره وبشهادته وبإحاطته بخلقه عز وجل، فكل شيء بالنسبة إلى الله عز وجل لا يخفى على الإطلاق. أما أن يراد أن ذات الله سبحانه وتعالى في داخل خلقه فهذا مما يتعالى الله سبحانه وتعالى وينزه عنه، فالاعتقاد بأن الله في كل مكان هو انحراف وضلال مبين عن عقيدة السلف الصالح رحمهم الله تعالى، ولم يقل به إلا الجهمية المبطلون، وحملوا هذه الآية على ذلك، وقالوا: إن الله يقول هنا: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ [الأنعام:3] فحملوها على أن ذات الله موجودة في السماوات والأرض. فالأصح من الأقوال أنه -سبحانه وتعالى- هو المدعو في السماوات وفي الأرض، ولا تعارض؛ لأن الدعاء هو العبادة، أي: يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض، ويسمونه الله، ويدعونه رغباً ورهباً، إلا من كفر من الجن والإنس، وهذه الآية على هذا القول هي كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84] أي: هو إله من في السماء وإله من في الأرض. وعلى هذا فيكون قوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ [الأنعام:3] خبراً أو حالاً. أما القول الثاني في الآية فهو أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر، فقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) يعني أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر، فمعنى ذلك: أن كلمة يعلم متعلقة بقوله: (في السماوات وفي الأرض) وتقديره: وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض. القول الثالث: أن الوقف على قوله: (وهو الله في السماوات) وقف تام، وهذا هو اختيار إمام المفسرين وشيخهم ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، فإنه -رحمه الله- يرى أن الوقف التام هو عند قوله تعالى: (وهو الله في السماوات) ثم يُستأنف: (وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون) أي: تقف عند قوله عز وجل: (وهو الله في السماوات) يعني: فوقكم في السماء، كقوله تبارك وتعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، فـ(في) هنا بمعنى (على) كقوله سبحانه: لأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71] يعني: عليها. وكقوله: فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ [التوبة:2] يعني: فوق الأرض. هذا هو اختيار الإمام ابن جرير ، ورجح ابن عطية في الآية أنه الذي يقال له: (الله) فيهما، فقوله: (وهو الله في السماوات وفي الأرض) يعني: وهو الذي يقال له: (الله) في السماوات وفي الأرض، قال ابن عطية: وهذا عندي أفضل الأقوال وأكثرها إحرازاً لفصاحة اللفظ وجزالة المعنى. يعني أنه أراد أن يدل على خلقه وآيات قدرته وإحاطته واستيلائه ونحو هذه الصفات، فجَمَعَ هذه كلها في قوله: (وهو الله) أي الذي له هذه كلها (في السماوات وفي الأرض)، وكأنه قال: وهو الخالق والرازق والمحيي والمميت فيهما.

ثم قال تبارك وتعالى: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (وما تأتيهم) أي: أهل مكه، (من) زائدة أو تبعيضية، (من آية من آيات ربهم) يعني: من القرآن الكريم، (إلا كانوا عنها معرضين) وإعراضهم كان بسبب تقليدهم الأعمى للآباء والأجداد لا عن تفكر وتأمل.