تفسير سورة المائدة [82-96]


الحلقة مفرغة

يقول تبارك وتعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ [المائدة:82]. قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ) أي: يا محمد (أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمنوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا)، يعني: من أهل مكة؛ لتضاعف كفرهم وجهلهم، وانهماكهم في اتباع الهوى. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمنوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا) قوله: (ذلك) الإشارة هنا إلى أقربهم مودة للمؤمنين. (بأن) يعني: بسبب أن (منهم قسيسين) أي: علماء (ورهباناً) أي: عباداً (وأنهم لا يستكبرون) عن اتباع الحق كما يستكبر اليهود وأهل مكة. وهذه الآية نزلت في وفد النجاشي القادمين عليه من الحبشة، قرأ صلى الله عليه وسلم عليهم سورة يس فبكوا وأسلموا، وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى. يقول القاضي محمد كنعان : قوله تعالى: (لتجدن أشد الناس عداوة ..) الآية، ذكر الإمام السيوطي هنا أنها نزلت في وفد النجاشي القادمين عليه من الحبشة. ولكن القول المشهور في كتب التفسير والسير أنها نزلت في النجاشي وأصحابه بعدما سمعوا سورة مريم من جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قدم عليهم المسلمون في الهجرة الأولى خوفاً من مشركي قريش، ففاضت أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق، ثم أسلم النجاشي ، وبعث ليعلم النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامه. ومما يجب التنبيه حوله أن هذه الآيات لا تشمل جميع النصارى كما يتوهم البعض، فقوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) ليس المقصود به جميع من انتسب إلى النصرانية، وإنما الإشارة إلى جماعة موصوفة منهم، فالقول بأن الآية تشمل جميع النصارى -كما يتوهم بعض الناس- قول باطل؛ لأن هؤلاء عداوتهم للمسلمين ظاهرة، ووقائع التاريخ في الأندلس والحروب الصليبية حتى عصرنا تشهد على ذلك، بل الوقائع التي نعيشها إلى الساعة الحاضرة، والمجازر التي تقام على مرأى ومسمع من العالم كله، والتحالف الصليبي اليهودي على مسلمي البوسنة بعد أن صارت الأمم المتحدة شريكاً متضامناً وعنصراً فعالاً في المذابح التي تجري لإخواننا المسلمين في البوسنة ليل نهار، ولم يعد هذا سراً مكتوماً، ومن يتابع الأخبار في هذه الأيام يعلم هذه الحقيقة، فكيف يقال: إن هؤلاء مع وحشيتهم وإجرامهم أقرب إلينا مودة من اليهود؟! بل هؤلاء مشركون كفار كما سيأتي في نفس هذه الآيات، فمن القول الباطل الزعم بأن الآية تشمل جميع النصارى، وإنما هي تصف جماعة معينة منهم سمعوا القرآن ففاضت أعينهم من الدمع مما عرفوا من الحق. فهل الصرب أو غيرهم إذا سمعوا القرآن تفيض أعينهم من الدمع مما سمعوا من الحق ويعلنون إسلامهم؟! فالآية تصف هؤلاء الذين إذا بلغهم الحق لا يستكبرون ولا يستنكفون عن اتباعه. ففي هؤلاء نزلت الآيات، لا في كل نصراني أو قسيس أو راهب، وهذا مع القطع بأن اليهود هم أشد الكافرين عداوة للمؤمنين. قوله تعالى: (( وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ )) يعني: من القرآن الكريم. (( تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا )) يعني: صدقنا بنبيك وكتابك. (( فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ )) أي: المقربين بتصديقهما. قوله: (وَمَا لَنَا) يعني: وقالوا في جواب من عيرهم بالإسلام من اليهود الذين قالوا لهم: كيف تسلمون: (وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ) أي: من القرآن. أي: لا مانع لنا من الإيمان مع وجود ما يقتضي هذا الإيمان، وهو نزول هذا الحق في القرآن الكريم، أو الطمع في رحمة الله. وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:84] أي: الجنة مع المؤمنين. ثم قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) فهذا -بلا شك- واضح وضوح الشمس، وهو أن المقصود بالآية الأولى النصارى الذين لما بلغهم الحق انقادوا له، وأسلموا لله سبحانه وتعالى، لا من يقول: إن الله هو المسيح ابن مريم. أو: إن الله ثالث ثلاثة. أو غير ذلك من الأقوال الشركية، فهؤلاء يدخلون في قوله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة:86]، وهؤلاء غير الموصوفين في صدر الآيات.

كلام القاسمي على قوله: (لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا ...)

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمنوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82] لماذا هم أشد الناس عداوة للمؤمنين؟ لإيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نفارق اليهود في الإيمان بعيسى وبمحمد، وهم يكفرون بهما. كذلك فإن عداوة الذين أشركوا للمؤمنين هي لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء؛ لأن المشركين لا يقرون بالتوحيد ولا بنبوة الأنبياء. وقال بعض العلماء في تعليل شدة هذه العداوة: لشدة إبائهم، ولذلك يندر جداً أن يسلم اليهودي الواحد ويدخل في الإسلام، فهذا يقع، ولكنه نادر بالنسبة لمن يدخل في الإسلام من غيرهم من طوائف الكفرة. فهم أشدة الناس عداوة للذين آمنوا لشدة إبائهم، ولتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيب هؤلاء الأنبياء، ومناصبتهم لهم، ولشدة قسوة قلوبهم وغلظ طبعهم قتلوا كثيراً من الأنبياء. أي: قتلوا يحيى عليه السلام، ثم أهدوا رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. وكذلك قتلوا أباه زكريا عليه السلام، وسعوا في قتل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم غير مرة، بل وضعوا له السم في الطعام، وغدروا به صلى الله عليه وآله وسلم، وألبوا عليه أشباههم من المشركين. وفي تقديم اليهود على المشركين بعد ذكرهما في موضع واحد إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة، فرغم أن اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للذين آمنوا، لكن أشد الطائفتين اليهود لعنهم الله تعالى. كما أن في تقديمهم عليهم -أي: تقديم اليهود على المشركين- في قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96] إيذاناً بتقدم اليهود على المشركين أيضاً في الحرص على الحياة. يقول تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) يعني: للين جانبهم، وقلة غل قلوبهم. فهنا القاسمي يميل في تفسير هذه الآية الكريمة إلى أن المقصود بقوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) عامة النصارى، وهذا التفضيل نسبي، وليس على الإطلاق كما يفعل منافقوا زماننا، فالمنافقون من علماء السوء في زماننا يداهنون الكفار بإطلاق هذه الآية عليهم، وإن كان الآن جرياً مع المتغيرات لا يتلوا المنافقون الآية أصلاً؛ لأنها تشتم اليهود، وقد صار اليهود عند الناس اليوم من أعظم أوليائهم، فالله المستعان. لكن القاسمي ينقل هنا كلام ابن كثير في تعليل قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) قال ابن كثير : وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد:27]. وفي كتابهم: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) وليس القتال مشروعاً في ملتهم. انتهى كلام الحافظ ابن كثير . ثم يضيف القاسمي : ولأن من مذهب اليهود -مبيناً وجه المفاضلة بين اليهود والنصارى في العداوة والمودة- أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان من القتل ونهب المال ونحوهما، وهو عند النصارى حرام، فحصل الفرق. فاليهود يتعبدون بأذية خلق الله، وبإيصال الشر إلى الخلق ممن ليس على ملتهم بأي طريق كان، حتى روى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً (ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله) ولم يذكر هنا صحة الحديث، وهنا قصة حكاها بعض المصنفين في (غذاء الألباب) عن صاحب (منظومة الآداب) الإمام السفاريني أن مسلماً سافر مع يهودي، فالمسلم كان راكباً الحمار، وكان اليهودي ماشياً، فمشيا حتى سافرا إلى بلد معين على هذه الحال، فبعد ما وصلا إلى تلك البلدة قال المسلم لليهودي: أستحلفك بالله، نحن عندنا اعتقاد أنه ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بإيذائه، فهل هممت بأذيتي؟! قال: ما هممت بأذيتك في شيء. فناشده وألح عليه أن يخبره، فإنه جازم بأنه لابد من أنه أراده بسوء في هذه السفرة، فلما استحلفه وشدد عليه صارحه وقال له: في مدة السفر كلها كنت أحاول أذيتك فلم أستطع، ولقد كنت أبصق على ظلك وأضرب خيالك. أو قال كلاماً نحو هذا، فهذا الذي استطاع أن يوصله إليه من الأذى، فالله أعلم بصحة هذا. وعلى كل حال فإن خسة اليهود وغدرهم ونذالتهم لا تحتاج إلى كثير من التعليق، فهذا أمر مجمع عليه بين سائر الأمم، حتى إن هتلر لما أجرى لهم المذابح التي بولغ فيها فيما بعد قال: لقد قتلت نصف اليهود وتركت النصف الآخر؛ حتى يعلم العالم لماذا قتلت النصف الأول أي: حتى يذوقوا منهم الويل ويعرفوا لماذا قتل النصف الأول من اليهود. وكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهب هي مما يدعو إلى قلة البغضاء والحسد ولين الجانب، كما أشير إليه بقوله تعالى: (ذلك) يعني: كونهم أقرب مودة للمؤمنين. (بأن منهم) أي: بسبب أن منهم قسيسين، مأخوذ من: قسى الشيء إذا تتبعه، فهذا وصف لعلمائهم بأنهم قسيسين. (ورهباناً) أي: عباداً متجردين. (وأنهم لا يستكبرون) أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود، وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراءة من الكبر أمر محمود، وإن كان ذلك من كافر، وهذا على القول بأن الآية تشمل النصارى عموماً، وأن المفاضلة هنا مفاضلة نسبية، ولذلك جاء بصيغة (أقربهم مودة) فهم لا يوادون لكنهم أقرب مودة، فالنصارى مع كفرهم أخف من اليهود والذين أشركوا في عداوتهم للمؤمنين. ولكن الكلام الأول -بلا شك- أقوى، وهو أن الآية إنما هي في هؤلاء الذين أسلموا، ولم يستكبروا على الحق، ويؤيد ذلك كثير من الآيات والأحاديث، ويؤيده -أيضاً- الواقع الذي نعيشه، فلا القسيسون ولا الرهبان فيهم هذا التجرد أو هذا التواضع، وإنما هو الخبث والمكر والدهاء، وإرادة الشر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي نعيشه ونراه ليل نهار هو أقوى شاهد محسوس، بحيث لا يمكن أبداً إنكاره إلا على سبيل المكابرة. فلا ندري أين الرحمة وأين الرفق وأين اللين منهم! هؤلاء الذين فعلوا هذه الشنائع، سواء في الأندلس أو في لبنان أو في الفلبين أو في أثيوبيا أو في البوسنة. والله تعالى لما تكلم عن هؤلاء النصارى هنا قال: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى) ولم يقل: النصارى. فوصفهم بأنهم الذين قالوا: (إنا نصارى) ولم يقل: النصارى. تعريضاً لصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر؛ لأن اليهود قيل لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة:21] فقابلوا ذلك بقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] فهذا من عتوهم وصلابتهم في الكفر، وتمردهم على أمر ربهم تبارك وتعالى. أما النصارى فإنهم أجابوا جواباً حسناً حين قالوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، ومن ثم سموا نصارى. وكذا -أيضاً- ورد في أول هذه السورة وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:14] فأسند ذلك إلى قولهم، ولم يقل: ومن النصارى أخذنا ميثاقهم. ولكن قال: (ومن الذين قالوا إنا نصارى) والإشارة به إلى قولهم: نحن أنصار الله. لكنه بين تنبيهاً على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله. ففي الآية التي هي في أول السورة (ومن الذين قالوا إنا نصارى) كان يقتضي قولهم: إنا نصارى -أي: نحن أنصار الله- أن يحفظوا عهد الله وميثاقه، لكنهم مع قولهم: إنا نصارى خالفوا هذا العهد ونسوا (حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) قال تعالى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14]. وفي الآية هنا يقول تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل: النصارى. لأن المقصود التعريض بصلابة اليهود وقسوة قلوبهم، وامتناعهم عن امتثال أمر ربهم كما ذكرنا. فالنصارى لما ورد عليهم الأمر لم يجابهوه بالرد كمجابهة اليهود، حتى إنهم لما نسوا الميثاق أو نسوا حظاً مما ذكروا به لم يردوا نفس الرد الغليظ الذي رده اليهود حينما قالوا لموسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، بل قالوا: نحن أنصار الله. واليهود قالت: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ .. [المائدة:24]، إلى آخر الآية، فهذا هو سر قوله تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل: النصارى.

معنى قوله تعالى: (وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ...)

يقول تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83]. قوله: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) هذا عطف على (لا يستكبرون) في قوله تعالى: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون). ((تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ)) يعني: تنصب. (مِنَ الدَّمْع) وهو الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف مع ضرب اليقين. (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) يعني: من كتابه، فوجدوه أكمل من الإنجيل وأفضل، أو من صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه. (يَقُولُونَ) يعني: مع عدم استكبارهم عن الحق. (رَبَّنَا آمَنَّا) أي بك وبما أنزلت وبرسولك محمد صلى الله عليه وسلم. (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي: الذين شهدوا بأنه حق، أو الذين شهدوا بنبوته، أو أن المراد بالشاهدين أمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم هم الشهداء على الناس، يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ، وللرسل أنهم قد بلغوا أممهم.

معنى قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن بالله وما جاءنا من الحق)

يقول تعالى: وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:84]. قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن) هذا إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجب هذا الإيمان، فما هو موجب الإيمان؟ إنه الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين، فيكف مع ذلك لا يؤمنون؟! (وما جاءنا من الحق) أي: من القرآن. (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) يعني: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو المعنى: أن يدخلنا ربنا الجنة مع الأنبياء والمؤمنين. ويدل لقوله (مع القوم الصالحين) أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، فعباد الله الصالحون المذكورون هنا هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فمن تفسير القرآن بالقرآن أن يقال: (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

معنى قوله تعالى: (فأثابهم الله بما قالوا)

ثم قال تبارك وتعالى: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:85]. قوله تعالى: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا) أي: بما تكلموا به. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) يعني: من تحت أشجارها ومساكنها (الأَنْهَارُ) وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل. (خَالِدِينَ فِيهَا) أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون. (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم، حينما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه سورة مريم. يقول ابن كثير : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن فبكوا حتى أخضلوا لحاهم). قال ابن كثير : وهذا القول فيه نظر؛ لأن هذه الآية مدنية في سورة المائدة، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة. فالحافظ ابن كثير يقول: إن الآية هذه التي في سورة المائدة مدنية، ففيها آخر آية نزلت، وهي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] في حجة الوداع، فيقول: هذه الآية مدنية، وهذه الحادثة وقعت قبل الهجرة، فالقول بأن هذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه فيه نظر. فهل في نظر الحافظ ابن كثير نظر؟ والجواب أنه قد تقع واقعة قبل الهجرة ويحكيها القرآن بعد الهجرة، فما المانع من أن تقع واقعة قبل الهجرة ثم يحكيها القرآن في آخر الفترة المدنية؟ وما المشكلة في ذلك؟! ولذلك فإن القاسمي رحمه الله تعالى حكى قول ابن كثير بأن هذا القول فيه نظر لأن هذه الآية مدنية وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة، ثم قال: أقول: إن نظره مدفوع؛ فإنه حكى في هذه الآية بعد الهجرة ما وقع قبلها، ونظائره في التنزيل كثيرة، ولا إشكال فيه. أي: لا يوجد أي مانع من أن تحدث حادثة قبل الهجرة ثم ينزل القرآن فيها بعد الهجرة. ثم قال: وظاهره أن المقصود بهذه الآية التعريض بعناد اليهود الذين كانوا حول المدينة، وهم يهود بني إسرائيل كقريظة والنظير، وبعناد المشركين أيضاً، وقسوة قلوب الفريقين، وأنه كان الأجدر بهما أن يعترفوا بالحق كما اعترف به النجاشي وأصحابه. فالمقصود أن حكاية هذه القصة في هذا الوقت حينما كان هؤلاء اليهود يتآمرون حول المدينة، والمشركون أيضاً يعادون النبي عليه الصلاة والسلام فيه تعريض بأحوال هؤلاء قساة القلوب، ومقارنة بينهم وبين هؤلاء الذين أسلموا كـالنجاشي وأصحابه، وأن هؤلاء لهم أسوة كي يسلموا ولا يستكبروا عن الحق. وقال الحافظ ابن كثير : هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199] وهذا يوضح لنا أن الحافظ ابن كثير أراد بتفسيره قوله تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) بأن معناه: وما ذاك إلا لما في قلوبهم -إذ كانوا على دين المسيح- من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد:27] أراد به مدح طائفة معينة من النصارى لا مطلق النصارى؛ لأنه هنا يقول: المقصود بهؤلاء الذين في هذه الآيات هم الذين قال الله تعالى فيهم: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199]. يقول: وهم الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص:52-53]. يقول القاسمي : وكان سبب هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة أن قريشاً ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم، فافتتن من افتتن منهم، وعصم الله من شاء منهم. ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي أشار على الصحابة بأن يخرجوا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لهم فرجاً مما كانوا فيه، ففروا بدينهم إلى الحبشة فكانت أول هجرة في الإسلام.

قصة إسلام النجاشي

روى ابن إسحاق بسنده إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي ، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهما جلدين، وأن يعطوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي ، ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي -وهذا فن الرشوة- وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى -أي: لجأ- إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً -أي: إنهم من بلادنا، ونحن أبصر بهم، ونحن أعرف بهم، وأعلم بما عابوا عليهم- فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه بما كلما كل بطريق، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي ). وهذا كعادة الباطل في كل وقت، يحول أهله دون أن يكون أصحاب الحق هم الذين يتولون عرض القضية، فلابد من أن تعرض على الملأ من طريق وصائفهم كي يعملوا فيها من التزييف والتحريف والتبديل والتنفير، قالت: (فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول -والله- ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، فسألهم وقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه صلى الله عليه وسلم، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر : نعم، فقال له النجاشي : فاقرأه علي. قالت: فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) -أي: سورة مريم-، قالت: فبكى -والله- النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم -أي: الصحف التي كانت أمامهم حين سمعوا ما تلا عليهم- ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون. قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم -يعني شجرتهم التي منها تفرعوا-، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فيها، أو فينا-: لا تفعل؛ فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط، فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبى طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي بيده على الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -يعني: آمنون بأرضي-، من سبكم غرم -قالها ثلاثاً-، ثم قال: ما أحب أن لي دبراً -والدبر الجبل- من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. وروى الحافظ أن النجاشي كتب بعد ذلك بشهادته أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، وإسلام النجاشي معروف، ومعلوم -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى إلى أصحابه النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وأمرهم أن يصلوا عليه صلاة الغائب. وروي في بعض تلك الآثار أن النجاشي بعدما أسلم عرض على عمرو بن العاص الإسلام، فأسلم عمرو على يد النجاشي، فهذا الكلام روي في بعض الكتب، لكن نحكيه لمجرد المعرفة فقط، لكن ما أظن أن هذا كان سبب إسلام عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه. إلا أنه لا يبعد أن يكون هذا هو الشعاع الأول بالنور والإيمان قد نفذ إلى قلبه من خلال هذه الواقعة على أساس هذا الزعم بأن عمرو بن العاص أسلم على يد النجاشي . وإذا صحت هذه الرواية فيقال على سبيل اللغز: من هو الصحابي الذي أسلم على يد تابعي؟! وهذه الرواية لم تصح، وعلى فرض صحتها لو قلنا: إن كلاهما قد آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام فإن عمرو بن العاص بعدما أسلم رأى الرسول عليه الصلاة والسلام فهو صحابي، والنجاشي أسلم ولم يره، فإذا صح هذا فيكون جواب هذا اللغز هو أن عمرو بن العاص صحابي أسلم على يد تابعي وهو النجاشي ؛ لأنه لم يلق النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره. وفي الآية دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء، وفي الخبر (ابكوا فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا)، والمراد إشراب القلب بالخوف، والخوف المهابة لله تبارك وتعالى.

معنى قوله تعالى: (والذين كفروا وكذبوا بآياتنا)

يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة:86]. قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي: جحدوا الحق الذي جاءهم، وكذبوا بحجج الله وبراهينه. (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أي: النار الشديدة الحرارة جزاءً وفاقاً.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمنوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة:82] لماذا هم أشد الناس عداوة للمؤمنين؟ لإيمانهم بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، فنحن نفارق اليهود في الإيمان بعيسى وبمحمد، وهم يكفرون بهما. كذلك فإن عداوة الذين أشركوا للمؤمنين هي لتوحيدهم وإقرارهم بنبوة الأنبياء؛ لأن المشركين لا يقرون بالتوحيد ولا بنبوة الأنبياء. وقال بعض العلماء في تعليل شدة هذه العداوة: لشدة إبائهم، ولذلك يندر جداً أن يسلم اليهودي الواحد ويدخل في الإسلام، فهذا يقع، ولكنه نادر بالنسبة لمن يدخل في الإسلام من غيرهم من طوائف الكفرة. فهم أشدة الناس عداوة للذين آمنوا لشدة إبائهم، ولتضاعف كفرهم، وانهماكهم في اتباع الهوى، وركونهم إلى التقليد، وبعدهم عن التحقيق، وتمرنهم على التمرد والاستعصاء على الأنبياء، والاجتراء على تكذيب هؤلاء الأنبياء، ومناصبتهم لهم، ولشدة قسوة قلوبهم وغلظ طبعهم قتلوا كثيراً من الأنبياء. أي: قتلوا يحيى عليه السلام، ثم أهدوا رأسه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. وكذلك قتلوا أباه زكريا عليه السلام، وسعوا في قتل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم غير مرة، بل وضعوا له السم في الطعام، وغدروا به صلى الله عليه وآله وسلم، وألبوا عليه أشباههم من المشركين. وفي تقديم اليهود على المشركين بعد ذكرهما في موضع واحد إشعار بتقدمهم عليهم في العداوة، فرغم أن اليهود والمشركين أشد الناس عداوة للذين آمنوا، لكن أشد الطائفتين اليهود لعنهم الله تعالى. كما أن في تقديمهم عليهم -أي: تقديم اليهود على المشركين- في قوله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا [البقرة:96] إيذاناً بتقدم اليهود على المشركين أيضاً في الحرص على الحياة. يقول تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) يعني: للين جانبهم، وقلة غل قلوبهم. فهنا القاسمي يميل في تفسير هذه الآية الكريمة إلى أن المقصود بقوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) عامة النصارى، وهذا التفضيل نسبي، وليس على الإطلاق كما يفعل منافقوا زماننا، فالمنافقون من علماء السوء في زماننا يداهنون الكفار بإطلاق هذه الآية عليهم، وإن كان الآن جرياً مع المتغيرات لا يتلوا المنافقون الآية أصلاً؛ لأنها تشتم اليهود، وقد صار اليهود عند الناس اليوم من أعظم أوليائهم، فالله المستعان. لكن القاسمي ينقل هنا كلام ابن كثير في تعليل قوله تعالى: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى) قال ابن كثير : وما ذاك إلا لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد:27]. وفي كتابهم: (من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر) وليس القتال مشروعاً في ملتهم. انتهى كلام الحافظ ابن كثير . ثم يضيف القاسمي : ولأن من مذهب اليهود -مبيناً وجه المفاضلة بين اليهود والنصارى في العداوة والمودة- أنه يجب إيصال الشر إلى من خالف دينهم بأي طريق كان من القتل ونهب المال ونحوهما، وهو عند النصارى حرام، فحصل الفرق. فاليهود يتعبدون بأذية خلق الله، وبإيصال الشر إلى الخلق ممن ليس على ملتهم بأي طريق كان، حتى روى ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً (ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بقتله) ولم يذكر هنا صحة الحديث، وهنا قصة حكاها بعض المصنفين في (غذاء الألباب) عن صاحب (منظومة الآداب) الإمام السفاريني أن مسلماً سافر مع يهودي، فالمسلم كان راكباً الحمار، وكان اليهودي ماشياً، فمشيا حتى سافرا إلى بلد معين على هذه الحال، فبعد ما وصلا إلى تلك البلدة قال المسلم لليهودي: أستحلفك بالله، نحن عندنا اعتقاد أنه ما خلا يهودي بمسلم إلا هم بإيذائه، فهل هممت بأذيتي؟! قال: ما هممت بأذيتك في شيء. فناشده وألح عليه أن يخبره، فإنه جازم بأنه لابد من أنه أراده بسوء في هذه السفرة، فلما استحلفه وشدد عليه صارحه وقال له: في مدة السفر كلها كنت أحاول أذيتك فلم أستطع، ولقد كنت أبصق على ظلك وأضرب خيالك. أو قال كلاماً نحو هذا، فهذا الذي استطاع أن يوصله إليه من الأذى، فالله أعلم بصحة هذا. وعلى كل حال فإن خسة اليهود وغدرهم ونذالتهم لا تحتاج إلى كثير من التعليق، فهذا أمر مجمع عليه بين سائر الأمم، حتى إن هتلر لما أجرى لهم المذابح التي بولغ فيها فيما بعد قال: لقد قتلت نصف اليهود وتركت النصف الآخر؛ حتى يعلم العالم لماذا قتلت النصف الأول أي: حتى يذوقوا منهم الويل ويعرفوا لماذا قتل النصف الأول من اليهود. وكثرة اهتمام النصارى بالعلم والترهب هي مما يدعو إلى قلة البغضاء والحسد ولين الجانب، كما أشير إليه بقوله تعالى: (ذلك) يعني: كونهم أقرب مودة للمؤمنين. (بأن منهم) أي: بسبب أن منهم قسيسين، مأخوذ من: قسى الشيء إذا تتبعه، فهذا وصف لعلمائهم بأنهم قسيسين. (ورهباناً) أي: عباداً متجردين. (وأنهم لا يستكبرون) أي: يتواضعون لوداعتهم ولا يتكبرون كاليهود، وفي الآية دليل على أن الإقبال على العلم، والإعراض عن الشهوات، والبراءة من الكبر أمر محمود، وإن كان ذلك من كافر، وهذا على القول بأن الآية تشمل النصارى عموماً، وأن المفاضلة هنا مفاضلة نسبية، ولذلك جاء بصيغة (أقربهم مودة) فهم لا يوادون لكنهم أقرب مودة، فالنصارى مع كفرهم أخف من اليهود والذين أشركوا في عداوتهم للمؤمنين. ولكن الكلام الأول -بلا شك- أقوى، وهو أن الآية إنما هي في هؤلاء الذين أسلموا، ولم يستكبروا على الحق، ويؤيد ذلك كثير من الآيات والأحاديث، ويؤيده -أيضاً- الواقع الذي نعيشه، فلا القسيسون ولا الرهبان فيهم هذا التجرد أو هذا التواضع، وإنما هو الخبث والمكر والدهاء، وإرادة الشر لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والذي نعيشه ونراه ليل نهار هو أقوى شاهد محسوس، بحيث لا يمكن أبداً إنكاره إلا على سبيل المكابرة. فلا ندري أين الرحمة وأين الرفق وأين اللين منهم! هؤلاء الذين فعلوا هذه الشنائع، سواء في الأندلس أو في لبنان أو في الفلبين أو في أثيوبيا أو في البوسنة. والله تعالى لما تكلم عن هؤلاء النصارى هنا قال: (ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا: إنا نصارى) ولم يقل: النصارى. فوصفهم بأنهم الذين قالوا: (إنا نصارى) ولم يقل: النصارى. تعريضاً لصلابة اليهود في الكفر والامتناع من الامتثال للأمر؛ لأن اليهود قيل لهم: ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ [المائدة:21] فقابلوا ذلك بقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24] فهذا من عتوهم وصلابتهم في الكفر، وتمردهم على أمر ربهم تبارك وتعالى. أما النصارى فإنهم أجابوا جواباً حسناً حين قالوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ [آل عمران:52]، ومن ثم سموا نصارى. وكذا -أيضاً- ورد في أول هذه السورة وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ [المائدة:14] فأسند ذلك إلى قولهم، ولم يقل: ومن النصارى أخذنا ميثاقهم. ولكن قال: (ومن الذين قالوا إنا نصارى) والإشارة به إلى قولهم: نحن أنصار الله. لكنه بين تنبيهاً على أنهم لم يثبتوا على الميثاق ولا على ما قالوه من أنهم أنصار الله. ففي الآية التي هي في أول السورة (ومن الذين قالوا إنا نصارى) كان يقتضي قولهم: إنا نصارى -أي: نحن أنصار الله- أن يحفظوا عهد الله وميثاقه، لكنهم مع قولهم: إنا نصارى خالفوا هذا العهد ونسوا (حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) قال تعالى: فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ [المائدة:14]. وفي الآية هنا يقول تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل: النصارى. لأن المقصود التعريض بصلابة اليهود وقسوة قلوبهم، وامتناعهم عن امتثال أمر ربهم كما ذكرنا. فالنصارى لما ورد عليهم الأمر لم يجابهوه بالرد كمجابهة اليهود، حتى إنهم لما نسوا الميثاق أو نسوا حظاً مما ذكروا به لم يردوا نفس الرد الغليظ الذي رده اليهود حينما قالوا لموسى عليه السلام: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [المائدة:24]، بل قالوا: نحن أنصار الله. واليهود قالت: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ .. [المائدة:24]، إلى آخر الآية، فهذا هو سر قوله تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) ولم يقل: النصارى.

يقول تعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [المائدة:83]. قوله: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) هذا عطف على (لا يستكبرون) في قوله تعالى: (ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون). ((تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ)) يعني: تنصب. (مِنَ الدَّمْع) وهو الحاصل من اجتماع حرارة الحب والخوف مع ضرب اليقين. (مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ) يعني: من كتابه، فوجدوه أكمل من الإنجيل وأفضل، أو من صفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كتابه. (يَقُولُونَ) يعني: مع عدم استكبارهم عن الحق. (رَبَّنَا آمَنَّا) أي بك وبما أنزلت وبرسولك محمد صلى الله عليه وسلم. (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي: الذين شهدوا بأنه حق، أو الذين شهدوا بنبوته، أو أن المراد بالشاهدين أمة محمد عليه الصلاة والسلام؛ لأنهم هم الشهداء على الناس، يشهدون لنبيهم أنه قد بلغ، وللرسل أنهم قد بلغوا أممهم.

يقول تعالى: وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:84]. قوله تعالى: (وما لنا لا نؤمن) هذا إنكار استبعاد لانتفاء الإيمان مع قيام موجب هذا الإيمان، فما هو موجب الإيمان؟ إنه الطمع في إنعام الله عليهم بصحبة الصالحين، فيكف مع ذلك لا يؤمنون؟! (وما جاءنا من الحق) أي: من القرآن. (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) يعني: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو المعنى: أن يدخلنا ربنا الجنة مع الأنبياء والمؤمنين. ويدل لقوله (مع القوم الصالحين) أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105]، فعباد الله الصالحون المذكورون هنا هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. فمن تفسير القرآن بالقرآن أن يقال: (ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين) أي: مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم قال تبارك وتعالى: فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:85]. قوله تعالى: (فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا) أي: بما تكلموا به. (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) يعني: من تحت أشجارها ومساكنها (الأَنْهَارُ) وهي أنهار الماء واللبن والخمر والعسل. (خَالِدِينَ فِيهَا) أي: مقيمين في الجنة لا يموتون ولا يخرجون. (وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ) اتفق المفسرون على أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم، حينما قرأ عليهم جعفر بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه سورة مريم. يقول ابن كثير : قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : (نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه الذين تلا عليهم جعفر بن أبي طالب بالحبشة القرآن فبكوا حتى أخضلوا لحاهم). قال ابن كثير : وهذا القول فيه نظر؛ لأن هذه الآية مدنية في سورة المائدة، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة. فالحافظ ابن كثير يقول: إن الآية هذه التي في سورة المائدة مدنية، ففيها آخر آية نزلت، وهي قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [المائدة:3] في حجة الوداع، فيقول: هذه الآية مدنية، وهذه الحادثة وقعت قبل الهجرة، فالقول بأن هذه الآية نزلت في النجاشي وأصحابه فيه نظر. فهل في نظر الحافظ ابن كثير نظر؟ والجواب أنه قد تقع واقعة قبل الهجرة ويحكيها القرآن بعد الهجرة، فما المانع من أن تقع واقعة قبل الهجرة ثم يحكيها القرآن في آخر الفترة المدنية؟ وما المشكلة في ذلك؟! ولذلك فإن القاسمي رحمه الله تعالى حكى قول ابن كثير بأن هذا القول فيه نظر لأن هذه الآية مدنية وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة، ثم قال: أقول: إن نظره مدفوع؛ فإنه حكى في هذه الآية بعد الهجرة ما وقع قبلها، ونظائره في التنزيل كثيرة، ولا إشكال فيه. أي: لا يوجد أي مانع من أن تحدث حادثة قبل الهجرة ثم ينزل القرآن فيها بعد الهجرة. ثم قال: وظاهره أن المقصود بهذه الآية التعريض بعناد اليهود الذين كانوا حول المدينة، وهم يهود بني إسرائيل كقريظة والنظير، وبعناد المشركين أيضاً، وقسوة قلوب الفريقين، وأنه كان الأجدر بهما أن يعترفوا بالحق كما اعترف به النجاشي وأصحابه. فالمقصود أن حكاية هذه القصة في هذا الوقت حينما كان هؤلاء اليهود يتآمرون حول المدينة، والمشركون أيضاً يعادون النبي عليه الصلاة والسلام فيه تعريض بأحوال هؤلاء قساة القلوب، ومقارنة بينهم وبين هؤلاء الذين أسلموا كـالنجاشي وأصحابه، وأن هؤلاء لهم أسوة كي يسلموا ولا يستكبروا عن الحق. وقال الحافظ ابن كثير : هذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199] وهذا يوضح لنا أن الحافظ ابن كثير أراد بتفسيره قوله تعالى: (الذين قالوا إنا نصارى) بأن معناه: وما ذاك إلا لما في قلوبهم -إذ كانوا على دين المسيح- من الرقة والرأفة، كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً [الحديد:27] أراد به مدح طائفة معينة من النصارى لا مطلق النصارى؛ لأنه هنا يقول: المقصود بهؤلاء الذين في هذه الآيات هم الذين قال الله تعالى فيهم: وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ [آل عمران:199]. يقول: وهم الذين قال الله فيهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ [القصص:52-53]. يقول القاسمي : وكان سبب هجرة الصحابة إلى أرض الحبشة أن قريشاً ائتمرت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كل قبيلة على من آمن منهم فآذوهم وعذبوهم، فافتتن من افتتن منهم، وعصم الله من شاء منهم. ومعلوم أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الذي أشار على الصحابة بأن يخرجوا إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لهم فرجاً مما كانوا فيه، ففروا بدينهم إلى الحبشة فكانت أول هجرة في الإسلام.

روى ابن إسحاق بسنده إلى أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي ، أمنا على ديننا، وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهما جلدين، وأن يعطوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيه منها الأدم، فجمعوا له أدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص وأمروهما بأمرهم، وقالوا لهما: ادفعوا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلما النجاشي فيهم، ثم قدما إلى النجاشي هداياه، ثم سلاه أن يسلمهم إليكما قبل أن يكلمهم، قالت: فخرجا حتى قدما على النجاشي ، ونحن عنده بخير دار عند خير جار، فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي -وهذا فن الرشوة- وقالا لكل بطريق منهم: إنه قد ضوى -أي: لجأ- إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً -أي: إنهم من بلادنا، ونحن أبصر بهم، ونحن أعرف بهم، وأعلم بما عابوا عليهم- فقالوا لهما: نعم. ثم إنهما قدما هداياهما إلى النجاشي فقبلها منهما، ثم كلماه بما كلما كل بطريق، قالت: ولم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص من أن يسمع كلامهم النجاشي ). وهذا كعادة الباطل في كل وقت، يحول أهله دون أن يكون أصحاب الحق هم الذين يتولون عرض القضية، فلابد من أن تعرض على الملأ من طريق وصائفهم كي يعملوا فيها من التزييف والتحريف والتبديل والتنفير، قالت: (فقالت بطارقته حوله: صدقا أيها الملك، قومهم أعلى بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم، فأسلمهم إليهما فليرداهم إلى بلادهم وقومهم. قالت: فغضب النجاشي ثم قال: لا ها الله إذاً لا أسلمهم إليهما، ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم عما يقول هذان في أمرهم، فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما ورددتهم إلى قومهم، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم منهم، وأحسنت جوارهم ما جاوروني. قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول -والله- ما علمنا وما أمرنا به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن، فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، فسألهم وقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا به ديني ولا في دين أحد من هذه الملل؟ قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب، فقال له: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه صلى الله عليه وسلم، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام -قالت: فعدد عليه أمور الإسلام- فصدقناه وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر : نعم، فقال له النجاشي : فاقرأه علي. قالت: فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) -أي: سورة مريم-، قالت: فبكى -والله- النجاشي حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى اخضلوا مصاحفهم -أي: الصحف التي كانت أمامهم حين سمعوا ما تلا عليهم- ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما، ولا يكادون. قالت: فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لآتينه غداً عنهم بما أستأصل به خضراءهم -يعني شجرتهم التي منها تفرعوا-، قالت: فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أتقى الرجلين فيها، أو فينا-: لا تفعل؛ فإن لهم أرحاماً وإن كانوا قد خالفونا. قال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون أن عيسى ابن مريم عبد. قالت: ثم غدا عليه من الغد فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى ابن مريم قولاً عظيماً، فأرسل إليهم فسلهم عما يقولون فيه. قالت: فأرسل إليهم يسألهم عنه، قالت: ولم ينزل بنا مثلها قط، فاجتمع القوم ثم قال بعضهم لبعض: ماذا تقولون في عيسى بن مريم إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول والله ما قال الله، وما جاء به نبينا كائناً في ذلك ما هو كائن. قالت: فلما دخلوا عليه قال لهم: ماذا تقولون في عيسى بن مريم؟ قالت: فقال جعفر بن أبى طالب : نقول فيه الذي جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم: هو عبد الله ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. قالت: فضرب النجاشي بيده على الأرض فأخذ منها عوداً ثم قال: والله ما عدا عيسى بن مريم مما قلت هذا العود. فتناخرت بطارقته حوله حين قال ما قال، فقال: وإن نخرتم والله، اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -يعني: آمنون بأرضي-، من سبكم غرم -قالها ثلاثاً-، ثم قال: ما أحب أن لي دبراً -والدبر الجبل- من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم، ردوا عليهما هداياهما فلا حاجة لي بها. قالت: فخرجا من عنده مقبوحين مردوداً عليهما ما جاءا به، وأقمنا عنده بخير دار مع خير جار. وروى الحافظ أن النجاشي كتب بعد ذلك بشهادته أنه يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، ويشهد أن عيسى بن مريم عبده ورسوله، وروحه، وكلمته ألقاها إلى مريم، وإسلام النجاشي معروف، ومعلوم -أيضاً- أن النبي صلى الله عليه وسلم نعى إلى أصحابه النجاشي في اليوم الذي مات فيه، وأمرهم أن يصلوا عليه صلاة الغائب. وروي في بعض تلك الآثار أن النجاشي بعدما أسلم عرض على عمرو بن العاص الإسلام، فأسلم عمرو على يد النجاشي، فهذا الكلام روي في بعض الكتب، لكن نحكيه لمجرد المعرفة فقط، لكن ما أظن أن هذا كان سبب إسلام عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه. إلا أنه لا يبعد أن يكون هذا هو الشعاع الأول بالنور والإيمان قد نفذ إلى قلبه من خلال هذه الواقعة على أساس هذا الزعم بأن عمرو بن العاص أسلم على يد النجاشي . وإذا صحت هذه الرواية فيقال على سبيل اللغز: من هو الصحابي الذي أسلم على يد تابعي؟! وهذه الرواية لم تصح، وعلى فرض صحتها لو قلنا: إن كلاهما قد آمن بالنبي عليه الصلاة والسلام فإن عمرو بن العاص بعدما أسلم رأى الرسول عليه الصلاة والسلام فهو صحابي، والنجاشي أسلم ولم يره، فإذا صح هذا فيكون جواب هذا اللغز هو أن عمرو بن العاص صحابي أسلم على يد تابعي وهو النجاشي ؛ لأنه لم يلق النبي عليه الصلاة والسلام ولم يره. وفي الآية دليل على أن المشروع عند قراءة القرآن الخشوع والبكاء، وفي الخبر (ابكوا فإن لم تجدوا بكاء فتباكوا)، والمراد إشراب القلب بالخوف، والخوف المهابة لله تبارك وتعالى.

يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [المائدة:86]. قوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا) أي: جحدوا الحق الذي جاءهم، وكذبوا بحجج الله وبراهينه. (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) أي: النار الشديدة الحرارة جزاءً وفاقاً.

قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]. نزلت هذه الآية لما هم قوم من الصحابة بأن يلازموا الصوم والقيام، ولا يقربوا النساء والطيب، ولا يأكلوا اللحم، ولا يناموا على الفرش، وأصل الحديث في الصحيحين. فقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا) يعني: لا تتجاوزوا أمر الله. (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) هذه الآية أصل في ترك التنطع والتشدد في العبادة أو في التعبد. (وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا) المعنى: كلوا الحلال الطيب مما رزقكم الله (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ). يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ )) يعني: ما طاب ولذ مما أحل الله لكم، كأنه لما تضمن ما سلف من مدح النصارى على الترهب، والحث على كسر النفس وربط الشهوات. يعني: إذا كان هؤلاء النصارى الذين منهم قسيسون ورهبان يتقللون من الدنيا والشهوات ممدوحون بذلك فليس هذا المدح على إطلاقه، لكنه مدح مشروط بعدم التنطع والتشدد في ذلك، فعقب بالنهي عن الإفراط في ذلك بتحريم اللذائذ من المباحات الشرعية، ثم أشار إلى أنه اعتداء، فهو تعالى نهى أولاً فقال: (لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) يعني: لا تفعلوا كما فعل هؤلاء الرهبان. ثم قال: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) يعني: لا تتجاوزوا ما أحبه الله تعالى من جعل الحلال حراماً، أو: لا تعتدوا في تناول الحلال فتتجاوزوا الحد فيه إلى الإسراف، كما قال تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا [الأعراف:31]، وقال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان:67].

قال تعالى: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:88] فإن مقتضى الإيمان أن لا تغيروا شيئاً مما أحله الله لكم. والبحث هنا طويل جداً إذا أردنا التوسع فيه، ولأننا نسلك سبيل الاختصار كان علينا التنبيه بأشياء يسيرة، فإنه إذا كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فإن هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يستمتع مما أحل الله تبارك وتعالى له من الطيبات، فلا ينبغي التعبد بأن يحرم الإنسان ما أحله الله له؛ فإن هذا من العدوان. يقول الحافظ ابن جرير : لا يجوز لأحد من المسلمين تحريم شيء مما أحل الله لعباده المؤمنين على نفسه من طيبات المطاعم والملابس والمناكح، ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون ، فثبت أنه لا فضل في ترك شيء مما أحله الله لعباده، وأن الفضل والبر إنما هو في فعل ما ندب الله إليه عباده وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنه لأمته، واتبعه على منهاجه الأئمة الراشدون. فإذا كان خير الهدي هدي نبينا محمد صلى الله عليه وسلم تبين خطأ من آثر لباس الشعر والصوف على لباس القطن والكتان إذا قدر على ذلك من حله، فإذا كان يستطيع أن يلبس هذه الملابس فهذا طريق معبد سهل، وذاك طريق مليء بالخطر والهوام، وغير ممهد، وفيه كثير من العوائق، فلا يجوز لإنسان أن يتعمد فيختار الطريق الأصعب تعبداًوَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] فسنة النبي صلى الله عليه وسلم خير وأولى بالاتباع، وهي -كما جاء في وصفه-: (ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه) صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك من آثر أكل الخشن من الطعام وترك اللحم وغيره حذراً من عارض الحاجة إلى النساء، فإن ظن ظان أن الفضل في غير الذي قلنا فقد ظن خطأ، وذلك لأن الأولى بالإنسان صلاح نفسه وعونه لها على طاعة ربها، ولا شيء أضر على الجسم من المطاعم الرديئة؛ لأنها مفسدة للعقل، ومضعفة لأدواته التي جعلها الله سبباً إلى طاعته. وقد أخرج الترمذي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل) ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع -وكانت تعجبه- فنهش منها) ، وقالت عائشة : (ما كان الذراع أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن كان لا يجد اللحم إلا غبا، وكان يعجل إليه الذراع؛ لأنه أعجلها مجا) أخرجه الترمذي . وحكى الزمخشري عن الحسن أنه دعي إلى طعامه ومعه فرقد السبخي وأصحابه، فقعدوا على المائدة وعليها الألوان من الدجاج المسمن والفالوذج وغير ذلك، فاعتزل فرقد ناحية، فسأل الحسن: أهو أصائم؟ قالوا: لا، ولكنه يكره هذه الألوان. فأقبل الحسن عليه وقال: يا فريقد : أترى لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن يعيبه مسلم؟! يعني: ما الذي لا يعجبك من هذا الطعام؟! لعاب النحل بلباب البر بخالص السمن! هل كل هذه الطيبات التي أحلها الله وهي مركبات هذا الطعام يعيبها مسلم ما دامت حلالاً طيباً؟! وعنه أنه قيل له: فلان لا يأكل الفالوذج، ويقول: لا أؤدي شكره. قال: أفيشرب الماء البارد؟ قالوا: نعم. قال: إنه جاهل؛ إن نعمة الله عليه في الماء البارد أكثر من نعمته عليه في الفالوذج. والفالوذج يبدو أنه قريب من الهريسة ونحوها من المطاعم التي فيها الحلوى. وعنه أن الله تعالى أدب عباده فأحسن أدبهم، قال الله تعالى: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7] فما عاب الله قوماً وسع عليهم الدنيا فتنعموا وأطاعوا، ولا عذر قوماً زواها عنهم فعصوه، فالآية تقول: لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ [الطلاق:7]، فليست الآية عيباً على من وسع الله عليه فوسع على أولاده -مثلاً- وعلى نفسه بأن أكل من الطيبات ما دامت من حلال، وما دام يزهد في الحرام. ولا عذر الله قوماً زوى عنهم الدنيا فعصوه، حيث قدر لهم رزقاً وضيق عليهم رزقاً فعصوه بأن سرقوا أو أسرفوا أو غير ذلك، ولم يقل تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كلوا ما رزقكم الله) ولكنه قال: (( وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ )) وكلمة (من) هنا للتبعيض، كأنه قال: اقتصروا في الأكل على البعض، واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات، ولا تقتصروا على إطعام أنفسكم، ولم يقل: (كلوا ما رزقكم الله) وكأن معناها: لا يأكل أحدكم لحاله وينسى الفقراء والمساكين، لكن (كلوا مما رزقكم الله) كلوا منه وآتوا الفقراء والمساكين، وباب الصدقات والخيرات باب واسع، فهذا إرشاد إلى ترك الإسراف، كما قال تعالى: (( وَلا تُسْرِفُوا ))[الأنعام:141].

قال عز وجل: لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ .. [المائدة:89]. قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم) يعني: باللغو الكائن في أيمانكم، فلا ينبغي للمسلم أن يحلف إلا إذا استحلف، وإذا أراد أن يحلف فليحلف بالله تعالى أو ليدع، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إن الله تعالى ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، فلا يجوز الحلف بمخلوق كالأنبياء، والملائكة، والملوك، والكعبة، والشرف، وحياة الابن أو الأب، وغير ذلك.

أقسام الأيمان

واليمين ثلاثة أنواع: أولاً: اليمين اللغو، أشار إليها السيوطي هنا، ولا مؤاخذة عليها، ولا كفارة فيها. ثانياً: اليمين الغموس: وهي التي يحلفها صاحبها كاذباً وهو يعلم، أي: يحلف وهو يعلم أنه كاذب، وأن الحقيقة على خلاف ما يحلف عليه متعمداً، وسميت بالغموس لأنها تغمس صاحبها في الإثم، وهذه اليمين الغموس من كبائر الذنوب. ثالثاً: اليمين المنعقدة، وهي التي يحلفها الإنسان قاصداً فعل شيء أو عدم فعله في المستقبل، وفيها الكفارة المذكورة في الآية، وهذا هو موضوع هذه الآية الكريمة التي فيها تشريع الكفارة، فكفارة اليمين لا تكون إلا في اليمين المنعقدة، ولا ينعقد اليمين إذا كان لغواً، ولا ينعقد -أيضاً- إذا كان غموساً، وإنما ينعقد إذا كان من القسم الثالث، وهو اليمين المنعقدة، واليمين المنعقدة يحلفها الإنسان قاصداً فعل شيء أو عدم فعله في المستقبل، فيقول: والله لا أذهب إلى المكان الفلاني مثلاً أو: والله لا أذهبن إليه في المستقبل. فإذا حنث وذهب فعليه الكفارة المذكورة في هذه الآية الكريمة فقوله تعالى: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ) يعني اللغو الكائن في أيمانكم، واللغو هو ما يسبق إليه اللسان من غير قصد الحلف، مثل: والله لتدخلن. والله لتأكلن. فهو لا يقصد اليمين، ولم يعقد قلبه على الحلف، ولكن جرت اليمين على لسانه كالعادة، فهذه يمين لغو، وفسرت في الحديث بقول القائل: لا والله، وبلى والله. روى ذلك البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها. قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) في (عقدتم) ثلاث قراءات: (عقّدتم) و(عقَدْتُم) بالتخفيف والتشديد، وفي قراءة: (عاقدتم الأيمان) يعني: عليه، بأن حلفتم عن قصد فقوله تعالى: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) يعني: بما حلفتم عليه عن قصد، فمقصود القراءة هنا: ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان فحنثتم فيه. لكنه حذفه للعلم به، فهل مجرد عقد الأيمان يعتبر موجباً للمؤاخذة؟ فالإنسان قد يحلف ويبر بما حلف عليه، لكن المقصود هنا (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ) ثم حنثتم فيها بعد ذلك، (فكفارته) أي: كفارة اليمين إذا حنثتم فيها: (إطعام عشرة مساكين) لكل مسكين مُدّاً. (مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) أي: من أوسط ما تطعمون منه أهليكم، يعني: أوسطه وأغلبه، لا أعلاه ولا أدناه. (أَوْ كِسْوَتُهُمْ) بما يسمى كسوة، كقميص وعمامة وإزار، ولا يكفي دفع ما ذكر إلى مسكين واحد، وعليه الشافعي؛ لظاهر قوله تعالى: (( عَشَرَةِ مَسَاكِينَ )). (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) يعني: عتق رقبة، أي: مؤمنة، كما في كفارة القتل والظهار حملاً للمطلق على المقيد (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) من لم يجد واحداً مما ذكر (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) يعني أن الكفارة تكون صيام ثلاثة أيام، وظاهره أنه لا يشترط التتابع، وعليه الشافعي ، فيمكن أن تكون هذه الأيام متفرقة. (ذَلِكَ كَفَّارَةُ) يعني: ذلك المذكور (كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ) يعني: إذا حلفتم وحنثتم، وليس إذا حلفتم فقط، لكن إذا حلفتم وحنثتم. (وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ) احفظوا أيمانكم من أن تنكثوها ما لم تكن على فعل بر أو إصلاح بين الناس، فافعلوه وكفروا، فما دمت قد حلفت فاحفظ هذا اليمين ولا تحنث فيه، إلا إذا كان الشيء الذي حلفت على أن لا تفعله فِعلُه أفضل من تركه، فحينئذٍ فاحنث، ولا يكن اليمين ولا يكن اسم الله الذي حلفت به عائقاً يحول بينك وبين فعل الخير، فلتكفر ولتفعل هذا الخير. وقيل: (احفظوا أيمانكم) فلا تكثروا الحلف، ولا تقحموا اسم الله سبحانه وتعالى -الذي من شأنه أن يعظم- في سفاهات الأشياء؛ لأن بعض الناس يحلف في أتفه القضايا، ويستعمل اسم الله سبحانه وتعالى في أمور تافهة غير معظمة، فعلى أتفه الأشياء يحلف، وقد ذم الله سبحانه وتعالى الشخص الذي يكثر الحلف، فقال تبارك وتعالى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم:10]، وهو الذي يكثر الحلف. فنحن لا ننكر أن الحلف فيه أنواع من العبودية، فإن الحلف نوع من العبادات القولية، ويتضمن معاني كثيرة من معاني العبودية، ولذلك لا ينبغي الحلف إلا بالله؛ لأنه من مظاهر توحيد الله تبارك وتعالى، لكن لا يكثر الإنسان الحلف. (كَذَلِكَ) أي مثل ما يبين لكم ما ذكر (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي: تشكرونه على ذلك. وكلمة (أو) في قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ هنا للتخيير، أي: أن الواجب أصلاً هو أحد الكفارات الثلاث، الواجب واحد منها على سبيل التخيير، لكن إذا لم يجد إحدى هذه الكفارات الثلاث فحينئذ يجوز له أن ينتقل إلى الصوم، فلا يجوز الصوم إلا إذا عجز عن إحدى الكفارات الثلاث الواجبات.

مقدار الإطعام في كفارة اليمين

أما الإطعام فليس فيه تحديد بقدر، حيث قال تعالى: (( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ )) فلم يحدده بقدر معين لا بوجبة ولا بوجبتين، ولا بقدر معين من الكيل، وإنما حدده بضابط، وهو قوله: (من أوسط ما تطعمون أهليكم) فما ذكر وجبة ولا وجبتين، ولا ذكر مقداراً معيناً من الكيل، لذلك روي عن الصحابة والتابعين وجوهاً في المقصود من هذا القدر، جميعها مما يصدق عليه مسماه، فبأيها أخذ أجزأه. فمثلاً: قال علي رضي الله عنه: يأتي بعشرة مساكين فيغديهم ويعشيهم. وكأنه ذهب إلى أن المراد الإطعام الكامل، أي: إطعام عشرة مساكين إطعاماً كاملاً، وهو قوت اليوم كله، وهو وجبتان، وإلا فالإطعام يصدق على الوجبة الواحدة، ولذلك قال الحسن ومحمد بن الحنفية : يكفيه إطعامهم أكلة واحدة خبزاً ولحماً. زاد الحسن : فإن لم يجد فخبزاً وسمناً ولبناً، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً حتى يشبعوا. وعن عمر وعلي وعائشة وثلة من التابعين: يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر أو نحوهما. ونصف الصاع هو ملء الكف مرتين، أي: مدين. وعن ابن عباس : (لكل مسكين مد من بر ومعه إدامه) يعني الطعام الذي يؤكل مع الخبز. وفي فتح القدير من كتب الحنفية: يجوز أن يغديهم ويعشيهم بخبز، إلا أنه إن كان براً لا يشترط فيه الإدام، وإن كان غيره فبإدام. وحكي عن الهادي : اشتراط الأكل لإشعار لفظ الإطعام بذلك. وقوله: (إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) يعني أن تعد لهم الطعام وتتركهم يأكلون. وأكثر العلماء قالوا: إن الأكل غير مشروط؛ لأنه ينطلق لفظ الإطعام على التمليك، فمجرد أن تملكه الطعام حتى ولو لم يأكله أمامك يجزئك؛ لأن الإطعام يطلق على التمليك.

مقدار الكسوة في كفارة اليمين

ولم يبين في الآية -أيضاً- حد الكسوة وصفتها، فالواجب حينئذ الحمل على ما يطلق عليه اسمها، قال مالك وأحمد بن حنبل: لا بد من أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلاً أو امرأة كل بحسبه، وقال ابن عباس : عباءة لكل مسكين أو شملة. وقال مجاهد : أدناه ثوب وأعلاه ما شئت. وهذه الأشياء تتفاوت بحسب البيئات والمجتمعات، فكل ما يطلق عليه لفظ الكسوة ينطلق عليه هذا الأمر، لكن على أي الأحوال فإنه لا يخفى أن وجه الاحتياط في هذا هو الأخذ بالأكمل والأفضل في الإطعام والكسوة. وأنبه هنا على أمر يستسهله أغلب الناس في هذا الزمان، وهو موضوع الكسل في أداء العبادات، ففي هذه الكفارة نجد بعض الناس أول ما يفزع إلى إخراج القيمة، وهذا لا يجوز، فالقيمة لا تجزئ، والأصل والذي اتفق عليه العلماء أجمعون أن الإطعام يجزئ، أما القيمة فهي خلاف ما أمر الله به في القرآن حيث قال تعالى: (( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)، فحينما تقول: القيمة تجزئ فمعناه أنك تزيد لفظاً على القرآن فتقول: (فكفارته قيمة إطعام عشرة مساكين)، والآية تقول: (( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) فالأصل أن الإنسان يخرج طعاماً للمساكين، وله أن يوكل غيره في إخراجه طعاماً لا مالاً، فلزم التنبيه.

كيفية الصيام في كفارة اليمين

قوله تعالى: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) يصدق على الأيام مجموعة أو متفرقة، كما في قضاء رمضان، فقد قال تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ [البقرة:184]، فيمكن أن تكون متتابعة، ويمكن أن تكون متفرقة، وكلاهما يصدق عليه هذا الوصف. ومن أوجب التتابع استدل بقراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود أنهما كانا يقرآن: (فصيام ثلاثة أيام متتابعات) وهذا لم يثبت كونه قرآناً متواتراً، لكن هذه تسمى قراءة شاذة، وقراءة تفسيرية، حيث إن الصحابي يتلو الآية ويزيد لفظاً من عنده كي يفسر اللفظ الذي قرأه. وفي الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فكفر عن يمينك وأت الذي هو خير)، وعند أبي داود : (فكفر عن يمينك ثم ائت الذي هو خير) ومعنى ذلك أن التكفير قبل الحنث جائز، فإذا حلف على شيء فإن له أن يكفر أولاً ثم يحنث. وقوله تعالى: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ فيه استحباب ترك الحلف إلا إذا كان خيراً، لما تقدم من حديث ابن سمرة، وهذا على أحد وجهين في الآية، والوجه الآخر يعني: وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ أي: احترموا هذا اليمين ولا تحنثوا فيه إلا إذا كان عكسه خيراً منه والحنث فيه خير. قال كثير: قليل الألايا حافظ ليمينه وإن سبقت منه الألية برت فقوله: (قليل الألايا) يمدح به رجلاً بأنه قليل الحلف. وسر إطعام العشرة أنه بمنزلة الإمساك عن الطعام عشرة أيام، بالعدد الكامل الكاسر للنفس المجترئة على الله تعالى، وسر الكسوة كونه يجزي بستر العورة سر المعصية، وسر العتق تحرير الرقبة من الإثم، وسر صوم الثلاثة الأيام أن الصيام لما كان صوماً بنفسه اكتفي فيه بأقل الجمع. يقول الحافظ ابن القيم رحمه الله تعالى: وكان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة. يعني: يمكن أن تحلف وتستثني، وفي هذه الحالة لا تجب عليك الكفارة إذا حنثت، فإذا قلت -مثلاً-: والله لا أدخل إن شاء الله. فدخلت ففي هذه الحالة لا كفارة؛ لأنك استثنيت بالمشيئة. يقول: كان صلى الله عليه وسلم يستثني في يمينه تارة، ويكفرها تارة، ويمضي فيها تارة، والاستثناء يمنع عقد اليمين، والكفارة تحلها بعد عقدها. وقد رأيت أخاً فقيهاً يهدد ابنه بأنه سيضربه، والطفل غافل عن الاستثناء، فيقول له: والله لأضربنك -إن شاء الله- إذا فعلت كذا. والولد لا يفهم أنه إن استنثى فمعناه أنه ليس هذا حلفاً. والاستثناء يمنع عقد اليمين، والكفارة تحلها بعد عقدها؛ ولهذا سماها الله (تحلة) وحلف صلى الله عليه وسلم في أكثر من ثمانين موضعاً، وأمر الله سبحانه وتعالى بالحلف في ثلاثة مواضع، فقال تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ [يونس:53]، وقال تعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3]، وقال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [التغابن:7] وكلها أمور عظيمة يحلف عليها. وكان إسماعيل بن إسحاق القاضي يذكر أبا بكر بن داود الظاهري ولا يسميه بالفقيه، فتحاكم إليه يوماً هو وخصم له، فتوجهت اليمين على أبي بكر بن داود ، فتهيأ للحلف، فقال له القاضي إسماعيل : وتحلف ومثلك يحلف يا أبا بكر ! فقال: وما يمنعني عن الحلف وقد أمر الله تعالى نبيه بالحلف في ثلاثة مواضع من كتابه! قال: أين ذلك؟ فسردها أبو بكر ، فاستحسن ذلك منه جداً ودعاه بالفقيه من ذلك اليوم.