تفسير سورة آل عمران [52-61]


الحلقة مفرغة

يقول الله تبارك وتعالى: فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:52]. قوله تعالى: ((فَلَمَّا أَحَسَّ)) أي: علم وعرف عن طريق الحس والمعرفة والمعاينة. ((مِنْهُمُ الْكُفْرَ)) أي: من بني إسرائيل الذي ذكروا في الآيات السابقة في خطاب المسيح عليه السلام، وأرادوا أن يقتلوه عليه السلام. ((قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ)) أي: من أعواني ذاهباً ومتوجهاً وملتجئاً إلى الله؛ لأنصر دينه. وقال بعض المفسرين: ((إِلَى اللَّهِ)) أي: من أنصاري مع الله، أو من ينصرني مع الله، أو: من أعواني ذاهباً ومتوجهاً إلى الله، لأنصر دينه، كما قال بعض الأنبياء عليهم السلام: قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ [هود:80]. ((قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ)) أي: نحن أعوان دينه. هؤلاء الحواريون هم أصفياء عيسى عليه السلام، وهم أول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلاً. قيل: الحواريون مأخوذة من الحور وهو البياض الخالص، قيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي: يبيضونها. فالحواريون هم طائفة من بني إسرائيل انتدبت للإيمان بالمسيح عليه السلام، فعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه. والحواري هو الناصر الذي يبالغ في النصرة، وهو الوجيه والخليل والحميم، وقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (ما من نبي بعثه الله إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يهتدون بهديه ويقتدون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف) .. إلى آخر الحديث. فدل على أن هؤلاء الأصفياء والخلص من الأصحاب ليست خاصة بالمسيح عليه السلام، وإن جاء إطلاق الحواريين على تلامذته الأقربين عليه السلام، وإنما كل نبي له حواريون وأصفياء وأنصار وأعوان من أصحابه. ((آمَنَّا بِاللَّهِ)) أي: صدقنا بالله. ((وَاشْهَدْ)) أي: يا عيسى. ((بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)) أي: منقادون لرسالتك.

بعد أن أشهدوا نبيهم عليه السلام على هذا الإيمان أشهدوا الله تبارك وتعالى فقالوا: رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:53]. ((رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ)) من الإنجيل. ((وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ)) عيسى عليه السلام. ((فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ)) أي: فليكن جزاؤنا على إشهادنا إياك وعلى إيماننا بك أن تكتبنا مع الشاهدين لك بالوحدانية ولرسولك بالصدق. وهؤلاء الشاهدون يحتمل أنهم الذين تقدم ذكرهم في قوله تبارك وتعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18]، أو اكتبنا مع الشاهدين أي: مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم أنهم آمنوا بهم وصدقوهم.

قال تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]. ((وَمَكَرُوا)) أي: كفار بني إسرائيل، مكروا بعيسى عليه السلام إذ وكلوا به من يقتله غيلة. الواو هنا تعود على الذين أحس عيسى منهم الكفر من بني إسرائيل. ((وَمَكَرَ اللَّهُ)) أي: في المقابل مكر الله سبحانه وتعالى بهم، بأن ألقى شبه عيسى على من قصد قتله، وهذا التفسير هو الذي اعتمده السيوطي . يقول القاضي كنعان : الصحيح أن الذي ألقي عليه شبه عيسى كان أحد تلاميذه من الحواريين، فقتلوا هذا الذي ألقي عليه الشبه ورفع عيسى إلى السماء، ونجاه الله سبحانه وتعالى من بين أيديهم. ((وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)) أي: أعلمهم به، وهذه الصفة بلا شك أنها في حق الله تبارك وتعالى على ما يليق بجلال الله سبحانه وتعالى، كقوله تبارك وتعالى: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء:142]، وكقوله تبارك وتعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15]. يرد علينا سؤال وهو: هل يجوز في الدعاء أن يقال: يا خير الماكرين امكر لي؟ الجواب: أجاز بعض العلماء ذلك، واستشهدوا بدعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (اللهم امكر لي ولا تمكر علي).

إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]. ((إِذْ قَالَ اللَّهُ)) أي: اذكر إذ قال الله: ((يا عيسى إني متوفيك)). نلاحظ في القرآن الكريم أن الله سبحانه وتعالى ينادي عامة الأنبياء بأسمائهم: يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ [هود:46] وقوله: يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] و(( يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ )) وقَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، وهكذا. أما نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلم يناده الله تبارك وتعالى باسمه قط في القرآن الكريم، إنما ناداه بصفاته الشريفة كـ: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1] ويَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] ويَا أَيُّهَا النَّبِيُّ [الأنفال:64]، يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ [المائدة:41]، وهذا من كرامته على الله سبحانه وتعالى وبلوغه في الشرف مقاماً لم يكن لأحد من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ((إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)) أي: قابضك. ((وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)) أي: من الدنيا من غير موت. ((وَمُطَهِّرُكَ)) أي: مبعدك. ((مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ)) أي: صدقوا بنبوتك من المسلمين. وهذه تشمل طائفتين: تشمل الطائفة التي آمنت بالمسيح عليه السلام ممن أدركوا بعثته، ووافقوه على دين الإسلام قبل بعثة النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. الطائفة الثانية التي شملتهم هذه الآية: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) هم الذين اتبعوا رسول الله محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فنحن المسلمين أيضاً ندخل في قوله تعالى: (( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ )) أي: الذين صدقوا نبوتك من المسلمين؛ لأننا اتبعنا المسيح عليه السلام على الحقيقة، وأما النصارى فهم أعداء المسيح عليه السلام يعاديهم ويبغضهم ويبرأ إلى الله منهم تماماً، كما أن اليهود يدعون كذباً مع اعتزازهم بموسى عليه السلام وأنهم على دينه وملته، كذلك نقول: نحن أتباع موسى على الحقيقة ونحن أولى به منهم، ولذلك النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عندما هاجر إلى المدينة وجد اليهود يعظمون يوم عاشوراء ويصومونه، فسألهم عن ذلك، فقالوا: (إنه اليوم الذي نجى الله فيه موسى وبني إسرائيل من فرعون وقومه قال: نحن أولى بموسى منهم) وقال: (أنا أولى الأنبياء بالمسيح عليه السلام، ما بيني وبينه نبي) أو كما قال عليه الصلاة والسلام. فإذاً: نحن أتباع المسيح، وأتباع موسى عليهما السلام؛ لأننا على نفس الدين الذي دعوا إليه، ولأننا نؤمن بالأنبياء كلهم، فالذي يكفر برسالة نبي واحد فإنه قد كفر بجميع الأنبياء، ويحبط كل إيمانه ويصير مرتداً، ومن كذب بنبوة المسيح فقد كفر، ومن كفر بالإنجيل الذي أنزله الله على عيسى فقد كفر ولا ينفع إيمانه بالقرآن ولا بالتوراة، بل الإيمان حقيقة متركبة من أجزاء مرتبطة ببعضها، لا ينفك ولا ينفصل بعض منها عن البعض الآخر. ((وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا)) أي: فوق الذين كفروا بك وهم اليهود، وكذالك ومن حرف دين المسيح من النصارى، فالذين اتبعوك يعلونهم بالحجة وكذلك بالتمكين لهم في الأرض. الذين كفروا بالمسيح قسمان: الأول: اليهود لعنهم الله فهم الذين كفروا بالمسيح وسبوه وسبوا أمه ورموها بالبهتان وبالإفك المبين. الثاني: الذين حرفوا دين المسيح من النصارى وعبدوه وألهوه. ((إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ)) هذا وعد لا يتخلف، وما نحن عليه من الضعف والوضع الذي يعيشه المسلمون الآن، فهذا ليس هو الأصل بل هذا من الاستثناءات؛ لأن الغالب والأصل أن المؤمنين دائماً فوق الذين كفروا، ولا يجوز أن يظن بالله سبحانه وتعالى أنه يدع المسلمين مقهورين إلى الأبد، بل لابد أن تعود الكرة كما قال تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8]. فمن سوء الظن بالله أن يظن أنه يمكن للكفار أن يستأصلوا المسلمين ويبيدوهم وترتفع كلمتهم عليهم، هذا خلاف الأصل. خاصة إذا قلنا: إن أحد ركني هذه الفوقية المقصود به العلو في الحجة والبيان، فهذا بلا شك قائم في كون المؤمنين والموحدين يعلون الكفار دائماً بالحجة والبرهان، كما بيناه وكما سيأتي تفصيله إن شاء الله. وأحياناً يعلونهم بالسيف، أما ما نحن فيه من أوضاع آخر الزمان فهي تخالف في القاعدة الأصلية. ((فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)) أي: من أمر الدين.

فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:56]. ((فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا)) أي: بالقتل والسبي والجزية. ((وَالآخِرَةِ)) أي: بالنار. ((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) أي: مانعين يمنعونهم من هذا العذاب.

وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [آل عمران:57] وفي قراءة (فنوفيهم) بالنون. ((وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)) أي: يبغضهم. وهنا فسرها السيوطي بقوله: أي: يعاقبهم، (روي أن الله تعالى أرسل إليه سحابة فرفعته فتعلقت به أمه وبكت، فقال لها: إن القيامة تجمعنا، وكان ذلك ليلة القدر ببيت المقدس وله ثلاث وثلاثون سنة، وعاشت أمه بعده ست سنين)، والله أعلم بصحة ذلك؛ لأنه لم يثبت عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. وروى الشيخان: (أنه ينزل قرب الساعة ويحكم بشريعة نبينا، ويقتل الدجال والخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية) ، وفي حديث مسلم : (أنه يمكث سبع سنين) وفي حديث عن أبي داود الطيالسي : (أربعين سنة، ويتوفى ويصلي عليه المسلمون) فيحتمل أن المراد مجموع مكثه في الأرض قبل الرفع وبعده.

قضية رفع المسيح عليه السلام إلى السماء وتوفي الله سبحانه وتعالى إياه، اختلف المفسرون في تفسيرها. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [آل عمران:55] أي مستوف مدة إقامتك بين قومك. والتوفي يطلق على الإماتة، وكذلك يطلق على استيفاء الشيء كما في كتب اللغة، يقول تبارك وتعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42] أي: أنه يتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وذلك بالنوم، فهذا تشبيه للنائمين بالموتى، ومنه قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام:60]، أي: أنهم لا يميزون ولا يتصرفون كما أن الموتى كذلك. ثم بين سبحانه في بشارته بالرفعة إلى محل كرامته، ومجاورته لملائكته، ومعدن النزاهة عن الأدناس، وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [آل عمران:55]، أي: من مكرهم وخبث صحبتهم. هذه الآية الكريمة: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)، ظاهرها يدل على أن الله تعالى فوق سماواته، كما قال تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا [النساء:158]، وفي قوله تعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [النحل:50]، وقوله تعالى: يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]، وقال تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ [الملك:16]، أي: من فوق السماء. وهو مذهب السلف قاطبة كما نقله الإمام الذهبي في كتابه (العلو للعلي الغفار). قال أبو الوليد بن رشد في (مناهج الأدلة): لم يزل أهل الشريعة من أول الأمر يثبتون لله سبحانه وتعالى جهة الفوق حتى نفتها المعتزلة، ثم تبعهم على نفيها متأخرو الأشاعرة، كـأبي المعالي الجويني ومن اقتدى بقوله. إلى أن قال أبو الوليد بن رشد : والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء. الشرائع هنا بالمعنى الأعم لا تقتصر فقط على الشرائع التي هي بمعنى الأحكام الفقهية؛ لأن الشريعة تطلق أحياناً على كل الدين. يقول: والشرائع كلها مبنية على أن الله في السماء، وأن منه تتنزل الملائكة بالوحي إلى النبيين، وأن من السماوات نزلت الكتب وإليها كان الإسراء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن الله والملائكة في السماء، كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك بالمعقول. فإثبات العلو واجب بالشرع وبالعقل، وإبطاله إبطال للشرائع. يقول الدارمي : وقد اتفقت الكلمة من المسلمين أن الله فوق عرشه فوق سماواته. وقد بسط نصوص السلف الحافظ الذهبي في كتاب (العلو) فانظره. يقول القاسمي : هذا ولما كان ذوو الهمم العوالي أشد التفاتاً إلى ما يكون عليه خلفاؤهم من بعدهم، أراد الله تبارك وتعالى أن يبشر المسيح عليه السلام بذلك حتى يطمئنه، فقال تبارك وتعالى: (( وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ )). ثم يقول: وكذا كان ولم يزل من انتحل النصرانية فهم فوق اليهود، ولا يزالون كذلك إلى أن يعدموا فلا يبقى منهم أحد. الحقيقة أن هذه الآية إحدى الآيات الأساسية في موضوع الإيمان برفع المسيح عليه السلام حياً، ونزوله وقتل المسيح الدجال في آخر الزمان. فهناك عدة آيات في موضوع رفع المسيح إلى السماء حياً، الآية الأولى هي هذه الآية من سورة آل عمران: إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [آل عمران:55]. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في هذه الآية ما ملخصه: اختلف المفسرون في قوله تعالى: (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ)، فقال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر، وتقديره: يا عيسى إني رافعك إلي ومتوفيك، يعني بعد ذلك. أي: أن الله سبحانه وتعالى رفعه إليه وهو حي لم يمت إلى اليوم، وقد لقيه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في رحلة الإسراء والمعراج. قوله: ثم متوفيك بعد ذلك أي: حينما ينزل في آخر الزمان، فإنه يعيش من جديد ويحكم بالإسلام ثم يتوفاه الله تبارك وتعالى. يرد سؤال عابر: من آخر الصحابة موتاً؟ المسيح عليه السلام؛ لأن المسيح عليه السلام هو نبي وصحابي في نفس الوقت؛ لأن تعريف الصحابي ينطبق على المسيح؛ لأنه لقي النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فترة -ولو كانت قصيرة- في ليلة المعراج مؤمناً برسالته، فهذا هو حد الصحابي وتعريف الصحابي، فلذلك عيسى نبي وصحابي، وهو لم يمت حتى الآن، فهو آخر الصحابة موتاً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس :((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ))، أي: مميتك). وقال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن وهب بن منبه قال: توفاه الله ثلاث ساعات منه أول النهار حين رفعه إليه. وقال ابن إسحاق أيضاً: والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات ثم أحياه. قال إسحاق بن بشر عن إدريس عن وهب : أماته الله ثلاثة أيام ثم بعثه ثم رفعه. قال مطر الوراق : ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ))، من الدنيا، وليس بوفاة موت. وقال ابن جرير : توفيه هو رفعه. وقال الأكثرون: المراد بالوفاة هاهنا النوم كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الأنعام:60]، وقال تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا [الزمر:42]، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من نومه: (الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا) .. الحديث . وعن الحسن أنه قال: ((إِنِّي مُتَوَفِّيكَ))، يعني: وفاة المنام، رفعه الله في منامه، قال الحسن : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود: (إن عيسى لم يمت، وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة) وهذا الحديث مرسل ضعيف. (( وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا )) أي: برفعي إياك إلى السماء، بعيداً عن هذه الصحبة من كفار اليهود. اختار الحافظ ابن كثير بعد هذا رأي الجمهور حيث فسر التوفي بالمنام، أي: ألقي عليه النوم، وأيده بقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء:159] معلوم أن الهاء في: (موته) يحتمل أنها تعود إلى المسيح، ويحتمل أن تعود إلى الكتابي، فإذا كانت الهاء عائدة على الكتابي فعندما يأتيه الموت يعلم بأن المسيح عليه السلام رسول الله، هذا معنى أحد القولين. (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل أن تقبض روح الكتابي سواء كان يهودياً أو نصرانياً ممن عبد المسيح، فسيكتشف الحقيقة ويعلم أن المسيح ما كان إلا عبداً رسولاً ويعلم أنه مات على الباطل وعلى الكفر. أو أن معنى قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) أي: قبل موت المسيح، وتكون هذه إشارة إلى نزوله في آخر الزمان. المسيح عليه السلام لم يمت بعد، وإنما سيموت بعدما ينزل إلى الأرض في آخر الزمان، فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به في ذلك الوقت؛ لأنه سيكتشف أنه كان على ضلال وكفر مبين؛ لأن المسيح يضع الجزية عن النصارى وغيرهم من الملل الأخرى فلا يقبل منهم إلا الإسلام، فإما أن يسلم وإما أن يقتله المسيح عليه الصلاة والسلام كما ما هو معلوم في الأحاديث. على أي الأحوال فلفظ (ومتوفيك) في الآية هنا لفظ متشابه، فيحتمل أن يكون معناه التوفي بالنوم، أو التوفي بالموت، أو التوفي بمعنى القبض والاستيفاء. قوله: (( وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ))، بعض الناس فسرها بقوله: رفع روحه، أو رفع مكانته، وهذا إلحاد في آيات الله وتحريف للكلم عن مواضعه. وأقرب المعاني أن يقال: إن الآية فيها تقديم وتأخير بمعنى: إني رافعك إلي ومتوفيك، وهذا ما سيحصل حينما يتوفاه عند نزوله في آخر الزمان. أو التوفي يكون بمعنى الإنامة لا الإماتة، إذ لا معنى لرفعه إلى الله ميتاً، إذاً ما الخصيصة التي اختص بها المسيح عليه السلام إذا كان رفعه ميتاً؟! مع أن المراد بالرفع هو حفظه من اليهود وإنجاؤه من مكرهم حين أرادوا قتله. فإذا كان المسيح عليه السلام قد توفي بالإماتة، فأي إنجاء يكون في هذا؟ إنما يكون الإنجاء وتكون الآية والبشارة بأن يتوفاه الله سبحانه وتعالى ويرفعه إليه رفعاً حقيقياً. فعلى تقدير التوفي بالإماتة لا تكون تلك البشارة بالتطهير والإنجاء قد تحققت، بل يكون قد أعان اليهود على قصدهم، وهو أن يتخلصوا من عيسى عليه السلام إما بالموت أو بالقتل. وكيف يفهم خلاف ذلك من قوله تعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ [آل عمران:54] فإنه من المناسب لمكر الله المقابل لمكر اليهود أن يرفعه إليه حياً؛ لينزل في آخر الزمان فينتقم من هؤلاء الذين كادوا له وآذوه، فيقاتلهم على الإسلام وحده، فمن أبى منهم قتل. خلاصة الأقوال في هذه القضية: الأول: رأي الجمهور الذي اختاره ابن كثير ورواه عن الحسن : وهو تفسير التوفي بالإنامة، (( مُتَوَفِّيكَ )) أي: ملق عليك النوم. الثا

قال تبارك وتعالى: ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ [آل عمران:58]. ((ذَلِكَ)) أي: المذكور من أمر عيسى عليه السلام. ((نَتْلُوهُ)) أي: نقصه. ((عَليْكَ))، يا محمد ((مِنَ الآيَاتِ)). وقوله: ((ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ)) فيه إشارة إلى أنه لا مصدر لك كي تعلم هذه الأشياء إلا ما يطلعك الله سبحانه وتعالى عليه عن طريق الوحي. ((مِنَ الآيَاتِ)) حال من الهاء في (نتلوه)، وعامله ما في (ذلك) من معنى الإشارة. ((وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ)) أي: المحكم وهو القرآن الكريم، والمحكم بمعنى المعصوم من أن يتطرق إليه خلل. أو ((الْحَكِيمِ)) بمعنى: المشتمل على الحكم.

إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]. ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى)) أي: إن مثل شأنه العجيب الغريب في إنشائه من غير أب. ((عِنْدَ اللَّهِ)) أي: في تقدير الله وحكمه. ((كَمَثَلِ آدَمَ)) أي: كشأن آدم أيضاً العجيب في خلقه من غير أب، وهو من تشبيه الغريب بالأغرب ليكون أقطع للخصم، ولا يستطيع أن يجيب، أي: أيهما أعجب وأغرب خلق آدم أم خلق المسيح عليه السلام؟ لا شك أن خلق آدم أغرب، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: إن كنتم تستدلون على ألوهية المسيح المزعومة بكونه خلق من غير أب، فكان أولى أن تعبدوا آدم؛ لأن آدم خلق لا من أب ولا من أم، فهذا هو المقصود. ثم شرع تعالى في تبيين وجه الشبه بينهما بقوله: ((خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ)) أي: آدم، والمقصود هنا أن الله سبحانه وتعالى خلق آدم على هيئة الإنسان وقالبه وشكله، لم يكن قد نفخ فيه الروح؛ لأن الآية تقول: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59] فكان. فالهاء هنا في قوله: ((خلقه)) تعود على قالب آدم، الذي هو العجين المعجون من طين. ((ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ)) أي: كن بشراً. ((فَيَكُونُ)) أي: فكان، وكذلك عيسى عليه السلام قال له: كن من غير أب، فكان.

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [آل عمران:60]. أي: أمر عيسى عليه السلام، والذي قصصناه عليك من ربك هو الحق. (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) أي: الشاكين فيه.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة التوبة [107-110] 2817 استماع
تفسير سورة المدثر [31-56] 2615 استماع
تفسير سورة البقرة [243-252] 2579 استماع
تفسير سورة البلد 2564 استماع
تفسير سورة التوبة [7-28] 2557 استماع
تفسير سورة الطور [34-49] 2541 استماع
تفسير سورة الفتح [3-6] 2501 استماع
تفسير سورة المائدة [109-118] 2436 استماع
تفسير سورة الجمعة [6-11] 2408 استماع
تفسير سورة آل عمران [42-51] 2399 استماع