تفسير سورة آل عمران [21-41]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [آل عمران:21]. قوله تعالى: ((إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ))، وهم اليهود لعنهم الله، فقد قتلوا زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، وقتلوا حزقيال عليه السلام قتله قاض يهودي لما نهاه حزقيال عن منكر فعله. وزعموا أنهم قتلوا عيسى بن مريم عليهما السلام، وسعوا بالفعل إلى قتل المسيح عليه السلام، لكن الله عز وجل أنجاه منهم. ولما كان اليهود الذين في المدينة راضين بصنيع أسلافهم صحت هذه الإضافة إليهم. وقوله تعالى: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ) إشارة أن قتلهم للأنبياء كان بغير حق في اعتقادهم أيضاً، ومعلوم أن مثل هذا القيد لا مفهوم له، أي لا يفهم منه أنه يمكن أن يقتل رجل نبياً ويكون على حق، فمفهوم المخالفة هنا ملغي غير معتبر، بل كل من يقتل نبياً أو يؤذيه فهو بلا شك على غير الحق، ولهذا المفهوم نظائر في القرآن الكريم، وذلك مثل قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ [الإسراء:31]، فليس معنى ذلك أنه يجوز قتلهم لسبب آخر غير خوف الإملاق؟ ومثل قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً [آل عمران:130]، فليس معنى ذلك أنه يجوز أكل الربا إن كان قليلاً لا يصل إلى أضعاف مضاعفة. ومثل قوله عز وجل: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [المؤمنون:117]، هل يحتمل أن يعبد رجل غير الله ويكون له عنده برهان عليه؟ لا يمكن، فمفهوم هذا لا يعتبر بل هو ملغي. إذاً: فكل قتل للأنبياء يكون بغير حق، ولكن الحكمة من نصه تعالى هنا على قوله: (بغير حق) الإشارة إلى أنهم يعتقدون أن قتلهم للأنبياء محرم عليهم، وأنه ليس لهم حق في قتلهم. إن رأس يحيى عليه السلام لما قطعوه أهدوه إلى بغي من بغايا بني إسرائيل. فقتل الأنبياء حرفة يهودية قديمة، فهم مجرمون سفاكو دماء سفاحون، لم تتغير فيهم هذه الطبيعة الخبيثة. لا شك أن ما هم عليه من قتل الأنبياء بغير حق فكذلك هم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ)، وهذا وإن كان في اليهود نزوله، لكنه عام في كل من يتصف بهذه الصفات، فإن قتل الذين يأمرون بالقسط من الناس؛ بسبب أنهم يأمرونهم بالقسط، أقبح وأسوأ أنواع الكبر، كما قال النبي صلى الله عليه على آله وسلم: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) ، وهذا رواه مسلم ، فيجمع بين التكبر على الحق وبين غمط الناس وذلك ببخسهم منازلهم وبخسهم حقوقهم، ولهذا لما تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا، والعذاب المهين في الآخرة، فلذلك قال تعالى: (( فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ )). يقول السيوطي رحمه الله تعالى: قوله تعالى: (( إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ ))، وفي قراءة: (يقاتلون). (( بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ ))، أي بالعدل. (( مِنَ النَّاسِ ))، وهم اليهود روي أنهم قتلوا ثلاثة وأربعين نبياً، فنهاهم مائة وسبعون من عبادهم فقتلوهم من يومهم. (فبشرهم) أعلمهم. (بعذاب أليم) أي: مؤلم، وذكر البشارة تهكم بهم، ودخلت الفاء في خبر إن لشبه اسمها الموصول بالشرط.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ [آل عمران:22] يقول السيوطي : قال تعالى: ((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ))، أي: بطلت. ((أَعْمَالُهُمْ)) ما عملوا من خير كصدقة وصلة رحم. ((فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) فلا اعتداد بها لعدم شرطها، وشرطها هو الإيمان الصحيح. ((وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ)) أي: مانعين من العذاب. فقوله تعالى هنا: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ))، أي: بطلت أعمالهم التي عملوها من البر والحسنات في الدارين، أما الدنيا فإبدال المدح بالذم والثناء باللعن، ويدخل فيه ما ينزل بهم أيضاً من القتل والسبي وأخذ الأموال منهم غنيمة، والاسترقاق لهم، إلى غير ذلك من الذل والصغار الظاهر فيهم، ولا ننخدع بالوضع الراهن الذي وصل إليه اليهود قبحهم الله في هذا الزمان، فهذا استثناء ليس هو الأصل، إذا جئنا للأصل والقاعدة: أنهم ضربت عليهم الذلة والمسكنة أينما كانوا، أما ما نحن فيه فهذا من الأحوال النادرة، باعتبارنا والله أعلم في آخر الزمان وهذا خلاف الأصل. وما هم عليه اليوم هو من العلو الذي عادوا إليه، وأخبر الله سبحانه وتعالى أنه سيعود لتسليط عباد له أولي بأس شديد عليهم، حتى يؤدبوهم ويذلوهم كما قال تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا [الإسراء:8]، أما حدوثها في الآخرة فإبدال الثواب بالعذاب المقيم. ((وما لهم من ناصرين)) أي: ليس لهم ناصرون ينصرونهم من عذاب الله. وقد دلت الآيات على عظم حال من يأمر بالمعروف وعظم مقامه وشرفه عند الله سبحانه وتعالى، ودلت أيضاً على عظم ذنب قاتله، وأن ذنب من يقتل الذين يأمرون بالقسط من الناس ذنب عظيم؛ وذلك لأنه قرنه بالكفر بالله تعالى وقرنه بقتل الأنبياء. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ، وتدل هذه الآيات على صحة ما قاله بعض العلماء: إن للإنسان أن يأمر بالمعروف وإن خاف على نفسه، أو كان في ذلك تلف نفسه؛ لما يكون فيه من إعزاز دين الله عز وجل وتقوية قلوب أهل الإيمان، وإضعاف قلوب الفاسقين، كما جاء في الحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر).

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ [آل عمران:23]. قوله: ((أوتوا نصيباً من الكتاب)) أي: من التوراة، والمراد بهؤلاء أحبار اليهود. ((يدعون إلى كتاب الله)) وهو هنا القرآن. (( لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ ))، هذا استبعاد لتوليهم بعد علمهم أن الرجوع إلى كتاب الله واجب، إذا قامت عليهم الحجج الدالة على تنزيله. وفي الآية تعجب واستغراب كيف للإنسان بعد أن علم أن الكتاب هو كتاب الله، وأن الحكم هو حكم الله عز وجل، ثم يتولى عن ذلك ويعرض عن حكم الله تبارك وتعالى. ((وهم معرضون)) هذا حال من ((فريق)). ((وهم معرضون)) أي: معرضون عن قبول حكمه.

وجه حمل لفظ كتاب الله في الآية على التوراة

ومن المفسرين من حمل قوله تعالى: (( يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ))، لا على القرآن فقط كما ذكرنا وإنما حملوه على التوراة أيضاً، حيث أشاروا إلى أن هذا إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنى منهم اثنان، فحكم عليهما النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التعزير. يعني: تسويد وجوههم فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما، فغضبوا فشنع عليهم بهذه الآية: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ))، المقصود بهذا التفسير به أيضاً التوراة، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ). هذه القصة مروية في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال لهم: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً، فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم (( فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ))[آل عمران:93]، فوضع الذي كان يقرؤها منهم إصبعه على آية الرجم، فطفق يقرأ دونها وما وراءها، فنزع الرسول عليه الصلاة والسلام يده عن آية الرجم فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما صلى الله عليه وسلم فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد، يقول ابن عمر : فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة) .

فوائد وثمرة الآية الكريمة

قال بعض المفسرين: وللآية ثمرتان: الأولى: أن من دعي إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة، وقد قال العلماء رضي الله تعالى عنهم: يستحب أن يقول: سمعاً وطاعة؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]، أو يقول: نعم وكرامة، أو: على العين والرأس، أو غير ذلك من العبارات المهذبة التي تليق بالأدب مع حكم الله سبحانه وتعالى وكتابه، لا كما يقول بعض الأجلاف المعتدين الظالمين من عبارات قد تكفرهم! وزير العري والسفور لما صدر حكم المحكمة من أيام قليلة في قضية الحجاب، أول تصريح بادئ الرأي قال: سنحترم حكم القضاء. يا خبيث! وأين أنت من حكم الله الذي نزل من فوق سبع سماوات؟! آيات الحجاب التي تعبدنا الله بها في القرآن الكريم، أما تؤمن بها؟! قلها صراحة وأرحنا، ولا تخادع الناس وتقول: أنا مسلم. كيف يصدر قراراً يمنع الحجاب، ثم بعد ما يفضحه الله سبحانه وتعالى ويصدر الحكم ببطلان هذا القرار، إذا به يستأنف الحكم إصراراً وعناداً على هذه المحادة والمحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يذله وأن يقصم ظهره، وأن يريحنا من شره وأمثاله. الثمرة الثانية: أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ونزلت الآية مقررة له.

ومن المفسرين من حمل قوله تعالى: (( يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ))، لا على القرآن فقط كما ذكرنا وإنما حملوه على التوراة أيضاً، حيث أشاروا إلى أن هذا إشارة إلى قصة تحاكم اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما زنى منهم اثنان، فحكم عليهما النبي صلى الله عليه وسلم بالرجم فأبوا وقالوا: لا نجد في كتابنا إلا التعزير. يعني: تسويد وجوههم فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن يأتوا بالتوراة فوجد فيها الرجم فرجما، فغضبوا فشنع عليهم بهذه الآية: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ ))، المقصود بهذا التفسير به أيضاً التوراة، (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ). هذه القصة مروية في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أن اليهود جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم برجل منهم وامرأة قد زنيا فقال لهم: كيف تفعلون بمن زنى منكم؟ قالوا: نحممهما ونضربهما، فقال: لا تجدون في التوراة الرجم؟ فقالوا: لا نجد فيها شيئاً، فقال لهم عبد الله بن سلام كذبتم (( فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ))[آل عمران:93]، فوضع الذي كان يقرؤها منهم إصبعه على آية الرجم، فطفق يقرأ دونها وما وراءها، فنزع الرسول عليه الصلاة والسلام يده عن آية الرجم فقال: ما هذه؟ فلما رأوا ذلك قالوا: هي آية الرجم، فأمر بهما صلى الله عليه وسلم فرجما قريباً من حيث موضع الجنائز عند المسجد، يقول ابن عمر : فرأيت صاحبها يجنأ عليها يقيها الحجارة) .

قال بعض المفسرين: وللآية ثمرتان: الأولى: أن من دعي إلى كتاب الله وإلى ما فيه من شرع وجب عليه الإجابة، وقد قال العلماء رضي الله تعالى عنهم: يستحب أن يقول: سمعاً وطاعة؛ لقوله تعالى: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]، أو يقول: نعم وكرامة، أو: على العين والرأس، أو غير ذلك من العبارات المهذبة التي تليق بالأدب مع حكم الله سبحانه وتعالى وكتابه، لا كما يقول بعض الأجلاف المعتدين الظالمين من عبارات قد تكفرهم! وزير العري والسفور لما صدر حكم المحكمة من أيام قليلة في قضية الحجاب، أول تصريح بادئ الرأي قال: سنحترم حكم القضاء. يا خبيث! وأين أنت من حكم الله الذي نزل من فوق سبع سماوات؟! آيات الحجاب التي تعبدنا الله بها في القرآن الكريم، أما تؤمن بها؟! قلها صراحة وأرحنا، ولا تخادع الناس وتقول: أنا مسلم. كيف يصدر قراراً يمنع الحجاب، ثم بعد ما يفضحه الله سبحانه وتعالى ويصدر الحكم ببطلان هذا القرار، إذا به يستأنف الحكم إصراراً وعناداً على هذه المحادة والمحاربة لله ولرسوله وللمؤمنين، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يذله وأن يقصم ظهره، وأن يريحنا من شره وأمثاله. الثمرة الثانية: أن الإسلام ليس بشرط في الإحصان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين ونزلت الآية مقررة له.

قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [آل عمران:24]. ((ذَلِكَ)) يعني ذلك التولي وذلك الإعراض. ((بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)) الباء هنا سببية يعني: بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم، فهم غروا أنفسهم وخدعوا أنفسهم لما دعوا إلى كتاب تبارك وتعالى ليحكم بينهم، (( ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ )) أي: هم يعلمون أنهم آثمون، وأنهم عاصون، لكنهم يغرون أنفسهم ويقولون: حتى لو عذبنا بسبب هذه الأشياء فنحن لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات. ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) أي: من الكذب والقول الباطل من أنهم لن يعذبوا إلا أياماً معدودات، وفي التعبير بالغرور والافتراء إعلام بأن ما حدثوا به أنفسهم وسهلوه عليها تعلل بباطل، كما مر نظير ذلك في قوله تبارك وتعالى في أوائل سورة البقرة: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، أي: يمنون أنفسهم بهذه الأماني، على ما يقوله لهم أحبارهم من هذه الأماني الكاذبة.

قال تعالى: فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [آل عمران:25]، أي: فكيف يصنعون أو كيف تكون حالهم -إذا جمعناهم ليوم- اللام هنا بمعنى في، يعني: في يوم. ((لا رَيْبَ فِيهِ)) أي: لا شك فيه وهو يوم القيامة. ((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ)) أي: جزاء ما عملت من خير أو شر. ((وهم لا يظلمون)) الضمير يعود لكل نفس على المعنى، وإلا فالأصل أن يكون الضمير (وهي لا تظلم نفس شيئاً)، لكن لم ينظر إلى اللفظ وإنما نظر إلى المعنى؛ لأن كل نفس تعبر عن عدد كبير، فلذلك قال تعالى: (وهم لا يظلمون)؛ لأنه في معنى كل إنسان، أي: لا يظلمون لا بزيادة عذاب ولا بنقصان الثواب.

يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (( أَلَمْ تَرَ )) ألم تنظر: (( إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا )) أي: حظاً. (( مِنَ الْكِتَابِ )) أي: التوراة. (( يُدْعَوْنَ )) هذا حال. (( يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ))، أي: عن قبول حكمه، نزلت في اليهود زنى منهم اثنان فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فحكم عليهما بالرجم فأبوا، فجيء بالتوراة فوجد حكم الرجم فيها فرجما فغضبوا. السيوطي كأنه يميل إلى القول إلى أن لفظ (كتاب الله) في الآية المقصود به التوراة. قوله: (ذلك) أي: ذلك التولي والأعراض. ((بِأَنَّهُمْ قَالُوا)) أي: بسبب قولهم. ((لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ)) هنا السيوطي يميل إلى تفسير هذه الأيام المعدودات بأنها أربعون يوماً مدة عبادة آبائهم العجل ثم تزول عنهم. ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) من قولهم ذلك. إذاً: إعراب كلمة ((ما)) في قوله تعالى: ((وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ)) هو أنها اسم موصول بمعنى الذي مبني على السكون في محل رفع فاعل. ((فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ)) يعني: كيف يكون حالهم إذا جمعناهم في يوم. ((لا رَيْبَ)) أي: لا شك ((فِيهِ)) وهو يوم القيامة: ((وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ)) من أهل الكتاب وغيرهم جزاء ((مَا كَسَبَتْ)) عملت من خير وشر، ((وهم)) أي: الناس ((لا يظلمون)) بنقص حسنة أو زيادة سيئة.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم علم نبيه صلى الله عليه وسلم كيف يدعوه ويمجده بقوله: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:26-27]. (قل اللهم مالك الملك) أي: مالك جنس الملك على الإطلاق ملكاً حقيقياً، فهو المالك الحق لكل ما في هذا الوجود بحيث يتصرف فيه كيفما يشاء، إيجاداً وإعداماً، وإحياء وإماتة، وتعذيباً وإثابة، من غير مشارك ولا ممانع. (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) هذا بيان لبعض وجوه التصرف الذي تستدعيه مالكية الملك، وتحقيق لاختصاصها به تعالى حقيقة، فلا يوجد مالك في الحقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، ما الذي عندك؟ لا الملك ولا الرياسة ولا الحكم، ولا حتى أرواحنا التي بين جنبينا ما هي إلا ملك لله عز وجل، إنا لله وإنا إليه راجعون. (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) هي تؤكد ما قبلها وتحققه وتجزم به، (( قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ ))، يعني أنت المالك لهذا الملك كله على الحقيقة، وملكيتك له ملكية كاملة وتامة وشاملة لا يشاركك فيها أحد، ولا يمانعك فيها أحد.

أسباب الحصول على الملك وأسباب نزعه

(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) فكلمة: (تؤتي) الذي يؤتي الملك هو الله الذي يملك كل ما في الدنيا وكل ما في هذا الوجود، فهو الذي يعطي، فلذلك أثر في النظم الكريم لفظ: (تؤتي) على لفظة (تملك) إشارة إلى أن مالكية غيره هي على سبيل المجاز، أما الملكية الحقيقية فهي لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان بعض السلف إذا سئل عن شيء معين كان يملكه، يقول: هي لله عندي، ويتحرج أن يقول: هي ملكي. يقول تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]. وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، لم يقل: أن استغنى؛ لأنه في الحقيقة يظل فقيراً إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنه يرى نفسه أنه استغنى، وهو لا يملك شيئاً في الحقيقة وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بأن الملك يناله من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب؛ لأن العرب كانت من أذل الأمم قبل الإسلام، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا لله)، وفي قصة أبي سفيان مع هرقل وذلك عندما رأى كأنه ينظر في النجوم وقال لهم: إني أرى ملك الختان قد ظهر، فقالوا له: إنه لا يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم. وفسر ذلك بأنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كانت الأمم كلها تحتقر العرب وكانوا في أذل الأوضاع وفي ذيول الأمم، فالله سبحانه وتعالى اصطفى أمة العرب بهذا الدين، وأعزها بهذا الدين كما قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، أي فيه رفعة شأنكم ومجدكم، فإذا كفرت هذه الأمة بنعمة الله سبحانه وتعالى، فمن عدل الله فيها أنه يعيدها إلى ما كانت عليه من قبل، وهو الذل والهوان والصغار، ولا يترجم لهذا المعنى شيء أبلغ مما نحن فيه الآن من الذل والصغار والدمار الذي حل على هذه الأمة لما تخلت عن دينها، وبحثت عن العزة في غير جناب ربها تبارك وتعالى، يتذللون على أعتاب أمريكا وعلى أعتاب الغرب وغيرهم الكفار، ويتمسحون بأحذيتهم، ومع ذلك: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] فهاهم المسلمون في البوسنة والهرسك ليس لهم من الإسلام إلا اسمه، فهم في انحراف شديد جداً عن الإسلام ما بين خمر وفواحش وفساد في النساء وفي الرجال، وعدم صلاة وغفلة عن الدين إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما رضي عنهم الغرب، وعاملهم على أنهم ما زالوا أعداء لهم. فهم لم يعودوا إلى دينهم، فكذلك كل هؤلاء الذين يبتغون العزة في غير جناب الله لم يجدوا إلا الذل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)، قد يقول قائل: كيف يعيش الغرب الكافر في ذل وصغار مع أنهم يعيشون في قصور، ويعذبون الناس، ويجولون في الأرض متكبرين مغرورين يتقلبون فيها كيفما يشاءون؟ نقول: مهما أظهروا من العزة فهم في الحقيقة مهزومون في أنفسهم. يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم الخيول، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. لا يمكن أبداً لهذا الذي يحارب دين الله سبحانه وتعالى أن يكون آمناً، لابد أن يكون في قلبه انهزام، ومهما أظهر من عناد أو تبجح أو إصرار على محاربة الله ورسوله فهو في الحقيقة ذليل حقير، ولابد أن يكون منهزماً ومغموراً بالذل، لكن عندما تكون إنساناً ضعيفاً وأنت متوكل على الله سبحانه وتعالى موحد لله، طائع لله، قائم بحق الله، أنت أقوى منه وأعز، حتى وإن كان في أبهته وغروره وزينته. فالشاهد الذي دفعنا إلى هذا: أن الله سبحانه وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أن العرب كانوا أحقر أمة، ومن آياته أنه آتاهم ملكه وائتمنهم على دينه، وجعلهم سادة العالم كله حتى امتدت دولتهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في مدة وجيزة جداً تقل عن خمسين سنة. الدولة الإسلامية انطلقت من قلب الجزيرة العربية وحطمت تماماً فارس والروم، وامتدت شرقاً وغرباً حتى تغلغلت في أحشاء سويسرا، ودخلت على حدود فرنسا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. من الذي آتى هذه الأمة الضعيفة المهينة الذليلة هذا الملك؟ إنه الله سبحانه وتعالى. وفي قوله تعالى: ((تؤتي الملك من تشاء)) إشعار بأن الله ينيل ملك فارس والروم للعرب، مع أنهم كانوا من أبعد الأمم عن الملك، حتى ينتهي الأمر إلى أن يطلب الله الملك من جميع أهل الأرض، وذلك بظهور ملك يوم الدين، فآتى الله هذه الأمة الملك والتمكين على سائر الأمم؛ بسبب تمسكها بالدين، وإقامة دين الله تبارك وتعالى. يقول عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، فكما هو معلوم أن أقوى مؤثر في الإنسان هو مؤثر البيئة المحيطة به (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، ولا يوجد شيء يغلب تأثير البيئة إلا شيئاً واحداً فقط وهو العقيدة والدين. تجد أن الناس في هذه البيئة كسالى مقصرون خاملون متخلفون، فلم يلغ هذه الصفات ولم يطهرهم من هذه الرذائل إلا الإسلام، فإذا تخلوا عن الدين فإنهم سيعودون إلى الوضع الأصلي، وهذا ما نحن فيه الآن، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى أن يمكن لدينه ويعيد المسلمين إلى عزهم ومجدهم.

تفسير قوله تعالى: (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل...)

قوله تعالى: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ [آل عمران:27] ((تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ))، أي: تدخل أحدهما في الآخر؛ إما بالتعقيب وإما بالزيادة أو بالنقص. ((وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ))، كالحيوان من النطفة والنطفة منه، والبيض من الطير وعكسه، وقيل: ((تخرج الحي من الميت)) أي: تخرج المؤمن الحي من صلب الكافر الميت. قال القفال : والكلمة محتملة للكل، أما الكفر والإيمان فقد قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاه [الأنعام:122]، أي: كان ميتاً بالكفر فهديناه، فجعل الكفر موتاً والإيمان حياة، وأخرج النبات من الأرض فصارت حية وكانت قبل ذلك ميتة فقال: وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [الروم:19]، وقال: فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [فاطر:9]، وقال: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [البقرة:28]. ((وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ))، أي: ترزق رزقاً واسعاً غير محدود من غير تضييق ولا تقصير، كما تقول: فلان يعطي بغير حساب، يعني: لا يحسب ما يعطيه، فكذلك هنا قال تعالى: ((وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)).

تفسير السيوطي لقوله تعالى: (قل اللهم مالك الملك ...) والآية بعدها

يقول السيوطي رحمه الله تعالى: ونزلت لما وعد صلى الله عليه وسلم أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون: هيهات! يعد أتباعه ملك فارس والروم، فنزل قوله تعالى: (قل اللهم) يعني: يا ألله (مالك الملك) أي: يا مالك الملك. (تؤتي الملك) أي: تعطي الملك (من تشاء) من خلقك. (وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء) تعزه بإيتائه الملك. (وتذل من تشاء) أي: بنزعه منه (بيدك) أي: بقدرتك. السيوطي فسر اليد بالقدرة، وهذا تأويل باطل بلا شك. (بيدك الخير) أي: والشر. قوله: أي: والشر؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يخلق الخير وهو الذي يخلق الشر، وإن كان لا يحب الشر، ولا ينسب الشر إليه سبحانه وتعالى. (إنك على كل شيء قدير). (تولج) أي: تدخل (الليل في النهار وتولج النهار) أي: تدخله (في الليل) فيزيد كل منهم بما نقص من الآخر. (وتخرج الحي من الميت) كالإنسان والطائر من النطفة والبيضة. (وتخرج الميت) كالنطفة والبيضة (من الحي وترزق من تشاء بغير حساب) أي: رزقاً واسعاً.

(تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ) فكلمة: (تؤتي) الذي يؤتي الملك هو الله الذي يملك كل ما في الدنيا وكل ما في هذا الوجود، فهو الذي يعطي، فلذلك أثر في النظم الكريم لفظ: (تؤتي) على لفظة (تملك) إشارة إلى أن مالكية غيره هي على سبيل المجاز، أما الملكية الحقيقية فهي لله سبحانه وتعالى، ولذلك كان بعض السلف إذا سئل عن شيء معين كان يملكه، يقول: هي لله عندي، ويتحرج أن يقول: هي ملكي. يقول تعالى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد:7]. وقوله تعالى: كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى [العلق:6-7]، لم يقل: أن استغنى؛ لأنه في الحقيقة يظل فقيراً إلى الله سبحانه وتعالى، ولكنه يرى نفسه أنه استغنى، وهو لا يملك شيئاً في الحقيقة وفي التعبير بمن العامة للعقلاء إشعار بأن الملك يناله من لم يكن من أهله، وأخص الناس بالبعد منه العرب؛ لأن العرب كانت من أذل الأمم قبل الإسلام، كما قال عمر رضي الله تعالى عنه: (إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بهذا الدين، فمهما نبتغي العزة في غيره أذلنا لله)، وفي قصة أبي سفيان مع هرقل وذلك عندما رأى كأنه ينظر في النجوم وقال لهم: إني أرى ملك الختان قد ظهر، فقالوا له: إنه لا يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم. وفسر ذلك بأنه النبي محمد صلى الله عليه وسلم. كانت الأمم كلها تحتقر العرب وكانوا في أذل الأوضاع وفي ذيول الأمم، فالله سبحانه وتعالى اصطفى أمة العرب بهذا الدين، وأعزها بهذا الدين كما قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء:10]، أي فيه رفعة شأنكم ومجدكم، فإذا كفرت هذه الأمة بنعمة الله سبحانه وتعالى، فمن عدل الله فيها أنه يعيدها إلى ما كانت عليه من قبل، وهو الذل والهوان والصغار، ولا يترجم لهذا المعنى شيء أبلغ مما نحن فيه الآن من الذل والصغار والدمار الذي حل على هذه الأمة لما تخلت عن دينها، وبحثت عن العزة في غير جناب ربها تبارك وتعالى، يتذللون على أعتاب أمريكا وعلى أعتاب الغرب وغيرهم الكفار، ويتمسحون بأحذيتهم، ومع ذلك: وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة:120] فهاهم المسلمون في البوسنة والهرسك ليس لهم من الإسلام إلا اسمه، فهم في انحراف شديد جداً عن الإسلام ما بين خمر وفواحش وفساد في النساء وفي الرجال، وعدم صلاة وغفلة عن الدين إلا من رحم الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك ما رضي عنهم الغرب، وعاملهم على أنهم ما زالوا أعداء لهم. فهم لم يعودوا إلى دينهم، فكذلك كل هؤلاء الذين يبتغون العزة في غير جناب الله لم يجدوا إلا الذل. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)، قد يقول قائل: كيف يعيش الغرب الكافر في ذل وصغار مع أنهم يعيشون في قصور، ويعذبون الناس، ويجولون في الأرض متكبرين مغرورين يتقلبون فيها كيفما يشاءون؟ نقول: مهما أظهروا من العزة فهم في الحقيقة مهزومون في أنفسهم. يقول الحسن البصري رحمه الله تعالى: إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم الخيول، فإن ذل المعصية لا يفارق رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه. لا يمكن أبداً لهذا الذي يحارب دين الله سبحانه وتعالى أن يكون آمناً، لابد أن يكون في قلبه انهزام، ومهما أظهر من عناد أو تبجح أو إصرار على محاربة الله ورسوله فهو في الحقيقة ذليل حقير، ولابد أن يكون منهزماً ومغموراً بالذل، لكن عندما تكون إنساناً ضعيفاً وأنت متوكل على الله سبحانه وتعالى موحد لله، طائع لله، قائم بحق الله، أنت أقوى منه وأعز، حتى وإن كان في أبهته وغروره وزينته. فالشاهد الذي دفعنا إلى هذا: أن الله سبحانه وتعالى كأنه يلفت أنظارنا إلى أن العرب كانوا أحقر أمة، ومن آياته أنه آتاهم ملكه وائتمنهم على دينه، وجعلهم سادة العالم كله حتى امتدت دولتهم من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب في مدة وجيزة جداً تقل عن خمسين سنة. الدولة الإسلامية انطلقت من قلب الجزيرة العربية وحطمت تماماً فارس والروم، وامتدت شرقاً وغرباً حتى تغلغلت في أحشاء سويسرا، ودخلت على حدود فرنسا، ودخل الناس في دين الله أفواجاً. من الذي آتى هذه الأمة الضعيفة المهينة الذليلة هذا الملك؟ إنه الله سبحانه وتعالى. وفي قوله تعالى: ((تؤتي الملك من تشاء)) إشعار بأن الله ينيل ملك فارس والروم للعرب، مع أنهم كانوا من أبعد الأمم عن الملك، حتى ينتهي الأمر إلى أن يطلب الله الملك من جميع أهل الأرض، وذلك بظهور ملك يوم الدين، فآتى الله هذه الأمة الملك والتمكين على سائر الأمم؛ بسبب تمسكها بالدين، وإقامة دين الله تبارك وتعالى. يقول عز وجل: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا [النور:55]، فكما هو معلوم أن أقوى مؤثر في الإنسان هو مؤثر البيئة المحيطة به (فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) ، ولا يوجد شيء يغلب تأثير البيئة إلا شيئاً واحداً فقط وهو العقيدة والدين. تجد أن الناس في هذه البيئة كسالى مقصرون خاملون متخلفون، فلم يلغ هذه الصفات ولم يطهرهم من هذه الرذائل إلا الإسلام، فإذا تخلوا عن الدين فإنهم سيعودون إلى الوضع الأصلي، وهذا ما نحن فيه الآن، إلا أن يشاء الله سبحانه وتعالى أن يمكن لدينه ويعيد المسلمين إلى عزهم ومجدهم.