خطب ومحاضرات
تفسير سورة البقرة [35-49]
الحلقة مفرغة
قال تبارك وتعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35]. قوله: (اسْكُنْ أَنْتَ) هذا تأكيد للضمير المستتر في (اسكن) حتى يعطف عليه (وزوجك) وقوله: (وَزَوْجُكَ) يعني: حواء بالمد، خلقها الله من ضلع آدم الأيسر. وقوله: (وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا) أي: كلا منها أكلاً رغداً، يعني: واسعاً كثيراً لا حجر فيه، فمعنى (وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا): كلا منها أكلاً رغداً، ولابد من تقدير كلمة أكلاً، ورغداً هنا صفة. قوله: (حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) يعني: لا تقربا هذه الشجرة بالأكل منها، وليس المقصود الدنو في حد ذاته، إنما المقصود الأكل منها، والشجرة قيل: هي الحنطة أو الكرم، وقيل: غيرهما. وقوله: (فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ) يعني: فتصيرا من العاصين. لما خلق الله تعالى آدم عليه السلام وخلق له زوجه وأقرهما في الجنة أباحهما الأكل منها بقوله: وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا [البقرة:35] أي: أكلاً واسعاً. وقوله: (حَيْثُ شِئْتُمَا) حيث للمكان المبهم، أي: من أي مكان من الجنة شئتما. وأطلق لهما الأكل من الجنة على وجه التوسعة البالغة الغاية حيث لم يحظر عليهما بعض الأكل ولا بعض المواضع الجامعة للمأكولات من الجنة، حتى لا يبقى لهما عذر في التناول مما منعا منه، يعني: إذا كان الله سبحانه وتعالى أباح لهما كل ما في الجنة، فإذا حرم عليهما شيئاً واحداً فقط لا يبقى لهما عذر في مخالفة هذا الأمر؛ لأن الله قد أباح لهما الكثير. وهذا حتى الآن واقع معنا، فالناس دائماً يعيبون المتدينين، ويقولون لهم: أنتم كل شيء عندكم حرام! فنقول: لا، ليس كل شيء حراماً، بل إذا تأملت في نعم الله سبحانه وتعالى علينا وجدت كل شيء حلالاً إلا أشياء يسيرة، فالماء حلال، والعصير حلال، والفواكه حلال، واللحم حلال، ودائرة الحلال واسعة جداً، ودائرة الحرام ضيقة جداً. فهنا كذلك الله سبحانه وتعالى أباح لهما كل ما في الجنة فقال: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا) أي: أكلاً واسعاً من أي مكان شئتما، فلم يبق لهما عذر إذا خالفا هذا الأمر وقد وسع الله عليهما هذه التوسعة. وقوله تعالى: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) أي: هذه الشجرة الحاضرة، يعني: لا تقربا منها، ولم يقل: ولا تأكلا من هذه الشجرة، ولكن قال: (وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ)، وهذا مبالغة في تحريم الأكل منها، ووجوب الابتعاد عنها، وهذا نلاحظه في كثير من تعبيرات القرآن، مثل قوله تبارك وتعالى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا [الإسراء:32]، وقوله: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، وقوله: وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الأنعام:152]. وفي الحديث: (وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى يحوم حول الحمى يوشك أن يرتع فيه)، فعلق النهي بالقربان منها مبالغة في تحريم الأكل ولزوم الاجتناب عنه؛ لأن القرب من الشيء يقتضي الألفة، والألفة داعية للمحبة، ومحبة الشيء تعمي وتصم، فالمحب لا يرى قبيحاً، ولا يسمع نهياً، فيقع في الحرام. والسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، فحكمة الله سبحانه وتعالى أنه لا يحرم شيئاً إلا ويحرم كل وسيلة تسهل وتؤدي إليه، فلما حرم الزنا حرم كل سبب يقرب إليه، وسد الذرائع من بعيد، حتى يكون الناس في مأمن وفي حصن من ذلك، فأمر بغض البصر، وحرم إطلاق البصر فيما حرم الله سبحانه وتعالى، وأمر المرأة بالحجاب، ومنع مصافحة الأجنبية، ومنع الخلوة بها، ومنع سفر المرأة بدون محرم؛ لأن هذه كلها وسائل للاعتداء على الأعراض. فالسبب الداعي إلى الشر منهي عنه، كما أن السبب الموصل إلى الخير مأمور به؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (العينان تزنيان) فلما كان النظر داعياً إلى الألفة، والألفة تدعو إلى المحبة، وذلك مفضٍ لارتكابه؛ صار النظر مبدأ الزنا.
سبب العطف في سورة البقرة بالواو وفي سورة الأعراف بالفاء
سبب أكل آدم من الشجرة
قوله تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا [البقرة:35] فعطف بالواو، وفي سورة الأعراف قال تبارك وتعالى: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا [الأعراف:19] وهذا عطف بالفاء يقول القاسمي رحمه الله: جاء في آية الأعراف (فكلا)، وفي آية البقرة بالواو؛ لأن كل فعل عطف عليه شيء وكان ذلك الفعل كالشرح، وذكر الشيء كالجزاء؛ عطف بالفاء دون الواو؛ لأن الفعل يقع في جواب الشرط، فإذا فهم من سياق النص عطف بالفاء لا بالواو، كقوله تعالى: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا [البقرة:58] يعني: كانوا خارج القرية، فكأن الله سبحانه وتعالى يقول لهم: إذا دخلتم فكلوا منها، يقول: لما كان الأكل ووجود الأكل منها متعلقاً بدخولها ذُكر بالفاء، وكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، ففيها معنى فعل الشرط وجواب الشرط، فجاء فيها بالفاء فقال: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا [البقرة:58]. وقال في الأعراف: اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا [الأعراف:161] بالواو دون الفاء لأنه من السكنى، وهو المقام مع اللبث الطويل، فقوله: (اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) المقصود هنا: التعبير بالإقامة فيها، فهل الإقامة فيها تستلزم الأكل؟ لا، لا تستلزم أن يظل الإنسان مقيماً في القرية لا يقوم فيها بشيء غير الأكل، فالسكون هنا هو مجرد اللبث في القرية، فلذلك يقول: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا [الأعراف:161] بالواو دون الفاء لأنه من السكنى، وهو المقام مع اللبث الطويل، ومن دخل بستاناً قد يأكل منه وقد لا يأكل منه، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجزاء بالشرط عطف بالواو، فلذلك قال في هذه الآية: اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا [الأعراف:161] لكن في الآية الأخرى قال: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا [البقرة:58]؛ لأنهم كانوا خارج القرية، والمراد: إن دخلتموها فكلوا، أما هذه فالأمر منصب على معنى الاستقرار فيها، ولا يستلزم ذلك الأكل منها. يقول: وإذا ثبت هذا نقول: قد يراد بـ(اسكن) الزم مكاناً دخلته، ولا تنتقل عنه، وقد يراد: ادخله واسكن فيه، فقوله تعالى هنا في سورة البقرة: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا [البقرة:35] يدل على أن آدم دخل الجنة، وكان موجوداً فيها، فلذلك عطف بالواو، فالمراد هنا: المكث، والأكل لا يتعلق به، فجيء بالواو، وفي الأعراف ورد الأمر قبل أن يدخل الجنة فقال: وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [الأعراف:19]، والمراد: الدخول، والأكل متعلق به، يعني: إن دخلت فكل، فلذلك وردت بالفاء في الأعراف وبالواو في سورة البقرة. ولم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة الصحيحة تعيين هذه الشجرة؛ إذ لا حاجة إليه؛ لأنه ليس المقصود أن تعرف عين تلك الشجرة، وما لا يكون مقصوداً لا يجب بيانه. وقوله: فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ [البقرة:35] أي: الذين ظلموا أنفسهم بمعصية الله تبارك وتعالى.
آدم عليه السلام لم يخرج من الجنة إلا بالتأويل، وإلا فإن آدم لم يقصد المعصية والمخالفة، ولم يقصد أن يكون ظالماً مستحقاً للشقاء، لكن إبليس خدعه، كما أخبر الله عنه بقوله: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21] فآدم عليه السلام كان من طهارة وبراءة قلبه وسلامة نيته لا يتصور أبداً أن مخلوقاً من خلق الله يحلف بالله كاذباً، وهذا يدل على براءة آدم من تعمد المعصية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: الصواب أن آدم عليه السلام لما قاسمه عدو الله -أي: حلف له أنه ناصح- وأكد كلامه بأنواع من التأكيدات: أحدها: القسم: (وقاسمهما). والثاني: الإتيان بجملة اسمية لا فعلية: (إني لكما لمن الناصحين). والثالث: تصديرها بأداة التأكيد. الرابع: الإتيان بلام التأكيد في الخبر. الخامس: الإتيان به اسم فاعل لا فعلاً دالاً على الحدث. السادس: تقديم المعمول على العامل فيه. ولم يظن آدم أن أحداً يحلف بالله كاذباً يميناً غموساً؛ فظن صدقه، وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة، ورأى أن الأكل وإن كان فيه مفسدة فمصلحة الخلود أرجح، ولعله يتأتى له استدراك مفسدة المعصية بعد ذلك باعتذار أو توبة.
قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ [البقرة:36]. يقول السيوطي رحمه الله تعالى: (فأزلهما إبليس) أي: أذهبهما، وفي قراءة (فأزالهما) أي: نحاهما. وقوله: (عنها) أي: الجنة، بأن قال لهما: هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى [طه:120] وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]. وقوله: (فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ) أي: من النعيم. وقوله: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا) يعني: إلى الأرض. وإذا قلنا: إن الخطاب هنا موجه إلى آدم وحواء فيقصد به آدم وحواء وما اشتملا عليه من ذريتهما. وقوله: (بَعْضُكُمْ) أي: بعض الذرية (لبعض عدو) يعني: من ظلم بعضكم بعضاً. وقوله: (وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي: موضع قرار. وقوله: (وَمَتَاعٌ) يعني: ما تتمتعون به من نباتها. وقوله: (إِلَى حِينٍ) أي: إلى وقت انقضاء آجالكم.
وقوله تبارك وتعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37] يعني: ألهمه الله سبحانه وتعالى كلمات، وفي قراءة أخرى (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) يعني: جاءته كلمات، أما على هذه القراءة (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ) يعني: ألهمه الله سبحانه وتعالى إياها.
وقد بين تعالى سورة الأعراف في قوله: قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ[الأعراف:23] أنه لما تلقى الكلمات دعا بها.
وقوله: (فتاب عليه) أي: قَبِلَ الله سبحانه وتعالى توبته.
وهل معنى ذلك أن حواء لم تقبل توبتها؟
الجواب: كلا! وإنما لم تذكر حواء في التوبة لأنه لم يجر لها ذكر في سياق هذه الآيات، لا أن توبتها لم تقبل، بل توبتها قبلت.
وقوله: (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) يعني: على عباده (الرَّحِيمُ) بهم.
قال تعالى: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38]. قوله: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا) يعني: من الجنة، (جميعاً) كرره ليعطف عليه: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) وهذا فيه إدغام، يعني: أصلها (فإن ما) فأدغمت نون (إن) الشرطية في (ما) الزائدة، فصارت: (فإما). وقوله: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى) يعني: كتاب ورسول. وقوله: (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) أي: فآمن بي وعمل بطاعتي. وقوله: (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) يعني: في الآخرة بأن يدخلوا الجنة.
الخلاف في ماهية ومكان الجنة التي أهبط منها آدم عليه السلام
هناك خلاف كبير جداً بين العلماء في هذه الجنةالتي كان فيها آدم عليه السلام؟ فبعضهم قال: إنها كانت جنة في الأرض على رأس جبل بالمشرق تحت خط الاستواء، وقالوا: الهبوط يعني: الانتقال من بقعة إلى بقعة، كما في قوله تعالى: اهْبِطُوا مِصْرًا [البقرة:61] واستدلوا بأدلة كثيرة. وفريق آخر من العلماء قال: إن هذه الجنة هي جنة الخلد، وجنة المأوى، وليست جنة في الأرض. يقول ابن مفلح رحمه الله: أكثر الناس على أن المراد بالجنة التي أسكنها الله آدم جنة الخلد دار الثواب، ثم قال: قال شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية رحمه الله: وهذا قول أهل السنة والجماعة، ومن قال: إنها جنة في الأرض بالهند أو جدة أو غير ذلك فهو من الملحدة المبتدعين، والكتاب والسنة يرد هذا القول. وقد استوفى الكلام فيهما الإمام العلامة ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى في كتابين هما: مفتاح دار السعادة، وكذلك كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح. وابن القيم بعدما سرد بالتفصيل أدلة كل فريق من الفريقين لم يرجح، وإنما ختم كلامه ببيت شعر هو: إذا تلاقت الفحول في لجب فكيف حال الغصيص في الوسط يعني: أنه يعتذر عن الترجيح في هذه المسألة.
ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:39] (بآياتنا) يعني: كتبنا.
وقوله: (أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: ماكثون أبداً لا يفنون ولا يخرجون.
لما قدم الله تعالى دعوة الناس عموماً وذكر مبدأهم في الآيات السابقة، تكلم عن بدأ الخلق، وذكر قصة آدم وحواء عليهما السلام، ودعا وخص من كل بني آدم بني إسرائيل بالذات، فخص سبحانه وتعالى بالخطاب بني إسرائيل -وهم اليهود- لأنهم كانوا أولى الناس بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم؛ ولأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وقد جرى الكلام معهم هنا من الآية رقم (40) إلى الآية رقم (142)، فكل الخطاب في الآيات المقبلة إلى الآية رقم (142) هو في بني إسرائيل، يعني: أن مائة آية كلها في خطاب بني إسرائيل؛ لأنهم كانوا أولى الناس بأن ينقادوا ويؤمنوا بهذا النبي الأمي العربي صلى الله عليه وآله وسلم. ونلاحظ في هذه الآيات المائة أنه تارة دعاهم بالملاطفة، وتارة بذكر إنعام الله سبحانه وتعالى عليهم وعلى آبائهم، وتارة بالتخويف، وتارة بإقامة الحجة وتوبيخهم على سوء أعمالهم، وتارة بذكر عقوباتهم التي عاقبهم الله سبحانه وتعالى بها، فقال تبارك وتعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]. قوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) هم أولاد يعقوب عليه السلام؛ لأن إسرائيل هو يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. وقد هيجهم الله تعالى بذكر أبيهم إسرائيل، كما قال لنا في أول سورة الإسراء: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3] يخاطبنا بذلك؛ لأن الأب الثاني للبشرية هو نوح عليه السلام، وذكرنا بنوح؛ لأن نوح عليه السلام كان عبداً شكوراً؛ كان يأكل اللقمة فيحمد الله عليها، ويشرب الشربة فيحمد الله عليها، فهذا تعريض بنا نحن. فقوله: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ [الإسراء:3] أي: كونوا كأبيكم نوح؛ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا [الإسراء:3] أي: فكونوا أنتم كذلك شاكرين لله سبحانه وتعالى كأبيكم نوح، فهذا هو المقصود بقوله: (ذرية) يعني: يا ذرية (مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا) أي: فكونوا مثله. وهنا خاطب بني إسرائيل باسم أبيهم يعقوب عليه السلام تهييجاً لعواطفهم، وتذكيراً بأن هذا العبد الصالح كان مطيعاً لله، يعني: فكونوا مثله، وكأنه قيل: يا بني العبد الصالح المطيع لله! كونوا مثل أبيكم، كما تقول: يا ابن الكريم! افعل كذا، يا ابن العالم! اطلب العلم، فكذلك هنا المراد: يا بني إسرائيل العبد الصالح المطيع لله! أطيعوا الله كما أطاعه أبوكم إسرائيل عليه السلام. وقوله: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) قال ابن جرير : نعمه التي أنعم بها على بني إسرائيل كثيرة جداً منها: اصطفاؤه منهم الرسل؛ لأن الأنبياء من بعد إبراهيم عليه السلام كانوا جميعاً من ذرية يعقوب عليه السلام، ولم تخرج عنهم إلا إلى محمد عليه الصلاة والسلام الذي هو من ذرية إسماعيل عليه السلام. ومن هذه النعم إنزاله عليهم الكتب، واستنقاذه إياهم مما كانوا فيه من البلاء والضراء من فرعون وقومه إلى التمكين لهم في الأرض، وتفجير عيون الماء من الحجر، وإطعام المن والسلوى، فأمر جل ثناؤه أعقابهم أن يكون ما سلف منه إلى آبائهم على ذكر، وألا ينسوا صنيعه إلى أسلافهم وآبائهم، فيحل بهم من النقم ما أحل بمن نسي نعمه عنده منهم وكفرها وجحد صنائعه سبحانه وتعالى عنده. فالنعم نص الله عليها في كثير من الآيات مثل قوله تبارك وتعالى: وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى [البقرة:57]، ومثل قوله تعالى: وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ [البقرة:49]، ومثل قوله تعالى: ونريد أن نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ [القصص:5]. وقوله: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ العهد هو: الميثاق، وقد أشير إليه في قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [المائدة:12] فهذا هو عهده، وهذا هو عهدهم. أما عهدهم هم فهو في قوله تعالى: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ [المائدة:12] يعني: أن هذا هو حق الله على العباد، كما جاء في حديث معاذ . إذاً: العهد الذي أخذه الله عليهم بينه الله في قوله تعالى: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا [المائدة:12]. ومن هذا العهد أيضاً ما جاء في قوله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ [آل عمران:187] فهذا أيضاً داخل في عهدهم. أما عهد الله فهو: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [المائدة:12] فهذا عهده، وهذا عهدهم، فعهد الله هو وصيته لهم بما ذكر في الآية، ومنها الإيمان برسله المتناول لخاتمهم عليه السلام؛ لأن الآية: لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي [المائدة:12] ومنهم خاتمهم وسيدهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأنهم يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة، وعهده تعالى إياهم هو أنهم إذا فعلوا ذلك أدخلهم الجنة. وقوله: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) أي: اخشوني واتقوني أيها المضيعون عهدي من بني إسرائيل! والمكذبون رسولي الذي أخذت ميثاقكم فيما أنزلت على أنبيائي أن تؤمنوا به، وتتبعوه، فإن لم تتوبوا إلي باتباعه والإقرار بما أنزلت إليه أحل بكم عقوبتي.
قوله: وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] يعني: من القرآن، مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ[البقرة:41] من التوراة، بموافقته له بالتوحيد، وإثبات النبوة: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ[البقرة:41]، يعني: من أهل الكتاب، فهذه أولية نسبية، وإلا فإن أول من كفر بالكتاب هم كفار قريش، وهذا واضح، لكن المقصود هنا: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ[البقرة:41]، ممن حقهم أن يكونوا أول المؤمنين به؛ لأنهم عندهم خبرة في التوراة من قبل: وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ[البقرة:41] كما ذكرنا من أهل الكتاب، فهذه أولية نسبية، بالنسبة لأهل الكتاب كلهم، أي: لا تكونوا أنتم أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأن مَنْ خلفكم تبعٌ لكم، فإثمهم عليكم، كل من يأتي بعدكم ويقتدي بكم في هذه السُّنة القبيحة، وهي التكذيب بالنبي عليه الصلاة والسلام، فيبوء بإثمه وإثمكم: وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي[البقرة:41] يعني: لا تستبدلوا، استعارة كما يقولون، (بآياتي) يعني: التي في كتابكم، من نعت محمد صلى الله عليه وسلم (ثمناً قليلاً) أي: عوضاً يسيراً من الدنيا، أي: لا تكتموها خوف فوات ما تأخذونه من سفلتكم، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ[البقرة:41] أي: خافونِ في ذلك دون غيري.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد إسماعيل المقدم - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة التوبة [107-110] | 2819 استماع |
تفسير سورة المدثر [31-56] | 2621 استماع |
تفسير سورة البقرة [243-252] | 2584 استماع |
تفسير سورة البلد | 2567 استماع |
تفسير سورة الطور [34-49] | 2564 استماع |
تفسير سورة التوبة [7-28] | 2562 استماع |
تفسير سورة الفتح [3-6] | 2504 استماع |
تفسير سورة المائدة [109-118] | 2439 استماع |
تفسير سورة الجمعة [6-11] | 2412 استماع |
تفسير سورة آل عمران [42-51] | 2404 استماع |