قراءة في الدساتير القومية


الحلقة مفرغة

نذكر هنا نماذج تدل على أن هؤلاء الذين في البرلمانات ونحوها يرون أن لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق التشريع والتحليل والتحريم وإصدار القوانين، بغض النظر عن كونها موافقة لما أنزل الله أو مخالفة له، فلا فرق بين أن يوافق البرلمان على حكم الله أو أن يرفضه؛ لأننا لا ننظر إلى النتيجة، ولكن إلى كيفية عرض حكم الله على الناس وأخذ رأي المخلوقين في حكم الخالق سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فالمبدأ موجود من الأصل، فعندما يعرض تحريم الخمر على البرلمان لاتخاذ قانون بذلك، فمعنى هذا: أنهم يجعلون حكم الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى القطعي الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتحريم الخمر حيث يقول تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90].. إلى آخر الآيات، فهو حكم قطعي صريح، وسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القولية والعملية صريحة وقطعية بذلك، يجعلونه موضع نظر عند من يملك حق التشريع الذي خوله القانون أو الدستور بأن يشرع وأعطاه حق التشريع والتحليل والتحريم، فالبرلمان إن رأى أن يوافق شرع الله، واتخذ بذلك قراراً بالإجماع أو بالأغلبية، أصبح شرع الله هو الناتج، وإن رأى البرلمان غير ذلك لم ينفذ ما أنزل الله!

فمجرد أن يعرض هذا على الناس وعلى البشر، فإن هذا في حد ذاته هو الكفر بعينه -نسأل الله العفو والعافية- وفيه إعطاء حق الله الخالص -بأن يكون وحده هو الحكم- لهؤلاء البشر حتى وإن وافقوه فيما بعد؛ فإنهم لم يوافقوه لأنه حكم الله، بل يوافقونه لأن من يملك السلطة التشريعية أقر هذا القرار وأصدره، ولذلك فالمعروف عند قضاة المحاكم الوضعية عموماً أنهم يعملون به بناءً على التشريع الرسمي المكتوب، وليس على التشريع الإلهي الذي نزل به جبريل عليه السلام على نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وهذا يدل على خطر وضرر هذه القوانين بغض النظر عن كون النتيجة ربما تكون أحياناً لصالح الإسلام أو لصالح الحكم الشرعي، فالقضية هي إعطاء حق التشريع لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وسلب هذه الصفة وأخذها ونزعها من مستحقها الذي له الحق الخالص فيها، وإعطاؤها للمخلوقين المربوبين، وقد قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]، وأمروا جميعاً بلا استثناء بأن يردوا كل شيء تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

ونعرض لكم بعض هذه النماذج:

الإخوة الذين يدرسون في كلية الإدارة، وبعض الكليات الأخرى -بل وفتح قسم خاص يسمونه قسم القانون- وكذلك من يدرسون في قسم العلوم السياسية وقسم الاقتصاد، هذه الأقسام تدرس القانون دراسة متخصصة أو تدرس مبادئ القانون كما يسمونها.

والذين درسوا خارج المملكة في كليات الحقوق، أو اطلعوا على الكتب القانونية، فهذه الأمور بدهية عندهم؛ لكن لأن بعض الإخوة لم يطلع على هذه الدراسة، ولم يدرسها فإننا نذكر نبذة مختصرة عن مسألة السلطة أو السيادة كما تصورها القوانين الوضعية.

السلطة في منظور القوانين الوضعية

كان الناس في أوروبا في فترة القرون الوسطى -وهي بالنسبة لهم عصور مظلمة- يسيطر عليهم فيها رجال الدين والملوك الظالمون الجائرون والإقطاعيون وكل أنواع الطواغيت، والتي يقابلها في التاريخ الإسلامي عصور سيادة الإسلام وغلبته على الأرض، ففي تلك العصور إلى أن ظهرت الثورة الفرنسية كان الناس يعتقدون في الغالب أن للملوك أو الأباطرة حقاً إلهياً مقدساً، فهم يحكمون نيابة عن الله، والبابوات يصححون لهم هذا، فكل ما يتخذونه من أحكام وما يصدرونه من قرارات هو في قوة الوحي المنـزل الذي لا يقبل النقاش، فالسيادة وحق التشريع كان لهؤلاء الملوك أو الأباطرة أو الإقطاعين، ومعهم رجال الدين، الأحبار والرهبان الذين قال الله تعالى فيهم: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] وقد وضح هذه الآياة ووضحها حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وفيه أنهم كانوا يطيعونهم ويتبعونهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، فالحق لهم كان حقاً إلهياً مقدساً، فيشرعون ما شاءوا، وهذا التشريع مستمد من الله، ويسمونها نظرية الحق الإلهي، وهذه النظرية هي النظرية التي كانت سائدة في أوروبا.

منشأ القوانين الوضعية

ظهرت نظرية أخرى وهي نظرية العقد الاجتماعي، ونظرية العقد الاجتماعي كما فسرها جان جاك روسو تقول: ليس لأحد حق إلهي على أن يحكم أحداً أو يسيطر عليه، ولكن الأفراد متعاقدون مع الحكومة أو مع السلطة أياً كانت السلطة، فالسلطة متعاقدة مع الأفراد، والأفراد متعاقدون معها، فهو عقد بين الطرفين، وهو الذي يسمونه العقد الاجتماعي، والسلطة بموجب هذا العقد تتنازل عن أشياء وتلتزم بأشياء، والرعية بموجب هذا العقد الاجتماعي تتنازل عن بعض حقوقها للسلطة لتتصرف فيه وتأمر وتنهى، وفي نفس الوقت تطالب بحقوقها بمقتضى العقد، فهي قضية حقوق وواجبات أو التزامات على السلطة من جهة وعلى الشعب من جهة أخرى.

والغربيون اعتبروا هذا فتحاً عظيماً، وإن كان ظهر من الغربيين أنفسهم من يفسر العقد الاجتماعي لمصلحة الاستبداد، وذلك بحجة أن العوام لا حكم لهم، ولا يعرفون الخير من الشر، فيجعل الحاكم مخولاً بأن يفعل كل شيء، ففسروه من خلال العقد، ولكن جعلوه لمصلحة الأمر الواقع، وهكذا كان الخلاف الشديد بين المفكرين والفلاسفة في أوروبا.

ولما قامت الثورة الفرنسية قبل أكثر من مئـتي سنة من الآن، كانت مستندة على نظرية العقد الاجتماعي، وليس على نظرية الحق الإلهي، وأعطي ولأول مرة في تاريخ الإنسانية حق السيادة والتشريع والتحريم للشعب، والشعب يختار سلطته ويعقد معها هذا العقد، ثم هي تشرع ما تشاء وتحل ما تشاء وتحرم ما تشاء.

والصورة الوحيدة التي وجدت قبل هذا الحكم -الذي هو: إعطاء هذا الحق للبشر بشكل صريح منقطع عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعن الأديان هي- ما حدث في نظريات أرسطو وأفلاطون وأمثالهما، حيث تخيلوا المدينة الفاضلة.

فـأفلاطون في كتابه الجمهورية جعلها نظرية مقررة، ولذلك يقول بأن الفلاسفة هم الذين يحكمون، ولهم حق التحليل والتشريع والتحريم؛ لأن العوام لا يفقهون شيئاً فلا حكم لهم، وكل هذه النظريات مبنية على أساس الكفر بالوحي، وأن الله تبارك وتعالى خلق الناس وتركهم هملاً، ولم ينزل عليهم كتاباً، ولم يرسل إليهم رسلاً، فذلك لا يردون ما تنازعوا وما اختلفوا فيه إلى ما جاء به هؤلاء الرسل من الوحي، فهؤلاء الفلاسفة يكفرون بالوحي نهائياً، فإذا كفروا بالوحي لم يبق إلا البشر، فإما أن يقولوا: إن الحكم للجميع، وهذا ما كان يحدث في بعض المدن اليونانية، وهذا ما يسمونه السيادة الشعبية المباشرة، أو الحكم الشعبي المباشر، فالقرية أو المدينة التي سكانها ألفاً -مثلاً- من البالغون والعقلاء والذكور، فهؤلاء الألف يجتمعون في كل مرة، ويصدرون قانوناً، ويحكمون أنفسهم بأنفسهم.

وهذا الحكم المباشر اعترض عليه الفلاسفة، فقالوا: الناس همج رعاع إلا الفلاسفة، فاقترحوا حكومة الفلاسفة النخبة، فهم الذين يحكمون ويقررون، وبقية الناس يخضعون، وهذه الصورة بقيت مطموسة على مر القرون حتى جاءت الثورة الفرنسية، فقالت: الحق والسيادة للشعب، وظهر في مقابلها أنصار الملكية التي كانت قائمة والتي ثارت عليها الثورة الفرنسية، وكانوا يرون أن السيادة يجب أن تظل محفوظة للامبراطور أو للملك.

وفي بريطانيا ظلت الفكرة واضحة، وهي: أن هذه السيادة وهذا الحق يعطى للملك، وهو الذي يعين مجلس اللوردات أو مجلس الأعيان، وهؤلاء مع المجلس الآخر الذي ينتخبه الشعب هم الذين يشرعون ويحللون ويحرمون، فكان الصراع هناك صراع بين هاتين النظريتين.

القوانين الوضعية في العالم الإسلامي

لما استورد العالم الإسلامي القوانين الوضعية -كما ذكر الشيخ أحمد شاكر- جاءت هذه القوانين وأخذوا يطبقونها، فبدأت تركيا ثم مصر ثم تلتها دول أخرى.

وكان مما أخذوه: إعطاء حق السيادة والتشريع وإصدار القوانين وتنفيذها لغير الله، كأن يكون لرئيس الدولة دائماً أو في حالات معينة، وقد يكون بعد ذلك لمجلس الشعب أو البرلمان، وقد يكون لمجلس قيادة الثورة أحياناً.

ويقصدون بالشعب: أن الشعب عليه أن يختار ممثليه وهم الذين يحكمون الناس باسم الشعب، لأن الشعب هو الذي اختارهم ورضي بهم، ولذلك كان كل من يحكم بغير ماأنزل الله مع اختلافهم يدَّعون الديمقراطية حتى أشد النظم ديكاتوريةً واستبداداً تدعي الديمقراطية، لأنهم يرون أنه حكم الشعب لنفسه، أو حكم الشعب بواسطة الشعب، إما مباشرة، وهذا غير موجود الآن في الوقت الحاضر، وإما عن طريق ممثلي الشعب الذين هم المجالس التشريعية.

تقسيم السلطات التشريعية

وبالنسبة لتقسيم السلطات التي تملك السيادة فيقسمونها إلى ثلاث سلطات، وهذا التقسيم ظهر لأول مرة في فرنسا ودعا إليه بعض الفلاسفة بقوة، ومنهم الفيلسوف مونتيسكيو وغيره الذين دعو إلى الفصل بين السلطات، وإلا فإن إحداها يمكن أن تستبد بالأمر دون الأخرى.

فقالوا: السلطة الأولى: هي السلطة التشريعية ووظيفتها التشريع وسن القوانين المختلفة.

والسلطة الثانية: هي السلطة القضائية، وهي بالنسبة للتشريعية عبارة عن سلطة تنفذ ما تقرره السلطة التشريعية، فالتشريع يسن ويقرُّ أولاً ثم ينتقل إلى المحاكم فينفذ على آحاد القضايا، والقاضي إذا خالف ما سنته السلطة التشريعية فإن حكمه يكون باطلاً غير شرعي.

وقد حكم أحد القضاة في قضية شرب الخمر بما أنزل الله، فأبطلوا حكمة وفصلوه من القضاء؛ لأنه مخالف للدستور الرسمي المكتوب!!

وأما السلطة التنفيذية فمهمتها أن تنفذ ما يحكم به القضاء واللوائح وتلتزم بالدستور وتتعهد بالمحافظة عليه وتقسم اليمين الدستورية لتنفيذ الدستور الذي هو القانون الأساسي الذي تقره السلطة التشريعية.

ويحدث أن تأتي حكومة تنفيذية -مجلس الوزراء- فتقدم استقالتها، فمثلاً: في الجزائر قبل أيام استقالت الحكومة، ويحدث كثيراً في بعض الدول أن السلطة التنفيذية تمسك بالأمور جميعاً، فيصبح التشريع حقاً لها، ويصبح القضاء تابعاً لها، وهذا هو الواقع في العالم الإسلامي، وهذا هو الاستبداد، حتى إن السلطة التنفيذية هي التي تملك كل شيء، ولا يوجد فصل بين السلطات إلا نظرياً، ولكن حتى لو فصلوا فإن، حق التشريع والتحليل والتحريم يعطى لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وذلك لا يجوز أبداً.

ففي الواقع تحدث مخالفات، لكن في الجانب النظري نجد أن القوانين والدساتير في البلاد العربية أو الإسلامية عموماً -بحكم الانتماء الجغرافي أو التاريخي- تنص على إعطاء الحق لغير الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.

وسوف نستعرض بعضها حتى نعلم خطورة هذا الشرك العصري، ولنعلم أن من قام مجهادها بما استطاع فقد قام بواجب على الأمة، وهو مأجور على ذلك، ويجب أن ينصر ولو بالحجة العلمية؛ فهذا شرك خبيث جديد لم يقع في تاريخ الأمة إلا في أيام التتار كما ذكر أحمد شاكر، وقد رفضته ولفظته الأمة آنذاك، ولكنه الآن أصبح هو السائد والرائج والمنتشر، وإذا اعترض عليه أحد اتهم بأنه أصولي متطرف ويرغب في السلطة ويريد الحكم، واقرءوا الصحف التي تتعرض لما يحدث في تونس أو الجزائر أو غيرها، فبمجرد أن يكون كان هناك دعاة أو شيوخ يطالبون بإلغاء هذه الدساتير فإنهم يتهمونهم ويقولون: هؤلاء أصوليون ومتطرفون، وغرضهم السلطة، ولا يريدون إلا الحكم، ويجرون البلاد إلى الهاوية وإلى الدمار وإلى الفساد، كما اتهم الرسل من قبل.

نحن الآن أمام من يقول: نريد حكم الله، ومن يريد حكم الجاهلية، فكيف تنحاز الصحافة ضدهم، وتجمع على أن هؤلاء الذين يسمون بالإسلاميين يستحقون أن يكبتوا ويسجنوا ويُنَكَّل بهم؛ لأنهم يريدون تغيير السلطة، ويرغبون في الوصول إلى الحكم؟!

بينما لا يتجاوز الأمر في كثير من الأحيان مجرد الإنكار على هؤلاء الذين يحكمون بغير ما أنزل الله؟!

وهذا الأمر واجب، كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: (ما من نبي بعثه الله قبلي إلا كان له حواريون وأصحاب يقتدون بهديه، ويهتدون بسنته، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقتدون بغير هديه، ويهتدون بغير سنته، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، فلا بد من مجاهدتهم ولو بالحجة العلمية، وأن يقال للناس هذا كفر بواح، كما فعل الشيخ أحمد شاكر في كتابه عمدة التفسير.

كان الناس في أوروبا في فترة القرون الوسطى -وهي بالنسبة لهم عصور مظلمة- يسيطر عليهم فيها رجال الدين والملوك الظالمون الجائرون والإقطاعيون وكل أنواع الطواغيت، والتي يقابلها في التاريخ الإسلامي عصور سيادة الإسلام وغلبته على الأرض، ففي تلك العصور إلى أن ظهرت الثورة الفرنسية كان الناس يعتقدون في الغالب أن للملوك أو الأباطرة حقاً إلهياً مقدساً، فهم يحكمون نيابة عن الله، والبابوات يصححون لهم هذا، فكل ما يتخذونه من أحكام وما يصدرونه من قرارات هو في قوة الوحي المنـزل الذي لا يقبل النقاش، فالسيادة وحق التشريع كان لهؤلاء الملوك أو الأباطرة أو الإقطاعين، ومعهم رجال الدين، الأحبار والرهبان الذين قال الله تعالى فيهم: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] وقد وضح هذه الآياة ووضحها حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه، وفيه أنهم كانوا يطيعونهم ويتبعونهم في تحريم الحلال وتحليل الحرام، فالحق لهم كان حقاً إلهياً مقدساً، فيشرعون ما شاءوا، وهذا التشريع مستمد من الله، ويسمونها نظرية الحق الإلهي، وهذه النظرية هي النظرية التي كانت سائدة في أوروبا.

ظهرت نظرية أخرى وهي نظرية العقد الاجتماعي، ونظرية العقد الاجتماعي كما فسرها جان جاك روسو تقول: ليس لأحد حق إلهي على أن يحكم أحداً أو يسيطر عليه، ولكن الأفراد متعاقدون مع الحكومة أو مع السلطة أياً كانت السلطة، فالسلطة متعاقدة مع الأفراد، والأفراد متعاقدون معها، فهو عقد بين الطرفين، وهو الذي يسمونه العقد الاجتماعي، والسلطة بموجب هذا العقد تتنازل عن أشياء وتلتزم بأشياء، والرعية بموجب هذا العقد الاجتماعي تتنازل عن بعض حقوقها للسلطة لتتصرف فيه وتأمر وتنهى، وفي نفس الوقت تطالب بحقوقها بمقتضى العقد، فهي قضية حقوق وواجبات أو التزامات على السلطة من جهة وعلى الشعب من جهة أخرى.

والغربيون اعتبروا هذا فتحاً عظيماً، وإن كان ظهر من الغربيين أنفسهم من يفسر العقد الاجتماعي لمصلحة الاستبداد، وذلك بحجة أن العوام لا حكم لهم، ولا يعرفون الخير من الشر، فيجعل الحاكم مخولاً بأن يفعل كل شيء، ففسروه من خلال العقد، ولكن جعلوه لمصلحة الأمر الواقع، وهكذا كان الخلاف الشديد بين المفكرين والفلاسفة في أوروبا.

ولما قامت الثورة الفرنسية قبل أكثر من مئـتي سنة من الآن، كانت مستندة على نظرية العقد الاجتماعي، وليس على نظرية الحق الإلهي، وأعطي ولأول مرة في تاريخ الإنسانية حق السيادة والتشريع والتحريم للشعب، والشعب يختار سلطته ويعقد معها هذا العقد، ثم هي تشرع ما تشاء وتحل ما تشاء وتحرم ما تشاء.

والصورة الوحيدة التي وجدت قبل هذا الحكم -الذي هو: إعطاء هذا الحق للبشر بشكل صريح منقطع عن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وعن الأديان هي- ما حدث في نظريات أرسطو وأفلاطون وأمثالهما، حيث تخيلوا المدينة الفاضلة.

فـأفلاطون في كتابه الجمهورية جعلها نظرية مقررة، ولذلك يقول بأن الفلاسفة هم الذين يحكمون، ولهم حق التحليل والتشريع والتحريم؛ لأن العوام لا يفقهون شيئاً فلا حكم لهم، وكل هذه النظريات مبنية على أساس الكفر بالوحي، وأن الله تبارك وتعالى خلق الناس وتركهم هملاً، ولم ينزل عليهم كتاباً، ولم يرسل إليهم رسلاً، فذلك لا يردون ما تنازعوا وما اختلفوا فيه إلى ما جاء به هؤلاء الرسل من الوحي، فهؤلاء الفلاسفة يكفرون بالوحي نهائياً، فإذا كفروا بالوحي لم يبق إلا البشر، فإما أن يقولوا: إن الحكم للجميع، وهذا ما كان يحدث في بعض المدن اليونانية، وهذا ما يسمونه السيادة الشعبية المباشرة، أو الحكم الشعبي المباشر، فالقرية أو المدينة التي سكانها ألفاً -مثلاً- من البالغون والعقلاء والذكور، فهؤلاء الألف يجتمعون في كل مرة، ويصدرون قانوناً، ويحكمون أنفسهم بأنفسهم.

وهذا الحكم المباشر اعترض عليه الفلاسفة، فقالوا: الناس همج رعاع إلا الفلاسفة، فاقترحوا حكومة الفلاسفة النخبة، فهم الذين يحكمون ويقررون، وبقية الناس يخضعون، وهذه الصورة بقيت مطموسة على مر القرون حتى جاءت الثورة الفرنسية، فقالت: الحق والسيادة للشعب، وظهر في مقابلها أنصار الملكية التي كانت قائمة والتي ثارت عليها الثورة الفرنسية، وكانوا يرون أن السيادة يجب أن تظل محفوظة للامبراطور أو للملك.

وفي بريطانيا ظلت الفكرة واضحة، وهي: أن هذه السيادة وهذا الحق يعطى للملك، وهو الذي يعين مجلس اللوردات أو مجلس الأعيان، وهؤلاء مع المجلس الآخر الذي ينتخبه الشعب هم الذين يشرعون ويحللون ويحرمون، فكان الصراع هناك صراع بين هاتين النظريتين.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة اسٌتمع
المناهج 2599 استماع
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية 2575 استماع
العبر من الحروب الصليبية 2508 استماع
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم 2462 استماع
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول 2349 استماع
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] 2274 استماع
من أعمال القلوب: (الإخلاص) 2265 استماع
الممتاز في شرح بيان ابن باز 2250 استماع
خصائص أهل السنة والجماعة 2197 استماع
الشباب مسئولية من؟ 2166 استماع