أبواب السنة [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فضل العلم وتبليغه

فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع )، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على تبليغ الرسالة وتبليغ الدين نصوص كثيرة متواترة مستفيضة، ومن أشهر ذلك ما جاء في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بلغوا عني ولو آية )، وهذا دليل على أن زكاة العلم البلاغ، وأنه لا حد ولا نصاب للعلم فيزكى، وإنما إذا ملك الإنسان شيئاً من العلم ولو يسيراً من آية أو حديث فإن زكاته أن يبلغه لمن يحتاج إليه، وهذا من الأمور المتأكدة، وعند الجهل فهي من الأمور الواجبة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا ينزل على الأمة الفتن والشرور إلا برفع العلم وقبض العلماء، وأما إذا كان العلم موجوداً متوافراً فإن الله سبحانه وتعالى يجعل الأمة أمة مرحومة بهذا العلم، وأمة آمنة من الفتن والشرور، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد بين في جملة من المواضع في كتابه، وكذلك أيضاً جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث، وكذلك عن جماعة من الصحابة، بيان أن أمان الأمة واجتماعها وألفتها هو بوجود العلم وتدارسه بينهم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في مسلم من حديث أبي موسى قال عليه الصلاة والسلام: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )، والمراد بالأمان هو الاستقرار والاجتماع على ما أمر الله جل وعلا، فإذا اختل ذلك النظام فهو أمارة على اختلال رسالة البلاغ الرسالة المحمدية التي أمر الله عز وجل ببلاغها، ونحن بإذن الله تعالى في هذه المجالس نمتثل شيئاً مما أمرنا الله جل وعلا، ورسوله صلى الله عليه وسلم ببلاغه وبيانه، أن نبلغ شيئاً من الأدلة، وأن ننظر فيها، وأن نقرأها، وكل ذلك من أمور التعبد، ولهذا يقول غير واحد من العلماء: إن السنة وحي يتلى، يعني كتلاوة القرآن، كما نص على ذلك الإمام الشافعي رحمه الله، ونص على ذلك ابن حزم الأندلسي، وغيرهم من أئمة الإسلام أن السنة وحي يتلى، وتلاوتها في ذلك أن الإنسان ينظر فيها ويقيم ما استطاع من حروفها وحدودها، حتى يتحصل له من ذلك الأجر، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ أيضاً ولو لم يع الإنسان المعنى، فربما كان المبلغ أولى من المبلغ فهماً وإدراكاً وتمييزاً.

طرف من ترجمة ابن ماجه

ونحن في عدة مجالس بإذن الله عز وجل نتكلم على شيء من الأحاديث من سنن ابن ماجه، ونمر على جميعها بإذن الله تعالى، كتاب السنن لـابن ماجه هو من المصنفات المشهورة من دواوين الإسلام في الزمن الأول، وقد اعتنى به الأئمة عليهم رحمة الله تعالى عناية متنوعة، ومصنفه هو من أئمة النقد والجلالة، وهو محمد بن يزيد بن ماجه عليه رحمة الله وهو من أئمة السنة دراية ورواية، وعقيدته على منهج أهل السنة والجماعة، ولا يكاد يجد الإنسان له من ذلك خروجاً عما كان عليه الأسلاف من الصحابة والتابعين كسائر أهل القرون الماضية من القرن الثاني والثالث، وكذلك من بعدهم، إلا النزر اليسير الذين قد خرجوا عن مراد الله جل وعلا لشيء من الشبهات.

ومع كون هذا الإمام نشأ في شيء من البلدان التي تعد بعيدة عن منازل الوحي، فهو قزويني من بلدة قزوين وهي الموجودة في بلدان فارس وهي إيران اليوم، وقد نشأ في ذلك ثم سافر وارتحل إلى جملة من البلدان لطلب العلم وسماع السنة، وقد ارتحل إلى بغداد والبصرة والكوفة، وارتحل كذلك إلى مكة والمدينة، وأخذ عن كثيرٍ من أشرافها وأطراف علمائها الذين ظهر تنوع فقه هذا الإمام في تراجمه وكذلك أيضاً في سرده لهذه الأحاديث.

كتاب السنن ومكانته عند أهل العلم

هذا الكتاب وهو كتاب السنن لـابن ماجه عليه رحمة الله هو أحد مصنفات هذا الإمام، وله جملة من المصنفات، منها ما يتعلق بالتاريخ كتاريخ قزوين، وله كتاب كذلك في التفسير، وهو ليس بالصغير، وهو كتاب حافل جمع فيه المصنف رحمه الله جملة من الآثار وكذلك المرفوعات في أبواب التفسير، إلا أنه من الكتب المندثرة قديماً.

ويروي بعض الأئمة عليهم رحمة الله تعالى من طريق ابن ماجه شيئاً من ذلك من الأئمة المسندين الذين جاءوا بعده، وابن ماجه رحمه الله من جهة علو إسناده هو من الأسانيد العالية، وفيه جملة من الأسانيد الثلاثية، وفيه خمسة أسانيد ثلاثية، وهي من طريق جبارة بن المغلس يرويه عن كثير بن سليم عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع الأسانيد الثلاثية هي من هذا الطريق، وهي أسانيد معلولة، وذلك لضعف رواة هذا الخبر، وذلك لضعف شيخ ابن ماجه عليه رحمة الله، وله أسانيد كذلك أيضاً رباعية، والأحاديث التي يرويها يوافق فيها الأئمة غالباً، ولا ينفرد بشيء من أصول الأحكام وأعلام المسائل إلا شيئاً ليس بالكثير، وما ينفرد به من أمور المعاني والأحكام نجد أن أصوله عند الأئمة عليهم رحمة الله، وما ينفرد به هو عند الأئمة عليهم رحمة الله على نوعين: ينفرد بالأحاديث، وينفرد كذلك ببعض الرواة.

وبعض الأئمة عليهم رحمة الله لا يجعلون ابن ماجه رحمه الله من الأئمة المقدمين في أبواب النقد، وذلك لكثرة الرواة المتروكين، وكذلك الأحاديث الضعيفة المطروحة في كتابه السنن مقارنة ببقية الكتب الستة، وهذا موجود وظاهر، إلا أن تفردات ابن ماجه رحمه الله لا يقال بضعفها على الإطلاق. وقد نص غير واحد من الأئمة عليهم رحمة الله على أن ما يتفرد به ابن ماجه معلول أو ضعيف، وقد نص على هذا وتكلم على هذا غير واحد من الأئمة كـابن تيمية رحمه الله، وكذلك أبو الحجاج المزي عليه رحمة الله، وتبعهم على ذلك جماعة من العلماء.

والنوع الثاني من التفردات هو أنه يتفرد ببعض الرواة، وهؤلاء يكونون في دائرة الضعف، وكلا الأمرين فيه نظر، وذلك أن الإمام ابن ماجه رحمه الله له أحاديث يتفرد بها وهي صحيحة، ويأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في موضعها، وكذلك فإنه يتفرد ببعض الرواة في كتابه السنن وهم من الثقات، وقد تفرد بذلك في غير ما موضع عن بعض الرواة ولم يخرجهم أحد من أصحاب الكتب الستة وهم من الرواة الثقات، وذلك كـأحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، وكذلك أحمد بن منصور، وكذلك أحمد بن ثابت، وغيرهم من الرواة الذين يروي عنهم ابن ماجه رحمه الله في كتابه السنن وهم من الرواة الثقات، ولم يوافقه على الإخراج لهم غيره من أصحاب الكتب الستة.

وله كذلك جملة من الأحاديث تفرد بها عن الكتب الستة، وهي ليست بالقليلة منها الضعيف ومنها الصحيح، وهي على نحو من ثلاثمائة وألف من الأحاديث، نحو النصف منها ويزيد من الأحاديث الضعيفة، وما عدى ذلك فهي داخلة في دائرة الاحتجاج، إما تقبل على سبيل الانفراد، أو بالاعتضاد إذا وجد لها معتضد، وما عدى ذلك فهي دائرة بين الضعف الشديد والطرح، وكذلك أيضاً من الأحاديث ما هو موضوع وهو شيء يسير عند ابن ماجه رحمه الله، وهو أكثر السنن الأربع وضعاً، ولهذا العلماء عليهم رحمة الله يجعلونه متأخراً بالنسبة للكتب الستة، وقد اشتهر وقدم لجلالة ترتيبه وتبويبه، وقدم على غيره من المصنفات التي هي أحرى بالتقدم منه، وذلك كسنن الدارمي وصحيح ابن خزيمة وأضراب هذه الكتب، إلا أننا إذا نظرنا إلى جملة من الشروط والخصائص التي امتاز بها هذا الكتاب فإنه يقدم، وقد قدمه في ذلك ابن طاهر بن القيسران عليه رحمة الله في كتابه الأطراف، وكذلك قدمه غير واحد ممن تبعه وجرى على هذا جماعة من العلماء كـابن عساكر عليه رحمة الله في أطراف السنن الأربع، وتبعه على ذلك جماعة كـالمزي رحمه الله في تحفة الأشراف، وكذلك تبعه على ذلك من جاء بعدهم ممن صنف في أبواب الرجال، وجرى على هذا أيضاً جماعة من الأئمة، كـالمقدسي عليه رحمة الله في كتاب الكمال، ثم المزي عليه رحمة الله في تهذيب الكمال، ثم ابن حجر رحمه الله في تهذيب تهذيب الكمال، وجرى على ذلك من جاء بعدهم من الأئمة، كـالخزرجي في كتابه الخلاصة، وكذلك ذهب جماعة ممن سبقهم كـالذهبي رحمه الله وغيره من الأئمة إلى تقديم ابن ماجه على غيره، مع وجود هذه الأشياء التي ينبه عليها العلماء.

روايات ابن ماجه في سننه والزيادات عليها

ابن ماجه رحمه الله له جملة من الروايات، والمعروف منها أربع، والتي وصل إلينا منها هي رواية أبي الحسن علي بن إبراهيم القطان، وهي الرواية المشهورة المتداولة، وعليها النسخ التي بين أيدينا على اختلاف وتباين فيها، إلا أنه ينبغي التنبه أن نعلم أن القطان رحمه الله وهو الذي يروي عن ابن ماجه له شيء من الزيادات في كتابه السنن، وهذه الزيادات منثورة في بعض المواضع، وهي من جهة الأصل في نسخة أبي الحسن مدونة على الحواشي ولم تكن في الأصل، إلا أنها مع تناقل النساخ للروايات كان ذلك اندراجاً لهذه الأحاديث وتخللاً لها في الأبواب. ويميزها من ذلك جملة من الوسائل: منها أنه حين ترد عبارة (قال أبو الحسن) فإن المراد بذلك هو راوي السنن عن ابن ماجه عليه رحمة الله.

ومن هذه الروايات أيضاً رواية سليمان بن يزيد، وكذلك رواية أبي بكر الأبهري، وكذلك رواية أبي جعفر محمد بن عيسى، هذه الروايات الأربع هي الروايات المشهورة لـابن ماجه عليه رحمة الله، والموجود المتوفر بين يدينا هي رواية أبي الحسن على ما تقدم الإشارة إليه، وينبغي أن يتنبه طالب العلم إلى أن بعض كتب السنة يندرج في ثناياها زيادات بعض الرواة، وهذا معروف في بعض المصنفات، منها السنن لـابن ماجه عليه رحمة الله، ففيه جملة من الأحاديث الزائدة، وهي تزيد على أربعين حديثاً، وكذلك أيضاً فإن ثمة أيضاً بعض التفسيرات والإعلالات التي تكون من أبي الحسن القطان عليه رحمة الله على ابن ماجه، كما ذكر ذلك الذهبي عليه رحمة الله، فله تعليلات مدرجة لبعض الأحاديث، بعضها ينسب إليه وبعضها يكون في ظاهره منسوباً لـابن ماجه، فيميز ذلك الإنسان في موضعه أو ربما أيضاً ببعض القرائن، ومن هذه المصنفات أيضاً ما يأتي في مسند الطيالسي، فإنه يرويه يونس بن حبيب وهو تلميذ الطيالسي وراوية المسند عنه، له زيادات في كتابه، كذلك الزيادات على مسند الحميدي، ثمة زيادات لـأبي علي بن الصواف يرويه عن بشر بن موسى، عن الحميدي صاحب المسند، فهو تلميذ تلميذه وله زيادات عليه، ووقعت له بعض الأسانيد بعلو فضمنها في الحاشية، ثم بعد ذلك اندرجت في أصل المسند، ومن ذلك أيضاً الزيادات التي يزيدها عبد الله بن أحمد بن حنبل على أبيه في كتابه المسند، وكذلك في كتابه فضائل الصحابة، وكذلك زيادات أبي بكر القطيعي على الإمام أحمد عليه رحمة الله، هذه المصنفات فيها جملة من الزيادات ليست للأئمة المصنفين أصحاب هذه الكتب، ولكن تعرف بمواضعها، منها ما ينص عليه ومنها ما يعرف بالقرائن بالنظر في الشيوخ وكذلك وفي التلامذة، وكذلك علو الإسناد ونزوله، أو الرجوع عند الإشكال إلى النسخ العتيقة في هذا الباب.

ابن ماجه رحمه الله له مصنفات كثيرة جداً، وهو مع تقدم زمنه إلا أن الإمام النسائي رحمه الله أولى منه، مع تأخر النسائي عن ابن ماجه، وذلك لشدة تحري الإمام النسائي رحمه الله في كتابه السنن من أبواب الرواة، وكذلك في الأحاديث التي يوردها في كتابه السنن، ويرمز الأئمة عليهم رحمة الله لسائر الأئمة من المصنفين بالرموز التي ترجع إلى ألقابهم، فـالبخاري بالخاء، ومسلم كذلك أيضاً بالميم لاسمه الأول، وكذلك الترمذي، وكذلك النسائي، ابن ماجه يرمزون له بقاف وذلك لقزوين، وهي بلدته التي ولد فيها وينتسب إليها.

منهجية ابن ماجه في تأليف السنن

وهذا الكتاب الذي بين أيدينا قد احتوى جملة من المناهج في الإيراد، فهو جمع الأحكام على طريقة الأئمة الأوائل، ولهذا صدرها بكتاب السنة، وأورد في ذلك جملة من الأحاديث من التمسك بالسنة، والاعتصام بها، والاهتداء أيضاً بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك شرع فيما يتعلق ببعض مسائل العقائد، وشرع بعد ذلك في الأحكام، وهذه الطريقة التي يجري عليها الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في غالب مصنفاتهم، فهي الطريقة السائدة عند الأئمة الأوائل، بخلاف المتأخرين الذين قسموا الأحاديث، وكذلك مسائل الدين إلى ما يتعلق بمسائل الأصول؛ وهي مسائل العقائد، ومسائل الأحكام، وما يتعلق بالحلال والحرام، فصنفت أحاديث الأحكام، وجعلت على سبيل الانفراد، ومسائل العقائد جعلت على سبيل الانفراد في مصنفات مستقلة، والأئمة الأوائل عليهم رحمة الله يجعلون ويقررون مسائل الديانة على أنها على منهج واحد، ولو فصلوا في ذلك في داخلها، وكذلك أيضاً في ثناياها.

فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فبلغها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع )، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث على تبليغ الرسالة وتبليغ الدين نصوص كثيرة متواترة مستفيضة، ومن أشهر ذلك ما جاء في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بلغوا عني ولو آية )، وهذا دليل على أن زكاة العلم البلاغ، وأنه لا حد ولا نصاب للعلم فيزكى، وإنما إذا ملك الإنسان شيئاً من العلم ولو يسيراً من آية أو حديث فإن زكاته أن يبلغه لمن يحتاج إليه، وهذا من الأمور المتأكدة، وعند الجهل فهي من الأمور الواجبة، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا ينزل على الأمة الفتن والشرور إلا برفع العلم وقبض العلماء، وأما إذا كان العلم موجوداً متوافراً فإن الله سبحانه وتعالى يجعل الأمة أمة مرحومة بهذا العلم، وأمة آمنة من الفتن والشرور، وذلك أن الله سبحانه وتعالى قد بين في جملة من المواضع في كتابه، وكذلك أيضاً جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة من الأحاديث، وكذلك عن جماعة من الصحابة، بيان أن أمان الأمة واجتماعها وألفتها هو بوجود العلم وتدارسه بينهم، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في مسلم من حديث أبي موسى قال عليه الصلاة والسلام: ( النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي، فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون )، والمراد بالأمان هو الاستقرار والاجتماع على ما أمر الله جل وعلا، فإذا اختل ذلك النظام فهو أمارة على اختلال رسالة البلاغ الرسالة المحمدية التي أمر الله عز وجل ببلاغها، ونحن بإذن الله تعالى في هذه المجالس نمتثل شيئاً مما أمرنا الله جل وعلا، ورسوله صلى الله عليه وسلم ببلاغه وبيانه، أن نبلغ شيئاً من الأدلة، وأن ننظر فيها، وأن نقرأها، وكل ذلك من أمور التعبد، ولهذا يقول غير واحد من العلماء: إن السنة وحي يتلى، يعني كتلاوة القرآن، كما نص على ذلك الإمام الشافعي رحمه الله، ونص على ذلك ابن حزم الأندلسي، وغيرهم من أئمة الإسلام أن السنة وحي يتلى، وتلاوتها في ذلك أن الإنسان ينظر فيها ويقيم ما استطاع من حروفها وحدودها، حتى يتحصل له من ذلك الأجر، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبلاغ أيضاً ولو لم يع الإنسان المعنى، فربما كان المبلغ أولى من المبلغ فهماً وإدراكاً وتمييزاً.

ونحن في عدة مجالس بإذن الله عز وجل نتكلم على شيء من الأحاديث من سنن ابن ماجه، ونمر على جميعها بإذن الله تعالى، كتاب السنن لـابن ماجه هو من المصنفات المشهورة من دواوين الإسلام في الزمن الأول، وقد اعتنى به الأئمة عليهم رحمة الله تعالى عناية متنوعة، ومصنفه هو من أئمة النقد والجلالة، وهو محمد بن يزيد بن ماجه عليه رحمة الله وهو من أئمة السنة دراية ورواية، وعقيدته على منهج أهل السنة والجماعة، ولا يكاد يجد الإنسان له من ذلك خروجاً عما كان عليه الأسلاف من الصحابة والتابعين كسائر أهل القرون الماضية من القرن الثاني والثالث، وكذلك من بعدهم، إلا النزر اليسير الذين قد خرجوا عن مراد الله جل وعلا لشيء من الشبهات.

ومع كون هذا الإمام نشأ في شيء من البلدان التي تعد بعيدة عن منازل الوحي، فهو قزويني من بلدة قزوين وهي الموجودة في بلدان فارس وهي إيران اليوم، وقد نشأ في ذلك ثم سافر وارتحل إلى جملة من البلدان لطلب العلم وسماع السنة، وقد ارتحل إلى بغداد والبصرة والكوفة، وارتحل كذلك إلى مكة والمدينة، وأخذ عن كثيرٍ من أشرافها وأطراف علمائها الذين ظهر تنوع فقه هذا الإمام في تراجمه وكذلك أيضاً في سرده لهذه الأحاديث.

هذا الكتاب وهو كتاب السنن لـابن ماجه عليه رحمة الله هو أحد مصنفات هذا الإمام، وله جملة من المصنفات، منها ما يتعلق بالتاريخ كتاريخ قزوين، وله كتاب كذلك في التفسير، وهو ليس بالصغير، وهو كتاب حافل جمع فيه المصنف رحمه الله جملة من الآثار وكذلك المرفوعات في أبواب التفسير، إلا أنه من الكتب المندثرة قديماً.

ويروي بعض الأئمة عليهم رحمة الله تعالى من طريق ابن ماجه شيئاً من ذلك من الأئمة المسندين الذين جاءوا بعده، وابن ماجه رحمه الله من جهة علو إسناده هو من الأسانيد العالية، وفيه جملة من الأسانيد الثلاثية، وفيه خمسة أسانيد ثلاثية، وهي من طريق جبارة بن المغلس يرويه عن كثير بن سليم عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجميع الأسانيد الثلاثية هي من هذا الطريق، وهي أسانيد معلولة، وذلك لضعف رواة هذا الخبر، وذلك لضعف شيخ ابن ماجه عليه رحمة الله، وله أسانيد كذلك أيضاً رباعية، والأحاديث التي يرويها يوافق فيها الأئمة غالباً، ولا ينفرد بشيء من أصول الأحكام وأعلام المسائل إلا شيئاً ليس بالكثير، وما ينفرد به من أمور المعاني والأحكام نجد أن أصوله عند الأئمة عليهم رحمة الله، وما ينفرد به هو عند الأئمة عليهم رحمة الله على نوعين: ينفرد بالأحاديث، وينفرد كذلك ببعض الرواة.

وبعض الأئمة عليهم رحمة الله لا يجعلون ابن ماجه رحمه الله من الأئمة المقدمين في أبواب النقد، وذلك لكثرة الرواة المتروكين، وكذلك الأحاديث الضعيفة المطروحة في كتابه السنن مقارنة ببقية الكتب الستة، وهذا موجود وظاهر، إلا أن تفردات ابن ماجه رحمه الله لا يقال بضعفها على الإطلاق. وقد نص غير واحد من الأئمة عليهم رحمة الله على أن ما يتفرد به ابن ماجه معلول أو ضعيف، وقد نص على هذا وتكلم على هذا غير واحد من الأئمة كـابن تيمية رحمه الله، وكذلك أبو الحجاج المزي عليه رحمة الله، وتبعهم على ذلك جماعة من العلماء.

والنوع الثاني من التفردات هو أنه يتفرد ببعض الرواة، وهؤلاء يكونون في دائرة الضعف، وكلا الأمرين فيه نظر، وذلك أن الإمام ابن ماجه رحمه الله له أحاديث يتفرد بها وهي صحيحة، ويأتي الكلام عليها بإذن الله عز وجل في موضعها، وكذلك فإنه يتفرد ببعض الرواة في كتابه السنن وهم من الثقات، وقد تفرد بذلك في غير ما موضع عن بعض الرواة ولم يخرجهم أحد من أصحاب الكتب الستة وهم من الرواة الثقات، وذلك كـأحمد بن محمد بن يحيى بن سعيد القطان، وكذلك أحمد بن منصور، وكذلك أحمد بن ثابت، وغيرهم من الرواة الذين يروي عنهم ابن ماجه رحمه الله في كتابه السنن وهم من الرواة الثقات، ولم يوافقه على الإخراج لهم غيره من أصحاب الكتب الستة.

وله كذلك جملة من الأحاديث تفرد بها عن الكتب الستة، وهي ليست بالقليلة منها الضعيف ومنها الصحيح، وهي على نحو من ثلاثمائة وألف من الأحاديث، نحو النصف منها ويزيد من الأحاديث الضعيفة، وما عدى ذلك فهي داخلة في دائرة الاحتجاج، إما تقبل على سبيل الانفراد، أو بالاعتضاد إذا وجد لها معتضد، وما عدى ذلك فهي دائرة بين الضعف الشديد والطرح، وكذلك أيضاً من الأحاديث ما هو موضوع وهو شيء يسير عند ابن ماجه رحمه الله، وهو أكثر السنن الأربع وضعاً، ولهذا العلماء عليهم رحمة الله يجعلونه متأخراً بالنسبة للكتب الستة، وقد اشتهر وقدم لجلالة ترتيبه وتبويبه، وقدم على غيره من المصنفات التي هي أحرى بالتقدم منه، وذلك كسنن الدارمي وصحيح ابن خزيمة وأضراب هذه الكتب، إلا أننا إذا نظرنا إلى جملة من الشروط والخصائص التي امتاز بها هذا الكتاب فإنه يقدم، وقد قدمه في ذلك ابن طاهر بن القيسران عليه رحمة الله في كتابه الأطراف، وكذلك قدمه غير واحد ممن تبعه وجرى على هذا جماعة من العلماء كـابن عساكر عليه رحمة الله في أطراف السنن الأربع، وتبعه على ذلك جماعة كـالمزي رحمه الله في تحفة الأشراف، وكذلك تبعه على ذلك من جاء بعدهم ممن صنف في أبواب الرجال، وجرى على هذا أيضاً جماعة من الأئمة، كـالمقدسي عليه رحمة الله في كتاب الكمال، ثم المزي عليه رحمة الله في تهذيب الكمال، ثم ابن حجر رحمه الله في تهذيب تهذيب الكمال، وجرى على ذلك من جاء بعدهم من الأئمة، كـالخزرجي في كتابه الخلاصة، وكذلك ذهب جماعة ممن سبقهم كـالذهبي رحمه الله وغيره من الأئمة إلى تقديم ابن ماجه على غيره، مع وجود هذه الأشياء التي ينبه عليها العلماء.

ابن ماجه رحمه الله له جملة من الروايات، والمعروف منها أربع، والتي وصل إلينا منها هي رواية أبي الحسن علي بن إبراهيم القطان، وهي الرواية المشهورة المتداولة، وعليها النسخ التي بين أيدينا على اختلاف وتباين فيها، إلا أنه ينبغي التنبه أن نعلم أن القطان رحمه الله وهو الذي يروي عن ابن ماجه له شيء من الزيادات في كتابه السنن، وهذه الزيادات منثورة في بعض المواضع، وهي من جهة الأصل في نسخة أبي الحسن مدونة على الحواشي ولم تكن في الأصل، إلا أنها مع تناقل النساخ للروايات كان ذلك اندراجاً لهذه الأحاديث وتخللاً لها في الأبواب. ويميزها من ذلك جملة من الوسائل: منها أنه حين ترد عبارة (قال أبو الحسن) فإن المراد بذلك هو راوي السنن عن ابن ماجه عليه رحمة الله.

ومن هذه الروايات أيضاً رواية سليمان بن يزيد، وكذلك رواية أبي بكر الأبهري، وكذلك رواية أبي جعفر محمد بن عيسى، هذه الروايات الأربع هي الروايات المشهورة لـابن ماجه عليه رحمة الله، والموجود المتوفر بين يدينا هي رواية أبي الحسن على ما تقدم الإشارة إليه، وينبغي أن يتنبه طالب العلم إلى أن بعض كتب السنة يندرج في ثناياها زيادات بعض الرواة، وهذا معروف في بعض المصنفات، منها السنن لـابن ماجه عليه رحمة الله، ففيه جملة من الأحاديث الزائدة، وهي تزيد على أربعين حديثاً، وكذلك أيضاً فإن ثمة أيضاً بعض التفسيرات والإعلالات التي تكون من أبي الحسن القطان عليه رحمة الله على ابن ماجه، كما ذكر ذلك الذهبي عليه رحمة الله، فله تعليلات مدرجة لبعض الأحاديث، بعضها ينسب إليه وبعضها يكون في ظاهره منسوباً لـابن ماجه، فيميز ذلك الإنسان في موضعه أو ربما أيضاً ببعض القرائن، ومن هذه المصنفات أيضاً ما يأتي في مسند الطيالسي، فإنه يرويه يونس بن حبيب وهو تلميذ الطيالسي وراوية المسند عنه، له زيادات في كتابه، كذلك الزيادات على مسند الحميدي، ثمة زيادات لـأبي علي بن الصواف يرويه عن بشر بن موسى، عن الحميدي صاحب المسند، فهو تلميذ تلميذه وله زيادات عليه، ووقعت له بعض الأسانيد بعلو فضمنها في الحاشية، ثم بعد ذلك اندرجت في أصل المسند، ومن ذلك أيضاً الزيادات التي يزيدها عبد الله بن أحمد بن حنبل على أبيه في كتابه المسند، وكذلك في كتابه فضائل الصحابة، وكذلك زيادات أبي بكر القطيعي على الإمام أحمد عليه رحمة الله، هذه المصنفات فيها جملة من الزيادات ليست للأئمة المصنفين أصحاب هذه الكتب، ولكن تعرف بمواضعها، منها ما ينص عليه ومنها ما يعرف بالقرائن بالنظر في الشيوخ وكذلك وفي التلامذة، وكذلك علو الإسناد ونزوله، أو الرجوع عند الإشكال إلى النسخ العتيقة في هذا الباب.

ابن ماجه رحمه الله له مصنفات كثيرة جداً، وهو مع تقدم زمنه إلا أن الإمام النسائي رحمه الله أولى منه، مع تأخر النسائي عن ابن ماجه، وذلك لشدة تحري الإمام النسائي رحمه الله في كتابه السنن من أبواب الرواة، وكذلك في الأحاديث التي يوردها في كتابه السنن، ويرمز الأئمة عليهم رحمة الله لسائر الأئمة من المصنفين بالرموز التي ترجع إلى ألقابهم، فـالبخاري بالخاء، ومسلم كذلك أيضاً بالميم لاسمه الأول، وكذلك الترمذي، وكذلك النسائي، ابن ماجه يرمزون له بقاف وذلك لقزوين، وهي بلدته التي ولد فيها وينتسب إليها.

وهذا الكتاب الذي بين أيدينا قد احتوى جملة من المناهج في الإيراد، فهو جمع الأحكام على طريقة الأئمة الأوائل، ولهذا صدرها بكتاب السنة، وأورد في ذلك جملة من الأحاديث من التمسك بالسنة، والاعتصام بها، والاهتداء أيضاً بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك شرع فيما يتعلق ببعض مسائل العقائد، وشرع بعد ذلك في الأحكام، وهذه الطريقة التي يجري عليها الأئمة عليهم رحمة الله تعالى في غالب مصنفاتهم، فهي الطريقة السائدة عند الأئمة الأوائل، بخلاف المتأخرين الذين قسموا الأحاديث، وكذلك مسائل الدين إلى ما يتعلق بمسائل الأصول؛ وهي مسائل العقائد، ومسائل الأحكام، وما يتعلق بالحلال والحرام، فصنفت أحاديث الأحكام، وجعلت على سبيل الانفراد، ومسائل العقائد جعلت على سبيل الانفراد في مصنفات مستقلة، والأئمة الأوائل عليهم رحمة الله يجعلون ويقررون مسائل الديانة على أنها على منهج واحد، ولو فصلوا في ذلك في داخلها، وكذلك أيضاً في ثناياها.

[ فأخبرنا الشيخ عبد القادر كرامة الله البخاري، والشيخ محمد المنتصر الكتاني إجازة، كلاهما عن عمر حمدان المحرسي، عن أبي النصر الخطيب محمد بن عبد القادر الدمشقي، عن عمر بن عبد الغني الغزي العامري، عن مصطفى بن محمد الشامي الرحمتي، عن عبد الغني بن إسماعيل النابلسي، عن النجم محمد الغزي، عن أبيه البدر الغزي، عن زكريا الأنصاري، عن الحافظ ابن حجر، عن علي بن أبي المجد الدمشقي، عن أبي العباس الحجار، عن الأنجب بن أبي السعادات البغددي (ح)

وعن الحافظ ابن حجر، عن أبي العباس أحمد بن عمر اللؤلؤي البغدادي، عن الحافظ أبي الحجاج المزي، عن الشارح عبد الرحمن بن أبي عمر المقدسي، عن الإمام الموفق أبي محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة، كلاهما عن أبي زرعة طاهر بن محمد بن طاهر المقدسي، عن محمد بن الحسين القزويني، عن القاسم بن أبي المنذر الخطيب، عن أبي الحسن علي بن إبراهيم القطان، عن الحافظ أبي عبد الله محمد بن يزيد القزويني وهو ابن ماجه رحمهم الله أجمعين ].

قال المصنف رحمه الله: [بسم الله الرحمن الرحيم.

أبواب السنة: باب اتباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا شريك، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما أمرتكم به فخذوه، وما نهيتكم عنه فانتهوا ).

حدثنا محمد بن الصباح، قال: أخبرنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بسؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا ).

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: حدثنا أبو معاوية، ووكيع، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله )].

المقصود بالسنة

السنة إذا جاءت بالنصوص المراد بذلك هو كل ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام بخلاف السنة الاصطلاحية التي جرى عليها الفقهاء، وكذلك جرى عليها الأصوليون، باعتبار أن السنة هي ما كانت قسيماً للأحكام التكليفية من الواجب والمحرم، وكذلك أيضاً المندوب والمكروه. وهي عند الإطلاق في كلام السلف، وكذلك ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام المراد بذلك هو ما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، أيضاً الخلاف في السنة المراد به هو خلاف ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد يراد بذلك الواجب، وقد يكون في ذلك المستحب، وفي هذه الأحاديث أيضاً إشارة إلى أن ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام هي موصوفة بالوحي، وأن من عصى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد عصى الله جل وعلا، وقد قرن الله جل وعلا طاعة نبيه بطاعته سبحانه وتعالى.

قال: [ حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير، قال: حدثنا زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن محمد بن سوقة، عن أبي جعفر, قال: كان ابن عمر رضي الله عنهما إذا سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم يعْدُه، ولم يقصر دونه.

حدثنا هشام بن عمار الدمشقي، قال: حدثنا محمد بن عيسى بن سميع، قال: حدثنا إبراهيم بن سليمان الأفطس، عن الوليد بن عبد الرحمن الجرشي، عن جبير بن نفير، عن أبي الدرداء، قال: ( خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نذكر الفقر ونتخوفه، فقال: آلفقر تخافون؟ والذي نفسي بيده، لتصبن عليكم الدنيا صباً، حتى لا يزيغ قلب أحدكم إزاغة إلا هيه، وايم الله، لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء ).

قال أبو الدرداء: صدق والله رسول الله صلى الله عليه وسلم, تركنا والله على مثل البيضاء، ليلها ونهارها سواء ].

فضل الاستمساك بالوحي

وهذا فيه إشارة إلى أن قوام الأمم وأمنها من جهة الحقيقية ليس المال وإنما بالاستمساك والاعتصام بالوحي، ولهذا جاء عن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى أنه قال: لا أقول عامٌ أمطر من عام، ولا أمير خيرٌ من أمير، ولا عام أخصب من عام، ولكن ذهابكم ذهاب علمائكم؛ لأن العبرة بذلك هو ذهاب العلماء، وأن الأرض تتسع بصاحبها إذا كان صاحب علم، وتضيق به إذا كان صاحب جهل، ولهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا [الأنبياء:44]، قد جاء عن مجاهد بن جبر وعطاء بن أبي رباح أن المراد بنقصان الأرض هو ذهاب العلماء، ولهذا نقول: إن الأمة إذا كان فيها العلماء فهي أمة مرحومة وهي مجتمعة، وكذلك ينبغي للمؤمن ألا يعلق نفسه بالمادة، وألا يتخوف مما يأتي، فإن الله عز وجل قد قدر له الرزق، وعليه أن يسعى بأعظم الأسباب في ذلك ما يتحقق به الأمان وهو العلم، فإن الإنسان إذا كان معه العلم فهو على أمان وعلى طمأنينة، وأما بالنسبة للمال فإنه يزيد الإنسان قلقاً، وذلك أن العلم يحرس الإنسان، والمال يحرسه الإنسان، فيزداد قلقاً، كلما كثر حرسه، بخلاف العلم كلما زاد زاد أماناً وثباتاً، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام لا يخشى على الأمة الفقر، باعتبار أن الله عز وجل لا يبيدها بفقر ولكن يبيدها بجهل، ولهذا ما جاء في الصحيح وغيره أن النبي عليه الصلاة والسلام ذكر آخر الزمان فقال: ( لا تقوم الساعة حتى تظهر الفتن ويكثر الهرج )، والفتن والهرج لا يظهر إلا مع ورود الجهل كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام، فهي متلازمة، وينبغي أن نعلم أن الغنى إذا وجد في الأمة وجد في ذلك القتل والاضطراب، فهم يتناحرون لشدة الطمع وضعف القناعة، فالقناعة أظهر من جهة الفقر أكثر منها في الغنى، ولهذا الفقير لديه قناعة أكثر من الغني، وذلك أن الغني كلما ازداد غنى ازداد شراهة، والإنسان إذا ازداد فقراً ازداد قناعة، وهذا معروف حتى عند العرب، أن العرب إذا كانت في زمن فقر انشغلت بنفسها وتراحمت فيما بينها، وإذا كانت في زمن غناء اقتتلوا.

قال: [ حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا تزال طائفة من أمتي منصورين، لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة ).

حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا يحيى بن حمزة، قال: حدثنا أبو علقمة نصر بن علقمة، عن عمير بن الأسود، وكثير بن مرة الحضرمي، عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله عز وجل، لا يضرها من خالفها ).

حدثنا هشام بن عمار، قال: حدثنا الجراح بن مليح، قال: حدثنا بكر بن زرعة، قال: سمعت أبا عنبة الخولاني، وكان قد صلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم في طاعته ) ].

معرفة السلف لمن سبقوهم قدرهم وسابقتهم

وفي هذا حفظ الله عز وجل لدينه، وفي هذا أيضاً أن الصحابة عليهم رضوان الله تعالى والتابعين يجلون السابق ويعظمونه، فيعظم اللاحق السابق، ولهذا قال: وكان قد صلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: كلما كان الإنسان أقدم علماً وأخذاً فهو ينبغي أن يقدم قولاً ورأياً لا على إطلاقه ولكن يقدم باعتبار رسوخه وثباته، بخلاف الأمر العارض الذي يطرأ على الإنسان من قناعة ورأي.

قال: [ حدثنا يعقوب بن حميد بن كاسب، قال: حدثنا القاسم بن نافع، قال: حدثنا الحجاج بن أرطاة، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، قال: ( قام معاوية خطيباً, فقال: أين علماؤكم؟ أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تقوم الساعة إلا وطائفة من أمتي ظاهرين على الناس، لا يبالون من خذلهم ولا من نصرهم ).

حدثنا هشام بن عمار، حدثنا محمد بن شعيب، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء، عن ثوبان، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورين، لا يضرهم من خالفهم، حتى يأتي أمر الله عز وجل ) ].

بقاء الأمة ظاهرة حتى قيام الساعة

في هذه الأحاديث التي أوردها المصنف رحمه الله في بقاء الأمة ظاهرة، ذكر النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يضرهم من خالفهم )، يعني وجود المخالفين، وكذلك أيضاً: ( من خذلهم )، ذكر الخذلان، وذكر المخالفين، المخالفين الأبعدين، والمخذلين الأقربين، إشارة إلى ثبات الإنسان وصموده في مخالفة الأبعدين وخذلان الأقربين، فإذا خذل الإنسان ممن حوله وممن يظن ويرجو منه تأييداً فهذا خذلان، وأما المخالفة والعدوان فتكون ممن لا يرجى منه نصرة، وهؤلاء ثبتوا على مخالفة الأقربين ومعاداة ومخالفة الأبعدين.

وجاء في صحيح مسلم ذكر وصف من أعمالهم وهو القتال، قال: ( يقاتلون في سبيل الله )، وهو أحد أوصافهم، لا وصفاً لازماً.

قال: [ حدثنا أبو سعيد عبد الله بن سعيد، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: سمعت مجالداً يذكر عن الشعبي، عن جابر بن عبد الله، قال: ( كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً، وخط خطين عن يمينه، وخط خطين عن يساره، ثم وضع يده في الخط الأوسط، فقال: هذا سبيل الله، ثم تلا هذه الآية: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ) ].

خطر الشهوات والشبهات

وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي للإنسان في مسائل العلم عند البيان حتى يرسخ أن يستعمل طريقة الرسم، أو البيان بالخط، أو الإشارة باليد ونحو ذلك، كذلك أيضاً التدليل بالكتاب، فكلام النبي عليه الصلاة والسلام وحي ومع ذلك استدل بالقرآن مع أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، إلا أنه استدل على قوله بالوحي من القرآن.

والسبل هي البدع والشهوات كما روى ابن جرير الطبري في كتابه التفسير عن ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر أنه قال: السبل هي البدع والشبهات.

ولهذا نقول: إن ما يتعلق بالشهوات إذا لم تكن متقررة على قاعدة شبهة فالأصل أنها ليست من هذه السبل باعتبار أن الإنسان يفعلها باعتقاد المخالفة ثم يرجع ويتوب، ولهذا كل فكر لا يتكئ على شبهة فالغالب أنه لا يدخل في مثل هذا، أما الشهوات فليست بداخلة في هذا.