الترغيب في صلة الأرحام


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

الحث على الاعتصام والتمسك بحبل الله

فإن الله سبحانه وتعالى حث على الاعتصام والتمسك بحبله المتين، وأمر الله جل وعلا أهل الإيمان بالأخذ بأسباب ذلك على سبيل الجزم والتأكيد, وقد جاء في ذلك آيات كثيرة من كلام الله جل وعلا، وفي ذلك نصوص كثيرة عنه عليه الصلاة والسلام.

ومن ذلك قوله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فأمر الله جل وعلا الناس على سبيل العموم بالتمسك بحبله المتين، وجاء تفسير حبل الله جل وعلا بعدة معانٍ, منها القرآن, ومنها التوحيد وغيرها, ولكن هذا التمسك ليس على سبيل الانفراد وإنما على سبيل الجماعة؛ وذلك أن الشيطان إنما ينفر من الجماعة ويقرب من الفرد, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في السنن وغيرها: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن فيهم ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان, وعليك بالجماعة؛ فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية )، والمراد من ذلك أن الإنسان إذا كان مع جماعة فإنه يتهيب من سلطان يريد أن يعتدي عليه, سواء كان من هوى النفس وطغيانها, أو كان ذلك من شياطين الإنس والجن الذين يريدون فرصة سانحة للوصول إلى الشيطان بإغوائه حتى ينحرف الإنسان يمنة ويسرة عن الصراط المستقيم.

الأخذ بأسباب الجماعة

وقد أمر الله جل وعلا بالأخذ بأسباب الجماعة, ومن أسباب الجماعة: صلة الأرحام التي أمر الله جل وعلا بها وحث عليها في كتابه العظيم في مواضع عديدة، ولهذا جاء التشريع في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجملة من الأحكام التي فيها اجتماع الناس وتآلفهم؛ كصلاة الجماعة, وكذلك ما جاء من التشريع لصلة الأرحام, وكذلك ما جاء من اجتماع الناس في الجمعة والأعياد وغير ذلك، وقد حث على هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر الرجل وحده، ونهيه عن مبيته وحده، وإنما يبيت إذا كان معه غيره؛ وهذا لكي يكون الإنسان أقرب إلى الجماعة وأبعد من الشيطان.

وإنما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلة الأرحام وأمر بالدنو منها حتى يكون الإنسان له ركن يأوي إليه، وهذا فيما يتعلق بمصالح الدين ومصالح الدنيا, وقد جاءت الشريعة بجمع الشمل ولمه, وكذلك جمع المصالح وتتميمها ودرء المفاسد وتنقيصها, وهذا أصل متقرر في الإسلام لا خلاف فيه.

فإن الله سبحانه وتعالى حث على الاعتصام والتمسك بحبله المتين، وأمر الله جل وعلا أهل الإيمان بالأخذ بأسباب ذلك على سبيل الجزم والتأكيد, وقد جاء في ذلك آيات كثيرة من كلام الله جل وعلا، وفي ذلك نصوص كثيرة عنه عليه الصلاة والسلام.

ومن ذلك قوله جل وعلا: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، فأمر الله جل وعلا الناس على سبيل العموم بالتمسك بحبله المتين، وجاء تفسير حبل الله جل وعلا بعدة معانٍ, منها القرآن, ومنها التوحيد وغيرها, ولكن هذا التمسك ليس على سبيل الانفراد وإنما على سبيل الجماعة؛ وذلك أن الشيطان إنما ينفر من الجماعة ويقرب من الفرد, وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في السنن وغيرها: ( ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا يؤذن فيهم ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان, وعليك بالجماعة؛ فإن الذئب يأكل من الغنم القاصية )، والمراد من ذلك أن الإنسان إذا كان مع جماعة فإنه يتهيب من سلطان يريد أن يعتدي عليه, سواء كان من هوى النفس وطغيانها, أو كان ذلك من شياطين الإنس والجن الذين يريدون فرصة سانحة للوصول إلى الشيطان بإغوائه حتى ينحرف الإنسان يمنة ويسرة عن الصراط المستقيم.

وقد أمر الله جل وعلا بالأخذ بأسباب الجماعة, ومن أسباب الجماعة: صلة الأرحام التي أمر الله جل وعلا بها وحث عليها في كتابه العظيم في مواضع عديدة، ولهذا جاء التشريع في كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لجملة من الأحكام التي فيها اجتماع الناس وتآلفهم؛ كصلاة الجماعة, وكذلك ما جاء من التشريع لصلة الأرحام, وكذلك ما جاء من اجتماع الناس في الجمعة والأعياد وغير ذلك، وقد حث على هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن سفر الرجل وحده، ونهيه عن مبيته وحده، وإنما يبيت إذا كان معه غيره؛ وهذا لكي يكون الإنسان أقرب إلى الجماعة وأبعد من الشيطان.

وإنما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على صلة الأرحام وأمر بالدنو منها حتى يكون الإنسان له ركن يأوي إليه، وهذا فيما يتعلق بمصالح الدين ومصالح الدنيا, وقد جاءت الشريعة بجمع الشمل ولمه, وكذلك جمع المصالح وتتميمها ودرء المفاسد وتنقيصها, وهذا أصل متقرر في الإسلام لا خلاف فيه.

حث الشارع على صلة الأرحام وبين فضلها, وبين جل وعلا خطر القاطع لرحمه؛ وذلك تحقيقاً لهذا الأصل العظيم, ولهذا قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

وفي قوله جل وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، قال غير واحد من المفسرين: اتقوا الله بصلتكم لأرحامكم, وقال غير واحد: اتقوا الأرحام فصلوها؛ كما جاء تفسير ذلك عن غير واحد من السلف كما رواه ابن جرير الطبري وغيره عن علي بن أبي طلحة عن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى أنه قال في قول الله جل وعلا: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ [النساء:1]، قال: اتقوا الأرحام وصلوها، وجاء عن مجاهد بن جبر وغيره أن المراد بذلك اتقوا الله جل وعلا بأرحامكم وأدوا الواجب إليها, وروي هذا المعنى عن غير واحد من المفسرين كـالحسن البصري و قتادة وغيرهم من أئمة الإسلام.

خطورة حال من قطع الرحم

وقد بين الله جل وعلا خطورة حال من قطع الرحم, وكذلك مقامه أنه مقترن بمن نقض الميثاق وعهد الله جل وعلا، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [البقرة:27]، والمراد بما أمر الله جل وعلا به أن يوصل هو صلة الأرحام, وإذا لم يصلها الإنسان كان قاطعاً.

وبين الله جل وعلا على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام أن من لم يصل رحمه لمتوعد بدخول النار وعدم دخول الجنة، كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا يدخل الجنة قاطع )، يعني: قاطع رحم، والمراد من هذا أن الإنسان إذا لم يأخذ بظواهر الأوامر الشرعية بصلة الأرحام واجتناب القطيعة كان مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب.

والمتقرر عند العلماء أن الإنسان إذا فعل فعلاً قد توعد الشارع ذلك الفاعل لأجل فعله بالنار أو وُصف باللعن والطرد والإبعاد من رحمة الله أو شرع حكم له في الدنيا؛ كالحدود والتعزيرات المقدرة بقدر معين أن ذلك دليل على أنه ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب.

أثر الاهتمام بصلة الرحم على صلاح المجتمع

بين الله جل وعلا حال الجاهليين وأن قطيعة الأرحام قد انتشرت فيهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوائل ما دعا إليه بمكة أن يصل الإنسان رحمه، وأن يبتعد عن قطيعة الأرحام, وهذا ما نادى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول مبعثه بمكة وكذلك في أول قدومه إلى المدينة, فقد روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث جعفر بن أبي طالب لما هاجر إلى الحبشة وذكر خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه رضوان الله تعالى للنجاشي ؛ قال: ( كنا في الجاهلية نقطع الأرحام ونعبد الأوثان ونأكل الميتة ونقع في الفواحش, فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا بكسر الأوثان وصلة الأرحام )، والمراد من هذا أن الشريعة جاءت بتكميل مصالح الدنيا وتتميمها, ودفع المفاسد الطارئة على هذين الجانبين, وهي تمام الحياة وسلامة معيشة الناس في دنياهم, كذلك إتمام المصالح الدينية التي لا تنفك بالجملة عن مصالح الدنيا, وهذا من كمال شريعة الله جل وعلا أن جعل الإنسان مفطوراً على ما يحبه الله سبحانه وتعالى مما يأمر الله جل وعلا به في أمور الدين والدنيا، ولهذا كان من علامات شر المجتمعات إذا انتشر وفشا فيهم خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بابتداء أمره بقطيعة الأرحام.

وقد تقرر عند العلماء أن أول ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء في أول مبعثه إذا زال من الأمة فإنه زوالها بتمامها من جهة الاسم ومن جهة الأحكام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ به هو أنه كان يدعو إلى التوحيد وإلى كسر الأوثان والأصنام, وكان يدعو إلى عدم قطيعة الأرحام, ويدعو عليه الصلاة والسلام إلى صلتها, فلما كان هذا هو أول ما دعا إليه عليه الصلاة والسلام؛ فإذا انتهى من الأمة وفشا في المجتمعات فإن هذا علامة على كون المجتمع مقترناً بمجتمع الجاهلية من جهة استحكام الشر.

انتشار قطيعة الرحم قرب قيام الساعة

ومن علامات الساعة في آخر الزمان انتشار قطيعة الأرحام كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك جملة من الأخبار من حديث عبد الله بن مسعود و أبي هريرة وغيرها، من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث السيار عن طارق بن الشهاب أن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين يدي الساعة قطيعة الأرحام, وتسليم الخاصة, وفشو التجارة, حتى تعين المرأة زوجها على التجارة, وشهادة الزور, وكتمان شهادة الحق, وظهور القلم )، والمراد من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن من علامات الساعة وقيامها قطيعة الأرحام وعدم صلتها, أي: أن حال الناس في آخر الزمان سيشابه حال الجاهليين عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قطيعتهم للأرحام وعدم صلتهم لها, وهذا الوصف حينما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة أخبار هي صحيحة بمجموعها دل على أن الخيرية قد انتفت من ذلك المجتمع، وشابه ذلك المجتمع الجاهلي.

دلالة الخيرية وقوة الأمة في صلة الأرحام

ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجل الأحكام المتعلقة بالأخلاق والقيم، وأفرد منها صلة الأرحام مع صلتها الوثيقة بأمور الآداب والمكارم، وجعلها مقترنة بالتوحيد والنهي عن الشرك إلا لكونها بهذا المقام من علامة الخيرية وقوة الأمة, وهذا يعتضد بالأصل العام من جهة الأمر بالاجتماع والنهي عن الفرقة، ولهذا لا يمكن أن تتحقق للأمة نصرة وتمام وقوة إذا لم تكن على جماعة وكانت الأمة أوزاعاً, فإذا كانت الأمة أوزاعاً متفرقة، وإن كان قد تحقق في ذوات الناس التوحيد على سبيل الكمال وتحققت فيهم العبادة، إلا أن الله جل وعلا لا ينزع عنهم العقاب الذي لا يستثني منهم خاصة بل يأتي على عامتهم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعا إليه في ابتداء أمره يتحقق فيه وصف الجماعة.

التلازم بين الأمر بالتوحيد وصلة الأرحام

وكثير من الأحكام الشرعية إذا أراد الإنسان أن ينظر إليها وجد أنها على نوعين: أحكام شرعية لازمة لا تتعدى الإنسان إلى غيره، وأحكام شرعية متعدية. وهذه الأحكام إذا نظرنا إليها في ذاتها وجدنا أنها على نوعين:

النوع الأول: منها ما يتعلق بأمور تعبدية محضة لا يقترن معها شيء من الأمور المتعدية مما يتعلق بأحوال الناس من أمور العقود والمعاملات والفسوخ وغيرها.

وإذا أردنا أن ننظر للأمور اللازمة للإنسان غير المتعدية وجدنا أن الشارع لا يستثني منها في ابتداء الدعوة إلا التوحيد, فإن التوحيد من جهة الأصل يلزم أن يتحقق في الإنسان لازماً, وأما تعديه إلى غيره فإن ذلك ليس بلازم, ولما استثني من هذا الأصل العام المتأكد وجُعل متقدماً في أصل الشريعة من جهة البلاغ والدعوة دل على عظيم أمره.

والأصل أن الأمور المتعدية من العبادات المقترنة بشيء من الآداب والأخلاق والمكارم إذا كانت متعدية فالأصل في حقها الابتداء من جهة البلاغ والدعوة, وأن ما كان لازماً الأصل فيه التأخير, فلما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان لازماً في الإنسان لا يتعدى إلى غيره من جهة الإيجاب واللزوم إلا ما يدخل في ضمن أبواب الدعوة وبلاغها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية )، فهذا تستوي فيه سائر الأحكام، فلما استثنى الشارع من الأمور اللازمة أمر التوحيد، واستثنى الشارع كذلك من الأمور المتعدية التي حقها التأخير من جهة البلاغ وقرنه بالتوحيد كصلة الأرحام دل على تأكيدها وقوتها من هذا الباب.

والشارع قد حرص على جملة من الأحكام في ابتداء الدعوة كما كان يهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحذير من جملة من المحرمات منها الإشراك مع الله جل وعلا, وكذلك قطيعة الأرحام, وكذلك الوقوع في الفواحش, وهو أصل المحرمات, التي تعلم من جهة العقل والحس بالضرورة, ولا تحتاج لإنكارها إلى نظر إلا من مسخ الفطرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، فإذا علم هذا علم أن تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر صلة الأرحام على غيره من الأمور المتعدية دليل على عظم منزلتها في الإسلام ولها علاقة بقوة الإسلام وتمامه, مع كون الإنسان إذا كان من أهل الإسلام فهذا الوازع وهذا الوصف آكد من غيره من أي صلة أخرى.

شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لمن قاتلهم من ذوي أرحامه

ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل ذوي أرحامه من الكفرة ممن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبع قوله من أعمامه وغيرهم، ويدل كذلك على تأكيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشفع لأحد ممن كان من أهل الإحسان في سابقة أمره ممن كان من أهل الكفر إلا من له صلة به في رحمه؛ كعمه أبي طالب , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شفع له، فكان في النار على نعلين يغلي منهما دماغه كما جاء في الصحيح, وما يقترن بذلك مما له نوع من استحباب الصلة وتأكيدها من أبواب الرضاعة كما في مسألة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي لهب ؛ وذلك أنه قد أعتق مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان في النار يسقى بقدر هذه، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما كان في أسفل إبهامه, يعني: يسقى بقدرها في نار جهنم، وما عدا ذلك فإنه لا شفاعة لأحد من أهل الكفر والعناد.

وقد بين الله جل وعلا خطورة حال من قطع الرحم, وكذلك مقامه أنه مقترن بمن نقض الميثاق وعهد الله جل وعلا، الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ [البقرة:27]، والمراد بما أمر الله جل وعلا به أن يوصل هو صلة الأرحام, وإذا لم يصلها الإنسان كان قاطعاً.

وبين الله جل وعلا على لسان نبيه عليه الصلاة والسلام أن من لم يصل رحمه لمتوعد بدخول النار وعدم دخول الجنة، كما جاء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( لا يدخل الجنة قاطع )، يعني: قاطع رحم، والمراد من هذا أن الإنسان إذا لم يأخذ بظواهر الأوامر الشرعية بصلة الأرحام واجتناب القطيعة كان مرتكباً لكبيرة من كبائر الذنوب.

والمتقرر عند العلماء أن الإنسان إذا فعل فعلاً قد توعد الشارع ذلك الفاعل لأجل فعله بالنار أو وُصف باللعن والطرد والإبعاد من رحمة الله أو شرع حكم له في الدنيا؛ كالحدود والتعزيرات المقدرة بقدر معين أن ذلك دليل على أنه ارتكب كبيرة من كبائر الذنوب.

بين الله جل وعلا حال الجاهليين وأن قطيعة الأرحام قد انتشرت فيهم، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أوائل ما دعا إليه بمكة أن يصل الإنسان رحمه، وأن يبتعد عن قطيعة الأرحام, وهذا ما نادى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول مبعثه بمكة وكذلك في أول قدومه إلى المدينة, فقد روى الإمام أحمد في كتابه المسند من حديث جعفر بن أبي طالب لما هاجر إلى الحبشة وذكر خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عليه رضوان الله تعالى للنجاشي ؛ قال: ( كنا في الجاهلية نقطع الأرحام ونعبد الأوثان ونأكل الميتة ونقع في الفواحش, فأتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرنا بكسر الأوثان وصلة الأرحام )، والمراد من هذا أن الشريعة جاءت بتكميل مصالح الدنيا وتتميمها, ودفع المفاسد الطارئة على هذين الجانبين, وهي تمام الحياة وسلامة معيشة الناس في دنياهم, كذلك إتمام المصالح الدينية التي لا تنفك بالجملة عن مصالح الدنيا, وهذا من كمال شريعة الله جل وعلا أن جعل الإنسان مفطوراً على ما يحبه الله سبحانه وتعالى مما يأمر الله جل وعلا به في أمور الدين والدنيا، ولهذا كان من علامات شر المجتمعات إذا انتشر وفشا فيهم خلاف ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم بابتداء أمره بقطيعة الأرحام.

وقد تقرر عند العلماء أن أول ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتداء في أول مبعثه إذا زال من الأمة فإنه زوالها بتمامها من جهة الاسم ومن جهة الأحكام، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بدأ به هو أنه كان يدعو إلى التوحيد وإلى كسر الأوثان والأصنام, وكان يدعو إلى عدم قطيعة الأرحام, ويدعو عليه الصلاة والسلام إلى صلتها, فلما كان هذا هو أول ما دعا إليه عليه الصلاة والسلام؛ فإذا انتهى من الأمة وفشا في المجتمعات فإن هذا علامة على كون المجتمع مقترناً بمجتمع الجاهلية من جهة استحكام الشر.

ومن علامات الساعة في آخر الزمان انتشار قطيعة الأرحام كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك جملة من الأخبار من حديث عبد الله بن مسعود و أبي هريرة وغيرها، من ذلك ما رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث السيار عن طارق بن الشهاب أن عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن بين يدي الساعة قطيعة الأرحام, وتسليم الخاصة, وفشو التجارة, حتى تعين المرأة زوجها على التجارة, وشهادة الزور, وكتمان شهادة الحق, وظهور القلم )، والمراد من هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أن من علامات الساعة وقيامها قطيعة الأرحام وعدم صلتها, أي: أن حال الناس في آخر الزمان سيشابه حال الجاهليين عند مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من قطيعتهم للأرحام وعدم صلتهم لها, وهذا الوصف حينما جاء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدة أخبار هي صحيحة بمجموعها دل على أن الخيرية قد انتفت من ذلك المجتمع، وشابه ذلك المجتمع الجاهلي.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما أجل الأحكام المتعلقة بالأخلاق والقيم، وأفرد منها صلة الأرحام مع صلتها الوثيقة بأمور الآداب والمكارم، وجعلها مقترنة بالتوحيد والنهي عن الشرك إلا لكونها بهذا المقام من علامة الخيرية وقوة الأمة, وهذا يعتضد بالأصل العام من جهة الأمر بالاجتماع والنهي عن الفرقة، ولهذا لا يمكن أن تتحقق للأمة نصرة وتمام وقوة إذا لم تكن على جماعة وكانت الأمة أوزاعاً, فإذا كانت الأمة أوزاعاً متفرقة، وإن كان قد تحقق في ذوات الناس التوحيد على سبيل الكمال وتحققت فيهم العبادة، إلا أن الله جل وعلا لا ينزع عنهم العقاب الذي لا يستثني منهم خاصة بل يأتي على عامتهم, ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما دعا إليه في ابتداء أمره يتحقق فيه وصف الجماعة.

وكثير من الأحكام الشرعية إذا أراد الإنسان أن ينظر إليها وجد أنها على نوعين: أحكام شرعية لازمة لا تتعدى الإنسان إلى غيره، وأحكام شرعية متعدية. وهذه الأحكام إذا نظرنا إليها في ذاتها وجدنا أنها على نوعين:

النوع الأول: منها ما يتعلق بأمور تعبدية محضة لا يقترن معها شيء من الأمور المتعدية مما يتعلق بأحوال الناس من أمور العقود والمعاملات والفسوخ وغيرها.

وإذا أردنا أن ننظر للأمور اللازمة للإنسان غير المتعدية وجدنا أن الشارع لا يستثني منها في ابتداء الدعوة إلا التوحيد, فإن التوحيد من جهة الأصل يلزم أن يتحقق في الإنسان لازماً, وأما تعديه إلى غيره فإن ذلك ليس بلازم, ولما استثني من هذا الأصل العام المتأكد وجُعل متقدماً في أصل الشريعة من جهة البلاغ والدعوة دل على عظيم أمره.

والأصل أن الأمور المتعدية من العبادات المقترنة بشيء من الآداب والأخلاق والمكارم إذا كانت متعدية فالأصل في حقها الابتداء من جهة البلاغ والدعوة, وأن ما كان لازماً الأصل فيه التأخير, فلما استثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان لازماً في الإنسان لا يتعدى إلى غيره من جهة الإيجاب واللزوم إلا ما يدخل في ضمن أبواب الدعوة وبلاغها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( بلغوا عني ولو آية )، فهذا تستوي فيه سائر الأحكام، فلما استثنى الشارع من الأمور اللازمة أمر التوحيد، واستثنى الشارع كذلك من الأمور المتعدية التي حقها التأخير من جهة البلاغ وقرنه بالتوحيد كصلة الأرحام دل على تأكيدها وقوتها من هذا الباب.

والشارع قد حرص على جملة من الأحكام في ابتداء الدعوة كما كان يهتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتحذير من جملة من المحرمات منها الإشراك مع الله جل وعلا, وكذلك قطيعة الأرحام, وكذلك الوقوع في الفواحش, وهو أصل المحرمات, التي تعلم من جهة العقل والحس بالضرورة, ولا تحتاج لإنكارها إلى نظر إلا من مسخ الفطرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه )، فإذا علم هذا علم أن تقديم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمر صلة الأرحام على غيره من الأمور المتعدية دليل على عظم منزلتها في الإسلام ولها علاقة بقوة الإسلام وتمامه, مع كون الإنسان إذا كان من أهل الإسلام فهذا الوازع وهذا الوصف آكد من غيره من أي صلة أخرى.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل ذوي أرحامه من الكفرة ممن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولم يتبع قوله من أعمامه وغيرهم، ويدل كذلك على تأكيد هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشفع لأحد ممن كان من أهل الإحسان في سابقة أمره ممن كان من أهل الكفر إلا من له صلة به في رحمه؛ كعمه أبي طالب , فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم شفع له، فكان في النار على نعلين يغلي منهما دماغه كما جاء في الصحيح, وما يقترن بذلك مما له نوع من استحباب الصلة وتأكيدها من أبواب الرضاعة كما في مسألة شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لـأبي لهب ؛ وذلك أنه قد أعتق مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان في النار يسقى بقدر هذه، وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما كان في أسفل إبهامه, يعني: يسقى بقدرها في نار جهنم، وما عدا ذلك فإنه لا شفاعة لأحد من أهل الكفر والعناد.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] 2707 استماع
إنما يخشى الله من عباده العلماء 2471 استماع
إن خير من استأجرت القوي الأمين 2312 استماع
العالِم والعالَم 2306 استماع
الذريعة بين السد والفتح [1] 2294 استماع
الإسلام وأهل الكتاب 2127 استماع
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] 2098 استماع
الذريعة بين السد والفتح [2] 2097 استماع
الردة .. مسائل وأحكام 2072 استماع
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] 2040 استماع