الاستقامة على الحق والثبات عليه


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى قد جعل الحق ظاهراً بيناً, وجعل أيضاً ما يخالف الحق بالظهور والجلاء على حد سواء مع الحق, ليكون الإنسان على اتباع ببيان ووضوح, وعلى طمأنينة وسكينة عند سلوكه لذلك الطريق, فيسلك الطريق وهو على أُنس وثبات, ويسير فيه ولو كان في ظلمات؛ لأن نوره معه, فالله عز وجل ثبته وأنار قلبه, فالنور الحقيقي هو نور القلب, ولهذا جعل الله عز وجل كتابه العظيم هدى ونوراً, وجعل الله سبحانه وتعالى غيره من الأمور التي تحرف الناس عن منهج الله سبحانه وتعالى وتحيد بهم جعلها الله عز وجل ظلمة وضلالاً.

إن الاستقامة على الشيء هي فرع عن معرفته, فإن الإنسان لا يستقيم على شيء إلا وقد عرفه, فإذا كان الإنسان مستريباً لما يعلم وما يسلك من طريق كان ثباته حينئذ مهزوزاً, ومسيره في ذلك على شك وريب؛ كحال الإنسان الذي يسلك طريقاً لأول مرة يسلكها، ولم يكن على بينة ومعرفة بها, فإنه حينئذ يسلكها بوجل وترقب وخوف وقلق, فربما انتكس واضطرب عند أول داع على خلاف ذلك الصراط المستقيم.

والله سبحانه وتعالى قد بين لهذه الأمة الحق برسوله صلى الله عليه وسلم, إذ أنزل الله عز وجل عليه الكتاب العظيم, وجعل كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبياناً لما استغلق على الأفهام ولم يدرك، فمراد الله سبحانه وتعالى في بعض المواضع يكون بقول النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك فعله وتقريره يكون تبياناً لما أجمل من كلامه سبحانه وتعالى, فكانت الشريعة بينة ظاهرة, كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ [هود:1], ويقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما جاء في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير-: ( الحلال بين، والحرام بين ), والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها, لا يزيغ عنها إلا هالك ).

إن الطريق المستقيم بينه الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة, فكان الناس على منهج قويم وعلى صراط مستقيم, وكان هذا الصراط مبيناً بالرسول الذي جعله مستقيماً, وذلك البيان يتضح بمعرفة الصراط بنفسه وبمعرفة ضده, ولهذا يقال: وبضدها تتبين الأشياء.

إن الله سبحانه وتعالى حينما أنزل الحق على رسوله صلى الله عليه وسلم مع كونه غاية في الوضوح والجلاء جعل أيضاً ضده مما يخالفه من الطرق المعوجة على بيان وجلاء، حتى يكون الإنسان على حذر منها, ولهذا نقول: إن أكمل الناس يقيناً وثباتاً الذي يعرفون طرق الخير وطرق الشر فيحذرون منها, وكلما كان الإنسان بطرق الخير أبصر وبطرق الشر أعرف كان للحق أسلم وعليه أثبت, وهذا أمر معلوم.

والله سبحانه وتعالى لا يأمر عباده بسلوك صراط مستقيم إلا ويحذر من ضدها, ويبين تعددها, يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153], فبين الحق وبين الضد, كذلك في حديث عبد الله بن مسعود: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خط لأصحابه خطاً، ثم خط عن يمينه وعن يساره خطوطاً، ثم قال: هذا الصراط المستقيم، وهذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ), وهذا نوع من التعريف بمعرفة ما يخالف الحق.

ولهذا كثرة الانتكاسات عن طريق الحق هي بسبب أن الإنسان عرف الحق وما عرف ضده, و حذيفة بن اليمان -عليه رضوان الله كما جاء في الصحيح- يقول: ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ), يعني: أنه إذا أدركني ولم أكن على علم به ربما اضطربت, والإنسان الذي يسلك الطريق الذي هو على معرفة به يكون على حذر من الدخيل عليه, ولكن ليس على خوف ووجل منها, وذلك أن الإنسان ربما إذا سار في طريق مثلاً من دمشق إلى الأردن, يعرف الطريق الذي يوصله إلى ذلك, لكنه لا يعرف غير هذا الطريق سواء كانت تؤدي إليه أو لا تؤدي إليه, فإذا كان على بينة بمعرفة طرق الضلالة التي إذا سار بها أهلكته وطرق النجاة التي إذا سار بها أنجته كان على يقين في ذلك, فإذا اعترضه أحد في طريقه وذهابه وقال له: هذا طريق مختصر, فإذا كان عارفاً به قال: ليس بمختصر, فإنه يؤدي إلى كذا وكذا وأنا على معرفة به, فكان على يقين بطريقه, وإذا كان جاهلاً بذلك وردت إليه الاحتمالات التي تغيب القلب شيئاً فشيئاً؛ فهناك احتمال أن يكون قد صدق, أو كان ثمة طريق يوازيه هو أيسر, أو الطرق كلها تؤدي إلى ذلك الطريق.

ويضل كثير من الناس الذين يعرفون طريق الحق، ولكنهم لا يعرفون طرق الباطل, فإذا كان الإنسان عارفاً بطرق الباطل كما يعلم بطريق الحق كان أرسخ وأثبت وأقعد, وكلما جاءته الأهواء والآراء والأفكار المضلة كان على معرفة سابقة بذلك وعلى يقين مما هو عليه, ولهذا الله جل وعلا يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, يثبتهم الله جل وعلا بالقول الثابت, والمراد بالثبات هنا؛ العمل، أي معرفة الحق, ومعرفة الباطل أيضاً, معرفة الحق وسلوك ذلك الطريق، ومعرفة الباطل والنفرة منه.

ولهذا نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما يأتي إلى مسألة أو حكم من الأحكام إلا وقد بين الحق وبين ما يخالفه, فنأتي إلى توحيد الله, فنجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بيّن التوحيد بجميع أنواعه، ثم حذر من ضده وهو الشرك بجميع التفاصيل؛ الشرك الأكبر والشرك الأصغر وأنواع ذلك؛ لماذا؟ الإنسان قد يعرف التوحيد؛ أن يفرد الله عز وجل بالعبادة, وأن يصلي لله جل وعلا, وأن يصوم له, وأن يزكي ويتصدق لله جل وعلا, ولكن ثمة أقوام تخالف ذلك؛ منها ما يتعلق بالشرك الأصغر أو الأكبر, فيظن بعضهم أنه لو كان جاهلاً بها أنها لا تنافي ذلك التوحيد.

والشيطان يأتي الإنسان في انحرافه على سبيل التدرج, فيحيده شيئاً فشيئاً، حتى إذا طال به الأمد شعر أنه انحرف عن طريق الحق ولم يكن ثابتاً عليه, وهذا جعله الله عز وجل أمراً كونياً حتى في مسير الإنسان في الأرض, فالإنسان إذا سلك طريقاً في الصحراء أو سار في الليل ودرج فيه، وقال: إني أريد أن أسلك طريق الاستقامة ولا أحيد عنه، وأسير في هذا الاتجاه, فإذا طال به المسير ولم يكن له هادٍ يجد أنه قد انعكست جهته وهو لا يشعر, وذلك أنه ينحرف ببطء يسير جداً حتى إذا طال به الأمد وجد أنه قد انحرف.

كذلك في أمور العقائد والأفكار والآراء, يأخذها الإنسان، ثم يأتي الشيطان الإنسان فيحرفه شيئاً فشيئاً ويوماً ويوماً, ثم بعد عدة أعوام يجد أنه انتكس انتكاسة تامة من حيث لا يشعر, ولهذا من أعظم ما يزيغ قلب الإنسان هو التدرج بالباطل, والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من خطوات الشيطان, قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة:168], فذكر الله سبحانه وتعالى خطوات الشيطان, يعني: أنه يسلك بالإنسان الإضلال على سبيل التدرج حتى ينحرف؛ لماذا؟ لأن الإنسان في ضلاله لا يمكن أن ينتكس انتكاسة تامة, ولا يمكن أن يتيه عن الحقيقة تيهاً مفاجئاً, فالإنسان إذا أريد له أن يضل، وكان في طريق ومسير يريد أن يتجه بالذهاب إلى بلد على قدميه، أو على مركب إلى بلد من البلدان كمكة أو المدينة أو اليمن أو الشام أو غير ذلك, وسار في هذا الاتجاه, فإذا كان عنده من يريد إضلاله لا يقوم ويأتي بثباته ثم يقوم بحرف جهته ويقول: اسلك هذا الطريق؛ لماذا؟ لأن هذه طريقة معروفة لدى الإنسان ينفر منها؛ لماذا؟ لأنه انحراف ظاهر بين, والله عز وجل يقول: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168], يعني: أنه يأخذ بيد الإنسان خطوة خطوة، ولا يأخذ به على سبيل العجلة, بل بالإيناس والتجرد, ولهذا يعرف مرتبة الإنسان التي وصل إليها ثم يقوم بحرفه عنها, فإذا كان الإنسان من أهل التمسك بالطاعات وامتثال أمر الله عز وجل في الواجبات والإكثار من النوافل، فإنه لا يبدأ بانحرافه بتزيين الحرام له، وإنما يجره إلى الإغراق في أمور المباحات, وأن يتقلل من أمور الطاعات, ثم إذا تقلل منها يأتيه بالترخص بالأمور المتشابهات, ثم بعد ذلك يأتيه ليقرب إلى الأمور المكروهات، ثم أن يقع في أمور اللمم والصغائر, ثم يقع بعد ذلك بالكبائر، ثم يخرج من دين الله جل وعلا, ولهذا ما من أحد كان قد كمل إيمانه أو كان قوي الإيمان ثم انتكس من يومه وليلته إلى الكفر بالله عز وجل إلا وقد مر بأمثال هذه المراحل, وهذه طرق إبليس وخطوات الشيطان.

والله سبحانه وتعالى أمر العباد بجملة من المثبتات على طريق الحق حتى يكونوا على بينة من أمر الله, ومن نظر إلى حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وثباته, وتثبيت الله جل وعلا له على الصراط المستقيم والمنهج القويم, الذي أرشد الله عز وجل الأمة إليه, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدل الأمة على هذا الطريق, فقال النبي صلى الله عليه وسلم امتثالاً لأمر الله في آخر حياته لأمته كما قال الله: (( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي )), ما هذه السبيل التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عاماً؟ ثلاثاً وعشرين سنة بقي عليها النبي صلى الله عليه وسلم, هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108], يعني: من أراد أن يسلك طريقي بمعرفة الحق والثبات عند ورود الفتن والملمات، فليعلم أن هذا الطريق بجميع أقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة هو موضع السلوك وهو موضع الثبات.

والله عز وجل جعل الحق في ذلك بيناً ظاهراً، فقد امتحن الإنسان بجملة من الفتن التي تحرفه عن طريق الحق، وجعل له أعداء في الأرض, فجعل له ثلاثة أعداء: نفسه الأمارة بالسوء, وجعل له شياطين الإنس, وشياطين الجن, يقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما جاء في حديث أبي هريرة كما في مسلم-: ( كانت بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم, كلما ذهب نبي جاء نبي بعده ), ومعنى (تسوسهم أنبياؤهم) من السياسة؛ كحال الإنسان الذي يسوس الخيل يريد لها ترويضاً, فإذا تروضت وأبطأ عنها وتركها نسيت ما كانت عليه ثم انحرفت, وهكذا في حال البشر, يدلهم الله عز وجل بالأنبياء إلى الصراط المستقيم ثم ينحرفون, ولهذا يقول الله جل وعلا: ( خلقت عبادي حنفاء, فاجتالتهم الشياطين ), واجتيال الشياطين على سبيل التدرج: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ [البقرة:168], فالشيطان لا يأتي للإنسان على سبيل المفاجئة بالانحراف والمكاشفة, وإنما يأتيه على سبيل التدرج، ولذا سماها الله عز وجل خطوات, يعني: تحرف الإنسان شيئاً فشيئاً عن منهج الله سبحانه وتعالى.

إذاً ينبغي للإنسان أن يعلم الحق، وأن يعرف الباطل، وأن يعرف سبل الثبات على الحق كما عرف الصراط المستقيم.

الإنسان يعرف الحق، لكن ما هو الثبات؟ ما هي وسائل الثبات والصبر عليه؟ لأنه يحتاج الإنسان في ذلك إلى صبر؛ صبر على الحق الذي هو عليه, صبر على الأذى الذي يطرأ عليه, صبر على الإقلاع عن مخالفة ذلك؛ لأنه سيلتفت يمنيه وشماله وسيجد من الأمور والمغريات ما يطمع بها الإنسان, والنبي صلى الله عليه وسلم حينما خط خطاً، هل خط عن يمينه خطوطاً فقط أم خط عن يمينه وشماله خطوطاً؟ خط عن يمينه وشماله, يعني: أنك سترى عن يمينك وشمالك وأينما التفت ستجد من الأهواء والمشارب المضلة ما يحرف الإنسان عن منهج ومراد الله سبحانه وتعالى, ولهذا جعلها الله عز وجل عن يمين الإنسان وشماله.

والإنسان بحاجة إلى الالتفات لما فطر الله عز وجل عليه قلبه وبصره وإدراكه، أن يلتفت يمنة ويسرة، فيرى من ذلك ما يغريه, وإذا كان الإنسان عارفاً بتلك الأهواء كان أكثر ثباتاً وصبراً على الحق الذي هو عليه, وقد جعل الله عز وجل قلب الإنسان يتشوف إلى الشهوات, ويتشوف إلى حظوظ النفس, وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التحذير من تقلبات القلب, كما في مسند الإمام أحمد من حديث المقداد بن الأسود عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن القلب أشد تقلباً كتقلب القدر غلياً ), يعني: إذا اشتد غلياً يتقلب ذلك الماء وكذلك قلب الإنسان يتقلب, من جهة المطامع والأهواء وحب الشهوات وغير ذلك, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول أيضاً -كما جاء في المسند وغيره من حديث أبي موسى-: ( إنما سمي القلب لتقلبه, وإن القلب كحال الورقة في الريح, تقلبها ظهراً لبطن ), هذه الرياح التي تأتي إلى قلب الإنسان إنما هي الأهواء والمشارب والمطامع التي تحرف الإنسان، فتجعله يلتفت يمنة ويسرة, ولكن عند انحراف قلب الإنسان ما الذي يثبته في هذا؟

وإذا عرفنا أن قلب الإنسان يتقلب وينحرف ويتشوف إلى المطامع واللذائذ والأهواء وحظوظ النفس وإشباع الغرائز وغير ذلك, فما الذي يثبت الإنسان على الحق الذي أمر الله عز وجل به؟

تقدم الإشارة إلى أمر مهم من وسائل الثبات, وذلك أن الله سبحانه وتعالى يأمر عباده بالحق, وسلوك الحق سهل عند كثير من الناس, ولكن الثبات عليه صعب وشاق؛ لماذا؟ لأن نفوس الناس تسأم وتمل, وفطرهم الله عز وجل وجبلهم على ذلك, فاحتاجوا إلى المصابرة على هذا، مقاومة للنفس ابتداء, ومقاومة أيضاً لما يجدونه من كلف ومشاق في طريق الإنسان, ورسول الله صلى الله عليه وسلم جعل منهجاً ورسم طريقاً لوسائل الثبات, ولهذا يوصي أصحابه عليهم رضوان الله, لا باتباعهم الحق مجرداً, وإنما يوصيهم أيضاً بالثبات؛ لماذا؟ لأن النفس تمل, حتى من أمر العبادة, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( مه, عليكم من العمل ما تطيقون, فإن الله لا يمل حتى تملوا ), والمراد من ذلك أن عليكم من العمل ما تطيقون, وعليكم بتوطين النفس حتى لا تنفر النفس من الإنسان.

وينبغي للإنسان أن يعلم أنه مركب من شيئين: من نفس وعقل, وهذه النفس التي في الإنسان وتدب فيه، وتمتزج بها تلك الروح لها أهواء ومطامع, يأتي العقل بأسرها وقسرها, وربما غلبت الإنسان لشيء من دهائه وذكائه؛ كحال الإنسان حينما يسوس الفرس, يعطيها شيئاً ويروضها؛ لماذا؟ حتى تتروض معه بعد ذلك وهكذا, ولهذا الإنسان الذي يسوس نفسه قدر وسعه وإمكانه ويأطرها على الحق, وهي ربما تغلبه النفس, والله عز وجل يقول: وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53], تأمر من؟ يوجد آمر ومأمور, من الآمر ومن المأمور؟ النفس تأمر عقل الإنسان أن يفعل.

وكثير من الذين يسلكون طرق الغواية والشر يعلمون أنهم على باطل؛ فحينما تأتي رجلاً يسرق ويفجر ويغتصب، أو يبيع المسكرات أو المخدرات أو غير ذلك، ويغوي الناس, حينما تأتي إليه وهو في طريقه إلى الغواية, تأتي إليه وتوقفه وتقول: هل ما أنت عليه حق أو باطل؟ ماذا يقول؟ رجل يسرق ويسطو على البيوت, وتسأله هذا السؤال, ماذا يقول؟ يقول: باطل, من الذي أجابك؟ ومن الذي سيره؟ التي سيرته النفس, والذي أجابك العقل, أجابك عقله, لكن لماذا العقل أصبح ضعيفاً وركبته النفس؟ لأن النفس تمردت، ومكن لها على تمردها فركبت العقل.

والعقل إذا ركب النفس اهتدى الإنسان, وإذا قاد الله عز وجل العقل استقام الإنسان وثبت على أمر الله سبحانه وتعالى, ولهذا نقول: إن الله عز وجل قد جعل العقل كحال البصر للإنسان, وبصر الإنسان لا ينفعه إذا لم يكن ثمة نور, وعقل الإنسان كذلك, فلا ينفعك إذا لم يكن ثمة نور في طريقك, من الذي ينير هذا النور؟ هو الوحي, هو كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وكذلك الإنسان إذا كان في ظلام كالح أو كان في حجرة مغلقة محكمة لا نور فيها, هل تنفعه عينه؟ لا تنفعه عينه, وكذلك عقل الإنسان لا ينفعه إذا لم يكن لديه هداية من الله سبحانه وتعالى, وإن قال: لدي بصر, فإنه يبصر شيئاً لم يرده الله عز وجل, أو أبصر شيئاً من الزخارف والأهواء والآراء التي تُزَوِّق الباطل وتجعله في صورة حق.

ولهذا جاء الله عز وجل بالوحي ليهدي تلك البصائر إلى الحق، كما جاء الله عز وجل بضياء الشمس والقمر ليهدي البصر للإنسان في طريقه, والله سبحانه وتعالى قد أمر الناس بالاستقامة كما أمرهم بمباشرة الحق ابتداء, وقد جاء في صحيح مسلم (أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله الثقفي عليه رضوان الله فقال: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك. قال عليه الصلاة والسلام: قل آمنت بالله ثم استقم ), فقوله هنا: (الإيمان بالله)؛ قد تقول للإنسان: آمن بالله وأطع الله واتق الله, فيقول: اتقينا الله وأطعنا الله, ويكون صادقاً ابتداء, ولكن كل واحد من الناس بحسب ثباته, فمن الناس من ينحرف من ساعته بمجرد مغادرتك عنه, وهذا نوع من الانتكاس, ومنهم من ينتكس بعد يوم، ويبقى تأثير ذلك الكلام عليه, ومنهم بعد أسبوع, ومنهم بعد شهر, ومنهم بعد سنة, ومنهم من يثبته الله سبحانه وتعالى على ذلك الطريق وينطلق ثباتاً في هذا.

وابتداء الحق وسلوكه والإقرار به سهل عند أكثر وعامة الخلق, ولكن العبرة في ذلك بالثبات, وما من أحد من الخلق إلا وانقدح بقلبه من معرفة الحق ولو شيئاً يسيراً, وربما كلمحة البصر, ولكنه لا يستمسك بذلك الحق، ويسأل الله عز وجل الثبات, ولهذا قوم إبراهيم حينما حطم إبراهيم عليه السلام أصنامهم ألم يعترض لهم الحق؟ حينما رجعوا إلى أنفسهم ماذا قالوا؟ فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:64]، أي: أقروا بالظلم وهو الشرك, يقول الله عز وجل: وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254], والأصل في الظلم إذا ذكر في كلام الله فالمراد به الشرك, فأقروا بأنهم مشركون, ولكن بعد ذلك لم يتمسكوا بهذه الحقيقة التي اعترضت لهم, فجاء ذلك كلمح البصر, ثم بعد ذلك رجعوا إلى طريق الغواية, ولهذا من الناس من يأتيه الحق لحظة ولا يستمسك به, ومنهم من يأتيه لحظات وساعات ودقائق أو ثوانٍ أو أكثر من ذلك وأقل, فينبغي للإنسان إذا هداه الله عز وجل الطريق وتمسك بالعروة عليه أن يتشبث بها.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم جعل جملة من الأمور من المثبتة للإنسان على الحق, ونحن نذكر جملة منها:

معرفة سبيل الحق وسبل الباطل

أولها: أنه ينبغي للإنسان أن يعرف سبيل الحق ويعرف سبل الباطل؛ حتى إذا طرأت عليه كان على معرفة سابقة من ذلك، كما تقدم الإشارة إليه؛ أن الإنسان إذا سلك طريقاً من مكة إلى المدينة، وهو يعرف الطريق في ذلك المختصر, ويعرف الطرق التي تذهب يمنة ويسرة تأخذ به يمنة ويسرة, منها ما هو معوج, ومنها ما هو يهلك الإنسان ويتيه به إلى الصحراء، ويعطش ويهلك وهو على معرفة بها, فإذا سلك ذلك الطريق واعترضه أحد، وقال: إني لك من الناصحين، وهذا الطريق هو أخصر من ذلك, فإذا كان عالماً بذلك هل يطيعه أو لا يطيعه؟ لا يطيعه، بل يعترضه ويقول: أعلم أن هذا الطريق يتجه لجهة الغرب، وهذا لا يؤدي إلى مكة، وإنما يؤدي إلى كذا ويؤدي إلى كذا وغايته كذا, وهذا يعطي الإنسان نوعاً من اليقين.

ولكن إذا كان لا يعرف إلا الطريق المستقيم فقط ولا يعرف غيره، واعترض أحد وقال له: هذا الطريق يؤدي إلى قصدك، ولكن ثمة طريق أخصر منه وأحسن منه وأيسر، ألا يقع في نفس الإنسان شيء من الشك والريب؟ يقع, ولهذا كثير من أتباع الحق عرفوا الحق وسلكوه, وحينما اعترضتهم الأهواء والفتن أخذت بهم يمنة ويسرة؛ لماذا؟ لأنهم ما عرفوا هذه الفتن فاستجدت عليهم, فاستجابوا لكل داعٍ, فمنهم من هلك, ومنهم من سلك طريقاً وتاه، فأعاده الله عز وجل, ومنهم من سلك طريقاً تاه به إلى الغواية فهلك إيمانه، وضل وزاغ, ولهذا نقول: إنه ينبغي للإنسان أن يستبصر بالحق وأن يستكثر من ذلك.

كذلك أن يستكثر من معرفة الطرق المخالفة والأهواء, وهذا لا يعرف جميع الطرق والأهواء على سبيل الإطلاق, وإنما يعرف طرائق أهل الأهواء في زمنه, إلى ماذا يدعوه من الشر؟ وماذا قال الله عز وجل عنهم؟ وما الموقف من أولئك؟ وماذا حذر منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الصدق والاتباع من أهل المعرفة بكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إذا استكثر من ذلك كان من أهل المعرفة واليقين.

التوكل على الله والتضرع إليه

ثانيها: أن يعتمد الإنسان على الله وأن يتكل عليه.

ومن أعظم وجوه الاتكال: الاطراح والافتقار بين يدي الله عز وجل والإكثار من سؤال الله, وقد جاء في الترمذي وغيره، وأصله في الصحيح: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر دعائه: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك, فقالت أم سلمة عليها رضوان الله: يا رسول الله! إنك تكثر من قول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء ), وفي هذا الحديث خوف من زيغ القلب, والخائف من ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وجل وخاف من ذلك فإنه ينبغي أن يوجل وأن يخاف من أي إنسان, وهذا يعطي الإنسان إظهار الافتقار والالتجاء إلى الله والاطراح بين يديه, وكأن الإنسان يقول: اللهم هذا الضعف وهذا عقلي, لا هداية لي إلا بك؛ كحال الإنسان حينما يسلك طريقاً من طرق مسيره ونحو ذلك, ويأتي ويستمسك بشخص ويقول: إني رجل تائه, ولا أعرف أحداً من هذا الطريق ولا في هذا البلد, ولا أحمل زاداً ونحو ذلك, ثم قام بالتضرع بين يديه أن يسلك به ذلك الطريق, ألا يكون بمعاونته قد اطرح وأظهر الضعف، ولله المثل الأعلى.

ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان أكثر الأمة اطراحاً بين يدي الله عز وجل وإظهاراً لضعف الإنسان وعجزه إلا بالله سبحانه وتعالى, فإذا أظهر الإنسان ضعفه عند الله جل وعلا، وأن لا حول ولا قوة له إلا به سبحانه وتعالى, وحيرته وجهله إلا بعلم الله, وضعفه إلا بقوة الله, وأكثر من ذلك نصره الله عز وجل وأعانه, فإذا قلل من ذلك وقلل من سؤال الله والاطراح بين يدي الله وكله الله عز وجل إلى ماذا؟ وكله الله إلى عقله وإلى نظره وبصره.

وبقدر ضعف ذلك التوكل يبتعد الله عز وجل عن عبده, ولهذا تجد بعض الناس ينحرفون ويعودون, يقربون ويبتعدون, منهم من يبتعد بعيداً, ومنهم من يكون قريباً من الحق بسبب ضعف التوكل على الله, وإذا التجأ الإنسان إلى الله ألجأه الله عز وجل إليه وكان معيناً له ومسدداً, يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36], والمراد بهذا أن الله عز وجل يكفي عبده ويعينه بقدر عبوديته, وكلما ارتفع أمر العبودية عند الإنسان زادت كفاية الله عز وجل له.

وما المراد بالكفاية هنا؟ هي الكفاية الدينية, والعصمة من الانحراف, والثبات على أمر الله سبحانه وتعالى, وليس المراد بذلك الكفاية المادية؛ أن يكفي الله عز وجل عبده كلما زاد عبادة زاد ثراء وغنى, وكلما زاد عبادة زاد جاهاً ورئاسة؛ لماذا؟ لأن الله عز وجل ما أعطاك الدين لتتكسب به وتترفع به في أمر الدنيا, بل جعل الله عز وجل أمر الدنيا مغالبة, وجعل أمر الدين اتكالاً واعتماداً على الله سبحانه وتعالى, كلما التجأ الإنسان إلى الله عصمه الله عز وجل وكفاه.

وأما أمر الدنيا فكلما أظهر الإنسان الافتقار إلى الله عز وجل كفاه, ورزقه قبل غنى اليد غنى القلب؛ كم من الناس من يعطيه الله عز وجل مالاً يسيراً ولو عشرة دنانير أو أقل من ذلك فهي عنده رأس ماله لكن تجد في قلبه من السعادة واليقين والحب والرضا وعدم السخط، وتجد من الناس من لديهم ملايين مُمَلْيَنَة وهو أول المنتحرين، وأضيق الناس نفساً وأشدهم ضيقاً وحرجاً, وجعل الله عز وجل ما لديه من مال وسعة زرق من أمور السخط.

والله عز وجل حذر نبيه عليه الصلاة والسلام من الالتفات والنظر والإعجاب بما أعطى الله عز وجل المشركين من أموال وأولاد؛ لماذا؟ إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا, ولهذا لا يغرك أن ترى عند فلان الكثير من المال ونحو ذلك؛ لأنك لا تعلم ما في قلبه, فقد يظهر السعادة خوف الشماتة, وترى الإنسان فقيراً كفيفاً لا يملك إلا لقمة اليوم, ثم بعد ذلك غرس الله عز وجل به من السعادة ومن اليقين, ولهذا نقول: إن اليقين هو يقين القلب.

ومن نظر إلى أحوال الأمم الغابرة, وما فتح الله عز وجل في ذلك على الأمم اللاحقة من أموال وخير ولباس ونحو ذلك, تجد فقراء اليوم يلبسون من اللباس ونعومة القماش وكذلك من الحذاء، ويتنعمون ما لا يتنعم فيه قبل ذلك كسرى وقيصر, بل إن الإنسان لو أعطي لباس كسرى وقيصر في ذلك الزمان لم يلبسها لما فيها من الخشونة والبعد عن الترفه، ولم يلبسها في ذلك الفقراء, فهذه المادة جعلت الإنسان يبطر ويتكبر على أهل الأرض كلهم, وجعلت الإنسان حينما ينظر يضيق قلبه في ذلك، ومن الناس من تجد أن لديه من الأثاث ولديه من المتاع ولديه من المطعم ولديه من الأواني ما لا يملكه ملوك الناس قبل ذلك.

وأنا أذكر أنني رأيت صوراً لمنازل أحد الملوك القريبين منا فيما مضى, والله إن الحُجر والمسكن والأثاث والملبس لا يلبسه الفقراء اليوم, وهو من المتكبرين في ذلك الزمن, تكبر على أهل الأرض كلهم, وتجد من الناس اليوم من يلبس ما هو أحسن منه وأشد ترفاً، لكنه معدود من جملة الفقراء, بل لربما ضاق صدره وانتحر لماذا؟ لأنه يرى أنه من أهل الفقر, ولهذا ينبغي للإنسان أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى أعظم ما يرزق الإنسان هو يقين القلب وسعته وهو من أعظم وجوه الثبات, فإذا رزق الله عز وجل الإنسان اليقين في قلبه حماه ووقاه من أن ينصرف إلى أسباب قوة من غيره سبحانه وتعالى.

والنبي صلى الله عليه وسلم حذر من فتنة المال وفتنة الولد وفتنة الجاه والرئاسة وغير ذلك, فإذا رزق الله عز وجل الإنسان قناعة في قلبه ورضا أضعف ما في قلبه من شره إليها وطمع فيها, فيرى الناس يتقاتلون عليها وهو لا يسعى إليها، قد رزقه الله عز وجل يقيناً, إذاً فحماه الله عز وجل وثبته من ذلك.

ولهذا أقول: ينبغي للإنسان أن يكثر من التضرع لله سبحانه وتعالى وسؤال الله عز وجل الثبات والاستقامة، وهذا يورث الإنسان ضعفاً وانكساراً وتواضعاً للخالق سبحانه وتعالى, فإذا علم الله عز وجل منه ذلك كفاه الله سبحانه وتعالى, وأظهر وجوه التوكل والاعتماد على الله سبحانه وتعالى في زمن الحاجة والضعف؛ لأن الله عز وجل يجيب دعوة المضطرين عند ضرورتهم ولو كانوا كافرين؛ لماذا؟ لأن الإنسان في حال ضرره يتجرد من جميع العلائق إلا من الله سبحانه وتعالى، فيتوجه إليه فيجيب الله عز وجل دعاءه, مع أن الله عز وجل يعلم في سابق علمه أنهم إذا أنجاهم إلى البر إذا هم يشركون, ويعلم الله عز وجل، ولكن لطفه بعباده سبحانه وتعالى؛ فكيف بعابد متقرب لله عز وجل سأل الله عز وجل في حال سرائه ثم سأله في حال ضرائه؟!

يقول النبي صلى الله عليه وسلم -كما في الترمذي وغيره-: ( من لم يسأل الله يغضب عليه )؛ لأن لله عز وجل في ذلك الغنى الكامل والكرم الكامل, والإنسان إذا سألته مرة ربما يفرح لماذا؟ لأنك احتجت له, ولكن لو سألته أخرى وثالثة ورابعة لتضجر ومل منك, ولكن الله سبحانه وتعالى يريد من عباده أن يسألوه على سبيل الدوام؛ ليكفيهم لأنفسهم, ولله عز وجل في ذلك الكبرياء.

وكثير من الناس يسألون: لماذا الله سبحانه وتعالى يهب بعض عباده الكافرين والمعاندين الرزق في الدنيا؟ لماذا الإنسان يُرزق في الدنيا إذا كان كافراً وظالماً ثم يجد أنه منعم ويعطى الخير؟ وهذا يتساءل به بعض العوام؛ لماذا الله عز وجل يعطي مثلاً بعض البلدان أو بعض الناس الكفرة المعرضين عن الله سبحانه وتعالى يعطيهم خيراً، ويغدق عليهم بالأمطار وخصب الأرض والنعيم والخيرات ونحو ذلك؟ ولماذا لا يحرم عنهم ذلك؛ لأنهم كفروا بالله أو سبوا الله عز وجل؟

نقول: إن الله سبحانه وتعالى وصف نفسه بأنه خير الرازقين, والمراد من هذا أن الإنسان حينما يشبه الخالق بالمخلوق ينقدح في ذلك هذا المعنى, ومعنى هذا أن الله سبحانه وتعالى لا يتضرر بعناد معاند وكفر كافر, وإذا كان لا يتضرر -والله عز وجل يُنزه عن أن يتألم سبحانه وتعالى أو يتضرر جل وعلا عن ذلك بوجود كفر أو ضلال أو زيغ زائغ- حينئذٍ لا ينتقم لمجرد ذلك العمل؛ لأن الإنسان إذا ضل إنما يضل بنفسه, بخلاف الإنسان، فإذا كنت تعطي أحداً من أبنائك أو تحسن إلى جارك ثم أساء إليك، ألا تمسك النفقة؟ تمسك النفقة؛ لماذا؟ لأنه أساء إليك وتألمت؛ فأردت من ذلك الانتقام؛ لماذا؟ لتشفي ضرراً وجد في نفسك, ولكن الله عز وجل لا يبلغه ضر أحد, وهذا تجده حتى في الناس؛ كلما يزداد الإنسان ألماً من شخص ضره يقوم الإنسان بماذا؟ بالانتقام منه, وإذا ضره أحد من الناس ضرراً لم يجد ذلك في نفسه لم يقم بالانتقام منه.

ولهذا تجد الإنسان مثلاً إذا خرج من داره ثم قابله طفل عمره ثلاث سنوات أو أربع سنوات، وقام بالكلام عليه فسبه, أو لعنه, أو سب والديه؛ ماذا يصنع هذا الرجل أمام هذا الصبي الذي عمره ثلاث سنوات؟ يقوم بالابتسامة له، وربما أعطاه مالاً أو أهداه هدية؛ لماذا؟ لأنه لم يؤثر فيه, قد يقول قائل: لماذا تعطيه وتبتسم في وجه وهو يلعن ويسب ويشتم؟ يقول: هذا عمره ثلاث سنوات ولا يدرك، وأنا أرفع من أن أقوم بالانتقام لنفسي من هذا الصبي الصغير, وربما دعا له بالهداية والصلاح، وربما أعطاه وأغدق عليه من المال, ولله عز وجل في ذلك المثل الأعلى, يكفر عباد الله عز وجل ويفسقون ويفجرون، ولا يبلغ فعلهم ذلك ضراً بالله عز وجل, وفي الحديث القدسي يقول الله سبحانه وتعالى: ( إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ), يعني: من أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها.

ولهذا الإنسان حينما تأتي إليه ضرورة وهو متكئ بكبريائه ومتكئ على أريكته؛ تأتي إليه بعوضة على يده وربما تلدغه، ثم يراها هل يتبعها ويقوم بضربها؟ لا يقوم بتتبعها؛ لماذا؟ لأنه يرى أنه أكبر من مطاردتها, وأنت والدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة, فإن كفرت وفسقت وفجرت هل يمنع الله عز وجل عنك الرزق؟ لا يمنع عنك الرزق؛ لماذا؟ لأن الله عز وجل لا ينتصر لضر لحقه سبحانه وتعالى, يقول قتادة في قول الله عز وجل: خَيْرُ الرَّازِقِينَ [الجمعة:11]: يعطي الله عز وجل الكافر والمؤمن, والحساب يوم القيامة.

إذاً الله سبحانه وتعالى إذا غرس في قلب عبده من اليقين والتوكل على الله عز وجل والالتجاء إليه والثبات على ذلك لما التفت إلى الأمور الصارفة في ذلك من أمر الفتن, فإذا رزق الله عز وجل عبده قناعة ما التفت إلى كثرة المال ووفرته؛ وهذا من وسائل الثبات والتوفيق, وإذا رزقه الله عز وجل يقيناً في قلبه ما التفت إلى الأزواج والشهوات والمباني والأراضي والمزارع والبساتين وغير ذلك, فقد رزقه الله عز وجل قناعة, وهذا نوع من وسائل التثبيت الذي ينبغي للإنسان أن يسأل الله سبحانه وتعالى.

التزام القرآن الكريم والتأمل والتدبر لآياته

ثالث وسائل الثبات على الحق والاستقامة على أمر الله سبحانه وتعالى: التزام القرآن الكريم, والنظر والتأمل فيه, وقد جعل الله عز وجل كتابه الكريم على ثلاثة أقسام: القسم الأول: التوحيد, الثاني: الأحكام، وهي: الحلال والحرام, الثالث: ما فيه من قَصص وعبر, يقول الله جل وعلا لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [هود:120], فالله عز وجل حينما يحكي هذه القصص وأحوال الأمم ويتأمل فيها الإنسان ويتدبر فيها, ففيها من الحكم العظيمة التي ترجع إلى الإنسان بالثبات, فإذا كانت هذه مثبتة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو صاحب اليقين والمعان والمسدد من الله عز وجل فكيف بمن دونه؟

ولهذا نقول: ينبغي للإنسان أن يلتزم كلام الله سبحانه وتعالى وأن يكثر من النظر فيه, والإكثار من تأمل حِكم الله عز وجل وأحوال الأمم السابقة, فقد قص الله عز وجل قصة قوم نوح وقوم صالح وقوم موسى وقوم عيسى, وأحوال المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف ثبت أولئك، وما جعله الله عز وجل في هذه الأمم من الإنظار والإمهال؟ وكيف صبر أولو العزم من الرسل وقد لقوا من البلاء؟ هذا من وجوه الثبات.

والله سبحانه وتعالى يذكر من معاني الثبات لنبيه عليه الصلاة والسلام ما يمر عليها القارئ مرور الكرام, نوح عليه السلام لبث في قومه داعياً إلى الله ألف سنة إلا خمسين عاماً, هذه مدة طويلة, والإنسان حينما يقوم بتكرار النصيحة على واحد, يقوم بنصحه مرة ومرتين ثم يشعر بالملل, ونوح بقي على هذا الأمر ألف سنة إلا خمسين عاماً, لم يراجع نفسه أو يشكك في مبدئه, أو يقول: ربما أخطأت, أو ربما لم أحسن الدعوة, أو الدعوة التي دعوت إليها كانت غلواً أو تشدداً أو كانت تزمتاً أو غير ذلك، فما دام على يقين بذلك الحق ولم يتبعه الناس فلا يعني ذلك خللاً في الرسالة, وإنما يعني أن الله عز وجل ما قدر لهؤلاء القوم هداية.

وقد يكون الإنسان على حق واستبصار، ولا يتبعه في ذلك أحد, يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( يأتي النبي يوم القيامة ومع الرجل, ويأتي النبي ومعه الرجلان, ويأتي النبي وليس معه أحد ), فالقصور فيمن؟ النبي يدعو ومعه أعظم حجة وهو كلام الله سبحانه وتعالى, والداعي في ذلك نبي, هو خير أهل زمانه, والذين يدعوهم إلى الحق الذي معه هم أناس أنزل كلام الله جل وعلا إليهم بلغتهم, فهم أفصح من يفهم تلك اللغة, إذاً ظهرت الحجة واجتمعت هذه الأمور من جميع جهاتها, ثم ما اتبعوا في ذلك الحق, وإنما كانوا معاندين, ومع ذلك صبروا.

ولهذا نقول: إن من وسائل الثبات التأمل في قصص الأنبياء وأحوالهم, فالعبرة ليست بكثرة من يأتي معك, ومن يتبعك, ومن يجري خلفك, أو من ينادي باسمك أو يرفع رايتك أو نحو ذلك, ربما تجد واحداً توفق إليه, وربما توفق إلى اثنين, أو ربما توفق إلى مليون أو أكثر من ذلك، وربما لا توفق إلى أحد, ولا يعني ذلك خطأ فيما أنت عليه, ولكن نقول: إن الإنسان إذا دعا إلى الحق فلا يتزحزح عن الحق وإنما يغاير في أسلوبه, ولهذا نوح عليه السلام بقي في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً؛ هل تغير عن الحق؟ لا، ولكن هل غير أسلوبه؟ نعم, ولهذا دعا قومه ليلاً ونهاراً, سراً وجهاراً, دعاهم في الليل، فربما تكون الأمزجة غير متقبلة للحق, ربما المشاغل أو موضع راحة حينما يدعوهم في الليل، ويحتاجون إلى شيء من الراحة, دعاهم كذلك في النهار, راوح على مدار الساعة, دعاهم سراً وجهاراً, دعاهم في السر والعلانية, جمعهم جميعاً, ربما احتاجوا إلى دعوة فردية, فبعضهم يقول: لا تدعني إلى الحق أمام الناس, ادعني على سبيل الانفراد, قام بنصحهم واحداً واحداً على سبيل الانفراد. إذاً غير في الوسائل ولكنه ما غير في الحق الذي معه.

ولهذا نقول: إن النظر في حال الأنبياء من أعظم المثبتات للإنسان على الحق, قد يدعو الإنسان إذا نظر وعلم أنه يوم القيامة يأتي النبي وليس معه أحد, يقول: إذا كان نبي يأتي إلى الله عز وجل وليس معه أحد فإني من باب أولى أن يقدر الله عز وجل لي مع استنفاد وسعي بالأساليب والطرق, باللين, الشدة, الانفراد, الجماعة, السر, العلانية وغير ذلك, فإنه إذا لم يتبعك في ذلك أحد لا يعني أنك على خطأ ما دمت على بينة وثبات.

الإكثار من ذكر الله جل وعلا

رابعاً: الإكثار من ذكر الله جل وعلا؛ وذلك من جملة العبادة إلا أن ذكر الله عز وجل يُشرع خفية, هذا هو الأصل إلا ما استثناه الدليل فيما يتعلق بأمر العلانية من الجهر ببعض الأذكار, وقد جعله الله عز وجل مثبتاً للذين آمنوا في أحلك الظروف: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ [الأنفال:45], فجعله الله عز وجل مثبتاً للذين آمنوا عند لقاء العدو, أن يكثروا من ذكر الله سبحانه وتعالى.

وعلى الإنسان أن يكثر من ذكر الله كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من ذلك, فيستغفر الله عز وجل في المجلس الواحد سبعين أو أكثر من سبعين مرة.

وذكر الله سبحانه وتعالى طهارة للقلب, وتثبيت له, وتنقية له من شوائب الهوى وكذلك النفاق, ولهذا وصف الله عز وجل المنافقين بأنهم لا يذكرون الله إلا قليلاً, ولا ينتكس الإنسان بعد إيمانه إلا وقد وجد فيه شعب من النفاق, فإذا تكاثرت وازدادت وتمكنت من قلبه انحرف عن طريق الحق, وإذا أكثر من ذكر الله عز وجل طهر قلبه من النفاق؛ لأن الذكر غالبه لا يسمعه إلا الله جل وعلا, فإذا أكثر من ذلك في طريقه وذهابه ومجيئه, في خفائه, باعتبار أنه يتلفظ ولا يُدرى ما يتلفظ به هل هو تسبيح أو تهليل أو تحميد أو استغفار, فإن ذلك من عظائم العبادة وكذلك من خفيها, فجعله الله عز وجل من المثبتات للعباد, فينبغي للمؤمن أن يكثر من ذكر الله عز وجل؛ حتى ينال تثبيت الله والفلاح الذي وعده الله عز وجل لعباده.

نكتفي بهذا القدر، وأسأل الله عز وجل أن يثبتنا على الحق, وأن يسلك بنا المنهج القويم والصراط المستقيم، وأن يجعلنا هداة مهتدين, وأن يعيذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.