شرح زاد المستقنع باب صلاة الجماعة [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [ولا قراءة على مأموم].

هذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم:

- فمن أهل العلم من يرى وجوب قراءة الفاتحة على المصلي، سواءٌ أكان منفرداً أم كان في جماعة، وذلك لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، والقاعدة في الأصول أن (أي) من ألفاظ العموم؛ حيث لم يفرق بين المأموم والمنفرد.

وذهبت طائفة من العلماء إلى سقوط الفاتحة وراء الإمام مطلقاً في السرية والجهرية.

وذهبت طائفة ثالثة إلى وجوبها في السرية على المأموم دون الجهرية؛ فإن الإمام يحملها عنه في الجهرية، كما درج على ذلك المصنف رحمه الله، وهي رواية عن الإمام أحمد رحمة الله عليه.

أما الذين قالوا بسقوطها عن المأموم وراء الإمام فيحتجون بحديث جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، كما هو مذهب الحنفية ومن وافقهم، ويحتجون أيضاً بما رواه أبو داود وأحمد في مسنده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) قالوا: الضمين: هو الحميل الذي يضمن الشيء ويتحمله، فهو يحمل عن المأموم، وبناءً على ذلك لا تلزم المأموم قراءة الفاتحة، فهذا مذهب من يرى الإسقاط، سواءٌ في جهرية أم سرية.

وهناك من يرى التفصيل فيقول: إن كانت جهرية سقطت القراءة؛ لقوله سبحانه وتعالى : وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204]، وفي السرية يقرأ لحديث: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج)، الحديث، وقوله عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، فعملوا بالنص في السرية، وأما في الجهرية، فقالوا: إنه مأمور بالإنصات، فيلزمه الإنصات ولا يقرأ.

والذي يترجح -والعلم عند الله- القول بوجوبها مطلقاً، سواءٌ أكانت الصلاة سرية أم جهرية، في جماعة أم منفرداً، وذلك لما يلي:

أولاً: لعموم قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج...) الحديث، ولم يفرق. كما أن الصلاة في قوله: ( لا صلاة لمن لم يقرأ) نكرة في سياق النفي، والقاعدة أنها تفيد العموم.

ثانياً: النص الصحيح الصريح القوي في هذا، وهو أنه لما صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه فارتج عليه قال: (لعلكم تقرءون وراء إمامكم؟ قالوا: نعم. قال: لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، وقد قال بعض العلماء المتأخرين: إن هذا الحديث منسوخ بحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة)، وهذا القول ضعيف من وجوه:

الوجه الأول: أن حديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) ضعيف عند جماهير المحدثين، والضعف فيه من القوة بمكان.

الوجه الثاني: أنه لو قيل بتحسينه فهناك قاعدة في الأصول تقول: (إن النسخ لا يثبت بالاحتمال)؛ لأنا لا ندري أي الحديثين أسبق.

الوجه الثالث: أن متن هذا الحديث وهو: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) لا يقوى على معارضة متن: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)؛ فإن قوله: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) دل على أن هناك قراءتين: قراءة الفاتحة، وقراءة ما بعد الفاتحة التي هي السورة، فقال: (لا تفعلوا -أي: في السورة- إلا بفاتحة الكتاب)، فاستثناها، وفي الحديث الآخر لم يقل: فكل قراءة الإمام له قراءة. وإنما قال: (فقراءة الإمام له قراءة)، والقراءة إنما تكون لما بعد الفاتحة، وتبقى الفاتحة على الأصل.

وهذا أنسب الوجوه عند جمع من العلماء؛ لأنه يجمع بين النصين، ولذلك يقولون: لا يقوى التخصيص ولا المعارضة إلا إذا استويا دلالة وثبوتاً، فحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) أضعف ثبوتاً؛ لأن غاية ما قيل فيه: إنه حسن لغيره، وحديث (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج) وحديث: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب)، وكذلك حديث: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب) أقوى صحة من هذا الحديث، فهذا من جهة السند.

أما من جهة المتن فعمومات صريحة، حتى إن بعض العلماء يرى أن النص العام قطعي الدلالة على أفراده ثم إن القاعدة في الأصول أن صورة السبب قطيعة الدخول في الحكم. وصورة السبب وردت في صلاة الفجر وهي جهرية، وبناءً على ذلك تعتبر الصلاة الجهرية قطعية الدخول في هذا الحكم: (لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب)، وحديث: (من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة) متردد، فلا ندري أقراءة الفاتحة هي المرادة به أم قراءة ما بعد الفاتحة، فهو لا يقوى على المعارضة.

وبناءً على ذلك فالذي تطمئن إليه النفس القراءة، ولذلك فقد روى البيهقي بسند صحيح في كتابه النفيس: (القراءة وراء الإمام) أن أبا هريرة سئل: متى أقرأ إذا عجل الإمام؟ قال: اقرأها في سكتات الإمام قال: فإن عجزت؟ قال: اقرأها وقول الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الأعراف:204] عموم تستثنيى منه الصلاة؛ لأن القرآن إذا قرئ فالاستماع له واجب، وقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج ) يدل على الوجوب واللزوم ويدل على أنه ركن من أركان الصلاة، كما هو قول من يقول باعتبار الفاتحة، فوجوب الفاتحة آكد من وجوب الاستماع.

وثانياً: أن الاستماع منفصل ووجوب الفاتحة متصل، والقاعدة أن الواجبات أو الفروض إذا تعارضت ينظر إلى جهاتها، فيقدم باختلاف الجهات، فلما كانت عين الفاتحة على المأموم متصلة به، والاستماع إلى غيره منفصل عنه قدم المتصل بوجوبها على المنفصل، ولذلك ترجح القول بالوجوب على العموم.

حكم قراءة المأموم الفاتحة خلف الإمام

استحباب قراءة الفاتحة للمأموم أثناء سكوت الإمام أو إسراره

قال رحمه الله: [وتستحب في إسرار إمامه وسكوته وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش]؛ لأنهم لا يرون وجوبها.

قوله: [في إسراره] أي: في الصلاة السرية. وقوله: [وسكوته] أي: في حال سكتات الإمام، فإذا أراد أن يقرأ الفاتحة فلا يقرأها في الصلاة الجهرية على مذهب من يرى أنها لا تقرأ في الصلاة الجهرية.

وقوله: [وإذا لم يسمعه لبعد لا لطرش].

كأن هذا المذهب قائم على كونه يسمع قراءة الإمام، ولذلك يعتبر الاستشهاد بالآية أضعف من الاستشهاد بالحديث الذي هو نص في موضع النزاع، فقالوا: لما كان وجوب أو إسقاط الفاتحة مبنياً على سماع قراءة الإمام فإنه لو كان بعيداً لن يسمع؛ لأنه في القديم لم تكن هناك وسائل تعين على نقل الصوت مثل الأجهزة الموجودة الآن، فكان الصف قد يصل إلى مائتين أو ثلاثمائة أو أربعمائة أحياناً فلا يسمع الصوت، ولذلك اختلفوا فيما لو أن إنساناً أراد أن يصلي الفجر والصف طويل وليس هناك مكبر صوت، فإذا اقترب من الإمام يسمع القراءة سيكون في الصف الثاني أو الثالث، فهل الأفضل أن يكون في الصف الأول مع عدم سماع القراءة، أم يكون قريباً من الإمام مع تخلفه في الصف؟

فهذا مسألة خلافية في صلاة الفجر، فبعضهم يرى أن استماعه للقرآن وتأثره به لفضل القراءة في صلاة الفجر أفضل؛ لقوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا [الإسراء:78] فيستثنون صلاة الفجر.

وبناءً على ذلك قالوا: إذا كان بعيداً لا يسمع الإمام لا لطرش -والأطرش: هو ثقيل السمع- فمثل هذا يبقى على الأصل، أما من لا يسمع لبعد فيستحب له القراءة.

دعاء الاستفتاح

قال رحمه الله: [ويستفتح ويستعيذ فيما يجهر فيه إمامه].

قوله: [ويستفتح] أي: يقرأ دعاء الاستفتاح. وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جعل الإمام ليؤتم به)، قالوا: فيسن أن يقرأ دعاء الاستفتاح ولذلك لما سأل أبو هريرة رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دعاء الاستفتاح علمه، ولم ينكر عليه ذلك، ولم يقل: هذا خاص بي.

وهنا مسألة مهمة، وهي أنه: إذا قلنا بمشروعية الاستفتاح وراء الإمام فلو جئت في صلاة الظهر أو العصر، أو أي صلاة والإمام قبل الركوع بقليل، بحيث يغلب على ظنك أنك لو قرأت الاستفتاح لم تستطع قراءة الفاتحة فحينئذٍ تترك الاستفتاح، وبمجرد تكبيرك تبدأ بقراءة الفاتحة؛ لأننا عهدنا من الشرع تقديم الواجب على ما هو دونه، كما في الحديث: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة)، فعلمنا أن الشرع يقدم الأهم على المهم، وبناءً على ذلك فإنه يقدم قراءة الفاتحة ويشتغل بها، قال بعض العلماء: لو كبر وقرأ الاستفتاح وركع الإمام ولم يقرأ الفاتحة ولم يتمكن منها لم تجزه الركعة، وعليه قضاؤها؛ لأنه حينما أدرك القدر الذي تقرأ فيه الفاتحة فوجبت عليه قراءتها، وهذا إذا أدرك وقتاً يغلب على ظنه أنه لو قرأ الاستفتاح وراء الإمام فاتته الركعة، فتسقط عنه من هذا الوجه.

فإذا كان الأصل في إسقاط القراءة عن المأموم الاستماع في الجهريات أو غير الجهريات بناءً على أن الإمام يتحمل قالوا: يبقى دعاء الاستفتاح على ما هو عليه، ويبقى التعوذ، فيستفتح ويستعيذ بالله عز وجل من الشيطان، ثم يبقى ساكتاً منصتاً لقراءة الإمام إذا كان يقرأ، أو ينتظر تكبير الإمام، وإذا قرأ على الاستحباب فلا حرج عليه، لا على الحتم والإيجاب.

سبق الإمام بالركوع أو السجود

قال رحمه الله: [ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرجع ليأتي به بعده].

ذلك لأن الله عز وجل أوجب على المأموم متابعة الإمام، ويحرم على المأموم أن يسابق إمامه، ويكره له أن يوافقه، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الإمام ليؤتم به...) الحديث. أي: إنما شرع الله الإمام من أجل أن يؤتم به، فقوله: (ليؤتم به) بمثابة التعليل، كقوله: (إنما فعلت هذا لتأتموا بي)، فاللام تعليلية، أي: إنما شرع الله الإمامة في الصلاة لكي يكون الإمام بمثابة القدوة لمن بعده، فيوقع فعله بعد فعله، ولا يوقعه قبله. وقال أئمة اللغة: الإمام: مأخوذ من الأمام والأمام هو الخط الذي يخط في أول الباب عند البناء؛ لأنه يعول عليه ويبنى عليه، فصلاة المأموم لما كانت واقعة وراء الإمام كأنها بنيت على صلاة إمامه، ولذلك لا يجوز للمأموم أن يسبق الإمام، فإن سبقه أعاد.

قال رحمه الله: [فإن لم يفعل عمداً بطلت].

أي: إن سبقه في ركن فركع قبله، ولم يرجع لكي يتابع الإمام ويكبر ويركع بعده بطلت صلاته، وحينئذٍ يلزمه أن يستأنف الصلاة، لكن لو أنه ركع قبل الإمام ولم يشعر، إما لغلبة هم أو حزن عليه، أو فرح، أو انشغال ذهن، فلم يشعر إلا وقد كبر وركع، فلم يفاجأ إلا والإمام قال: (الله أكبر) وركع، فقالوا في هذه الحالة يرجع ويكبر وراء الإمام ويدركه في الركوع، وهكذا الحال لو شعر قبل أن يكبر الإمام. فإنه يرجع مباشرة إلى حالته مع الإمام، ولا يبقى على حالة السبق والتقدم؛ لأن ذلك مما نهى الله عز وجل عنه.

ومن الأدلة التي تدل على عظم هذا الأمر قوله عليه الصلاة والسلام: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار)، والقاعدة في الأصول أنه إذا ورد الوعيد بعقوبة دينية أو دنيوية أو أخروية فإن هذا مشعر بالإثم وبكون الفعل ذنباً وهذا من دلائل المنهيات وأنها تدل على التحريم، ويعتبر العلماء رحمة الله عليهم سبق الأئمة بالأركان كبيرة من الكبائر؛ لورود الوعيد على من سبق الإمام، واختص الرفع من الركوع لكثرة البلوى به؛ لأن الانحناء في الركوع غالباً ما يكون فيه مشقة، فالركوع ليس كالسجود، ولذلك يعجل الناس في مثله لقربهم من الاعتدال، ولخفته عليهم، فخص الركوع بهذا، فلذلك يقولون: لا فرق بين ركن الركوع وغيره من سائر الأركان، فالشرع قصد أن يرتبط المأموم بإمامه، وكونه يورد هذا الوعيد على هذا الفعل يدلنا على أنه كبيرة من كبائر الذنوب، ولذلك عده جمع من الأئمة والعلماء -منهم صاحب الزواجر- أنه من كبائر الذنوب وهذا بناءً على ثبوت ضابط الكبيرة فيه.

قال رحمه الله: [وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً بطلت].

أي: بطلت صلاته، سواءٌ أتم الركعة ورفع قبله أم ركع عامداً ولم يرفع أو ينتظره حتى رفع، فكل ذلك يوجب بطلان صلاته بالعمد.

قال رحمه الله: [وإن كان جاهلاً أو ناسياً بطلت الركعة فقط].

يعذر بالجهل -عند من يقول بالعذر بالجهل- أن يكون جاهلاً بالاقتداء، وبعد ذلك رأى الناس يتابعون الإمام فرجع إلى المتابعة، فإنه في هذه الحالة يعذر عند من يقول بعذره، وهذا خاصة في الناس الذين هم حديثوا عهد بإسلام، فمثلاً شخص قيل له: صلِ مع الجماعة وعرف أنه يقرأ ثم يركع ثم يرفع، فجاء وسبق الإمام في الركوع، فرأى أن أصحابه لم يركعوا، فعلم أن الذي فعله خطأ، ثم رجع والتزم مع الإمام، فإن هذا يعتبر عذراً عند طائفة وجمع من أهل العلم رحمة الله عليهم.

وقوله: [أو ناسياً].

أي: أو ناسياً كونه مع الإمام، فيظن أنه لوحده، وهذا يحصل مع غلبة الفرح، أو غلبة الترح، أو الحزن، أو يكون منصرف الذهن -نسأل الله السلامة والعافية- فيسهو عند الانتهاء من القراءة، فلا يفاجأ إلا وهو راكع يظن أنه لوحده، ثم يتذكر أنه مع الإمام، فإنه يرجع ويتابع الإمام على الصورة التي ذكرنا.

قال رحمه الله: [وإن ركع ورفع قبل ركوعه، ثم سجد قبل رفعه بطلت إلا الجاهل والناسي].

ومن فعل هذا يلزمه في هذه الحالة قضاء هذه الركعة بعد سلام الإمام، كأنه لم يدرك الإمام في هذه الركعة، فإن كان قد صلى مع الإمام أربع ركعات -كصلاة الظهر- فإنه يلغي هذه الركعة، ويصبح حاكماً على نفسه بأنه مدرك لثلاث ركعات، كأنه سبق بركعة كاملة؛ لأنه إذا سبق الإمام في الأركان الثلاثة فقد سبقه في أغلب الركعة، فحينئذ تلغى هذه الركعة، ويلزمه قضاؤها كاملة.

قال رحمه الله: [ويصلي تلك الركعة قضاء].

أي: بعد سلام الإمام يقوم ويأتي بهذه الركعة قضاء، والفرق بين قولك: إنه يتمها، وقولك: يقضيها هو أنه إن قلت: يتمها ففي هذه الحالة -إذا كان في الظهر- يأتي بالفاتحة وحدها، لكن إذا قلت: يقضيها وكان في الركعات الأول فإنه يأتي بالفاتحة والسورة؛ لأن القضاء يحكي الأداء، فكأنه لم يفته شيء مع الإمام، ويعتبر كأنه يؤديها حال قضائه على الصورة المعتبرة حال متابعته للإمام.

مشروعية التخفيف بالمصلين

قال رحمه الله: [ويسن لإمام التخفيف مع الإتمام].

من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، والتخفيف ضد التطويل، والمراد به الرفق بالناس؛ لأن شريعتنا شريعة رحمة ويسر، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين)، وقال: (أنا رحمة مهداة)، وفي التنزيل قوله سبحانه وتعالى : وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، وهذا يتضمن أن الشعائر والشرائع التي بعث بها صلوات الله وسلامه عليه فيها رحمة، وليس فيها عنت ولا عذاب، ولذلك ثبت من هدي النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على أن الأفضل والأكمل والأصل التخفيف من قبل الإمام؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف)، فهذا أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدل على أن السنة والأصل هو التخفيف على الناس؛ لأن التطويل عليهم ينفرهم من الصلاة مع الجماعة، وقد حدث هذا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين هم أفضل الأمة، فقد أخبر رجلٌ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتأخر عن الصلاة بسبب تطويل إمامهم، فقام النبي صلى الله عليه وسلم فوعظ موعظة -قال الراوي: ما رأيت أشد منه في تلك الموعظة- وقال: (إن منكم منفرين)، وقال لـمعاذ لما اشتكاه الرجل في تطويله لما صلى بالناس البقرة في العشاء قال: (أتريد أن تكون يا معاذ فتاناً)، أي: هل تريد فتنة الناس عن دين الله؟! وصرفهم عن دين الله! فالدين يسر والشريعة شريعة رحمة، فعندما يأتي الإمام ويطول على الناس، وإذا دخل المحراب لا يشعر بالضعيف ولا بكبير السن، ولا يشعر بالسقيم والمريض وذي الحاجة، فهذا يدل على غفلته وعدم فقهه بسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك ثبت في الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من هديه أنه كان يطيل فما يمل من إطالته، ويخفف فما يخل في تخفيفه صلوات الله وسلامه عليه، ولذلك قال أنس : ما صليت وراء أحد أتمّ ولا أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودخل في صلاة الفجر - وكان يقرأ من الستين إلى المائة آية، كما في الصحيح من حديث أبي برزة وجابر في صلاة الفجر- فلمّا سمع بكاء صبي قرأ: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ [الكوثر:1]، فلما سلم قال: (إني سمعت بكاء صبي فأشفقت على أمه)، وهكذا الحال إذا صلى الإمام بالناس ورأى أن الوقت وقت إزعاج، وأنهم في حالة من التعب والإعياء فليخفف عنهم، كأن يكونوا في سفر، ونزلوا بعد عناء السفر، فيجب على الإمام أن يخفف ويقرأ قراءة محببة إلى النفوس، وتكون إمامته بهم تدل على رحمته وشفقته، فهذا من خيرية الإمامة، ولذلك يرزق أمثال هؤلاء القبول وحب الناس والدعاء بظهر الغيب، وترى الناس يقبلون على مواعظهم، ويتأثرون بهم؛ لأنهم يحسون أنهم يريدون الخير ويتلمسون أحوال الناس، بل والغريب أن الإنسان إذا تعود التخفيف على الناس بدون أن يكون تخفيفاً زائداً عن الحد، ثم أطال في بعض صلواته لتطبيق السنن في التطويل في بعض المناسبات فلن تجد أحداً يكرهه؛ لأنه يعلم أنه يحب الرحمة والتيسير، وأنه إنما فعل هذا على سبيل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيحب السنة، لكن إذا ألف التطويل على الناس ولو جاء بسنة نفروا منه، وتجدهم لا يحبون ذلك منه، وأشد ما يكون هذا في الخطب؛ فإن الخطب إذا كانت طويلة جداً ومزعجة فإن الناس لا تتيسر لهم الاستفادة، وربما ينفرون، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يقصر الخطبة، ولو جئت إلى بعض خطبه المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام تجده لم يتجاوز الصفحة، ولو تتبعت المرويات في خطبة حجة الوداع التي بين فيها شرائع الإسلام وشعائره فإنها لا تتجاوز صفحة ونصف صفحة، وهكذا الأئمة وغيرهم كانوا على هذا الحال، فخير الكلام ما قل ودل، وكان آخذاً بمجامع قلوب الناس موجباً لحبهم لهذا العلم الذي يكون في الخطب والمواعظ، نسأل الله العظيم أن يرزقنا الائتساء والاقتداء بنبيه صلى الله عليه وسلم.

وقوله: [مع الإتمام]؛ لأن التخفيف على حالتين:

الحالة الأولى: التخفيف مع التقصير.

الحالة الثانية: التخفيف مع الإتمام، كأن يقرأ فيهز بقراءته القلوب، فيعطي الحروف حقها من صفة لها ومستحقها، ويعرب كتاب الله ويفصله ويبينه، فيقرأ السور المناسبة، ثم إذا ركع سبح ثلاث تسبيحات تدل على طمأنينته، كذلك إذا رفع من الركوع قرأ هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأذكار وحافظ عليها، وما تقوم به الأركان، فهذا كله من الكمال، فيخفف مع التمام والكمال؛ لحديث أنس : (ما صليت وراء أحد أتم ولا أخف صلاة من رسول الله صلى الله عليه وسلم).

تطويل الركعة الأولى على الثانية

قال رحمه الله: [وتطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية].

من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم التخفيف، وقال بعضهم: الأصل التطويل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالأعراف في صلاة المغرب، كما كان يقرأ المرسلات والطور صلوات الله وسلامه عليه.

ولكن هذا محل نظر؛ فإن المفردات لا تدل على العموم، ولذلك ولو سُلِم أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل هذا فإن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم كانت قراءة مرتلة لا يشعر الناس معها بالملل ولا بالسآمة، وكان عليه الصلاة والسلام لا يُمَلُّ في إطالته، ولو سلم هذا فإن له خصوصيات عليه الصلاة والسلام، ولذلك لما صلى معه الصحابي في الركعة الواحدة في قيام الليل قرأ البقرة والنساء والمائدة في ركعة واحدة، وهذا إنما يكون بقوة نفسه عليه الصلاة والسلام، أما كون الإنسان يأتي يريد أن يقرأ سورة الأعراف، ويحاول أن يتكلف في أحكام التجويد، أو يقرأ -مثلاً- سورة المرسلات ويتكلف فيها، أو يقرأ فجر يوم الجمعة سورة السجدة والإنسان بالتجويد، ويحاول أن يتكلف ويتقعر ويترنم ويشق على العجزة وعلى المسلمين وكبار السن فهذا ليس من السنة، إنما السنة أن القراءة إذا كانت لجزء طويل فيرتل، والدليل على هذا واضح؛ إذ القراءة على مراتب معروفة، وهي التجويد والتدوير والترتيل والحدر، كما قال الناظم:

إن القراءة على مراتب أربع قد فصلت للراغب

ترتيلنا والحدر والتدوير كذلك التجويد يا فصيح

فلو جاء يجود سورة الأعراف وقت المغرب فيخرج الوقت وما انتهى من الأعراف، ولذلك كان للنبي صلى الله عليه وسلم مناسبات في القراءة، فمن كانت عنده قدرة على القراءة بحيث يقرأ للناس في فجر يوم الجمعة ويرتل وتكون قراءته بالحدر الذي يعطي به أيضاً للقرآن حقه من التأثر بالآيات فهذا شيء طيب، ولذلك تجد الناس يرتاحون إذا قرأ الإمام بالحدر وأعطى الآيات حقها من التأثر، هذا من أفضل ما يكون؛ لأنه لا يشق على الناس، ويطبق السنة، ويتأثر بكتاب الله، أما لو جاء يتكلف بالإتيان بأحكام التجويد، ويحاول أن يتقعر في الآيات ويبالغ فيها فهذا يشق على الناس كثيراً، ولذلك ينبغي أن نطبق السنة من جميع وجوهها، فعندنا سنة قراءة السجدة والإنسان في الجمعة -مثلاً- أو قراءة الأعراف في المغرب لكن عندنا قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا أم أحدكم الناس فليخفف )، وهذا أمر والأمر للوجوب، ويدل على اللزوم، خاصة وأن هناك مفاسد، فلذلك ينبغي الالتزام بمثل هذه السنة، فيفعل هذه السنن دون أن يؤدي إلى إحراج الناس أو الإضرار بهم.

ومن السنة -ونبه عليه المصنف- تطويل الركعة الأولى وتقصير التي بعدها، فهذا من السنة، والتطويل للأولى والتقصير في الثانية من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولكن ينبغي أن ينبه على أمر، فإن العبرة بالآيات لا بعدد الآيات، فقد تكون السورة آياتها قليلة ولكن قراءتها تأخذ وقتاً، ولربما تكون السورة كثيرة الآيات ولكنها سهلة تقرأ بسرعة، ويمكن للإنسان أن يقرأها في وقت أقل من التي هي أطول منها، فإذا نظرت إلى سورة الأعلى مع الغاشية فإنك تجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بهما، فإنك إذا نظرت إلى سبح تجد في آياتها ما يحتاج إلى التأخر، ولكن الغاشية تجد فيها سهولة في الانسياب في الآيات، وهذا يختلف باختلاف الحروف ومخارجها كما هو معروف، وكذلك تجد -مثلاً- سورة الليل إذا قرنتها بسورة الشمس، وقد تجد سورة أقل في الآيات ولكنها تحتاج إلى معالجة مثل العاديات، بحيث يطول وقتها أكثر، فقال العلماء: العبرة بالوقت والقدرة على الأداء، وليست العبرة بالقدر، فإن كان في قراءة الأولى مسترسلاً بحيث يستطيع أن يقرأ القدر الأكثر فحينئذ يؤخر، وإذا كانت الثانية أقل فإنه يجعل القليل للثانية والكثير للأولى.

ويجوز له أن يجمع في الوقت بين الأولى والثانية، فلو جعل وقت الأولى والثانية متناسباً فإنه لا حرج عليه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه أنه قرأ : إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1] في الركعة الأولى، وقرأ في الركعة الثانية : إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1]، فأخذ العلماء منه دليلاً على مسألتين:

المسألة الأولى: جواز تكرار السورة في الركعتين.

المسألة الثانية: جواز العدل بين الركعتين، بحيث تكون الأولى والثانية بقدر واحد، وبناء على ذلك قالوا: لو كانت السورة ثلاثين آية فإنه يقرأ في الركعة الأولى خمس عشرة آية، وفي الركعة الثانية خمس عشرة آية.

فبناءً على ذلك يكون قد عدل بين الركعتين، ولو جعل للركعة الأولى عشرين آية وللثانية عشر آيات فحسن، ولا حرج عليه، والأمر واسع في هذا كله.

ومن السنة أيضاً أن يطيل الأوليين ويخفف الأخريين؛ فإن سعداً رضي الله عنه وأرضاه الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ارم فداك أبي وأمي)، وكان من المبشرين بالجنة، اشتكاه أهل الكوفة إلى عمر ، حتى قالوا: إنه لا يحسن كيف يصلي وهذا يدل على أن الإنسان لا يسلم من الناس، فلما جيء إلى عمر وبلغت الشكوى، أمر محمد بن مسلمة أن يأتي به إلى المدينة، فجاء إلى المدينة، فقال له: لقد قالوا: إنك لا تحسن أن تصلي. قال: والله ما كنت آلوا أن أصلي بهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أطيل في الأوليين، وأركض في الأخريين. فدل على أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم تطويل الركعتين الأوليين وتخفيف الركعتين الأخريين. قالوا: لأنه كان يقرأ فيهما بالفاتحة وحدها، كما في حديث ابن عباس ، وكان أحياناً ربما قرأ بالفاتحة وسورتي: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) و: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)، كما كان يفعل ذلك في صلاة الظهر، وثبت وصح عنه ذلك.

قال رحمه الله: [ويستحب انتظار داخل ما لم يشق على مأموم].

هذه المسألة اختلف فيها العلماء، فإذا كنت راكعاً وأنت إمام فسمعت الداخل فهل تنتظر هؤلاء الداخلين أو لا تنتظر؟

فللعلماء أقوال في هذه المسألة أشهرها قولان:

القول الأول: ينتظر؛ لأنه من التعاون على البر والتقوى واستدلوا بالعمومات التي فيها الرفق والتيسير، وقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم من ولي من أمور المسلمين شيئاً فرفق بهم فارفق به). قالوا: فهذا من الرفق.

القول الثاني: لا ينتظر؛ لأنه أطال الصلاة من أجل الداخل لا لله جل وعلا. وبناء على ذلك قالوا: لا يشرع هذا. ولأنه يفتح باب المحاباة، ويعين على التكاسل عن الصلاة... إلى غير ما ذكروا من العلل.

والذي يظهر أنه لا حرج أن يطيل قليلاً إذا رأى أكثر الناس يأتون، فيزيد في القراءة لا في الركوع؛ لأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم -كما في صلاة الظهر- أنه: (كان يصلي حتى لا يسمع قرع النعال)، فدل على أنه كان يراعي حال الناس، فيكون التطويل في القراءة، فإذا ركع بعد تطويله في القراءة فالأفضل إذا كان لا يوجد مشقة على الناس وأحب أن ينتظر ولا حرج، وإن وجدت مشقة فإنه لا ينتظر.

حكم خروج المرأة إلى المسجد

قال رحمه الله: [وإذا استأذنت المرأة إلى المسجد كُرِهَ منعها، وبيتها خير لها].

الاستئذان استفعال من الإذن، والإذن: هو السماح بالشيء، يقال: أذن له إذا أحل له الشيء وسمح له به، واستأذنت، أي: طلبت الإذن.

فالحل للمرأة أن يسمح لها زوجها بالخروج، وهذا فيه دليل وهو حديث ابن عمر في الصحيح: (إذا استأذنت أحدكم امرأته المسجد فلا يمنعها)، وقال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، وفيه دليل على مسائل:

المسألة الأولى: أنه لا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها؛ لأنها إذا كانت وهي خارجة إلى الصلاة تستأذن فمن باب أولى إذا خرجت لأمور الدنيا، وهذا أمر يقصر فيه كثير من النساء، فلا يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، وينبغي على المرأة أن تسمع وتطيع، فلو قال لها زوجها: لا تخرجي فلا تخرج، ولا تراجع ولا تحاول؛ لأن الزوج ربما كانت عنده أعذارٌ، لا يستطيع أن يبينها، كما قال الإمام مالك رحمه الله: ليس كل الناس يستطيع أن يبين عذره. وقد تكون عنده حمية أو يريد لها الخير، كما قالت فاطمة رضي الله عنه: خير للمرأة أن لا ترى الرجال ولا يراها الرجال.

المسألة الثانية: من سماحة الشرع أنه جعل الأمر للزوج، ولكن قال: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله)، فإذا قالت له: أريد أن أصلي، أو أريد أن أشهد التراويح أو التهجد فإنه يعينها على الخير، وينبغي للزوج أن يكون حكيماً؛ لأن الشيطان ربما دخل عليها وقال لها: هذا يمنعك من الخير، فيزين لها أن زوجها أحد رجلين:

الأول: أنه إنسان يشك فيها والعياذ بالله؛ لأن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، يقول العلماء: إنه يدخل الشك والوساوس على المرأة والمرأة ضعيفه، فإذا منعها من الخير قالت: الصلاة لا أحد يمنع منها، فليس هناك سبب إلا الشك فيدخلها الشيطان من هذا الباب، فكان من حكم الشرع: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله).

الثاني: أنه إذا ضعيف الإيمان؛ لأنه لو كان قوي الإيمان لأحب لها الخير كما يحبه لنفسه، ولذلك منع الشرع من منعهن، ولما قال بلال بن عبد الله بن عمر: والله لنمنعهن أقبل عليه ابن عمر فسبه سباً سيئاً، قال الراوي: ما سمعته سبه مثله قط، قال: أقول لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول: والله لنمنعهن. أي: تجرأ على السنة! فهذا يدل على أن المسلم ملزم باتباع السنة.

ولكن يجوز للزوج أن يمنعها إذا علم أو غلب على ظنه الوقوع في الفتنة والمحظور، كأن يغلب على ظنه وجود الفساق والفجار، وأنها قد تتعرض لما لا يحمد عقباه، فمن حقه أن يمنعها؛ لأن الله لم يجعل الأمر بيده إلا لكي يتقي الله عز وجل، ومن تقوى الله سبحانه وتعالى منعها عند وقوع الفتن، ولذلك أثر عن عمر رضي الله عنه أنه ضرب عجيزة امرأته لما خرجت إلى الصلاة، وقال: إن الناس قد تغيروا، فأصرت عليه أن تخرج فتركها، فلما كانت الليلة الثالثة ضرب عجيزتها، أي: ضربها على عجيزتها وهي مارة، وكانت النساء على حياء وخجل، وكانوا يعرفون أن المرأة الحرة، فيقولون: لو ضربت بالسوط على ظهرها لم تلتفت من كمال عفتها وحيائها. حتى إن العلماء لما تكلموا على توبة الزانية من الزنا قالوا: توبتها أن تترك ماشية، ثم يصاح وراء ظهرها، فإن التفتت فما زالت في ضعف العفة؛ لأن من كمال عفة المرأة الحية أنها لا تلتفت ولا تنظر إلا في أرضها، وقد يبلغ بها أن تتعثر وتسقط، ولكن سقوط الجسم أهون من سقوط الهوى والردى، ولذلك كن بهذه المثابة.

وإذا أذن لها فعليها أن تخرج تفلة، بمعنى أنها لا تخرج متعطرة ولا متبرجة، وإلا منعها وأخذ على يدها، فإن لم يفعل فهو آثم، وبناءً على ذلك فمن حقه أن يمنعها في مثل هذه الأحوال، وكذلك الحال إذا كان طريقها غير آمن، فإنها قد تكون صالحة ولكن غيرها غير صالح، فيشرع للزوج أن يحبسها.

وقوله: [وبيتها خير لها] لنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاتها في مخدعها خير لها من صلاتها في بيتها، وصلاتها في بيتها خير لها من صلاتها في مسجد حيها، وصلاتها في مسجد حيها خير لها من صلاة المسجد الجامع)، وهذا مبالغة في ستر المرأة.