النوازل في الحج


الحلقة مفرغة

رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيّن حدود الحرم -حرم المدينة-، كما جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( المدينة حرمٌ ما بين عيرٍ إلى ثور )،وهذا الحديث قد جاء في الصحيح وإن كان قد تكلم في بعض ألفاظه بعض العلماء، وقد أشار إلى هذا بعض الشراح؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( المدينة حرمٌ ما بين عيرٍ إلى ثور ) ؛ قالوا: فإنه لا يوجد في المدينة جبلٌ يسمى ثوراً, وإنما هو بمكة، وتأولوا هذا الخبر على تأويلات، منهم من قال: إن المراد بثور هو أُحد، ووهم بعض الرواة فنقله، وقد ذهب إلى هذا جماعة من المحققين من أهل اللغة كـأبي عبيد القاسم بن سلام وجماعة أيضاً ممن يعتني بالبُلدانيات كـالزبير بن بكار ومصعب، كذلك الزبيري وغيرهم، ومنهم من قال: إن المراد بذلك تقدير المسافة كما بين عير إلى ثور بمكة، وذهب إلى هذا ابن قدامة عليه رحمة الله تعالى في كتابه المُغني.

والذي يظهر -والله أعلم- أن ثمة جبلاً بالمدينة يسمى ثوراً، وقد نص على هذا غير واحد ممن اعتنى بالبلدانيات كـياقوت الحموي في كتاب المعجم، ووهم من غلّط الرواة في ذلك؛ فإنهم جماعة من الرواة الثقات قد تواطؤوا على ذلك، والتوهيم والتغليط في ذلك فيه نظر؛ ولهذا قد أشار الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله تعالى -حال كلامه عند هذا الحديث- أن كثيراً من الرواة حينما يروون هذا الخبر لا يذكرون ثوراً فيه، فيقولون: المدينة حرمٌ ما بين عيرٍ إلى كذا، فيذكرون (كذا) كأنهم تشككوا من ذكر لفظ (ثورٍ) فيه.

ومنهم من يقول: (ما بين عيرٍ إلى أحد)؛ تغليباً لهذا الأمر.

يقول المحب الطبري: قد حدثني العالم الحافظ الثقة المجاور بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد السلام البصري: أن ثمة جبلاً بالمدينة يسمى ثوراً وهو خلف جبل أُحد، فيكون حينئذٍ جبل أُحد داخلاً في حرم المدينة، ونصّ على هذا غير واحد من الأئمة كـابن تيمية عليه رحمة الله تعالى وغيره.

المراد من ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدد بعلامات مشروعة يراها الناس؛ لكي لا يتجاوزها الناس وهذا هو المقصود؛ فإنه إن لم يكن للعلامات الشرعية حدود من الطبيعة أو من جهة الوضع، لم يحصل المقصود من جهة التحديد، ولم تُعرف الأماكن؛ ولهذا جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمسجده حدوداً وسوراً يحدّهُ، فيُشرع فيه الصلاة، ويُشرع فيه الاعتكاف، فإن خرج عن ذلك جاز في ذلك المكان ما لا يجوز في المسجد، فالنبي صلى الله عليه وسلم حجراته -وهي حجرات أزواجه- كانت متلاصقات، وأقربهن حجرة عائشة عليها رضوان الله تعالى، كان لها باب إلى مسجده وباب إلى خارج مسجده، ويتجوّز رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتها ما لا يتجوّز في ذلك المسجد من الحدود التي قد جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعليه يُعلم أن تلك الحدود إذا كان ثمة مصلحة في إعادة توضحيها وبيانها بمعالم ورُسم ونحو ذلك، كتحديد المواقيت لكثرة الوافدين، أو كثرة الواردين على ذلك ممن يحتاج إلى وضع الألواح بلغاتٍ متباينة ووضع الحدود ونحو ذلك، وكذلك وضع الحدود في المشاعر من بيان حدود عرفة ومزدلفة ونحو ذلك؛ فإن هذا من المشروع.

ويلحق في هذا صور يأتي الكلام عليها كمسألة الخط في المطاف، ومسألة العلمَين في المسعى ونحو ذلك. وأصل هذه.

ولكن يقال من جهة التأصيل: إن هذا مشروع، وهو من المقاصد الشرعية، وقد تقدمت الإشارة إلى بعض الأدلة في ذلك.

ومن المسائل النازلة في هذا من محظورات الإحرام: استعمال بعض المنظفات من الصابون والشامبو والمناديل ونحو ذلك، التي تسمى معطرة، أو بنكهة كذا وكذا ونحو ذلك.

يقال: إن استعمال العطر للمُحرِم حال إحرامه من محظورات الإحرام باتفاق العلماء، وقد جاء ذلك نصوص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها: حديث يعلى، وغيره في الرجل الذي قد تضمخ بخَلُوق وعليه جُبّة، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم له: ( أما الجبّة فانزعها واغسل عنك أثر الخَلُوق، واصنع في عمرتك ما تصنع في حجك ).

وهذا نصٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم على خلاف عند العلماء في بعض صور مس العطر بالنسبة لمن قصد إحراماً: هل يُشرع له التطيب قبل إحرامه إذا كان قاصداً؟ جمهور العلماء على مشروعيته، وهو قول الحنفية والحنابلة والشافعية خلافًا للمالكية الذين قالوا بعدم مشروعية ذلك وأنه باقٍ على أصله.

كذلك مشروعية التطيب بعد تحلله من رمي الجمرة قبل الطواف هل يشرع له ذلك أم لا؟ وهذه مسألة ليس هذا محل بسطها، وإنما الكلام على مس المُحرِم بعض المنظفات التي هي من جهة الأصل لم توضع للتعطر ونحو ذلك، وإنما وضعت للتنظيف، كاستعمال الصابون الذي يكون بنكهة بعض الفواكه، كالبرتقال وكذلك الليمون، أو بعض الأشجار ونحو ذلك، هل هذه من المحظورات أم لا؟ يقال: إن هذا لا يخلو من حالين:

الحال الأولى: أن تكون هذه المواد قد وضعت لأجل العطر، فتستعمل لذلك، كبعض المناديل التي توضع قصداً لأجل التعطير، وتسمى المناديل المعطرة، فهي في الأصل لم توضع للتنظيف وإنما وضعت للتعطير، على خلاف في أنواعها، منها ما يكون القصد منه التنظيف وإزالة ما يعلق في الجسد، وكذلك الملابس من دهونات وأصباغ ونحو ذلك؛ فإن هذه تكون مشروعة وإن كان فيها شيء من التعطير.

الحال الثانية: وهو ما لم يقصد به التعطير وإنما المقصود فيه التنظيف، ويكون فيها من جهة الإضافة شيء من النكهات، كوضع بعض روائح النباتات ونحو ذلك؛ فإن هذا لم يكن العطر فيه مقصوداً، كوضع الصابون برائحة الليمون أو برائحة النعناع أو رائحة البرتقال ونحو ذلك، كذلك الشامبو ونحو ذلك الذي يستعمله بعض من يغتسل على رأسه ونحو ذلك، فإن هذا مما يجوز استعماله؛ لأنه لم يوضع قصداً للتعطر، فهو استعمل أصلاً -من جهة الأصل- للتنظيف، فالإنسان حينما يقصد ذلك يقصد التنظف لا يقصد التعطر.

ثم إن هذه المواد المضافة أصلاً على وجه الاستقلال ليست من باب العطريات، فأكل البرتقال وهو من جهة الأصل من غير إضافة لم يكن من العطريات، وإن كان له رائحة زكية يقصدها الإنسان.

ثم إن المقصود من نهي الشارع عن استعمال العطريات أو العطور بأنواعها بالنسبة للمُحرِم هو: أن يكون المُحرِم حال إحرامه متجنباً وجوه الترفه، وكذلك: أن يكون متجرداً من أحوال الراحة والدعة؛ ولهذا شرع النبي صلى الله عليه وسلم له أن يلبس إزاراً ورداء، ويتجرد من جميع أنواع المخيط؛ بُعداً عن الزينة، والتزيي بالملابس ونحو ذلك من الجبة والعمائم والقُمُص ونحو ذلك، ويتجرد من ذلك، فهذا هو المقصد.

الأمر الثاني: أن يُبعد عنه دوافع الشهوة؛ فإن العطريات من دوافع إثارة الشهوة، خاصة إذا تعلق به مجاورة نساء ونحو ذلك؛ لهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من مسّت عطراً فلا تصلي معنا العشاء )، وجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى المرأة أن تخرج وهي متعطرة وتمر من بين الرجال، وكذلك نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعطر المرأة بما يظهر ريحه، وقد جاء في ذلك خبرٌ في المسند والسنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عطر المرأة: ما ظهر لونه وخفي ريحه. وعطر الرجل: ما لم يظهر لونه وظهر ريحه ) على خلاف في هذا الحديث في صحته وضعفه، والظاهر أنه معلول، وعلى كلٍ كل هذه المقاصد لا ترد على هذا المعنى.

ومن المسائل النوازل أيضاً في هذا الباب: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد شرع الاغتسال قبل دخول مكة وهذا من السنن المهجورة، والكلام هنا أنه لما قَرب بعض المواقيت من مكة وذلك ليس قرباً مكانياً بل هو زماني؛ فإن الإنسان يُحرِم ثم يصل إلى مكة بزمنٍ يسير، بخلاف السابق، فإن الذي يحرم من يَلملم أو يحرم من الجُحفة والمواقيت القريبة فهل يقال: إنه يأتي بهذه الشعيرة التي ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يغتسل قبل دخوله مكة، أم أنه يكتفي بغسله عند إحرامه؛ لقلة الوقت، وأنه لم يعرق، ولم يصل إلى جسده شيءٌ من النجاسات، ولم يختلط بشيء من غيره مما يتأذى منه الإنسان من الأتربة والغبار أو أكل الطعام ونحو ذلك؟ فالمسافة الزمنية بين الميقات ومكة ممن يُحرم مثلاً من جدة، أو يُحرم من يلملم أو الجُحفة ونحو ذلك هي قريب من الساعة، هل يقال: إنه يقف ويغتسل؟ وهل يعتبر قصر المسافة زمناً من النوازل التي تدفع هذه السنية ونحو ذلك؟

يقال: إن هذا قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد اغتسل عند دخوله مكة، كما جاء في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر أنه قد نزل بذي طوى ثم بالبطحاء فاغتسل ثم دخل مكة، فذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

فهل يقال: إن من قصر زمنه كحال زمننا ممن يصل سريعاً ويكتفي باغتساله عند الميقات ونحو ذلك؟

أولاً يقال: إن السنة ثابتة، فلا تدفع بالعلل الظنية، والعلل الظنية هنا قِصر المسافة، ثم إن ذلك يرجع إلى الأصل: هل اغتسال رسول الله صلى الله عليه وسلم هو من باب التعبد المحض أم هو من باب التنظف لدخول الحرم؛ فيكون مستحباً لمن أراد دخول الحرم أن يغتسل على وجه العموم؟

يقال: إذا قلنا: إنه يستحب له أن يغتسل لدخول الحرم، فلابد أن يلزم من هذا القول أن يغتسل كل من أراد أن يدخل الحرم سواء كان معتمراً أو حاجاً أو غير حاج، وهذا لم يقل به أحد من العلماء، وعليه يعلم دفع هذا القول.

والوجه الثاني أن يقال: إن هذا متعلقٌ بالنسك، ولما كان متعلقاً بالنسك شرع للإنسان أن يغتسل في هذا المكان.

ومما يؤيد ذلك: أن المكي حينما يحرم من مكة، وكذلك من كان آفاقياً ثم نزل بمكة وأراد أن يعتمر كأن يخرج إلى التنعيم وهو راجع من الحل، هل له أن يغتسل من هذا المكان، وكان قد اغتسل في داره ونحو ذلك؟ أو المكي حينما يريد الحج فإنه يحرم من داره، فهل يغتسل لإحرامه ثم يغتسل لدخول الحرم مرتين ونحو ذلك؟

يقال: إنه لما كان قد وجد بمكة والنبي صلى الله عليه وسلم قد أحرم لدخولها لا يشرع له الاغتسال لدخولها، وإنما يشرع له أن يغتسل للإحرام وإن كان بمكة، وعليه يعلم أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم عند إحرامه إن صح عنه فعلًا، وقد ثبت عنه وهو محل إجماع عند العلماء، وقد جاء ذلك عن غير واحد من السلف حكاية الإجماع في ذلك، فهل هو من باب التعبد أم من باب التنظيف؟

إذا قيل: إنه من باب التنظيف فإنه يشرع للمكي على وجه العموم أن يغتسل عند دخول الحرم، سواء كان لحج أو عمرة وغير ذلك، وهذا لم يقل به أحد من العلماء.

وإذا قيل: إنه للنسك فإنه يشرع للمكي أيضًا أن يغتسل لنسكه عند دخوله فيه قبل نيته الإحرام، كما هو ثابت وهو محل إجماع.

وعليه يعلم: أن الأصل في ذلك أن للإنسان إذا أراد أن يدخل مكة وهو متلبس بعمرة أو بحج أن يغتسل قبل دخوله لها، وأن هذا الحكم باق سواء قد قصرت المسافة أو لم تقصر، وهذا ظاهر الدليل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن المسائل النوازل في هذا الباب: أنه يشرع لمن قرب من البيت أن يبتدئ بالطواف من عند الحجر، ومعلوم أن الحجر هو بداية الطواف، وهذا محل اتفاق عند السلف على خلاف عند الفقهاء من المتأخرين.

ومن العلامات التي قد وضعت للطواف خط قد أزيل قريبًا يبتدئ من الحجر إلى آخر المطاف، وقد يصل إلى خارج المطاف إلى المباني المسقوفة؛ ليعلم الطائف داخلها داخل القباب ونحو ذلك، ووضعت هذه العلامة أيضًا في الطوابق في الدور الثاني والسطح ونحو ذلك؛ حتى يراها الطائف، هذه العلامة هل هي مشروعة أم لا؟

أولًا يقال: من جهة تأصيل المسألة ينظر إلى أن الطواف لا بد في ابتدائه أن يكون من عند الحجر، ومن طاف من غير الحجر فإن طوافه ذلك باطل، وهذا الذي عليه عامة السلف، وهو قول جمهور العلماء، نص على ذلك غير واحد، منهم: الإمام أحمد ومالك والشافعي، خلافًا للحنفية الذين قالوا: إن الإنسان له أن يطوف سبعة أشواط من أي جهة قد ابتدأ، وهذا القول لا يعول عليه.

ومعلوم أن الحنفية من جهة التأصيل والقواعد لديهم أنه لا يشترط عندهم في أبواب العبادات ترتيب ولا موالاة؛ وعليه حينئذ يأخذون بعض الأفعال التي جاءت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الاستحباب أو يجعلونها على وجه الاتفاق.

وعلى هذا يقول أهل الرأي: إن من طاف منكسًا فابتدأ من الحجر الأسود إلى الركن اليماني ثم إلى الحجر الأسود، أن طوافه صحيح، وهذا القول لا يعول عليه، وهو مخالف لما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستقر عليه العمل، وهو من الإحداث في دين الله.

إذا علم ذلك، فهل العلامة التي تؤدي إلى تحقق مقصود الأمر الشرعي من ذلك، هل هي مشروعة أم لا؟

إذا تقرر الحكم الشرعي في ذلك، فهل المصلحة في وضع ذلك أم لا؟

أولًا يقال: إنه لا مصلحة من إيراد ذلك؛ وذلك أن الإنسان يبتدئ الطواف من الحجر الأسود بالمحاذاة لا من جهة التصويب، وذلك أن التصويب من جهة الزوايا غير مقصود، وإنما المقصود المحاذاة، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدئ من عند الحجر بالمحاذاة، ومعلوم أن محاذاة البعيد لما دق من الزوايا كلما بعد اتسع وكلما قرب ضاق. وهذا معلوم حتى عند علماء الهندسة والفلك ونحو ذلك، فإنهم يقولون: إن الإنسان إذا كان يريد أن يحاذي نقطة يحاذيها بمسافات إذا كان بعيدًا، وكلما يقرب منها فإنها تضيق المسافة، وعليه كلما بعد يتسع، فإذا بعد الإنسان عن الحجر زادت مسافة المحاذاة، وكلما دنا منها تحدد الإنسان، عليه تنتفي العلة وهي مسألة وضع الخط.

وعليه يعلم أن الإنسان إذا دنا من الحجر انتفت علة التحديد؛ فإنه يرى الحجر، وإذا كان بعيدًا عنه لا حاجة إلى أن يوضع الخط. ثم إن في ذلك دفعًا لكثير من المفاسد التي قد طرأت عند وضع ذلك، ومعلوم أنه قد وضع حديثاً في القرن الخامس عشر الهجري.

ومن المفاسد في ذلك: تعلق كثير من أهل البدع بذلك؛ كأنهم قد جعلوا هذا الخط موضعًا للعبادة، فمنهم من يتمسح به بقدميه ونحو ذلك.

ثم ما يحدثه من بعض المفاسد من الزحام وتجمع كثير من الناس، ويظنون أنه ينبغي له أن يقف قبل ذلك لحظات، ثم بعد ذلك يمشي، ومنهم من يظن أنه لا بد أن يستقبل القبلة على هذا الخط من بعض العجم - وقد لاحظ ذلك كثير من الناس-، وبعد إزالته وجد في ذلك فسحة كثيرة؛ وعليه يعلم أنه ليس من المقاصد ولا من المصالح الشرعية على الصحيح وضع ذلك، وأن إزالته هي الصواب.

أما إذا خفيت على الإنسان معالم الكعبة، كمن يطوف في السطوح، أو في الدور الثاني ونحو ذلك، فيقال: إنه إذا كان لا يرى الكعبة فيشرع وضع علامات بناء على ذلك الأصل؛ وذلك أنه لا يرى الكعبة لأجل زحام ونحو ذلك، حتى يرى ابتداء الطواف ونهايته.

ومن المسائل النازلة: من يطوف على عربة أو محمولاً -هو معذور- هل له أن يضطبع، وهو أن يظهر كتفه الأيمن، وأن يرمي بطرفي ردائه على كتفه الأيسر؟

أولًا يقال: إن الاضطباع مشروع؛ فقد جاء في ذلك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها ما جاء في سنن الترمذي من حديث أبي يعلى عن أبيه، وما جاء في سنن أبي داود من حديث عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مشروع عند جماهير أهل العلم؛ خلافًا للإمام مالك .

إذا علم أن ذلك مشروع، وقد ثبت في ذلك نص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاءت فيه جملة من الأخبار عن السلف عليهم رحمة الله الذين قطعوا بمشروعيته.

فأولًا يقال: إذا كانت العلة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاضطباع والرمل هو: أن المشركين لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يغيظ المشركين بالاضطباع والرمل، بإظهار القوة أمامهم، فإنهم يقولون قد وهن النبي عليه الصلاة والسلام حمى يثرب؛ فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يظهر بمظهر القوة، ففعل النبي عليه الصلاة والسلام ذلك.

ومن كان محمولًا لا يظهر منه الرمل، ولا يظهر منه ذلك التعليل وهو إظهار تلك القوة، وليس له أن يحرك يده اليمنى، ومعلوم أن تحريك اليد اليمنى هو مقصود بالرمل، كذلك مقصود بالاضطباع، وعلى هذا يقولون: إن من استدار على شيء وقد وضع الشيء على يساره، فإنه يحتاج إلى تحريك يده اليمنى أكثر من يساره، وإذا دار على شيء ووضع الشيء على يمينه يحتاج إلى تحريك يده اليسرى أكثر من يمينه وهذا معلوم، وكلما ضاقت الدائرة احتاج إلى التحريك أكثر، وهذا معلوم بالنظر وهو محل اتفاق.

فعليه يعلم أنه لما انتفت العلة فيمن يركب بعربة أو يكون محمولًا، فهل يشرع له ذلك أم لا؟

يقال: إنه يرجع إلى ذلك الأصل، هل هذه العلة باقية وهي مسألة الاضطباع والرمل؟

يقال: إن النبي عليه الصلاة والسلام شرع ذلك لعلة، فلما انتفت هذه العلة هل يظل الحكم باقيًا أم لا؟ نعم، يقال: إن الحكم باقٍ، وهذا الذي عليه إجماع العلماء ممن قال بمشروعية الاضطباع والرمل، لما كانت العلة منتفية من جهة الأصل وباقية من جهة الحكم، ولم يتعلق بها الحكم وجودًا وعدمًا، كان بقاء الحكم فيمن يطوف على عربة أو يطوف محمولًا من باب أولى، بل إنهما في الحكم سواء.

ومن المسائل -أيضاً- طواف الإنسان فوق مستوى الكعبة، كأن يطوف الإنسان في الدور الثاني أو السطح.

أولًا يقال: إنه قد تقدم تقرير أن الهواء له حكم القرار، وقد ثبت ذلك فعله عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى من جهة الصلاة، فيقال: إن العلماء قد اتفقوا أن من صلى وسقف الكعبة فوقه أن الصلاة صحيحة، وهذا محل اتفاق عندهم، وإذا صلى الإنسان وهو فوق مستوى الكعبة فهل صلاته صحيحة أم لا؟ عامة العلماء على صحة صلاته، وذهب بعض الفقهاء من الشافعية إلى عدم صحة صلاة من صلى فوق مستوى سطح الكعبة.

وقد رد على من قال بهذا القول بعض الفقهاء من الشافعية، كالإمام النووي عليه رحمة الله تعالى، وأبطل قول من قال بذلك بحجج منها:

قال: إنه لو قدر -والعياذ بالله- أن تهدم الكعبة ولا يبقى منها أثر، هل يقال بعدم صحة من قام حولها؟ ومعلوم أنه إذا هدمت فإنه يكون أعلى من سطحها، فصلاته صحيحة، وهذا محل اتفاق، ثم إنه قال: وهذا اتفاق العلماء بالنظر والتسليم إلى صحة صلاة من صلى فوق جبل أبي قبيس، ومعلوم أن جبل أبي قبيس أعلى من مستوى سطح الكعبة، وهو مشرف عليها، فالصلاة فيه صحيحة، كذلك من صلى فوق السطوح أو صلى في الدور الثاني أو الثالث مما هو أعلى من مستوى سطح الكعبة.

ومما يدل على أن الهواء له حكم القرار من جهة الحكم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حرم على المحرم صيد البر، ويلحق في ذلك صيد الجو تبعًا، فلو صاد إنسان صيداً في جو، فإنه يجب عليه الفدية، كأن يصيده بسهام أو نبال أو بندقية ونحو ذلك.

فإذا قيل: إن الطواف في الدور الثاني أو في السطح خارج عن مستوى سطح الكعبة، عليه يقال: إنه خارج عن التكليف بذلك، وهو خارج عن التكليف بالإحرام، فلو صاد شيئًا من الصيد وهو في السطح أو في الدور الثاني، هل يقال: لو أنه صاد شيئًا في الهواء فلا ينطبق عليه الحكم؟ أن هذا القول قول باطل، وعليه يعلم فساده.

وبه يعلم: أن من طاف في الأرض، ومن طاف في الدور الثاني، أو طاف في السطح فطوافه صحيح، وهذا الذي ينبغي أن يصار إليه، ولا ينبغي أن يحكى في ذلك خلاف، ولكن لما كان الناظرون أو السامعون لهذا الكلام هم من طلبة العلم، لا بأس بذكر هذا الخلاف.

ويتفرع عن هذا الخلاف: من طاف شيئًا من الطواف في الأرض ثم أراد أن يكمل طوافه في الدور الثاني، وهذا من فروع هذه المسألة، وإن كان يلحقه من جهة الأصل في مسألة الموالاة، وتقدم أنه من القواعد عند الحنفية أنهم لا يشترطون موالاة في جميع العبادات عندهم، سواء في أبواب الصلاة أو الطهارة، فلا يشترطون الموالاة في الوضوء، فلو غسل عضو في موضع ثم غسله حتى نشف في موضع آخر، أو الصلاة عند الجمع بين صلاتين فلو أراد أن يجمع الظهر مع العصر، فصلى الظهر ثم أراد أن يؤخر العصر إلى آخر وقت صلاة الظهر، قالوا: إن ذلك جائز، كذلك من جهة الموالاة في الحج في جميع الأحوال من جهة الطواف، فلو طاف شوطًا ثم أراد أن يؤجله إلى الليل، جاز له ذلك؛ فإنه على قولهم يرون الجواز هنا من باب أولى.

وأما إذا أراد أن يكمل في الدور الثاني، وكان الفاصل يسيرًا صح ذلك قياسًا على مسألة الصلاة فيمن قطعه صلاة، ومعلوم أن الإنسان إذا قطعته صلاة في المطاف، فإنه يصلي ثم يتم طوافه باتفاق العلماء.

يقول ابن عبد البر عليه رحمة الله تعالى: ولا أعلم خلافًا في ذلك إلا ما يروى عن الحسن، فإنه قال: بأنه يستأنف طوافه.

كذلك من المسائل في هذا: مسألة الصلاة عند مقام إبراهيم.

وهذه المسألة وإن كانت من جهة الأصل مسألة قديمة، ولكن لما كان الخلاف قد وجد في مسألة مشروعية نقل المقام، لا نريد أن نتكلم على هذه المسألة؛ لأنها مسألة تتعلق فيها كثير من المصالح والمفاسد ولكن نتكلم على ما لو حصل ذلك بتقديم أو تأخير.

يقال: إن الصلاة خلف المقام هل هي متعلقة بذلك الجرم الذي لو حرك أو أزيل فإنه يزول معه ذلك الحكم، أو أن الأمر متعلق بأصل مكانه، فلو أزيل فإنه ينتفي ذلك الحكم وهو أداء الصلاة خلف المقام؟

أولًا يقال: إن الأمر من جهة النظر لا يتعلق بذلك الحجر وإنما يتعلق بمكانه، ومعلوم أن مكانه قريب من الكعبة؛ فإن إسماعيل كان يناول أباه الحجر وهو قريب منه، فإنما حُرّك وحركه السيل في الصدر الأول وبقي في مكانه، ولما كان كذلك من صلى بين الحجر والكعبة، هل هو مصل بين الكعبة والمقام، أو لا بد أن يكون بين المقام الحادث الذي قد جرفه السيل، هل يكون قد أتى وامتثل بذلك أم لا؟

أولًا يقال: إنه يرجع إلى مسألة الأصل، هل هو من جهة الأصل متعلق بهذا الحجر، فإن غُيّر أو حيد عنه ونحو ذلك، أم أن الشارع قيده من جهة العلامة بهذا الحجر، وشُرعت الصلاة نحو هذه الناحية؟

يقال: إن الكعبة -والعياذ بالله- لو أزيل مكانها ووضع في مكان آخر، هل المقصود أن يتوجه الإنسان إلى مكانها أو يتوجه الإنسان إلى ذلك الحجر؟ الأولى أن يقال: إن الإنسان يتوجه إلى مكانها، وهذا محل تسليم، لا أن يتوجه إلى ذلك الحجر لو زيد فيه أو نقص، فلما كان كذلك، كان كذلك الاتجاه إلى مسألة المقام أن يتوجه الإنسان إلى مكانه؟

وعليه يعلم: أنه لو تيسر للإنسان أن يصلي بين المقام والكعبة أنه قد صلى ناحية المقام، وهذا ينبغي التيسير فيه، لما كان الزحام في هذا الموضع وهو للطواف، كان الأولى بالإنسان أن ينأى عن الزحام ويصلي بعيدًا عن ذلك.

ثم إن الصلاة من جهة الأصل لا تتعلق بالمقام ذاته؛ لهذا قد ثبت عن غير واحد من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أنهم قد صلوا خارج المسجد، فلما كانت الصلاة خارج المسجد، وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد دل على أن مسألة المقام لا يتعلق بذاته حكم الركعتين، فلما كان لا يتعلق به حكم الركعتين، كان التوجه إلى موضعه الأصلي هو أولى من التوجه لهذا الحجر، فقد صلى عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى ركعتي الطواف بذي طوى، وإسناده عنه صحيح، قد جاء عنه في موطأ الإمام مالك .

ومن المسائل -أيضًا- هنا في مسألة المسعى: المسعى، هو ما بين الصفا والمروة، كما جاء في حديث جابر بن عبد الله، قد رواه الإمام مسلم من حديث إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سعى بين الصفا والمروة )، والسعي بين الصفا والمروة هو من المناسك بالاتفاق على خلاف عند العلماء في ركنيته، أو وجوبه، أو استحبابه على ثلاثة أقوال، وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد عليه رحمة الله، وليس هذا محل الكلام عليه، وإنما الكلام على مسائل من النوازل في المسعى:

ركوب العربات الكهربائية في المسعى لغير حاجة

أولها: ركوب العربات الكهربائية في المسعى، وهي التي يركبها بعض العجزة أو المرضى ونحو ذلك، وتكون كهربائية، فيضغط الإنسان زرًا فتمشي به إلى ناحية ثم يرجع إلى ناحية أخرى.

هذا يرجع بنا إلى تأصيل مسألة، وهي مسألة الركوب في المسعى. أولًا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالمسعى ماشيًا، وقد ثبت ذلك النص عنه كما جاء في حديث جابر بن عبد الله فإنه قد مشى؛ ولذلك سعى بين العلمين، ولم يكن راكبًا، وقد جاء عند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود، وقد ثبت أيضًا موقوفًا على عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى.

وأما الركوب في المسعى فهو خلاف السّنة عند جمهور العلماء، بل ذهب بعض العلماء إلى وجوب المشي وأن الركوب مخالف، إلا لمن كان معذورًا، وهذا الذي عليه - أعني التأكيد على مسألة المشي على خلاف في الوجوب- السلف عليهم رحمة الله، فقد ثبت عن غير واحد أنه أكد في ذلك، وذم من ركب من غير حاجة في السعي، ثبت ذلك عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، وعروة بن الزبير، وسودة بنت عبد الله بن عمر عليهم رضوان الله تعالى بالتأكيد على المشي، وإن شق على الإنسان ما استطاع إلى المشي سبيلًا.

وقد ثبت في ذلك نصوص عنه بالتأكيد عليه، كما جاء عن عائشة فيما رواه الإمام مالك في موطئه قالت: إني لا أستطيع أن أركب بين الصفا والمروة، وإنما أمشي بينهما، وقد ثبت ذلك أيضًا كما جاء في الموطأ من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن سودة بنت عبد الله بن عمر وكانت زوجة ابن الزبير، كانت قد ابتدأت بطوافها بين الصفا والمروة حينما انصرف الناس من صلاة العشاء، وكانت ثقيلة فما انتهت من طوافها بين الصفا والمروة إلا عند آذان الصبح الأول، فكان ابن الزبير يسعى معها، ويرى أناسًا راكبين فينكر عليهم فيقولون: إنا نفعل ذلك لأجل المرض؛ حياء منه، ويقول ابن الزبير: لقد خابوا وخسروا، وقد استدل من قال بالوجوب بأمثال هذه الآثار، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه ركب.

وعلى هذا من يقول بالوجوب فإنه يقول بالدم وهذا قول جماهيرهم، ومن قال بالاستحباب، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول جماعة من الفقهاء من الحنفية أنه ليس بواجب، وذهب إلى هذا الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى وأنه من المتأكدات والسنن، وعليه فإن الإنسان لو احتاج أو فعل ذلك من غير حاجة أن سعيه صحيح، سواء كان محمولًا أو على آلة ونحو ذلك.

وقد قال الشافعي عليه رحمة الله تعالى معلقًا على أثر سودة بنت عبد الله بن عمر وقول ابن الزبير: خابوا وخسروا قال: لو قال: إن سعيهم باطل لما اكتفى بقوله: خابوا وخسروا، وإنما دل على أنهم فرطوا في جانب متأكد به من جهة الشرع، فنقص من ثوابهم بقدر تقصيرهم، وأن سعيهم صحيح.

وعليه يعلم: أن تلك العربات لو فعلها الإنسان وهو محتاج إليها أنه كالمريض، إن فعل ذلك في حال صحته أنه مأجور على فعله في حال الصحة إن كان يمشي، وإن كان يركب في حال صحته ومرضه لا يحصل له الأجر كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما يعمل وهو صحيح مقيم )، وعليه: فإن من فعل شيئًا حال مرضه أو تركه وكان حريصًا على الامتثال به حال صحته فإنه يكتب له ما كان يفعله حال الصحة، ويكون له الأجر كاملًا. فإذا فعل حال الصحة فركب فإن سعيه صحيح، وهو ناقص بقدر تفريطه بما حث عليه النبي عليه الصلاة والسلام.

وضع سلالم كهربائية تذهب وتجيء بالساعي بين الصفا والمروة

ويخرج على ذلك من المسائل التي قد يقال بها -وهي لم تحدث، وقد قرأت الدعوة إليها- وهي: وضع سلالم كهربائية بين الصفا والمروة، وهو أن يسعى الإنسان على سير كهربائي يذهب به ويجيء ونحو ذلك، أولًا يقال: إن هذا مخرج على مسألتنا.

وضع الأعلام الخضراء لتحديد بطن الوادي في المسعى

ومن المسائل النوازل في هذا الباب: مسألة علامات العلمين في بطن الوادي، وهي المصبوغة باللون الأخضر.

أولًا: قد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دنا من بطن الوادي سعى كما جاء في حديث جابر بن عبد الله عليه رضوان الله تعالى وغيره.

وسعيه عليه الصلاة والسلام ليس بالجري الشديد، وإنما هو بين المشي فيشد الإنسان ويقارب بين خطاه ويسرع بينهما، وهذا هو ظاهر فعل النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن هذه الأعلام التي قد وضعت خضراء أصلها وضع بعد انصرام عهد الخلفاء الراشدين، فقد وضعت مبكرًا في أواخر عصر الصحابة عليهم رضوان الله تعالى، وقد نص على هذه الأعلام الخضر غير واحد من الفقهاء كالإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى في كتابه الأم، فقال: إن دنا من العلم الأخضر من جهة المسجد سعى، ما يدل على أن العلم كان موجودًا، ثم تغيرت حاله حتى وضعت أنوار خضراء أو صبغت الأميال ونحو ذلك، وهذا هل هو من المقاصد الشرعية أم لا؟

تقدمت الإشارة إلى أصل هذه المسألة وهي وضع أعلام لمن جهل بعض الأماكن الشرعية لتحديدها لتحقيق مقصد العبادة، أولًا لما كان النبي عليه الصلاة والسلام يسعى في بطن الوادي، ولما كان بطن الوادي قد ردم فاستوى طرفا هذا الوادي فلا يعلم بطن الوادي من أعلاه، كان وضع هذه الأعلام لتحقيق مصلحة السعي بين العلمين متحققاً شرعًا وهو من المصالح المرسلة، ولا زال العلماء يقرون ذلك، وهو محل عمل عندهم.

توسعة المسعى بمسار محاذٍ له

ومن المسائل النوازل في مسألة المسعى: ما طرأ حديثًا من توسعة المسعى، وهو وضع مسار بحجم المسار الموجود محاذ له ومواز له من الصفا إلى المروة، فيكون المسعى الحالي لمن قدم من المروة إلى الصفا، والحادث لمن قدم من الصفا إلى المروة.

أولًا يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جاء النص عنه أنه سعى بين الصفا والمروة، فالبينية هنا من جهة اللغة أن من كان بين شيئين فلا يخلو من حالين على الأغلب: إما أن يكون قد وجه وجهه ناحية أحدهما، فما خلفه الطرف الآخر، وإما أن يكون قد وضع أحدهما على يساره فالآخر عن يمينه، فهل يكون كل ما خلفه أحد الأطراف فيكون بينهما، فإذا كان بينهما وقد وضع أحدهما على يساره فهل يكون كل ما كان عن يساره ممن هو دون ذلك المكان هو بينه، هل تدخل فيه البينية أم لا؟

يقال: إن هذه المسألة لها فروع عدة غير هذا الفرع، تتعلق بمسألة تحقيق البينية، البينية تتحقق في كل ما كان عن يمين الإنسان ويساره فإن الإنسان إذا كان بين نقطتين فلا يلزم من أن يكون بينهما أن يكون على خط مستقيم بين هاتين النقطتين؛ فإنه إن تجاوز أحدهما أو تجاوز ذلك الخط فإن من كان عن يمينه أو عن يساره هو بينهما وقد توسطهما، وكذلك إذا جعل أحدهما خلفه والآخر أمامه يسمى ما خلفه، وإن كان محاذيًا للنقطة التي خلفه يسمى كل ما خلفه وراءه، وكذلك من كان تلقاء وجهه فإنه يسميه أمامه.. يتعلق هذا بمسألة البينية، ويتعلق هذا بمسألة أخرى إن قلنا بعدم رجحان هذا التعليل بمسألة الزحام.

ومسألة الزحام واتصال الصفوف وحاجة الناس إلى ذلك، هل يلحق في هذه المسألة أم لا؟ من جهة الرجوع إلى المسائل يجد الإنسان أن مسائل المناسك أو المسائل التعبدية لا علاقة لها بما يخرج عنها من مسائل المعاملات ونحو ذلك، بعض من تكلم في هذه المسألة ألحق هذه المسألة بمسألة التمليك، فلو أن إنسانًا قد ملك أرضًا ليس له أن يملك ما كان بجوارها وإنما يملك فضاءها، وعليه يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما حدد المواقيت جعل السلف ما كان محاذيًا لها في حكمها -مع أنه لا يتعلق في ذلك ملكية-، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم في مسألة المعاملات -مسألة البيوع- فيمن اشترى أرضًا أنه ليس له حق فيما جاورها إلا في مسألة واحدة وهي مسألة الشفعة إذا أراد الإنسان أن يبيع أرضًا مجاورة لشخص آخر أنه أولى بها، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الجار أحق بشفعة جاره )، إذا كان كذلك علم أن ثمة فارقاً بين مسألة التمليك وهي الاستحقاق والملكية، وبين مسائل العبادات في أمثال ذلك.

فالصحابة عليهم رضوان الله تعالى كما جاء عن عمر جعل ما كان محاذيًا للميقات -كما في ذات عرق- في حكمها كما قال عليه رضوان الله تعالى: انظروا حذوها، فنظروا فجعل عليه رضوان الله تعالى ذات عرق.

ثم من جهة النظر، من جهة تحقيق المصلحة في اتصال الصفوف أن لها حكماً من جهة الأصل، وهذا يرجعنا إلى مسائل عدة:

المسألة الأولى: مسألة الصلاة حول الكعبة، الصلاة في الصدر الأول كانت من جهة الحجر الأسود والباب، كانوا صفًا واحداً ولم تكن الصفوف مستديرة حول الكعبة إلا في عهد خالد بن عبد الله القسري كما ذكر ذلك الفاكهي، عليه رحمة الله تعالى في كتابه أخبار مكة، قال: إن الصفوف كانت من جهة واحدة من جهة الباب، فإذا انتهى شطر الكعبة أو زادوا عنها قليلًا أحدثوا صفًا آخر حتى زاد ذلك، فلما كان في خلافة خالد بن عبد الله القسري وإمارته على مكة جعل الصفوف مستديرة فاستقر على ذلك العمل.

وقد أفتى بجواز ذلك غير واحد من العلماء، كما أخرج الفاكهي في أخبار مكة من حديث ابن جريج قال: سألت عطاء عليه رضوان الله تعالى عن الصلاة خلف الباب فيمن صلى، هل يصلي الناس وإن خرجوا عن الباب يسيرًا ثم يصلون صفوفًا، أم يصلون صفًا واحداً حول الكعبة؟ قال: بل يصلون صفًا واحدًا حول الكعبة أولى من صلاتهم صفوفًا كثيرة خلف الباب.

واستدل بقول الله سبحانه وتعالى -وهذا استنباط لطيف منه قال-: وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر:75] قال: فلما كان العرش مقصودًا بالتوجه إليه كانت الاستدارة فيه مشروعة، وهذا لم يكن في السابق واستقر عليه العمل.

المراد من ذلك: أن نرجع المسألة إلى قبل استدارة الصفوف، فلو صلى الناس من جهة الباب، ثم زادت الصفوف حتى خرجت عن التصويب عن الكعبة، هل تصح صلاة من زاد عن أطراف الكعبة فتوجه إلى غيرها وهو خلف الإمام؟ يقال: قد اتفق العلماء على أن من صلى وحاله كذلك أن صلاته صحيحة، وهذا محل اتفاق عندهم ؛ لأن مقصد الزحام صحيح، وعليه يقال: لو صلى جماعة من الناس وأبطلوا مسألة الاستدارة فصلوا من ناحية الباب خلف إمام حتى خرج طرفا الصف عن مسألة التصويب عن الكعبة صحت صلاتهم وهذا محل اتفاق.

وثمة فرع آخر أيضًا من نظائر هذه المسألة وهي أن الصلاة في حدود الحرم مضاعفة، فلو صلى المسلمون في طرف من أطراف الحرم، وكان التضعيف متحققًا فصلى فئام من المسلمين خلف ذلك الإمام حتى خرج طوائف منهم عن حدود الحرم، هل من خرج عن حدود ذلك الحرم من الصفوف يدخل في التضعيف أم لا؟ الصواب أنه يدخل، وهذا ظاهره أنه محل اتفاق عند العلماء، وإن كانوا من جهة البقعة ليسوا داخلين في البقعة الشرعية التي يدخل فيها التضعيف عند العلماء بالاتفاق وهو ظاهر النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وعليه يعلم: أن اتصال الصفوف والحاجة إلى الزحام بإحداث توسيع المسعى داخل في ذلك من وجهين:

أولًا: في تحقق البينية.

الأمر الثاني: بتحقق مصلحة اتصال الصفوف، وأن ذلك من مقاصد الشريعة.

ثم إن الصلاة لما كانت آكد، وهي من فرائض الإسلام وتاركها كافر على الصحيح من أقوال العلماء، وليس هذا محل بسط وذكر الأدلة في ذلك، وهذا أيضًا يرجعنا إلى مسألة قد تكون هي أسهل من ذلك: أن العلماء عليهم رحمة الله حينما تكلموا على ما هو من شروط الصلاة، وليست الصلاة بذاتها قالوا: من جحد شيئاً من شروطها مما لا تصح الصلاة إلا به، فمن أنكر الوضوء فقد كفر، ومن أنكر غسل الجنابة فقد كفر، قالوا: ليس لذاته، وإنما لأنها لا تتحقق الصلاة التي بتركها يدخل الإنسان بالإيمان، فإنه يكفر بذلك، قالوا: وهذا محل اتفاق.

لما كانت الصلاة كذلك تصح من إنسان لا يتوجه إلى القبلة، وإن كان خلف الإمام جاز فيما هو دون ذلك في مسألة المسعى.

ثم أيضًا من جهة النظر، وهذا ينظر له من جهة التعليل أو مسائل العلة ويذكرها العلماء وهي مسألة السبر والتقسيم، ومسألة السبر والتقسيم عند العلماء يلجأ إليها، وهي: أن الإنسان إذا اضطر إلى مسألة ينظر إلى الأحوال التي يمكن أن تحدث في أمثال هذا، فالمسعى إذا قيل بالزحام وكثرت الناس وتضافرهم، إما أن يقال بأنه يقلل الناس ويحرمهم من الحج ويسقط عنهم الوجوب، ويقلل بقدر ما يسعون بين الصفا والمروة، وإما أن يقال: أن يسعوا ومن لم يستطع يسقط عنه السعي، وإما أن يقال بجواز الإنابة: أن ينيب الإنسان غيره، فيشركه سعيه بسعيه على قول من قال: إنه يجوز للإنسان أن يفعل فعلين في وقت واحد, وهذا قول وإن كان قولًا شاذًا في هذه المسألة لكنه يدخل في ذلك.

والحالة الرابعة: أن يقال بجواز اتصال الناس وعذرهم بتوسعة ذلك على قول: إن ذلك خارج هذا الأمر، فيقال: لا شك أنه من جهة النظر أن حكم الشريعة باق من جهة التكليف، ولا يعذر الإنسان إلا بما لا يطيق، ثم إن الإنابة باطلة في مثل ذلك، ثم أيضًا أن الإنسان لا يسقط عنه السعي وهو مستطيع للسعي، فيبقى في ذلك الاستطاعة، وهي أن الإنسان إذا استطاع أن يتصل بالصفوف وإن حمله الزحام إلى أن يكون خارجًا منه فله حكمه. وقد يقاس ذلك على مسألة اتصال الصفوف فيمن يخرج من المسجد، فقد ثبت عن جماعة من الصحابة عليهم رضوان الله تعالى أنهم صلوا خارج المسجد بصلاة الإمام، قد جاء عن أبي هريرة، وعمار بن ياسر، وعبد الرحمن بن عوف وجاء عن غيرهم من السلف عليهم رحمة الله.

وعليه والله أعلم: أن مسألة توسعة المسعى مسألة مشروعة، وهذا الذي يؤيدها الدليل من جهة إلحاقها بالأصل، وكذلك ما يؤيدها من جهة النظر.

الرد على بعض حجج معارضي توسعة المسعى

وأما ما يعلق به البعض الحكم الشرعي بأن السعي يكون بين جبلين -بين الصفا والمروة-، قالوا: فلا بد من النظر إلى أصل الجبلين من جهة باطن الأرض، فما كان من أصلهما فإن الإنسان يكون بينه.

أولًا: الشريعة تعلق بالظواهر، والإنسان مكلف بما يراه لا أن يحفر أسافل الجبال ونحو ذلك؛ لينظر تحقق العبادة أم لا، فلو قيل: إنه حدث ثمة انهيار من مشي الناس، وكثر مشيهم على الرمل ثم نزل الجبل ونحو ذلك، هو مخاطب بذلك، فلو قيل بأن الجبل يمتد حتى خارج مكة من جهة الأصل، هل يقال بجواز السعي؟ لا يقال بذلك؛ لأن الأمر متحقق في هذا المكان، فالمسألة بالقصد لا يقال بالتوسعة في هذا، ولا تعليق الأمر بعلة خفية لم يقصدها الشارع، حينما علق الشارع كثيرًا من العبادات بالرؤية لم يعلقها بما خفي عن الإنسان؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام قد علق مواقيت الصلاة برؤية الشمس مع أن الشمس التي نراها ليست الشمس الحقيقية، وإنما هي انعكاسها في الغلاف الجوي، كذلك مسألة رؤية الهلال في دخول الشهر وانصرامه، ليس هو الهلال الحقيقي وإنما هي صورته في الغلاف الجوي، وبين صورة الشمس الحقيقية وبين هذه الصورة بضع دقائق، فهل يقال: إن الإنسان لو صلى بما يعلمه من جهة الحقيقة وما خفي عليه ويبحث عن ذلك؟ هذا يقال: إنه من التنطع في هذا الباب، فينبغي أن يصار إلى أن الأمر متعلق بالظواهر.

إلحاق شيء من الطواف بالمسعى

ومن المسائل في النوازل في هذا الباب، ما يلحق في مسألة المسعى: إلحاق شيء من الطواف في المسعى، وتقدم الكلام أو الإشارة إلى هذه المسألة، وهي لو طاف الطائف ثم كان جزءاً من طوافه في المسعى.

تقدمت الإشارة إلى أن أصل الخلاف في هذا أن المسعى كان خارج المسجد والله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:29] والبيت هو المسجد، فلما كان كذلك فإن من طاف خارج البيت العتيق -والمقصود به هو المسجد، فإذا أطلق البيت فالمراد به "الكعبة" وما بني حولها مما يلحق فيها من أماكن العبادة- فإن طاف خارجها كان طوافه ليس بصحيح؛ لهذا قال العلماء: إن من طاف وإن كان في المسعى طوافه ليس بصحيح، وكان أصل المسألة فيما يظهر لي: أن بعض الناس حينما يقرب من نهاية الطواف يخرج من المسجد إلى المسعى، فيسعى يسيرًا ثم يرجع إلى الصفا، فيكون شيئًا من طوافه في المسعى، ثم يبتدئ بالسعي بين الصفا والمروة.

أولًا يقال: لما اتصل المسعى بالمسجد ودخل فيه، وكذلك أيضًا قد دخل فيه ما خلفه فكانت الصفوف تتصل ويصلي الناس صلوات الفريضة في هذه الأماكن؛ دل على دخول المسعى فيه من باب أولى.

ثم إنه ليس من التعليل والنظر أن يكون ما خارج المسعى داخلًا في المسجد، ثم تتصل الصفوف فيصلي الناس في المسعى فتكون صلاتهم بصلاة الإمام، وما خلفهم بصلاة الإمام داخلة في صلاة الجماعة، فإذا انصرفوا من صلاة الجماعة لم تكن البقعة التي هم فيها داخلة في المسجد، هذا لا يؤيده النظر.

ثم أيضًا لما اندثر الفاصل، وهو ما كان بين المسجد والمسعى من سوق ومتاجر وأماكن لحوانيت الطعام، وللبيع والشراء، والمساكن.. ونحو ذلك، لما اندثرت واتصلت الصفوف وجب أن يكون ذلك المسجد.

دخول الحائض للمسجد والمسعى

ويلحق بهذا الفرع عدة مسائل:

مسألة الطهارة في دخول المسجد، مسألة دخول الحائض: هل تدخل المسجد أم لا؟ فينبغي لمن قال بعدم دخولها البيت ألا تدخل المسعى، ومن قال بجواز دخولها المسجد ألا تدخل بالبيت، ومن علق علة نهي النبي عليه الصلاة والسلام الحائض أن تطوف بالبيت بعدم الدخول لهذه البقعة، فينبغي تعليقه كذلك في المسعى.

وهذا فيما أراه أنه يندثر فيه الخلاف؛ لدخول المسعى في هذا، وإن كان الخلاف لا زال موجودًا عند بعض من تكلم في هذه المسألة من أهل المجامع الفقهية من أهل الإفتاء وغيرهم.

السعي في الطابق الثاني والثالث

ومن المسائل أيضًا: مسألة السعي في الطابق الثاني والثالث، وهذا يلحق بمسألتنا في الطواف بالبيت في الطابق الثاني أو الثالث، هل يكون ذلك مما يجزئ أم لا؟

أولًا: هذا يفرع على مسألتنا، وهي مسألة الركوب، فهل الركوب جائز فيمن سعى على الأرض أم لا؟ من قال بجواز الركوب فإنه يقول بمن سعى ماشيًا على قدميه في الأعلام من باب أولى؛ لأنه أجاز راكبًا وهو لم يمش على الأرض، ثم إن السطوح لا حدّ لها، فقد يكون السطح سقف المروة أعلى منه، فسواء علا السقف أو دنا على التأصيل السابق أن الطواف مجزئ وصحيح، سواء بالدور الأول أو الثاني أو بني أحدث من ذلك مما يكون أعلى من الصفا والمروة؛ قياسًا على الصلاة، وتقدمت الإشارة إلى ذلك.

أولها: ركوب العربات الكهربائية في المسعى، وهي التي يركبها بعض العجزة أو المرضى ونحو ذلك، وتكون كهربائية، فيضغط الإنسان زرًا فتمشي به إلى ناحية ثم يرجع إلى ناحية أخرى.

هذا يرجع بنا إلى تأصيل مسألة، وهي مسألة الركوب في المسعى. أولًا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالمسعى ماشيًا، وقد ثبت ذلك النص عنه كما جاء في حديث جابر بن عبد الله فإنه قد مشى؛ ولذلك سعى بين العلمين، ولم يكن راكبًا، وقد جاء عند الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود، وقد ثبت أيضًا موقوفًا على عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى.

وأما الركوب في المسعى فهو خلاف السّنة عند جمهور العلماء، بل ذهب بعض العلماء إلى وجوب المشي وأن الركوب مخالف، إلا لمن كان معذورًا، وهذا الذي عليه - أعني التأكيد على مسألة المشي على خلاف في الوجوب- السلف عليهم رحمة الله، فقد ثبت عن غير واحد أنه أكد في ذلك، وذم من ركب من غير حاجة في السعي، ثبت ذلك عن عائشة عليها رضوان الله تعالى، وعروة بن الزبير، وسودة بنت عبد الله بن عمر عليهم رضوان الله تعالى بالتأكيد على المشي، وإن شق على الإنسان ما استطاع إلى المشي سبيلًا.

وقد ثبت في ذلك نصوص عنه بالتأكيد عليه، كما جاء عن عائشة فيما رواه الإمام مالك في موطئه قالت: إني لا أستطيع أن أركب بين الصفا والمروة، وإنما أمشي بينهما، وقد ثبت ذلك أيضًا كما جاء في الموطأ من حديث هشام بن عروة عن أبيه أن سودة بنت عبد الله بن عمر وكانت زوجة ابن الزبير، كانت قد ابتدأت بطوافها بين الصفا والمروة حينما انصرف الناس من صلاة العشاء، وكانت ثقيلة فما انتهت من طوافها بين الصفا والمروة إلا عند آذان الصبح الأول، فكان ابن الزبير يسعى معها، ويرى أناسًا راكبين فينكر عليهم فيقولون: إنا نفعل ذلك لأجل المرض؛ حياء منه، ويقول ابن الزبير: لقد خابوا وخسروا، وقد استدل من قال بالوجوب بأمثال هذه الآثار، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت عنه أنه ركب.

وعلى هذا من يقول بالوجوب فإنه يقول بالدم وهذا قول جماهيرهم، ومن قال بالاستحباب، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول جماعة من الفقهاء من الحنفية أنه ليس بواجب، وذهب إلى هذا الإمام الشافعي عليه رحمة الله تعالى وأنه من المتأكدات والسنن، وعليه فإن الإنسان لو احتاج أو فعل ذلك من غير حاجة أن سعيه صحيح، سواء كان محمولًا أو على آلة ونحو ذلك.

وقد قال الشافعي عليه رحمة الله تعالى معلقًا على أثر سودة بنت عبد الله بن عمر وقول ابن الزبير: خابوا وخسروا قال: لو قال: إن سعيهم باطل لما اكتفى بقوله: خابوا وخسروا، وإنما دل على أنهم فرطوا في جانب متأكد به من جهة الشرع، فنقص من ثوابهم بقدر تقصيرهم، وأن سعيهم صحيح.

وعليه يعلم: أن تلك العربات لو فعلها الإنسان وهو محتاج إليها أنه كالمريض، إن فعل ذلك في حال صحته أنه مأجور على فعله في حال الصحة إن كان يمشي، وإن كان يركب في حال صحته ومرضه لا يحصل له الأجر كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصحيح من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما يعمل وهو صحيح مقيم )، وعليه: فإن من فعل شيئًا حال مرضه أو تركه وكان حريصًا على الامتثال به حال صحته فإنه يكتب له ما كان يفعله حال الصحة، ويكون له الأجر كاملًا. فإذا فعل حال الصحة فركب فإن سعيه صحيح، وهو ناقص بقدر تفريطه بما حث عليه النبي عليه الصلاة والسلام.

ويخرج على ذلك من المسائل التي قد يقال بها -وهي لم تحدث، وقد قرأت الدعوة إليها- وهي: وضع سلالم كهربائية بين الصفا والمروة، وهو أن يسعى الإنسان على سير كهربائي يذهب به ويجيء ونحو ذلك، أولًا يقال: إن هذا مخرج على مسألتنا.