الأحاديث المعلة في الصلاة [29]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

الحديث الأول: حديث جابر بن عبد الله عليه رضوان الله، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تؤم المرأة الرجل، ولا الأعرابي المهاجر، ولا الفاسق المؤمن، إلا أن يكون سلطاناً يخاف سطوته وسيفه )، الحديث أخرجه ابن ماجه في كتابه السنن، وتفرد بإخراجه عن أصحاب الكتب من حديث بقية بن الوليد عن عيسى بن إبراهيم عن علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا الحديث حديث منكر، وهو معلول أيضاً بعدة علل، علل متعلقة في الإسناد وعلل متعلقة بالمتن:

أما العلل الإسنادية: فإن هذا الحديث تفرد بإخراجه بهذا التمام بقية بن الوليد ، و بقية بن الوليد مفاريده مما يردها العلماء، فإذا روى حديثاً فحديثه من جهة المتن على نوعين:

الأولى: حديث يتفرد به عن الرواة الثقات فإنهم لا يقبلونه، ولو كان الإسناد في ذلك مستقيماً، وذلك لتأخر طبقته وكذلك أيضاً لكلام العلماء في حديثه، فإنهم يتكلمون في أصل روايته.

الثانية: أن يوافق الثقات، فحينئذ نشترط لموافقة الثقات أيضاً تصريحه بالسماع مما ينفي تهمة التدليس، ولهذا نقول: إن تفرد بقية بن الوليد بهذا الحديث هو مما يعل به هذا الحديث.

كذلك من علل هذا الحديث: رواية عيسى بن إبراهيم له، و عيسى بن إبراهيم قد تكلم فيه غير واحد ولا يحتج بحديثه.

كذلك أيضاً من علله: تفرد علي بن زيد بن جدعان بهذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، و علي بن زيد بن جدعان بن مرة التيمي الأئمة على ضعفه، وهناك من يعدله، إلا أن السابر لحديثه يجد أنه يتفرد بشيء ليس بالقليل من الأحاديث التي يرد بها، وتفرده بهذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن جابر بن عبد الله أيضاً هو من الأحاديث التي يرد بها من هذا الوجه، وهذا جاء عنه من وجه آخر أعني: علي بن زيد بن جدعان ، قد روى هذا الحديث ابن حزم الأندلسي من حديث فضيل عن علي بن زيد بن جدعان به.

وكذلك أيضاً من علله: أن سعيد بن المسيب وهو من الرواة الثقات المكثرين من الفقهاء أهل المدينة، ومثل هذا الحديث لا يتركه أهل المدينة بالرواية، فـسعيد بن المسيب مع جلالته من جهة الفقه؛ جليل من جهة الرواية، وحديثه لا يترك، ولو كان هذا الحديث عنده لما تفرد به علي بن زيد بن جدعان بروايته بمثل هذا الوجه، ولو كان تفرد علي بن زيد بن جدعان بهذا الحديث أعني دون مرتبة سعيد بن المسيب لكان في ذلك أرفق من جهة الإعلال.

ولهذا نقول: إن الراوي الضعيف إذا تفرد عن القوي من الرواة فهذا قرينة على الإعلال، وكلما كان التباين بين الطبقتين بين التلميذ والصاحب مع قوة الحديث كان ذلك أدعى إلى الإعلال، فمرتبة سعيد بن المسيب علية، ومرتبة علي بن زيد بن جدعان دنية من جهة الثقة، فلما كان التباين بينهما مع قوة الحديث هذا أصبح قرينة على رد الحديث ونكرانه عند الأئمة.

ولهذا نقول: إن من القرائن التي يعل بها العلماء الحديث: هو التباين بين طبقات الرواة، والتباين في ذلك تباين في كثرة الرواية وقلتها مع قوة الحديث، فإذا كان ثمة تباين فإن هذا قرينة على الإعلال، والتباين في ذلك كأن يكون الإمام الراوي كبير كـسعيد بن المسيب ثم يروي عنه من هو دونه بمفاوز من المراتب في حديث ثقيل، وهذا إنما قيل بأنه قرينة على الإعلال أن الإمام كلما يعلوا منزلةً يحتف حوله الكبار، فإذا تفرد بعض الرواة عنه ممن هو من دون المتوسطين فهذا قرينة على الإعلال.

بل تفرد الراوي الصدوق عن سعيد بن المسيب في حديث من الأحاديث الأصول، هذا مما يستنكر، وذلك للبون بين المرتبتين: بين مرتبة سعيد بن المسيب وبين مرتبة من روى عنه، ولهذا نؤكد أنه ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن ينظر في إسناد من الأسانيد أن ينظر في التباين والثقل بين رواة الإسناد، وأن لا ينظر إلى كل راو على حده، فينظر إلى هذا الراوي منفكاً عن غيره، وينظر إلى شيخه منفكاً عن غيره، وينظر إلى شيخ شيخه منفكاً عن غيره، بل ينظر إلى وجه التناسب بينهم من جهة قوة الراوي واشتهاره، وكذلك أيضاً رواية هذا الراوي عنه، وهذا من الإشكالات المعدومة عند المتأخرين نظراً، وذلك أنهم ينظرون إلى كل راو على حدة منفكاً عن الآخر، فإذا نظروا إليه منفكاً فإنهم يحكمون عليه بإمرار الحديث، وكذلك أيضاً تقويته.

والأحاديث في هذا التي فيها بون ليست بالقليلة في هذا الباب، وهذا من أسرار النكارة عند النقاد أنهم يعلون حديثاً من الأحاديث بشدة في موضع من المواضع، ولا يظهر للمتأخر سبب هذه النكارة، والسبب في ذلك هو التباين بين الطبقتين: بين طبقة الشيخ، وبين طبقة التلميذ؛ لأنه هناك من هو أولى منه ينبغي أن يروي هذا الحديث فلما لم يروه دل على نكارته، أنه رواه فوهم فيه وغلط، وهذا أيضاً له قرائن تدفعه إذا وجد الحديث عند أحد الرواة عن هذا الإمام، فهذا قرينة على أن الراوي الضعيف رواه على غير وجهه.

ولهذا نقول: إذا تفرد راو من الرواة المحسوبين على الصدق عن إمام جليل، ومثله ترد روايته، الواجب على الناقد أن يلتمس في أحاديث أصحاب ذلك الشيخ حديثاً يشابهه فوقع فيه شيء من الغلط، حينئذ ينظر في تقارب الألفاظ وتقارب المعاني ما يتعلق بهذا الباب أين موضع الوهم والغلط، وربما يكون التشابه في بعض الأحاديث يسير جداً، وربما أيضاً يكون في باب وينقله في باب آخر، فيرد في ذلك الوهم، وبمقدار حفظ الناقد ومعرفته أيضاً بحال الرواة ومواضع وهمهم، وكذلك أيضاً شدة وهمهم أو ضعفه، فإنه حينئذ يستطيع أن يميز أن هذا الحديث هو أصل الحديث الذي غلط فيه فلان، والصواب أنه رواه فلان على هذا الوجه، وهذا النظر يتباين فيه الناس، والناس لهم نظر في ذلك.

ولهذا نقول: إن نقد الأحاديث عند العلماء عليهم رحمة الله لا يتوقف على ذات الحديث المسطور بين عينيه، وإنما ينظر في أحاديث الباب مفاريد الرواة والتلاميذ الذين يروون عن شيوخهم، وكذلك أيضاً مرتبة التباين بين تلك الطبقات أيضاً هي من مواضع الإعلال الذي ينبغي لطالب العلم أن يكون على بينة ونظر في ذلك.

والقول بأن الغالب على روايات ابن ماجه الضعف، يعني: ما يتفرد به، هذا ليس على إطلاقه، ولكنه غالب، ولهذا نقول: إن الحديث إذا وقع فيه التفرد ليس في ابن ماجه فقط، إذا بعد عن الأصول هذا قرينة على إعلاله، إذا قوي الحديث معنا وبعد عن الأصول ولا يوجد في الأصول أصل يعضده فهذا قرينة على الإعلال، لدينا البخاري و مسلم ثم السنن، ثم بعد ذلك الدواوين المشهورة كمسند الإمام أحمد وما بعدها، كذلك أيضاً في صحيح ابن خزيمة وغيرها، كلما بعد الحديث في أمثال هذه الدواوين فهذا قرينة على الإعلال.

والبعد في ذلك على نوعين: بعد كتاب، وبعد زمان، بعد الكتاب أن يبعد تخريج الحديث عن هذه الكتب ولو كان من طبقته، فحينئذ يقال: إن هذا في الغالب أنه معلول، وأما البعد الزمني وهو أن يتفرد راو متأخر بحديث لا يوجد عند المتقدمين فهذا أيضاً أمارة على إعلاله ورده.

والنظر إلى التفرد هل ينظر إليه إلى حجم المسألة في الحديث؟

نعم، ينظر إليه، فرواية الأخبار ينظر إليها بحجمها من جهتك أو من جهة الشريعة، ميزان الشريعة، لهذا لابد لطالب العلم إذا أراد أن ينقد رواية لابد أن يكون بصيراً بأحاديث الباب، لابد أن يكون عارفاً بأحاديث الباب، وربما أحاديث الباب أقوى منه معارضة له وأنت لم تقف على المعارض ولا تستحضره، لماذا لم تقف على المعارض وأصبح ذلك علة؟ لأن الأصل في الأحاديث أنها لا تتعارض من جميع الوجوه، وإذا وجد تعارض يتوقف الناقد يلتمس في ذلك علة إما في الأول أو في الثاني يلتمس فيها علة حتى يبقى حديثاً واحداً، فإذا بقي حديث واحد في ذلك فهذا أمارة على أنه لا تعارض في هذا، ولهذا نقول: إن من فوائد الكلام على الأحاديث النتيجة ودفع التعارض يعني لا يوجد تعارض فإذا قيل: هذا يعارض هذا، قلت: هذا ضعيف، إذاً وجوده كعدمه ويبقى هذا فرداً يقاوم ذلك.

لهذا نقول: إن الأحاديث التي ينبغي لطالب العلم أن يقومها وفق الأحاديث الواردة في الباب، إذا نظر في مسألة من المسائل سواءً في الطهارة أن يستوعب أحاديث الطهارة، في الصلاة أن يستوعب أحاديث الصلاة، ليس أحاديث الباب فقط أو أحاديث المسألة، يعني: مثلاً يأتي طالب علم يتكلم على مسألة معينة كالوضوء من لحم الإبل فيجمع الأحاديث المتعلقة بلحم الإبل، لا بل ينبغي له يجمع أحاديث النواقض كلها؛ لأنه ثمة اشتراك في هذا الباب؛ لأن الشريعة تبين من الأحاديث أكثرها التباساً بالإنسان، أكثرها أثبت وأقوى في الطرق، وينظر إلى أكثر النواقض التي ترد على الإنسان سواءً الخارج من السبيلين، أو النوم، أو لحم الإبل، أو غير ذلك من النواقض التي ترد على الإنسان، الأقوى منها أكثرها وروداً ينبغي أن يكون أقواها ثبوتاً وسنداً، فإذا اختل الترتيب هذا أمارة على علة في المتقدم، لماذا هذا ثبت بإسناد قوي مع أنه عارض ونادر.

وقد مثلنا فيما سبق في حديث لحم الجزور واللبن، وأن اللبن أكثرها تناولاً، والناس تشرب اللبن أكثر من لحم الجزور.

ولهذا الذي ينبغي الثبوت فيه: أن يثبت الحديث في نقض الوضوء في اللبن أقوى من اللحم، ولهذا تعل أحاديث اللبن بأحاديث اللحم، هذا في دائرة نواقض فقط، اتسع في هذا إلى دائرة الصلاة كلها، إلى دائرة الأحكام كلها، إلى دائرة الرواة الذين يردون في هذه الأحاديث، أنت نظرت في إسناد وتعرف أن هذا الراوي شأنه كبير لا ينزل إلى أمثال هذه الأحاديث، لماذا؟ لأنك تحفظ له خمسين ستين حديثاً، فما شأنه يحشر نفسه في مثل الآن تقوم بإنكاره، مثل تفرد بعض الرواة مثلاً الكبار مثل: شعبة ، و يحيى بن سعيد ، وغيرهم عليهم رحمة الله ببعض الأحاديث هؤلاء كبار يعتنون بالأحاديث في الأصول، لكن لو جاء في أشياء يسيرة جداً أو ما يتعلق بالأخبار أخبار البلدان وغير ذلك، هذا في الغالب أنه ليس من حديثهم فتظن أو تستريب منه وربما تقول بنكارته.

ولهذا ينبغي للإنسان أن ينظر إلى وجوه التفرد، ووجوه التفرد لا حد لها، ثمة وجوه ظاهرة بينة وثمة وجوه يسيرة، وثمة أيضاً وجوه بين ذلك، منها ما يتعلق بالرواة، منها ما يتعلق بالمتن، منها ما يتعلق أيضاً بالطبقة، ولهذا نقول: كلما كان طالب العلم أبصر بالرواة وأبصر بالمتون وأبصر بفقه أولئك؛ لأن هؤلاء الرواة ليسوا أحجاراً، وفقههم ليس منصوصاً عليه في الكتب، لابد أن تستحضر أنت إذا جاء أمامك إسناد خماسي لابد أن تنظر في هؤلاء الخمسة، هذا الحديث يدل على مسألة ما هو قول هذا الراوي الذي في هذا الإسناد؟ هل يوافق هذا المتن أو لا يوافقه، أين تجد هذا؟ إن لم يكن لديك ملكة وأنت تحفظ هذا فيجب عليك أن تبحث، الملكة موجودة عند الأئمة الأوائل عليهم رحمة الله في النقد، ولهذا ينكرون الحديث؛ لأنهم يبصرون ما لا تبصر، لكن بالنسبة لك أنت تقف على إنكارهم وتقول: الجرح لا يقبل إلا مفسراً، أو هذا تضعيف مجمل ولا يقبل، فهذا قصور، وهذه الأشياء لا يستطيع الناقد من الأئمة عليهم رحمة الله أن يبينها كلها لك وإلا لشرح كتاباً كاملاً.

ولهذا تجد الأئمة كـأبي حاتم و أبي زرعة و أحمد إذا أرادوا أن يتكلموا على أحاديث من مثل هذا الضرب يقولون: منكر، لا يصح، أو نرده، أو لا نقول به، أو غير ذلك، يردونه لوجود أشياء من هذا القبيل، فطالب العلم إذا وقف على كلام لأحد من الأئمة الكبار في حديث فيه نكارة فليفتش عن العلة، وربما يطول به الأمد، إما يتعلق بالفقه أو يتعلق بالرواة يتعلق ببلدانهم ربما يتعلق أيضاً بأحاديث الباب باختلال نظام ترتيب الأحكام وغير ذلك، هذا لابد أن يلتمسه الإنسان؛ لأن الأصل في الشريعة أنها محكمة، ومعنى الإحكام: أن كل شيء في موضعه ولو كان دقيقاً لا يتقدم واحد على الآخر حتى في جانب الثبوت، طبعاً هذا قد ربما يتعارض ذهنياً عند البعض في قاعدة وهي ما كان مسلماً يضعف نقله، نقول: هذا يرجع إليه إلى الجانب القطعي والظني، ما كان قطعياً هذا لا نبحثه؛ لأنا لسنا بحاجة إلى ثبوت دليل بالنص، وذلك للاستفاضة والتواتر والاشتهار في ذلك مع أنه لا يستفيض شيء ويشتهر إلا ولديه مستند ظاهر بين، ولكن حتى لا تتعارض هذه القاعدة مع القاعدة الأخرى في هذا.

الحديث الثاني: حديث البراء بن عازب عليه رضوان الله تعالى، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا صلى أحدكم بالقوم وهو جنب، فليتوضأ وليعد صلاته، ولا يعيدون )، هذا الحديث أخرجه الدارقطني في كتابه السنن من حديث جويبر بن سعيد عن الضحاك عن البراء بن عازب عليه رضوان الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو حديث منكر.

فيه عدة علل:

الأولى: يرويه جويبر بن سعيد وهو ضعيف الحديث جداً ضعفه غير واحد.

الثانية: وكذلك أيضاً الضحاك مضعف عند الأئمة.

الثالثة: أن الضحاك لم يسمع من البراء.

ومسألة صلاة الإنسان وهو على غير طهارة بقوم، لا تخلو من أحوال:

الحالة الأولى: إذا كان الإمام لا يعلم بعدم طهارته فصلى بالناس حتى انقضت صلاته، فصلاتهم صحيحة وصلاته متى ما علم باطلة، ويجب عليه أن يعيد، وهذه المسألة من المسائل التي يحكى فيها الاتفاق عند السلف من الصحابة عليهم رضوان الله، أن الإمام إذا كان لا يعلم حتى انقضت صلاته صلاة المأمومين صحيحة، وأما بالنسبة لصلاته فمتى علم فهي باطلة ويجب عليه الإعادة، وإذا لم يعلم فالله عز وجل يؤاخذه بما يعلم وله أجره بإذن الله؛ لأنه فعل شيئاً بحسب علمه، كحال الإنسان الذي يأخذ الزكاة ويدفعها في يد غني يظن أنه فقير فصار غنياً، فأجره حينئذ مقبول؛ لأن الله عز وجل يعامله على ذات العمل مباشرة.

وثمة أحاديث تعارض هذا، مثل ما يرويه سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه على غير طهارة فأعاد وأعادوا، ولكن هذا الحديث مطروح، وذلك لأنه يروي هذا الحديث أبو جابر البياضي عن سعيد بن المسيب ، و أبو جابر البياضي قد تكلم في حديثه غير واحد واتهم بالكذب، اتهمه الشافعي عليه رحمة الله، بل كان يدعوا على من يحدث عنه، ويقول: من روى عن أبي جابر البياضي بيض الله عينيه، يعني: أعماهما، وذلك لأنه يفتري ويكذب في حديثه، يروي هذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والأحاديث التي جاءت عن النبي عليه الصلاة والسلام في صلاته على غير طهر فيها ضعف، وذلك أن الثابت في الصحيحين من حديث أبي هريرة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكبر لما جاء إلى الصلاة وهو جنب، يعني: لم يدخل في الصلاة، وإنما جاء النبي عليه الصلاة والسلام فلما وقف في الصف تذكر فأشار إلى القوم أن مكانكم، ثم ذهب فاغتسل وجاء ورأسه يقطر ماءً، فصلى بالقوم عليه الصلاة والسلام، وهذا في الصحيحين.

وأما الأحاديث التي فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما تذكر الجنابة وهو في الصلاة فهي أحاديث معلولة، وبعضهم يجعل الأحاديث الواردة في ذلك عدة حوادث وليست حادثة واحدة، وذلك جمعاً بين الروايات، نقول: لو كانت المخارج متعددة لأمكن ذلك، فالحديث وإن تعدد لفظه فهو من حديث أبي هريرة وظاهر سياقه أنه قصة واحدة، ولهذا الذي يظهر أن النبي صلى الله عليه وسلم في تذكره للجنابة تذكرها قبل تكبيرة الإحرام ولم يدخل في صلاته، والذي يفرع عليه الفقهاء في المسائل وهي: أن الرجل إذا دخل الصلاة وكان على غير طهارة ثم انفتل، هل انفتاله في ذلك ورجوعه إليهم ينيب واحداً أم يتوضأ ويرجع وهم على ما هم عليه؟ هم يبنونه على هذا.

نقول: النبي أمرهم بالانتظار لأنه لم يكبر بهم، وأما إذا كبر الإنسان وهو على غير طهارة فحينئذ نقول: إن علم بحاله وعلم الناس به، إما أن يقدموا واحداً يصلي بهم ويكمل الصلاة، أو يكملون فرادى ولو قدموا واحداً هو الأفضل.

وأما إذا طرأ النقض على صلاة المصلي فهل يخرج ويتوضأ ويرجع ويبني على ما مضى من صلاته.

نقول: هذا جاء عن عبد الله بن عمر أنه كان يخرج ثم يبني على صلاته، وروي ذلك أيضاً مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا خلاف قول الجمهور أن الإنسان إذا انتقض انتقضت صلاته ويستأنف من جديد.

والصحابي قد يروى عنه قول، أو يروى عنه فعل ولا يعرف له مخالف، فهل عدم معرفة المخالف تجعل من ذلك القول إجماعاً؟

الشافعي رحمه الله في كتابه الرسالة لا يجعله إجماعاً، ولكن نقول: الأصل أنه ليس بإجماع إلا إذا احتفت قرائن على اشتهاره، ومنها:

أولاً: أن يفعله أمام الملأ كعلى المنبر، ومن ذلك لما دخل عثمان يوم الجمعة وقال: ما هو إلا أن توضأت وأتيت، فقال عمر بن الخطاب : والوضوء أيضاً! ولم يرجعه ليغتسل لأنه آثم والسكوت عنه في ذلك لا يجوز فيجب أن يغتسل ثم يرجع، فهذا دليل على الموافقة والاستفاضة.

ولهذا نستطيع أن نقول: إن الصحابة يجمعون على عدم وجوب غسل يوم الجمعة، والسبب في ذلك أنه جاء عن فلان وفلان ولا يعرف لهم مخالف مع اشتهاره، ومن ذلك أيضاً الترديد خلف المؤذن، و عثمان بن عفان كما جاء عند ابن المنذر وغيره أنه كان على المنبر ثم يأخذ المؤذن في أذانه وهو يتحدث مع الناس يسألهم عن أخبارهم، وهذا فيه إشارة إلى أن المؤذن يؤذن وهو منشغل بالحديث مع الناس يسألهم عن البيع والشراء وأحوال السوق، وهذا دليل على أن الترديد خلف المؤذن مستحب، ولو كان واجباً ما فعله عثمان أمام الناس ولا ينكر عليه. ولا مخالف له من الصحابة فصار إجماعاً، وهذا هو السبب عند العلماء أنهم يعتبرون أحياناً عدم وجود المخالف إجماعاً، وتارةً لا يعتبرونه إجماعاً، ذكرنا الوجه الأول أنه يفعله في ملأ.

ثانياً: أن يرويه فقهاء أصحابه عنه مما يدل على تعدده وانتشاره، كما يروى عن عبد الله بن مسعود و عبد الله بن عمر و عبد الله بن عباس عن عمر بن الخطاب ، جاء القول عن عمر بن الخطاب أو عن ابن عباس ولكن لا ندري هل فعله في ملأ أم لم يفعله في ملأ، لكن رواه عنه أربعه من أصحابه متعددون بحسب خبرة الناظر والفقيه، هذا من المدينة، وهذا من مكة، وهذا من البصرة، وهذا من الكوفة، تعددت المدارس دل على الاستفاضة، وهذه قرينة على ذلك، ولهذا نستطيع أن نقول: إنه روي عن فلان ولا مخالف له.

ثالثاً: أن يكون العمل المروي عن أحد من الصحابة يمس أمر الناس في حياتهم وهو صاحب أمر فيهم كقضاء عمر ، إذا قيل قضى عمر بكذا يعني: للناس، ولا مخالفه له من الصحابة، كالقضاء في أمور البيع والشراء وأمور الزكاة، زكاة ما يتعلق بالتجارة، أو الزراعة، أو العسل، أو الخيل، وغير ذلك من الأمور التي تتعلق بأمور الناس. كذلك أيضاً ما يتعلق بالعقوبات، فمثل هذه تشتهر وتستفيض، وليست أعمالاً فردية كفعل الإنسان في صلاته، من قيام الليل، أو في طعامه في أكله أو نحو ذلك، فلا يقال: إن هذا يشتهر لأن الإنسان ربما يفعلها مع واحد أو اثنين.

رابعاً: أن الصحابي إذا روي عنه قول وثبت أن هذا القول مبكراً لديه، وذلك أن من يرويه عنه كبار أصحابه، وذلك أن يرويه أحد الكبار ثم يرويه متأخر من صغار أصحابه، فدل على أنه يرويه عن ثلاثين أو أربعين سنة وهو على هذا القول، يعني: هذه الفتيا ما جاءت في آخر حياته، بل كانت موجودةً عنده على ثلاثين أو أربعين سنة، فهذه قرينة على الاشتهار والاستفاضة. وهذه القرائن بعضها أقوى من بعض.

فالأصل في ما جاء عن الصحابي أنه ليس بإجماع إذا لم يعرف له مخالف، إلا لوجود قرينة تدل على الاشتهار، وهذا ما رجحه الإمام الشافعي رحمه الله في كتابه الأم.

الحديث الثالث: حديث وابصة بن معبد عليه رضوان الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل صلى خلف الصف: ( هلا اجتررت رجلاً أو صففت في الصف )، حديث وابصة من جهة الأصل في صلاة المنفرد خلف الصف مبحثه آخر، ولكنننا نتكلم على (اجتررت إليك) فهذه اللفظة، تفرد بها السري بن إسماعيل وهو متروك الحديث.

الحديث الرابع: ما جاء عند أبي داود في كتابه المراسيل من حديث يزيد بن هارون عن الحجاج بن حسان عن مقاتل بن حيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا جاء أحدكم ولم يجد فرجةً في الصف، فليختلج إليه رجلاً )، يعني: فليجر إليه رجلاً، هذا الحديث مرسل أخرجه أبو داود في كتابه المراسيل، والبيهقي في كتابه السنن، ومقاتل بن حيان يرويه ويرسله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومراسيله في ذلك هي أشد المراسيل ضعفاً، ولا يقال بأن هذا الحديث: يعضد الحديث السابق؛ وذلك لشدة الضعف في الحديثين، الأول فيه متروك، والثاني من أوهى المراسيل، فربما كان في رواته ثلاثة أو أربعة أيضاً من الرواة الذين ربما يكونون ضعفاء، أو ربما يتهمون أو غير ذلك، وكذلك أيضاً فإنه لا يعرف إلا مرسلاً من هذا الوجه.

ثم أيضاً في قوله: ( فليختلج إليه رجلاً )، هذا إشارة إلى الأمر، وكذلك أيضاً في حديث وابصة قال: ( هلا اجتررت إليك رجلاً )، إشارة إلى السنية والتأكيد وهذا لا يعرف في عمل الصحابة عليهم رضوان الله، والسنة التي تأتي عن النبي عليه الصلاة والسلام وليس فيها عمل عن الصحابة هذا أمارة على نكارتها، والأئمة عليهم رحمة الله يقولون: إن الحديث إذا جاء مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لم يثبت عن أحد من الصحابة أنه عمل به مع الحاجة إليه، فهذا دليل على نكارته، لهذا نقول: إن اجترار رجل من الصف لا يجوز إلا في حالة واحدة إذا كان الذي في الصف طفل فتجره ثم تكون مكانه، أو كان غير مكلف كالمجنون أو نحو ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى )، وقد ثبت ذلك عن أبي بن كعب ، كما رواه النسائي من حديث أبي مجلز لاحق بن حميد عن قيس بن عباد قال: وقفت في الصف أصلي فإذا برجل يجرني ويقف مكاني، قال: فلم أعقل من صلاتي شيئاً، يعني: من الهم، قال: فلما انفتل فإذا هو أبي فقال: لا تجد عليَّ في نفسك، هذا ما عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني: تطييباً لخاطره. وكان قيس صغيراً لكن وجد في نفسه.

وفي هذا إشارة إلى أنه يجوز للإنسان إذا وجد صبياً أن يجره مع تطييب الخاطر لأجل لا يحزن أو لا يكون ذلك منفراً له حتى يقف مكانه؛ لأن ذلك هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وليس هذا بإطلاق وإنما هو في المقام الذي يلي الإمام، يعني: ليس كل صبي في أي صف يجر، وإنما في الموضع الذي أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام ( ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى )، يعني: ما قرب من مقام الإمام فهذا الذي يكون لأولي الأحلام والنهى والعقول، يعني: البالغين لأنه ربما يحتاج إليهم الإمام ربما يرتج عليه أو ينسى أو يسهو في صلاته، ثم الصلاة مقام عبودية ومقام اجتماع فلابد أن يكون في هذا الموضع أهل القدوة تعظيماً لمقام الصلاة وتشريفاً لها، أن لا يكون الكبار وأهل القدوة في الأطراف وغير المكلفين يكونون دون ذلك.

وأما الاجترار في الصف فهذا لا يثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام من جهة الأصل، وإنما هو فقه فقهه أبي بن كعب عليه رضوان الله تعالى كما جاء في الخبر السباق.

ثم أيضاً من نكارة هذا الحديث: النكارة المتنية، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( اجتررت إليك رجلاً )، يعني: الفرجة لا يكون فيها أحد وهذا من قطع الصف، فهو يريد أن يجبر صلاته بمصل معه ليفتح فرجةً في الصف، وهذا قطع للصف ولا يجوز قطع الصف، ولهذا نقول: المتن في ذلك منكر ولا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيء.

وكذلك أيضاً فإن الصفوف في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة وجب فيها التمام والكمال وعدم الوصل والقطع، فإن الإنسان إذا وصل قطع الصف الأول ليكمل الصف الثاني هو إتمام لما لا يتم إلا بتمام الأول، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( أتموا الصف الأول فالأول )، كما جاء في الصحيح، فأمر بإتمام الصف الأول، والتمام في ذلك على نوعين: تمام في أثنائه، وتمام في أطرافه، التمام في الأثناء واجبة، والتمام في الأطراف مستحب، ومعنى التمام في أثنائه: أن لا يكون ثمة انقطاع، أما من جهة الأطراف أن لا يكون مثلاً الصف الأول عشرين والصف الثاني ثلاثين، فيكون الصف الأول أتم من الصف الثاني وهكذا.

فلو أخذ الإنسان أحداً من طرف الصف فهذا لا يسوغ لأن الاجترار أصلاً ليس من السنة، ثم أيضاً فيه كلفة، وكذلك أيضاً نقل للإنسان من الفاضل إلى المفضول، وهذا لم تأت به الشريعة.

وأما حديث وابصة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أعد الصلاة )، فيمن صلى خلف الإمام، فهذا الحديث فيه كلام، وذلك أن الإمام أحمد عليه رحمة الله و إسحاق بن راهويه يثبتونه ويقولون بهذا الحديث، ولهذا يقولون بعدم صحة صلاة المنفرد على خلاف جمهور العلماء الذين يعلون هذا الحديث من الفقهاء، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.