الأحاديث المعلة في الطهارة [7]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فنتكلم على مجموعة من الأحاديث هذا اليوم:

أولها: حديث أنس بن مالك : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه ).

هذا الحديث قد وقع في إسناده اختلاف كثير في وقفه ورفعه، وكذلك في متنه، فيرويه مرفوعاً سعيد بن عامر و هدبة بن خالد عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس بن مالك مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرويه أيضاً يحيى بن المتوكل و يحيى بن الضريس عن ابن جريج عن الزهري عن أنس بن مالك مرفوعاً، ورواه سعيد بن عامر عن همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس بن مالك موقوفاً، والوقف فيه غلط، والصواب فيه الرفع مع شذوذ المتن ونكارته كما سيأتي .

وجاء هذا الحديث من وجه آخر في الصحيح من حديث ابن جريج عن زياد بن سعد عن ابن شهاب الزهري به، ولكن ذكره: ( اتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة ثم ألقاه ) ، وهذا في الصحيح وهو الأصوب ، والغلط متردد في ذلك بين همام و ابن جريج ، أما بالنسبة لـابن جريج فرواية البصريين عنه فيها نظر، والراوي عنه في الخبر السابق، يعني: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه )، رواه عنه همام بن يحيى ورواه عن همام : يحيى بن المتوكل وهما بصريان، ورواية البصريين عن ابن جريج فيها نظر، وليست بمحفوظة في كثير منها، وقد نص على ذلك أبو زرعة عليه رحمة الله، فقال: حدثني بعض أصحابنا عن قريش بن أنس أن ابن جريج قال: لم أسمع من ابن شهاب الزهري شيئاً وإنما هو كتاب دفعه إلي فكتبته وأجازني فيه، وقد نص على ذلك أيضاً يحيى بن سعيد القطان فإنه قال: رواية ابن جريج عن الزهري ليست بشيء وهي كتاب، وقد أنكر هذه الرواية جماعة كـيحيى بن معين .

وإذا علمنا أن رواية ابن جريج عن الزهري ليست سماعاً وإنما هي من كتاب كتبه ابن جريج ثم أجازه فيه، نعلم أنها تختلف عن السماع والضبط، ويدخل في الكتاب ما لا يدخل في السمع، وقد أدخل هذا المتن مقلوباً على هذا الإسناد، وذلك أنه رواه جماعة في ذكر خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنس بن مالك ولم يذكروا فيه دخول الخلاء ولا قلب الخاتم، فقد رواه عن أنس بن مالك جماعة كـعبد العزيز بن صهيب و ثابت البناني و حميد الطويل و ثمامة بن عبد الله و قتادة ، كلهم عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اتخذ خاتماً من فضة، وليس فيه ذكر قلب الخاتم في الخلاء .

وقد رواه جماعة عن ابن شهاب الزهري من أصحابه فلم يذكروا ما ذكره ابن جريج في قلب هذا المتن، فرواه من أصحاب ابن شهاب : إبراهيم بن سعد و زياد بن سعد و شعيب بن أبي حمزة و يونس وغيرهم، كلهم رووه عن الزهري عن أنس بن مالك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكروا الخلاء ولا نزع الخاتم فيه .

ورواه جماعة من الرواة عن ابن جريج ولم يذكروا فيه الخلاء والنزع، فقد رواه الحجاج و أبو عاصم و موسى بن هشام كلهم عن ابن جريج عن زياد بن سعد عن الزهري عن أنس بن مالك ولم يذكروا فيه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه ) ، وإنما ذكروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة ثم ألقاه .

وبهذا نعلم أن ذكر الخاتم مع الخلاء وهم وغلط، وقد أنكر هذا الخبر جماعة من الحفاظ كـأبي داود فإنه قال: هذا خبر منكر، والوهم فيه من همام ، وقال النسائي: هذا الحديث ليس بمحفوظ، وأعله كذلك ابن عساكر في كتابه التاريخ فقال: هذا الخبر غريب جداً، والوهم فيه محتمل أن يكون من همام بن يحيى أو من رواية البصريين عن ابن جريج .

وأما المتابعة التي رواها يحيى بن الضريس و يحيى بن المتوكل لـهمام فإنها ليست بمقبولة، ولهذا أبو داود عليه رحمة الله تعالى لم يعتد بها، ولهذا قال: لم يروه إلا همام ، إشارة إلى أن تلك الطرق الأخرى ليست بمتابعة معتبرة له.

ومما يحسن ذكره هنا في أبواب العلل أن العلماء في إعلالهم للأحاديث حتى وإن تباين المتن إذا وجدت قرينة على أن المتن مقلوب، أو وجدت قرينة على شيء مشترك في المتن مع اتحاد الإسناد وورود علة في أحد الوجهين، فإن هذا من قرائن التعليل، ومعلوم أن المتن الأول: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه )، فهذا المتن أعل بالمتن الآخر: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم اتخذ خاتماً من فضة ثم ألقاه ) ، يعني: لم يتختم عليه الصلاة والسلام به .

فذاك متن يختلف معنا ولكن فيه ذكر الخاتم، والعلماء ينظرون إذا اتحد الطريق وكان ثمة قدر مشتبه في المتن أن الأضعف معلول في بعض الأحيان، ولهذا نظرنا في الإسناد الذي يرويه همام عن ابن جريج عن الزهري عن أنس بن مالك فوجدناه محتملاً للتعليل، ولهذا الأئمة يطبقون - أعني: الأوائل - على إعلال هذا الخبر وأنه منكر .

هناك من نفسه نفس بعيد في أبواب العلل، فيقوم بتصحيح الحديث ويجعل المتنين مختلفين عن بعضهما، والأئمة يعلون الأقوى بالأضعف إسناداً، ولهذا نجد الطرق القوية التي جاءت عن أنس بن مالك كثيرة جداً في ذكر خاتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، كلها عن أنس ولم يأت طريق فيه ذكر الخلاء، وقد جاء من طرق أخرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموقوفاً عن بعض الصحابة وفيه نظر .

فقد روى ابن عدي في كتابه الكامل من حديث محمد بن عبيد الله العرزمي عن نافع عن عبد الله بن عمر : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتختم بالخنصر، وكان ابن عمر يتختم به وإذا دخل الخلاء وضعه ) ، وهذا الحديث تفرد به محمد بن عبيد الله العرزمي ، و العرزمي لا تقبل مفاريده عن نافع ، و نافع له أصحاب كثر فأين هم عن رواية مثل هذا الخبر؟ ولهذا نقول: إن المتن في ذلك منكر وليس بمقبول .

وقد جاء متن قريب منه من جهة اللفظ وهو وهم أيضاً وغلط، فقد رواه ابن عدي في كتابه الكامل من حديث القاسم العمري عن عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر : أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى اتخذ خاتماً، وكان إذا توضأ نزعه، وذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الخبر أيضاً لا يصح، فقد تفرد به القاسم ومفاريده مناكير كما ذكر ذلك غير واحد ولا يتابع عليها، وقد ذكر هذا ابن عبد البر .

حكم دخول الحمام بشيء فيه ذكر الله كالخاتم ونحوه

ولكن نزع الخاتم في مسألة دخول الحمام، والخاتم المراد نزعه ما كان عليه نقش اسم الله، وهذا قد جاء فيه جملة من الآثار، وأما المرفوع فلا يثبت في هذا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول إلى الخلاء بشيء فيه ذكر الله، وإنما الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السلام والكلام في الخلاء وكراهة ذلك إلا للحاجة والضرورة .

وقد جاء في ذلك جملة من الآثار تعضد المعنى والعمل به أيضاً، فقد روى النسائي في كتابه السنن وابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث المنهال ويرويه عن المنهال : الأعمش عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس : أن سليمان بن داود كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه وأعطاه امرأته، وجاء أيضاً عند ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث سلمة بن وهرام عن عكرمة : أن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى إذا دخل الخلاء أعطاه خاتمه، وهذا موقوف على عبد الله بن عباس ، وجاء أيضاً عن جماعة من السلف أنهم كرهوا دخول الخلاء بالخاتم الذي فيه ذكر الله، فجاء هذا عن مجاهد بن جبر كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر : وأنه كره ذلك.

وجاء عن بعضهم أنه قال: لا بأس، وروي هذا عن عطاء كما رواه عثمان بن الأسود عن عطاء ، وجاء عن ابن سيرين و الحسن البصري ، فقد رواه هشام بن حسان عن الحسن و ابن سيرين أنهما سئلا عن ذلك فقالا: لا بأس، وجاء أيضاً عن عكرمة كما رواه ابن سعد في كتاب الطبقات: أنه سئل عن ذلك، فقال: أليس في خاتم رسول الله آية من كتاب الله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] ؟! يعني: أنه لم يكن عليه الصلاة والسلام يثبت أنه يلقيها .

والأثر الذي جاء عن الحسن البصري قد يقال: بأنه يعل الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمروي من حديث أنس عليه رضوان الله تعالى من جهة عدم ثبوته، لأنه يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يثبت عنه شيء من هذا، وعليه فنقول: إنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، أعني: دخول الخلاء بالخاتم، ونقول: إنه يستحب له أن يدير الخاتم ويجعله في باطن كفه، وإن نزعه فحسن، وإن لم ينزعه فلا حرج عليه .

ويدخل أيضاً في عموم هذا: النقود التي فيها ذكر الله ككلمة التوحيد أو فيها آية من آيات القرآن، فهي على الحكم سواء، أما من جهة الوجوب فلا أعلم أحداً من السلف قال: بوجوب ذلك، وإنما هو استحسان وعمل، ويستحب للإنسان أن يفعل ذلك .

أهمية النظر إلى رواية أهل البلدان عند الحكم على الحديث

ومن الأمور في مسائل العلل هنا: أنه ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن ينظر في خبر من الأخبار وحديث من الأحاديث أن ينظر إلى روايات أهل البلدان، وألا ينظر إلى ذات الرواة، فنحن نجد مثلاً في إسناد أنس بن مالك أن همام بن يحيى موثق وهو صدوق وثقة، وكذلك ابن جريج و الزهري و أنس بن مالك الصحابي الجليل، ولكن نجد أن الروايات من جهة اتصالها فيها نظر، مع إدراك أحدهم للآخر من الأصحاب والتلاميذ، ولكن رواية البصريين عن ابن جريج فيها ما فيها .

وإذا أردنا أن ننظر إلى الرواة على سبيل الانفراد فإننا نقول: بتصحيح الأحاديث المنكرة، وكلما قلت: عناية الإنسان بالمتون وكذلك ضبطه للأبواب والمرويات في هذا، ومعرفة روايات البلدان وتباين أصحابها، إذا لم يعرف ذلك فإنه يكون لديه الاضطراب والخلل، وإذا كان من أهل العناية والدقة بمعرفة المتباينين في البلدان فإنه يوفق إلى الصواب كثيراً.

ولكن نزع الخاتم في مسألة دخول الحمام، والخاتم المراد نزعه ما كان عليه نقش اسم الله، وهذا قد جاء فيه جملة من الآثار، وأما المرفوع فلا يثبت في هذا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول إلى الخلاء بشيء فيه ذكر الله، وإنما الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو السلام والكلام في الخلاء وكراهة ذلك إلا للحاجة والضرورة .

وقد جاء في ذلك جملة من الآثار تعضد المعنى والعمل به أيضاً، فقد روى النسائي في كتابه السنن وابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث المنهال ويرويه عن المنهال : الأعمش عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس : أن سليمان بن داود كان إذا دخل الخلاء نزع خاتمه وأعطاه امرأته، وجاء أيضاً عند ابن أبي شيبة في كتابه المصنف من حديث سلمة بن وهرام عن عكرمة : أن عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى إذا دخل الخلاء أعطاه خاتمه، وهذا موقوف على عبد الله بن عباس ، وجاء أيضاً عن جماعة من السلف أنهم كرهوا دخول الخلاء بالخاتم الذي فيه ذكر الله، فجاء هذا عن مجاهد بن جبر كما رواه ابن أبي شيبة في المصنف من حديث ابن أبي نجيح عن مجاهد بن جبر : وأنه كره ذلك.

وجاء عن بعضهم أنه قال: لا بأس، وروي هذا عن عطاء كما رواه عثمان بن الأسود عن عطاء ، وجاء عن ابن سيرين و الحسن البصري ، فقد رواه هشام بن حسان عن الحسن و ابن سيرين أنهما سئلا عن ذلك فقالا: لا بأس، وجاء أيضاً عن عكرمة كما رواه ابن سعد في كتاب الطبقات: أنه سئل عن ذلك، فقال: أليس في خاتم رسول الله آية من كتاب الله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [الفتح:29] ؟! يعني: أنه لم يكن عليه الصلاة والسلام يثبت أنه يلقيها .

والأثر الذي جاء عن الحسن البصري قد يقال: بأنه يعل الحديث المرفوع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمروي من حديث أنس عليه رضوان الله تعالى من جهة عدم ثبوته، لأنه يرى أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يثبت عنه شيء من هذا، وعليه فنقول: إنه لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء، أعني: دخول الخلاء بالخاتم، ونقول: إنه يستحب له أن يدير الخاتم ويجعله في باطن كفه، وإن نزعه فحسن، وإن لم ينزعه فلا حرج عليه .

ويدخل أيضاً في عموم هذا: النقود التي فيها ذكر الله ككلمة التوحيد أو فيها آية من آيات القرآن، فهي على الحكم سواء، أما من جهة الوجوب فلا أعلم أحداً من السلف قال: بوجوب ذلك، وإنما هو استحسان وعمل، ويستحب للإنسان أن يفعل ذلك .

ومن الأمور في مسائل العلل هنا: أنه ينبغي لطالب العلم إذا أراد أن ينظر في خبر من الأخبار وحديث من الأحاديث أن ينظر إلى روايات أهل البلدان، وألا ينظر إلى ذات الرواة، فنحن نجد مثلاً في إسناد أنس بن مالك أن همام بن يحيى موثق وهو صدوق وثقة، وكذلك ابن جريج و الزهري و أنس بن مالك الصحابي الجليل، ولكن نجد أن الروايات من جهة اتصالها فيها نظر، مع إدراك أحدهم للآخر من الأصحاب والتلاميذ، ولكن رواية البصريين عن ابن جريج فيها ما فيها .

وإذا أردنا أن ننظر إلى الرواة على سبيل الانفراد فإننا نقول: بتصحيح الأحاديث المنكرة، وكلما قلت: عناية الإنسان بالمتون وكذلك ضبطه للأبواب والمرويات في هذا، ومعرفة روايات البلدان وتباين أصحابها، إذا لم يعرف ذلك فإنه يكون لديه الاضطراب والخلل، وإذا كان من أهل العناية والدقة بمعرفة المتباينين في البلدان فإنه يوفق إلى الصواب كثيراً.

الحديث الثاني في هذا: حديث عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه قال: ( كنت أبيت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت شاباً أعزب، وكانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ) .

هذا الحديث رواه أبو داود من حديث عبد الله بن وهب عن يونس عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر وذكره، وقد رواه ابن خزيمة من غير هذا الوجه وإسناده صحيح، ولكن قد روى هذا الخبر البخاري و مسلم عن عبد الله بن عمر من حديث الزهري عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه ولم يذكر الكلاب فيه وبولها، وإنما روى البخاري هذا الخبر من حديث أحمد بن شبيب وهو شيخ البخاري فقال: قال أحمد عن أبيه عن يونس عن الزهري عن حمزة بن عبد الله بن عمر عن أبيه عبد الله بن عمر .

ومع هذا فقد اختلفت النسخ في البخاري هل فيها ذكر البول أم لا؟ فأصل الحديث بدخول الكلاب إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخرجه البخاري معلقاً مجزوماً به، واختلفت النسخ والروايات عن البخاري هل فيها ذكر بول الكلاب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا؟ أما دخول الكلاب وإقبالها وإدبارها فهذا ثابت عن عبد الله بن عمر.

ويبقى لدينا ذكر البول: فقد جاء في بعض الروايات ولم يأت في بعضها، كما ذكر هذا البيهقي عليه رحمة الله في كتابه السنن، وكذلك في كتابه المعرفة، فمن العلماء من يثبت ذكر البول ومنهم لا يثبته، والذي يظهر والله أعلم أنه من جهة الرواية ليس بمحفوظ، ولكن من جهة التحقق صحيح ووارد، لأن الكلاب إذا أقبلت وأدبرت فهذا دليل على عدم الاحتراز من جسدها وبولها، فإنه لا يمكن أن تؤمر البهيمة بعدم البول، فإنها إذا دخلت وتركت وسكت عنها، فيحتمل ورود النجاسة منها، خاصة أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى ذكر أن الكلاب، ولم يذكر كلباً واحداً، يعني: أنه يدخله كلاب وليس كلباً معلماً مثلاً ونحو ذلك، بحيث يكون قد ربي على نوع من أنواع الاحتراز، وإنما ذكر الكلاب فقال: كانت الكلاب، ثم ذكر أيضاً أن هذا عادةً لها، فقال: تقبل وتدبر، يعني: أنها تتخذ هذا أمراً .

وفيه إشارة إلى أن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى كان معتنياً بأمر المسجد، وفي قول عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى قال: ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك، يعني: لم يكونوا يرشون على آثارها، ومنها البول شيئاً من الماء أو يدفنوها بتراب؛ وذلك أنها تطهر بيبوستها، وكذلك فإن البول إذا طال لا يكون له عين في الأغلب ويزول مع وطه بالثرى، أو يزول بيبوسته، ولهذا الذي يظهر أن ذكر البول في هذا الخبر ليس بثابت، ولهذا تنكبه البخاري في الخبر الموصول وكذلك مسلم ، وذكره معلقاً، وجاء في نسخة عدم ذكر البول، وذكره تعليقاً بصيغة الجزم .

ويظهر لي والله أعلم: أنه إنما ذكره معلقاً بصيغة الجزم في حال ثبوت رواية ذكر البول، وأنه يرى صحة ذلك على سبيل اللزوم من جهة المعنى، وأما من جهة الرواية فقصرها وعلقها، وهذا شبيه بقول الإمام مسلم في حديث أبي هريرة في ولوغ الكلب، قال: ( إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ) ، فقوله: (فليرقه) هذه اللفظة غير محفوظة كما تقدم، ولكنها لازمة لغسل الإناء، لأنك لا يمكن أن تغسل الإناء إلا وقد أرقت الماء، كذلك أيضاً فإنك في حال دخول الكلاب إذا كان ذلك عادةً لها فلا بد أن يقع منها ما يقع من وجود رشاش البول ولو كان يسيراً .

وأمثال هذه الألفاظ المختلف فيها في بعض الروايات لا تعل أصل الخبر، وذلك كما تقدم: أن الأحاديث المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض الصحابة إذا كان اللفظ المتغير ليس بمقصود من إيراد الخبر وذكر تارةً ولم يذكر أخرى، أو قدم فيه وأخر، فإن هذا لا يعل به الخبر بخلاف اللفظ المقصود من إيراد الخبر، وهنا ذكر إقبال الكلاب وإدبارها ولا يلزم من ذلك ذكر التفاصيل أنها كانت تجلس أو تقوم أو تبول أو لا، وإنما ذكر الإقبال والإدبار ولازم ذلك شيئاً كثيراً، لأن ثمة مسائل يذكرها السلف في هذا كمسألة مس الجسد أو مس الأرض أو الثياب ونحو ذلك هل يغتسل منها، وهل جسد الكلب طاهر أم ليس بطاهر، وكذلك بوله؟ وهذه كلها لازمة لدخول الكلاب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وكذلك أيضاً في قوله: (ولم يكونوا يرشون شيئاً من ذلك)، إشارة إلى العفو في أمر التراب، بخلاف الحصير والفرش، فبول الكلاب عليها لا يغتفر في هذا، وذلك أن الأمر مقيد بالتراب لا يتعداه .