عرض كتاب الإتقان (41) - النوع الثاني والأربعون في قواعد مهمة يحتاج المفسر إلى معرفتها [1]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فنبتدئ كعادتنا بكتاب الإتقان في علوم القرآن للحافظ أبي الفضل جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي ، وقد وقفنا عند النوع الثاني والأربعين في قواعد مهمة يحتاج المفسر إلى معرفتها.

مفهوم القاعدة ومصادرها

وسبق قبل هذا النوع النوع الذي أطال فيه وهو إعراب القرآن، وقبله معرفة أدوات يحتاجها المفسر، وهنا يتكلم عن قواعد مهمة يحتاج المفسر إلى معرفتها، وكما نعلم ضبط العلماء للقاعدة -يعني تعريف القاعدة- إذا قرأنا فيما كتبه السيوطي هنا فإننا سنجد أن كثيراً مما ذكره لا ينطبق عليه مفهوم القاعدة عند العلماء، ولهذا يُلاحظ أن العلماء قد يتوسعون في مثل هذا المصطلح الذي هو القاعدة، فيشمل أشياء متعددة، مثل: النظر في أساليب القرآن، أي: ما هو الأسلوب الجاري في القرآن وفي التعبير عن أسلوب ما من أساليب القرآن، في قضية الجمع والإفراد مثلاً، فإذا نظروا فيها وخرجوا بملحوظاتهم سموا هذا قاعدة في التأنيث والتذكير، قاعدة في الإفراد والجمع، وهكذا، مع أنها إنما هي نظر أسلوبي لما تكلم به القرآن في هذه الموضوعات كما سيأتي.

وهذه القواعد التي ذكر المؤلف متناثرة وأغلبها يرجع إلى اللغة، ويمكن أن يقال: إن كل هذه القواعد ترجع إلى علوم اللغة، التي هي علوم العربية، سواءً كانت في النحو أو التصريف أو في البلاغة أو في متن اللغة.

والقواعد المرتبطة بالنحو أكثرها مر في النوع الحادي والأربعين، وفي هذا النوع وإن كان أشار إلى شيءٍ منها لكنه قليل جداً، والأغلب مرتبط بالثلاثة الباقية، وما دامت مرتبطة باللغة فلا شك أن هذا الباب الأصل فيه أنه نقلي وعقلي؟ نقلي من جهة كون المصدر المعتمد نقلي وهو اللغة، أي العلوم العربية، وأما الاجتهاد فهو في استخراج هذه القواعد وهو عقلي.

ومثل هذا هو في الحقيقة عقلي، أي: أكثر ميلاً إلى أن يكون من علوم القرآن العقلية، التي تعتمد على الاجتهاد، أما المصدر الذي يستقى منه فهو نقلي، والذي هو علوم العربية؛ لأن علوم العربية الأصل فيها النقل، ولا يمكن أن نخترع علماً معيناً أو مسألة معينة في العربية، فنقول: هذه حُكيت عن العرب.

فإذاً: لا بد من الأخذ عن العرب فيكون نقلياً من هذه الجهة، لكن كلامنا هنا ليس عن كونها من مصدر، بل كلامنا عن هذه القواعد من حيث الاستنباط والاستخراج، فنقول: استنبطناها من خلال العقل، فيكون هذا الباب من أبواب علوم القرآن العقلية، وهذا النوع من علوم التفسير بمعنى أنه يحتاج إليه المفسر كما ذكر المؤلف كعنوان ولا شك أنه يحتاج إليه المفسر، لكن قد تكون بعض المباحث التي تطرق إليها السيوطي داخل هذا المبحث لا يحتاج إليه المفسر، إذا قلنا: إن المفسر هو: الذي يبين معاني كلام الله سبحانه وتعالى، فستأتينا أن بعض القواعد جهلها لا يؤثر في فهم المعنى، وسبق أن ذكرنا هذه القاعدة: أن أي معلومة إذا فقدناها لا تؤثر في فهم المعنى فإنها ليست من صلب التفسير، لكن لا يعني القول: بأنها ليست من صلب التفسير أي لا فائدة من ذكرها، بل لها فائدة، لكنها خارج إطار التفسير، فهذا المبحث سنجد فيه أن بعض القواعد يحتاج إليها المفسر، وبعض القواعد ذكرها لا يحتاج إليها المفسر، لكنها قد تكون موجودة في كتب التفسير، بناءً على أنها مسألة من مسائل الآيات التي يمكن أن يتوسع فيها بعض المفسرين، ما دامت من علوم التفسير، أو من العلوم التي يحتاج إليها المفسر، فقطعاً سيكون هذا المبحث من علوم القرآن؛ لأن عندنا قاعدة أن كل علم من علوم التفسير فإنه من علوم القرآن، وهنا سيقع سؤال وهو: ما الفرق بين علوم التفسير وعلوم القرآن؟ والجواب: أن القضية مبنية عندنا على أن التفسير هو فهم المعنى، فإذا كان التفسير فهم المعنى فكل علم له أثر في فهم المعنى، فهو من علوم التفسير، وكل علم ليس له أثر في فهم المعنى فهو من علوم القرآن، وأيضاً نقول قاعدة أخرى: كل علمٍ من علوم التفسير فهو من علوم القرآن، وليس كل علمٍ أو كل نوع من علوم القرآن يكون من علوم التفسير.

ومثال ذلك: عد الآي، وهو من أوضح الأمثلة: فعد الآي لا يؤثر في فهم المعنى بمعنى إذا عرفت أن سورة الملك ثلاثين آية فلا يؤثر هذا في فهم المعنى فيكون علم عد الآي برمته يعتبر من علوم القرآن، وليس من علوم التفسير، لكن معرفة غريب القرآن يعد من علوم التفسير؛ لأنه لا يقوم التفسير إلا به، فإذاً أي معلومة لا يقوم التفسير إلا بها فنعتبرها من علوم التفسير.

فإذا كان هذا من علوم التفسير، وكما قال المؤلف: قواعد مهمة يحتاج إليها المفسر فهي كذلك، وأن هذا الموضوع كقواعد هي من أهم ما يحتاج إليه المفسر.

بداية الكتابة في قواعد التفسير

ومن باب الفائدة قضية قواعد التفسير والكتابة فيها جاءت متأخرة، وإن كنا يمكن أن نجد هذه القواعد مبثوثة في كتب التفسير، منذ أن نشأ التفسير حتى من عهد الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن الأصل في التفسير أن يقوم على أسس وقواعد، وكون هذه الأسس والقواعد لم تكتب إلا متأخرة لا يعني أنه لا يوجد للتفسير أسس وقواعد، ولهذا الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى في مقدمة تفسيره وكذلك في كتابه: أليس الصبح بقريب، اعترض على أن يعد علم التفسير علماً، بناءً على أنه ليس له أصل وأسس كغيره من العلوم، وهذا الكلام منه رحمه الله تعالى فيه نظر، لكن على تعريفه للعلم فما توصل إليه صحيح، وتعريفه للعلم رحمه الله تعالى فيه إشكال من جهة، وكذلك أيضاً أن ذكره أن التفسير فقط هو شرح مفردات ليس دقيقاً، بل الصواب أن التوصل إلى معرفة هذه المعاني لا يمكن إلا بأسس وقواعد وضوابط، والتي يمكن أن يقال عنها: أنها أصول التفسير.

فإذاً لا بد من وجود معلومات مضبوطة ضبطاً خاصاً لتعريف العلم؛ كي يتوصل بها إلى فهم المعنى، فعلى سبيل المثال: إذا ورد تفسير نبوي، وورد تفسير يخالفه، إلى أيهما يعمد؟ لماذا؟ وكيف عرفنا هذا؟ إذاً هنا ممكن أن نخرج قاعدة يعني: أن نخرج أصلاً، فإذاً إذا راجعنا علم التفسير على هذا الأسلوب فسنجد أنه يمكن أن نخرج جملة من الأصول وجملة من القواعد التي ممكن أن نقول عنها: إنها أصول التفسير، فإذاً ليس التفسير هو: شرح مفردات فقط، وإنما هو: بيان معان، ولا يمكن أن يقوم بيان هذه المعاني إلا على أسس وأصول، وهي التي يمكن أن يقال عنها: أصول التفسير أو أسس التفسير أو قواعد التفسير على حسب ما سماها بعض العلماء.

قاعدة الضمائر في القرآن

هذه القواعد التي ذكرها قواعد شتى ليس لها نظام، وأيضاً ليس لها ترتيب مقصود، ابتدأ بقاعدة في الضمائر، وقدم لها بمقدمة الضمير في القرآن، والحقيقة عناية ابن الأنباري وهو من كبار علماء اللغة من الكوفيين اهتم بهذا الموضوع ووضع له مجلدين، يجعلنا نفكر في هذا الموضوع، فتصور الآن وأنت تقرأ، يعني: تتمنى وأنت تقرأ مثلاً سورة من السور لا تكون سورة طويلة، أي سورة من أواسط المفصل، حاول أن تجتهد في فك الضمائر وتعد كم ضميراً موجوداً في هذه السورة، خذ على سبيل المثال أي سورة من السور، مثلاً: سورة النازعات أو سورة عبس واقرأ، فمثلاً لما نقرأ: عَبَسَ وَتَوَلَّى[عبس:1] كم ضمير في عبس وتولى؟ تجد عبس هو وتولى هو، أَنْ جَاءَهُ [عبس:2] فلو أنت قرأت مثلاً هذه السورة تطبيقاً كم سيخرج عندك في سورة عبس من الضمائر، وتعيد الضمير إلى مرجعه كما سيأتي بعد قليل في قضية مرجع الضمير، فهذا ممكن يكون درساً تطبيقياً وممكن تقدمه مع أصحابك وتنظر فيه، لا شك أن مثل هذا له فوائد وستأتي إن شاء الله القواعد الأخرى التي تبين لنا شيئاً من هذه الفوائد، ولا أشك أن من درس الضمائر بهذا الأسلوب قد يخرج بفوائد واستنباطات وقواعد قد غُفل عنها، وإن كانت قد تكون مبثوثة في كتب التفسير.

قاعدة وضع الضمير

خذوا على سبيل المثال هذه اللطيفة التي ذكرها، يقول: [ وأصل وضع الضمير للاختصار ] هذه قاعدة في لغة العرب، أي أن الضمير وضع في لغة العرب للاختصار، فهذه فائدة ننتبه لها أنه إذا وضع الظاهر مقام الضمير، يكون إطناباً، فالأصل أن يكون الضمير مقام الظاهر. ونأخذ عليه أمثلة؛ لتتبين ما هي فائدة إعادة الظاهر مكان المضمر ونجد أن الفائدة في الضمير هي الاختصار، سيأتي بمثال، انظر لو فسرت الضمير كم تحتاج من الجمل لكي تركب هذه الجملة المختصرة في قوله: أَعَدَّ اللهُ لَهمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا[الأحزاب:35]، (لهم) هذه فيها ضمير، فلو نحن فككنا هذا الضمير فسيعود كما يقول المؤلف رحمه الله تعالى: [ قام مقام خمس وعشرين كلمة لو أتي بها ] يعني تصور هذا الضمير (لهم) قام مقام خمس وعشرين كلمة، طبعاً أنا عددتها وجدتها عشرين وليست خمس وعشرين وهو قوله تعالى: إِنَّ المُسْلِمِينَ وَالمُسْلِمَاتِ[الأحزاب:35]، يعني تصور لو قال: أعد الله للمسلمين مغفرة وأجراً عظيما، وأعد الله للمسلمات مغفرةً وأجراً عظيما، وأعد الله للمؤمنين مغفرة وأجراً عظيما، فسيعود عشرين مرة، مع كل وصف من هذه الأوصاف، فجاء الاختصار؛ لأنه ذكر هذه الأوصاف ثم قال: أَعَدَّ اللهُ لَهمْ [الأحزاب:35]، فعاد (لهم) على كل هذه الضمائر من باب الاختصار.

هذه إذاً فكرة الضمير وفائدته في لغة العرب وهي: الاختصار.

ثم بدأ يتكلم عن أنواع ذكر الضمير في القرآن، يعني المباحث القادمة كلها في أنواع ذكر الضمير في القرآن وذكر أنواع شتى، منها مرجع الضمير، قال: [ لا بد له من مرجع يعود إليه، ويكون ملفوظاً به سابقاً مطابقاً ]، [ أو متأخراً لفظاً لا رتبةً ]، ثم ذكر أمثلة لكل واحدة من هذه، ثم قال: [ أو رتبةً أيضاً في باب ضمير الشأن والقصة ] كل هذه لا بد من ضبط فيها، لكن لو نرجع إليها أيضاً ونستفيد منها في حال القراءة أو في حال التطبيق فسنجد أن عندنا إشكال وهو هل رجع الضمير إلى ملفوظ به سابقاً مطابقاً؟ هل رجع الضمير إلى متأخر لفظاً لا رتبةً، مثل: فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى[طه:67]، الضمير عائد إلى موسى وهو متأخر لفظاً لا رتبة، يعني: كأنه فأوجس موسى خيفة في نفسه.

أو رتبة الذي هو ضمير الشأن والقصة ونعم وبئس والتنازع إلى آخر ما ذكره، كل هذه يمكن أنه لما تقرأها تستطيع أن تطبق عليها من خلال السور التي قلت لك، يعني أن تطبق عليها لقصرها، وهي كثيرة جداً لا نريد أن نطيل في هذه المسائل التي ذكرها؛ لأنها يمكن أن تدرك مباشرةً.

قاعدة عود الضمير على أقرب مذكور

ثم قال بعد ذلك: [ قاعدة الأصل عوده على أقرب مذكور ]، أيضاً نلاحظ أنه استخدم الاختصار، فقال عوده أي عود الضمير؛ لأن الحديث عن الضمير، فالأصل العود على أقرب مذكور، هذه القاعدة الآن معروفة ومشهورة جداً، سنأتي بعد قليل إلى قاعدة تنازعها.

الآن سنعود إلى أقرب مذكور، مثل قوله سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا[الأنعام:112]، فهو هناك أخر المفعول الأول في قوله وذكر الآية قال: ليعود الضمير عليه لقربه، الذي في قوله: يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا[الأنعام:112]، وهذه القاعدة التي ذكرها سنجد أن أهل العلم عندهم فيها خلاف إذا نازعتها القاعدة التي بعدها والتي هي قاعدة الأصل توافق الضمائر في المرجع حذراً من التشتت، فقد تتنازع قاعدة عود الضمير إلى أقرب مذكور مع قاعدة! الأصل توافق الضمائر، نذكر مثالاً ليتضح به المقال: يقول سبحانه وتعالى: لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ[الفتح:9]، هل الآن الضمائر تعود كلها لله؟ أو يعود له َتُسَبِّحُوهُ[الفتح:9] وقوله: وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ[الفتح:9]، يعود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أقرب مذكور؟ نلاحظ الخلاف الذي سيقع، فعلى القول الأول: لتؤمنوا بالله، وبرسول الله، وتعزروا الله، وتوقروا الله، وتسبحوا الله، هذه الآن توافق الضمائر في المرجع حذراً من التشتت، أيش الذي يحصل في التشتت؟ نلاحظ الآن القول الآخر: لتؤمنوا بالله وبرسول الله، وتعزروا رسول الله، وتوقروا رسول الله، وتسبحوا الله، حصل تشتيت ووقع تنازع بين هاتين القاعدتين، والمقدم القاعدة الثانية التي هي توافق الضمائر في المرجع، يعني الأصل إذا تنازعت هاتان القاعدتان، فالأصل توافق الضمائر في المرجع، هذا هو الأصل.

عندنا أيضاً في القاعدة السابقة إذا رجعنا إليها سريعاً يلاحظ أيضاً أنه يدخل في عود الضمير ما شابهه مثل اسم الإشارة، وهذا يظهر في مثل قوله سبحانه وتعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[الأعلى:14] وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[الأعلى:15]قال: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا[الأعلى:16] وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[الأعلى:17] إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى[الأعلى:18]، هل (إن هذا)، أي: الشأن الذي ذكر في سورة سبح، أو إن هذا المذكور في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[الأعلى:14]، فنجد أن أقرب مذكور قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[الأعلى:14]، فيعود اسم الإشارة إلى أقرب مذكور.

وبهذا رجح العلماء أن يعود إلى قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى[الأعلى:14].

ثم ذكر ضمير الفصل وضمير الشأن والقصة وكلها مهمة، لكن أذكر قاعدة ونقف عندها وأشير إليها لأهميتها.

مراعاة اللفظ والمعنى في الضمائر

قال: [ إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللفظ والمعنى بدأ باللفظ ثم بالمعنى، هذا هو الجادة في القرآن ] معنى الجادة في القرآن أي: الطريق، بمعنى: أن الجادة هي سلوك الأصل، لأنه إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللفظ والمعنى بُدأ باللفظ ثم بالمعنى، هذه القاعدة تصلح أن تكون بحثاً استقرائياً في القرآن، وهي ترتبط بأساليب الخطاب، يعني لاحظ الآن هذه القاعدة أنت لو تعلمتها هي في الغالب لا تؤثر في معنى التفسير، إنما في قضية أسلوب الخطاب كيف يجيء إذا اجتمع في الضمائر مراعاة اللفظ والمعنى، قال: بُدأ باللفظ ثم بالمعنى، هذا هو الجادة في القرآن، لاحظ قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ[البقرة:8]، قال: بُدأ باللفظ ثم بالمعنى، ثم قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ[البقرة:8]، (من) هذه الآن تحتمل أن تكون للإفراد وتحتمل أن تكون للجمع، ومن نفسها لفظ مفرد، َمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ[البقرة:8]، لاحظ قال: مَنْ يَقُولُ[البقرة:8]، ما قال: من يقولون، إذاً عاد عليه الأول فبدأ باللفظ، لما جاء في الأخير قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ[البقرة:8]؟ أعادها على معنى الجمع، يعني اللفظ لفظ المفرد ومعناها معنى الجمع، فعاد الأول على المفرد والثاني على الجمع، فهذه هي الجادة في القرآن، قال: أفرد أولاً باعتبار اللفظ ثم جمع باعتبار المعنى.

ولو تتبعت هذه القاعدة في القرآن فإن الأمثلة فيها كثيرة، ولعلنا نقف عند هذا الحد، ونكمل إن شاء الله ما بقي من القواعد سريعاً، لكن قبل أن ننتقل إلى تفسير الطبري أحب أن أذكر كتاباً فيه فوائد في هذا الباب الذي ذكره السيوطي وهو القواعد هذه، الكتاب اسمه: المدخل لعلم تفسير كتاب الله، لشيخ القراء أبو نصر أحمد بن محمد بن أحمد السمرقندي المعروف بالحدادي، الكتاب من تحقيق صفوان داوودي ، والكتاب نفيس ومهم جداً، أذكر لكم على سبيل المثال بعض الأمثلة من خلال الفهرس.

قال: باب انتصاب الأسماء عن المصادر، باب العدول من الغائبة إلى المخاطبة، باب حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، أيضاً عنده من الأبواب باب الفعيل بمعنى المفعول، باب الفعيل بمعنى الفاعل، ما جاء على وزن مفعول وهو في الحقيقة فاعل، ما جاء على وزن الفاعل بمعنى المفعول، باب الفعيل بمعنى المفعِل والمفعَل، باب ذكر الشيئين والكناية عن أحدهما، والأبواب كلها كثيرة، ومنها هذا الباب الذي ذكرناه قبل قليل، باب وجوه الأمر في القرآن، باب وجوه النهي في القرآن، وهذا الكتاب كتبه لابنه، قال هنا: إني لما فرغت من تصنيف الكتاب الموضح لعلم القرآن صنفت كتابي هذا تحفة مني لولدي محمد نعمة الله ، وصلة مني إياه وهدية له ولسائر إخواني من المسلمين رضي الله عنهم.

فهذا أيضاً يُعد في اللطائف لمن ألف لابنه، والكتاب الحقيقة نفيس، وإن كان له في علم العربية نصيب، أو كذلك من كان له في علم التفسير نصيب، فلا يفوته هذا الكتاب فهو مهم في هذا الباب، وهو يتكلم في نفس الكلام الذي يذكره السيوطي ، يعني كله متعلق بالأساليب العربية في القرآن.

وسبق قبل هذا النوع النوع الذي أطال فيه وهو إعراب القرآن، وقبله معرفة أدوات يحتاجها المفسر، وهنا يتكلم عن قواعد مهمة يحتاج المفسر إلى معرفتها، وكما نعلم ضبط العلماء للقاعدة -يعني تعريف القاعدة- إذا قرأنا فيما كتبه السيوطي هنا فإننا سنجد أن كثيراً مما ذكره لا ينطبق عليه مفهوم القاعدة عند العلماء، ولهذا يُلاحظ أن العلماء قد يتوسعون في مثل هذا المصطلح الذي هو القاعدة، فيشمل أشياء متعددة، مثل: النظر في أساليب القرآن، أي: ما هو الأسلوب الجاري في القرآن وفي التعبير عن أسلوب ما من أساليب القرآن، في قضية الجمع والإفراد مثلاً، فإذا نظروا فيها وخرجوا بملحوظاتهم سموا هذا قاعدة في التأنيث والتذكير، قاعدة في الإفراد والجمع، وهكذا، مع أنها إنما هي نظر أسلوبي لما تكلم به القرآن في هذه الموضوعات كما سيأتي.

وهذه القواعد التي ذكر المؤلف متناثرة وأغلبها يرجع إلى اللغة، ويمكن أن يقال: إن كل هذه القواعد ترجع إلى علوم اللغة، التي هي علوم العربية، سواءً كانت في النحو أو التصريف أو في البلاغة أو في متن اللغة.

والقواعد المرتبطة بالنحو أكثرها مر في النوع الحادي والأربعين، وفي هذا النوع وإن كان أشار إلى شيءٍ منها لكنه قليل جداً، والأغلب مرتبط بالثلاثة الباقية، وما دامت مرتبطة باللغة فلا شك أن هذا الباب الأصل فيه أنه نقلي وعقلي؟ نقلي من جهة كون المصدر المعتمد نقلي وهو اللغة، أي العلوم العربية، وأما الاجتهاد فهو في استخراج هذه القواعد وهو عقلي.

ومثل هذا هو في الحقيقة عقلي، أي: أكثر ميلاً إلى أن يكون من علوم القرآن العقلية، التي تعتمد على الاجتهاد، أما المصدر الذي يستقى منه فهو نقلي، والذي هو علوم العربية؛ لأن علوم العربية الأصل فيها النقل، ولا يمكن أن نخترع علماً معيناً أو مسألة معينة في العربية، فنقول: هذه حُكيت عن العرب.

فإذاً: لا بد من الأخذ عن العرب فيكون نقلياً من هذه الجهة، لكن كلامنا هنا ليس عن كونها من مصدر، بل كلامنا عن هذه القواعد من حيث الاستنباط والاستخراج، فنقول: استنبطناها من خلال العقل، فيكون هذا الباب من أبواب علوم القرآن العقلية، وهذا النوع من علوم التفسير بمعنى أنه يحتاج إليه المفسر كما ذكر المؤلف كعنوان ولا شك أنه يحتاج إليه المفسر، لكن قد تكون بعض المباحث التي تطرق إليها السيوطي داخل هذا المبحث لا يحتاج إليه المفسر، إذا قلنا: إن المفسر هو: الذي يبين معاني كلام الله سبحانه وتعالى، فستأتينا أن بعض القواعد جهلها لا يؤثر في فهم المعنى، وسبق أن ذكرنا هذه القاعدة: أن أي معلومة إذا فقدناها لا تؤثر في فهم المعنى فإنها ليست من صلب التفسير، لكن لا يعني القول: بأنها ليست من صلب التفسير أي لا فائدة من ذكرها، بل لها فائدة، لكنها خارج إطار التفسير، فهذا المبحث سنجد فيه أن بعض القواعد يحتاج إليها المفسر، وبعض القواعد ذكرها لا يحتاج إليها المفسر، لكنها قد تكون موجودة في كتب التفسير، بناءً على أنها مسألة من مسائل الآيات التي يمكن أن يتوسع فيها بعض المفسرين، ما دامت من علوم التفسير، أو من العلوم التي يحتاج إليها المفسر، فقطعاً سيكون هذا المبحث من علوم القرآن؛ لأن عندنا قاعدة أن كل علم من علوم التفسير فإنه من علوم القرآن، وهنا سيقع سؤال وهو: ما الفرق بين علوم التفسير وعلوم القرآن؟ والجواب: أن القضية مبنية عندنا على أن التفسير هو فهم المعنى، فإذا كان التفسير فهم المعنى فكل علم له أثر في فهم المعنى، فهو من علوم التفسير، وكل علم ليس له أثر في فهم المعنى فهو من علوم القرآن، وأيضاً نقول قاعدة أخرى: كل علمٍ من علوم التفسير فهو من علوم القرآن، وليس كل علمٍ أو كل نوع من علوم القرآن يكون من علوم التفسير.

ومثال ذلك: عد الآي، وهو من أوضح الأمثلة: فعد الآي لا يؤثر في فهم المعنى بمعنى إذا عرفت أن سورة الملك ثلاثين آية فلا يؤثر هذا في فهم المعنى فيكون علم عد الآي برمته يعتبر من علوم القرآن، وليس من علوم التفسير، لكن معرفة غريب القرآن يعد من علوم التفسير؛ لأنه لا يقوم التفسير إلا به، فإذاً أي معلومة لا يقوم التفسير إلا بها فنعتبرها من علوم التفسير.

فإذا كان هذا من علوم التفسير، وكما قال المؤلف: قواعد مهمة يحتاج إليها المفسر فهي كذلك، وأن هذا الموضوع كقواعد هي من أهم ما يحتاج إليه المفسر.