عرض كتاب الإتقان (27) - النوع التاسع والعشرون في بيان المفصول لفظاً المفصول معنىً


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

نبتدئ اليوم في كتاب الإتقان للإمام السيوطي ، ونبتدئ بالنوع التاسع والعشرين في بيان الموصول لفظاً، المفصول معنىً، وهذا النوع هو في حقيقته جزء من علم الوقف والابتداء، لكن المؤلف رحمه الله تعالى أفرده قصداً للطافته وغرابته.

وقد قال في بدايته رحمه الله: [ هو نوع مهم جدير أن يفرد بالتصنيف، وهو أصل كبير في الوقف؛ ولهذا جعلته عقبه، وبه يحصل حل إشكالات وكشف معضلات كثيرة ].

قامت باحثة أظن أنها في جامعة أم القرى ببحث هذا الموضوع في رسالة علمية، وقد انتهت منها، بنفس العنوان الموصول لفظاً المفصول معنىً. طبعاً هذا العنوان فيه غرابة لكنه يتبين بالمثال.

مثال لبيان الموصول لفظاً المفصول معنىً

المثال الأول الذي ذكره وهو من أشكل الأمثلة في قوله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنْ الشَّاكِرِينَ [الأعراف:189] إلى أن قال: جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190]، فالسياق كما هو ظاهر في قصة آدم و حواء ، وقد وقع خلاف بين العلماء في ختام هذه الآية، هل يعود إلى آدم و حواء أو يعود إلى أبنائهما ممن وقع في الشرك؟ أي أن الإشكال في ختام الآية، في قوله: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190]، فهذا من الموصول لفظاً، المفصول معنىً على من يرى أن هذه الفاصلة تعود إلى بني آدم وليس إلى آدم عليه السلام وزوجه، فمعنى الموصول لفظاً هو من ناحية السياق موصول، لكن من ناحية المعنى مفصول.

و السيوطي رحمه الله تعالى يبين ما كان عنده من الإشكال في هذه الآية، فقال: وما زلت في وقفة من ذلك حتى رأيت ابن أبي حاتم ذكر رواية عن السدي أنه قال: فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [الأعراف:190] هذا فصل من آية آدم، يعني: أنها فصلت عن سياق آدم، وتعود إلى مشركي العرب، فإذاً: لا يكون بناءً على هذا إشكال، و السيوطي رحمه الله تعالى أشار إلى مسألة مهمة، ولا بأس أن نشير إليها إشارةً سريعة، وهي أن [ آدم نبي مكلم، والأنبياء معصومون من الشرك قبل النبوة وبعدها إجماعاً ]، ولا نريد أن نتكلم عن هذه القضية، ولكن نريد أن ننتبه إلى هل الشرك الذي في الآية أهو شرك أكبر أو شرك أصغر؟ والشرك هنا وقع بالتسمية، والقصة هي أنه أتى إليهما إبليس وكانت تسقط الأولاد ويموتون، فقال لها: لو سميته عبد الحارث لبقي، فسمته حواء عبد الحارث فبقي، فهنا شرك في التسمية، فهل الشرك في التسمية شرك أصغر أو شرك أكبر؟ الجواب: شرك أصغر، فإذاً لو كان وقع من آدم عليه السلام ومن حواء هذا الأمر فإنه لا يدخل في الشرك الأكبر، وهذه قضية مهمة ينتبه لها في بداية الحديث عن هذه الآية.

عصمة الأنبياء

وهنا قضية أخرى فيما ذكره السيوطي رحمه الله تعالى من كون الأنبياء معصومين من الشرك قبل النبوة، نأتي إلى مسألة عقلية: لو قيل: إن النبي -أي: نبي من الأنبياء كان- على دين قومه قبل أن تأتيه النبوة، ثم اصطفاه الله من بينهم، هل يؤثر هذا على نبوته؟ عقلاً لا يؤثر، ونحن نذكر قصة شعيب لما قال: قَدْ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا [الأعراف:89]، فهذا فيه خلاف، هل شعيب يتكلم عن نفسه ومن آمن، أو يتكلم عن من آمن فقط؟ والمسألة غير محسومة وفيها إشكال، فدخلت فيها الدلائل العقلية المجردة، والدلائل العقلية المجردة إذا دخلت في مثل هذا الأمر فإنها تحتمل هذا وهذا، والذي أريد أن أنبه عليه أنه ينبغي عدم التسليم على من يقول: بأنه قد يكون النبي على دين قومه ثم يصطفيه الله سبحانه وتعالى؛ لأن هذا ليس له أثر في النبوة، وليس فيه نقص في النبوة، وهذا مثال في الناس يكون كثيراً، مثلاً لو أن إنساناً ابتلي بالمخدرات، ثم أنقذه الله سبحانه وتعالى منها، وصار يدعو إخوانه ممن وقع في هذا البلاء إلى تركه، هل يحسن من أحد منهم أن يقول: أنت كنت في الأمس تأكل معنا؟ لا يحسن، ولا يقوله إلا سفيه، ولهذا لا يُذكر أن الكفار اعترضوا على الأنبياء في مثل هذه الأمور؛ لأن الأنبياء يبطلون الشرك، حتى لو اعترض عليهم فهذا يعتبر من سفاهة المعترض، ونقول: هي قضية دلائل عقلية، وجمهور العلماء على أن الأنبياء معصومون عن الشرك الأكبر قبل النبوة وبعدها، أما بعدها فإجماع بلا خلاف، ولا يمكن أن يقع النبي في الشرك الأكبر؛ لأنه مبلغ عن ربه، وكذلك الشرك الأصغر الذي يكون ظاهراً لا يقع فيه النبي، لكن قد تقع من بعض الأنبياء بعض الأخطاء التي ينبههم الله سبحانه وتعالى عليها، ثم يستغفرون فيغفر الله سبحانه وتعالى لهم، وهذه موجودة في القرآن ومنصوص عليها نصاً واضحاً، وفي حق نبينا قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً [الفتح:1] قال ماذا؟ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، فنسب الذنب إليه وهو أحكم الحاكمين.

فإذاً: يجب أن ننتبه إلى أن المنطلق دائماً أو الأصل في مثل هذه الأمور مناقشتها من خلال النص، وقد توجد شبهة نص فلا يثرب على عالم يذهب إلى معنىً من المعاني بسبب شبهة النص، وقد توجد شبهة العقل، وأيضاً لا يثرب على العالم فيما لو ذهب إلى هذا المذهب؛ لأن المسألة علمية بحثة، فلا يصلح فيها التطاحن كما يحصل أحياناً في بعض القضايا العلمية.

ذكر الخلاف في قوله تعالى: (وكذلك يفعلون) بناءً على الموصول لفظاً المفصول معنىً

من الأمثلة أيضاً التي ضربها يوضح بها فكرة الموصول لفظاً المفصول معنىً، قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34]، ثم قال سبحانه وتعالى: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، وقع خلاف بين العلماء: من قائل (وكذلك يفعلون) هو من تمام كلام ملكة سبأ، أو هو استئناف كلام من الله من باب التأكيد لكلامها، يعني كأن الله سبحانه وتعالى لما قال فيها: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً [النمل:34]، قال الله سبحانه وتعالى مؤكداً لكلامها: وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [النمل:34]، فيكون تأكيداً من الله سبحانه وتعالى، وإذا كان تأكيداً من الله يكون هذا من باب الموصول لفظاً المفصول معنىً.

علاقة الموصول لفظاً المفصول معنى بعلوم القرآن والتفسير

لو نظرنا نظرة عقلية للموصول لفظاً المفصول معنىً، هل له أثر في فهم المعاني؟ يعني هل يتغير فهم المعنى في كوننا نقول: هذا من الموصول لفظاً المفصول معنىً أو لا نقول به؟ الذي يتغير ويختلف في الموصول لفظاً المفصول معنىً هو توجيه الخطاب، يعني: هل الخطاب موجه إلى هذا أو إلى هذا؟ هذا الذي يظهر لي الآن من خلال قراءة الأمثلة أن المسألة مرتبطة بالخطاب، فنلاحظ قوله سبحانه وتعالى على أحد الأقوال في التفسير قالت: أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ [يوسف:51]، ثم قال: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52]، هل القائل يوسف عليه السلام فيكون من باب الموصول لفظاً المفصول معنىً، أو القائل هي امرأة العزيز ويكون الكلام متصلاً، فهذا الخلاف لم يؤثر في معنى ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [يوسف:52]، وإنما يؤثر في توجيه الخطاب، يعني من القائل، فهذا هو الذي يتأثر في قضية الموصول لفظاً المفصول معنىً.

فإذاً: بما أنه لا يتأثر به المعنى من خلال الأمثلة التي استقرأناها نقول: إن علم الموصول والمفصول له تعلق بعلوم القرآن أكثر من تعلقه بعلم التفسير من جهة المعنى، وإنما يتعلق بعلم التفسر من جهة توجيه الخطاب، أو من هو المتكلم بهذا الكلام، إذاً المقصد أن ننتبه إلى أن اختلاف المعنى غير موجود في قضية الموصول لفظاً المفصول معنىً، وإنما الاختلاف في من القائل، أو توجيه الخطاب، فلعلنا نكتفي بهذا.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.