عرض كتاب الإتقان (18) - النوع الخامس عشر


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، أما بعد:

فهذا هو النوع الخامس عشر حيث قال: (ما أنزل منه على بعض الأنبياء، وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم).

قوله: (ما أنزل منه) يعني: من القرآن على بعض الأنبياء، (وما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم)، يعني: ما لم ينزل إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: كأنه الآن أدخل نوعين في نوع، وهو مرتبط بالنزول.

قال: (من الثاني) الذي هو ما لم ينزل إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، (الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة البقرة كما تقدم في الأحاديث قريباً).

ثم أورد ما رواه مسلم عن ابن عباس ، قال: ( أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة ).

المراد بما لم ينزل إلا على النبي صلى الله عليه وسلم

هنا الآن مسألة: هل المراد إنزال الألفاظ أو المراد إنزال المعاني؟ أو المراد بالإنزال هنا أيضاً إنزال الفضيلة المرتبطة على هذه المقاطع التي ذكرها سواءً سور أو آيات؟ يعني الآن هو ذكر حديث: ( أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة )، ولو أخذنا بالنظر العقلي: هل قصة تبوك في سورة التوبة نزلت على غير النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: لا، إذاً: هي مما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم فتدخل في هذا الباب. ولم يذكرها؛ لأنه يبدو أنه أراد أن يشير إلى الأحاديث المتعلقة بالفضائل التي أشير إلى أنها لم تنزل على أحد من الأنبياء -يعني: بهذه الفضائل- إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون اللفظ نفسه مرتبطاً بالفضائل المذكورة، لكن المعنى أحياناً قد يكون نزل على الأنبياء الآخرين، يعني: المعاني من حيث هي قد تكون نزلت، لكن ليست بنفس هذه الألفاظ؛ ولهذا مثلاً: سورة الفاتحة معانيها مبثوثة في القرآن، لكن كسورة تبتدئ بمقطع وتنتهي بمقطع، ولها خصائص معينة، ولها فضيلة معينة، هذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، كذلك خواتيم البقرة وما فيها من الفضائل خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه لو نظرنا بالنظر العقلي من المحتمل أن تنزل على غير النبي صلى الله عليه وسلم بنفس الفضائل أو ما هي محتمل؟ محتمل، لكنها هذه الآيات المرتبطة بهذه الفضائل مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم، أن هذا كنظر، ولذا ما زال هذا الموضوع يحتاج في الحقيقة إلى تحرير.

لاحظوا لو قلنا: إن المراد بالإنزال هنا الذي ذكره السيوطي إنزال الألفاظ؛ هذا الحقيقة يحتاج إلى دليل صحيح صريح في أن هذه الألفاظ نزلت على الأنبياء قبله؛ لأنه سيأتينا أنه يقول: نزل على الأنبياء كذا، نزل على الأنبياء كذا. أما إذا كان إنزال المعاني فكثير جداً مما في القرآن معانيه موجودة ومنزلة على الأنبياء الآخرين.

وأيضاً لو تأملنا عندنا قضايا كلية، أو قضية كبرى نزلت على جميع الأنبياء، مثل الوصايا التي في سورة الأنعام، وهي الوصايا العشر المنسوبة إلى موسى عليه السلام هذه تتفق فيها الشرائع.

فالمقصد من ذلك: أن عندنا قضايا كلية تتفق فيها الشرائع كقضايا معنوية، مثلاً تحريم الكذب، هل سيكون في شريعة حلال وفي شريعة حرام؟! لا، في كل الشرائع حرام، كذلك الزنا في كل الشرائع حرام، تحريم الخمر، السرقة.. إلى آخره، هذه قضايا كلية، لا تحتمل أكثر من حكم واحد، وهي موجودة في جميع الشرائع.

فإذا نظرنا بهذا النظر نقول: إنه ما زال هذا الموضوع يحتاج إلى تحرير.

أمثلة على ما لم ينزل إلا على النبي صلى الله عليه وسلم

فلنأخذ مثالاً؛ لكي يتبين لنا الموضوع أكثر:

قال: [أخرج الطبراني مرفوعاً: (أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه ترجعون )] ومن أمثلة الأول: ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس قال: ( لما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، قال صلى الله عليه وسلم: كلها في صحف إبراهيم و موسى ، فلما نزلت: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى[النجم:1]، فبلغ: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى[النجم:37]، قال: وفى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[النجم:38]، إلى قوله: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى[النجم:56]).

الآن قال: لما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1] قال: (كلها في صحف إبراهيم و موسى )، ولا شك أن قوله: (كلها في صحف إبراهيم وموسى) فيه إشكال، لأن عندنا قوله سبحانه وتعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ[الأعلى:6-7]، وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتصور أن تكون نزلت على غيره صلى الله عليه وسلم.

والصحيح: أن المراد بالذي في: صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:19] أنه يرجع إلى الموعظة؛ فقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[الأعلى:14-17]، هذا الذي نزل في صحف إبراهيم ونزل في صحف موسى؛ لأن هذه موعظة عامة عند جميع الأنبياء، وأشار الله سبحانه وتعالى إلى أنها نزلت في صحف إبراهيم ، ونزلت أيضاً في صحف موسى.

لكن لا يلزم أن تكون نازلة بنفس الألفاظ، وإنما تكون نازلة بنفس المعنى، يعني: نفس المعاني هذه موجودة في صحف إبراهيم وفي صحف موسى.

المقصد من هذا: أن هذا المبحث الحقيقة فيه إشكال من هذه الجهة.

إذاً نقول: إنه عندنا بعض ما ذكر من الآيات أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وغالباً ما يكون مرتبطة بالفضيلة، فكأن الخصوصية ليست للألفاظ فقط، وإنما الألفاظ معها تلك الفضيلة، أما المعاني فقد تكون أحياناً نازلة على غير النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: معاني بعض السور، مثل سورة الفاتحة وغيرها قد تكون معانيها نزلت في كتب أخرى، لكنها لم تكن مجتمعة بهذه الألفاظ، ولها مبدأ ومقطع بهذه الطريقة، ومترتب عليها فضائل إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك ما نزل في آخر سورة البقرة، أيضاً بعض المعاني قد تكون في الكتب السابقة، لكن اجتماع هذه الألفاظ بهذه المعاني وارتباطها بفضيلة لم يكن إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقس على ذلك غيرها من الآثار التي وردت.

أيضاً لاحظوا ما ذكره أبو عبيد - وإن كان فيه إشكال - عن كعب الأحبار ، قال: (إن محمداً صلى الله عليه وسلم أعطي أربع آيات لم يعطهن موسى ، وإن موسى أعطي آية لم يعطها محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات التي أعطيهن محمد: للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ[البقرة:284]، ثم ختم البقرة، فتلك ثلاث آيات وآية الكرسي، والآية التي أعطيها موسى : اللهم لا تولج الشيطان في قلوبنا، وخلصنا منه من أجل أن لك الملكوت والأيد والسلطان والملك والحمد..) إلى آخره، وهذه الآية من حيث لو كانت آية في التوراة، أو أنها كانت آية مما نزل؛ فهذه معناها موجود في القرآن، فلا معنى لتخصيص موسى عليه السلام بها، إلا أن تكون مرتبطة بفضيلة معينة كما هو حاصل لآية الكرسي وللآيات التي في آخر البقرة.

وطبعاً هناك أمثلة كثيرة ذكرها المؤلف في هذا الموضوع.

وهنا ملحظ مرتبط بهذا: أن الأحاديث التي نبهت على أن النبي صلى الله عليه وسلم خص ببعض الآيات المرتبطة بالفضائل هذا ما يحتاج بحث، خاصة إذا كان معبراً عنها بعبارة النزول، ( لم تنزل على نبي قبلي )، أو: "لم تنزل على نبي قبله" مثلاً، هذه تحتاج إلى تأمل.

هناك جهة أخرى ما لها علاقة الحقيقة بالآية، هي مرتبطة باتفاق الشرائع في القضايا الكلية العامة هذه، وهناك أيضاً تدخل في خصائص هذه الأمة المحمدية؛ لكونه نزلت آيات خاصة لها فضائل خاصة لم تنزل على أحد من الأنبياء قبلهم؛ فهذا لا شك أنه داخل في هذا الباب، يعني: هذا فقط الذي يمكن أن يقال في قضية موضوع ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل على أحد قبله.

وقوله: (لم تنزل على نبي قبله) التي هي لم تنزل الآيات أو الفضيلة؟

طبعاً أنا ما أريد أن أدخل في قضية عبارات النزول؛ لأن فيها إشكالاً مرتبط بقضية: هل هذه الألفاظ هي نفس التي نزلت، مثلاً الوصايا العشر التي نزلت على موسى عليه السلام، وهي موجودة في سورة الأنعام، يعني: فيها تشابه كبير في موضوعاتها، هل هي بنفس النص الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم نفس النص الذي نزل على موسى عليه السلام أم ماذا؟

طبعاً لا شك أن هذا يحتاج إلى بحث.

حتى الآثار من المهم جداً مراجعة الآثار التي ذكرها في سورة الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة البقرة، وغيرها مما نبهت الآثار فيه على أنه مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم، والآثار الأخرى التي نبهت على أن هذه الآيات نزلت على نبي آخر، وهي مبحث لا شك أنه مفيد من هذا الجانب، لكن ما هناك مانع عموماً، يعني: الأصل العقلي يقول: لا مانع، لكن هي إشكالية طويلة الذيل، ما نحتاج أن نتكلم فيها.

أمثلة لما نزل على النبي وعلى غيره

عندنا آيات ذكر أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ونزلت على غيره، وآيات خص بها النبي صلى الله عليه وسلم. وهنا نلاحظ في الفائدة التي ذكرها مع أن فيها كلاماً، فقد ذكر عن محمد بن كعب القرظي ، قال: (البرهان الذي أري يوسف عليه السلام ثلاث آيات من كتاب الله: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ[الانفطار:10-12]، وقوله: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ[يونس:61]، وقوله: أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ[الرعد:33]، زاد غيره آية أخرى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى[الإسراء:32]) ولو تأملت هذه الآيات لا شك أنها غير مخصوصة من جهة المعاني بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، بل هي لجميع الشرائع.

كذلك قال: [عن ابن عباس في قوله: لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ[يوسف:24]، رأى آية من كتاب الله نهته مثلت له في جدار الحائط] ولا يلزم أن المراد به كتاب الله، الذي هو القرآن، إنما المراد بكتاب الله الذي كان يدين به يوسف عليه السلام.

تكلم الأنبياء السابقين بالعربية

كذلك نلاحظ من الأشياء التي ذكرها السيوطي قوله: [وروى البيهقي عن ابن عباس قال: أغفل الناس آية من كتاب الله لم تنزل على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون سليمان بن داود ..) ثم ذكر: ((بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ))، وقبلها ذكر عن بريدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم)، وهذا الحديث فيه مقال، لكن المقصد أن عندنا نصاً واضحاً جداً، قال: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[النمل:30]، فنحن الآن نريد أن نتصور: هل يمكن أن يحكى الخطاب بغير هذا اللفظ؟ وسليمان قال بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، هل هناك مانع عقلي أن يكون قال هذا؟

ليس هناك مانع عقلي، أن يكون قال: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ))، كما ستأتي الإشكالية السابقة التي ناقشناها وأطلنا فيها التي هي لغة سليمان عليه السلام، وكما ذكرت سابقاً: لا يمنع أن يكون تكلم.

العربية القديمة، وأن فيها مثل هذه الألفاظ التي بقيت عند عربية التنزيل، وهذا أيضاً من الشواهد التي يستدل بها على لغات الأنبياء، لأنه في النص قال: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ[النمل:30]، يعني: وهذا نص وليس حكاية، فدلالة على أنه نطق هذه الألفاظ.

كذلك الكلمة التي قالها إبراهيم يحتمل أن يكون قال معناها، وكذلك بعض القصص يختلف ذكر القول فيها؛ لأنه بعض الأحيان لا يلزم نفس النص، فيحكى القول وليس بنصه.

إذاً: الألفاظ ليس فيها اتفاق؛ أما اتفاق المعاني فالأصل اتفاق المعاني في أكثر الأشياء.

يبقى أن هناك استئناسات معينة يمكن القول بأنهم نطقوا بهذا، وإذا ثبت أنهم نطقوا عربياً، فكونه يكون نزل عليهم بهذا اللفظ ليس هناك أي مانع.

فإذا ثبتت اللغة ما هناك مانع أن يكون نزل، وفي أسفارهم كثير جداً جداً من ألفاظ العربية يفسرونها بعربية التنزيل هم، وإن كان قد يختلف فيها النطق، وعلى سبيل المثال زوجة موسى عليه السلام عندهم اسمها (صفورة) بكسر الصاد وهي أصلها (عصفورة) لكن قضية النطق يؤثر على اختلاف أو قضية رسمها وكيفية كتابتها على حسب ما نطقوها، وغيره أمثلة كثيرة جداً، ما نريد أن أطيل فيها، لكن المقصد أنه يشار إلى أنها تحتاج إلى بحث.

وقفة مع أخطاء السيوطي وغيره في بعض مسائل الاعتقاد

وهنا نأتي إلى كيفية الإنزال (كيفية إنزاله) وهذا الموضوع في الحقيقة أطال فيه السيوطي ، ولكنه خلط في هذا الموضوع، وكما نعلم أن السيوطي رحمه الله تعالى لم يكن محرراً في عقيدة أهل السنة والجماعة؛ فوقع عنده إشكال في مثل هذا المبحث، وهو مبحث من أخطر المباحث.

ونحن حينما نتكلم عن مثل هذه القضايا، التي هي أخطاء السيوطي رحمه الله تعالى أو غيره من العلماء في مثل هذه القضايا لا كما يفهمه البعض، يعني: الذين يعتقدون بمثل هذه المعتقدات أنا نرفض السيوطي أو غيره أو أحد المعاصرين جملة وتفصيلاً، ونتقاطع معه تقاطعاً كلياً، وأيضاً لا يعني ذلك أننا لا نبين الخطأ؛ ولذا أنا أقول: من المستحسن أن ننتبه إلى أننا في مثل هذه الأمور نسير في خطين متوازيين لا متقاطعين، بمعنى: أنه لما تأتينا عبارة من يقول: لنعمل على ما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه، وهذه العبارة فيها إشكال الحقيقة.

فعبارة: "نعمل على ما تفقنا عليه" مقبولة، لكن "يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه" هذا لا، ليس مطلقاً؛ لأن فيه محال يكون العذر فيها صحيحاً، لكن فيها محال لا يكون العذر فيها صحيحاً، وبياني لخطئك فيها لا يمنعني من أن أعمل معك فيما اتفقنا عليه؛ ولهذا يجب أن أنتبه لها، فإذاً الخطوط هي متوازية، ويأتي التقاطع لما تكون بدعاً مكفرة، يعني: إنسان أصلاً لا يدين بدينك وإن زعم أنه مسلم، هذا لا يمكن ولا تستطيع أن تجتمع معه في نقطة التقاء أصلاً.

مثلاً الذي لا يأخذ بأقوال الصحابة رضي الله عنهم، والذي يزعم مثلاً أن القرآن محرف لا يمكن تلتقي معه أصلاً؛ لأن نقطة الابتداء مختلفة، لكن الذي ينطلق من منطلقاتك، من الكتاب والسنة ويعتمد أقوال الصحابة من حيث الجملة.. إلى آخره، فهذا انطلق معك من بداية المنطلق، لكن قد يكون وقع عنده خلل في أشياء كثيرة لا يمنع أنك تبين هذه الخلل، وأيضاً تسير أنت وإياه في خط متواز ضد عدو أكبر، لكي لا يفهم أن هناك تقاطعاً؛ لأنه مع الأسف بعض الناس يفهم هذا الشيء، وقد يكون في عبارات بعض العلماء حينما نناقش مثل هذه القضايا حدة، وهذه الحدة الموجودة في كثير من الأحيان ترجع أحياناً على طبيعة الشخص نفسه وطريقته في أداء المعلومة، لكن إذا تجاوزت إلى حد آخر نحن نقول: لا، ليس هذا المنهج الصحيح، لكن لا تمنعنا أيضاً حدة فلان أو علان من ألا نقبل قوله، أو أننا نرفض قوله أبداً، والحدة موجودة هنا وموجودة هناك، فحتى الخصم الذي يزعم هذا الزعم هو عنده حدة وهو لا يشعر بنفسه، وهو يزعم الحدة إنما جاءت كانت ناشئة عن حدة أولئك، وهذا كله زعم.

فإذاً: أنا أقصد من ذلك أنه لا يمنع أننا نبين أخطاء العالم الفلاني أو العالم الآخر، ونحن نأخذ بأقواله الأخرى التي نرى أنه وافق فيها الحق، وليس بيننا وبينه تقاطع في مثل هذه الأمور، إنما نبين الخطأ وما لم يكن فيه خطأ فإننا نقبله.

هذا باختصار ما يتعلق بقضية مثل هذه الأمور الحساسة التي ترتبط بالاعتقاد، وأنتم تعلمون طبعاً يكون فيها كثير من الشوائب ومن أشكل الأشياء فيها هي عدم إيصال الحق من أهل الحق باللين والرفق؛ لأنه يمكن أن توصل هذه العقيدة باللين والرفق، ويتقبلها الشخص أو لا يتقبلها على حسب ما يمن الله عليه به، إن تقبلها أو لا يتقبلها؛ فالمقصد: أنا كوني أوصله باللين والرفق فإني أكسب أمرين: أكسب أنني أوصلت الدعوة بلين ورفق، وأكسب أنني على الأقل حيدت هذا المخالف تحييداً معيناً من ألا يفتري ويجترئ على أهل السنة، كما هو ملاحظ -مع الأسف- لما تفتح بعض الأحيان بعض مواقع الإنترنت تجد كلاماً فيه إسهاب شديد وفيه كذب وافتراء بين جداً.. جداً.. جداً، وزعم ومزاعم تفوح بالكذب، بل الكلمة تقول: أنا كذب، والإنسان يقرأ والعياذ بالله، فهؤلاء الذين وصلوا إلى هذا الحد والعياذ بالله، حتى لو إنه حصل دعوتهم باللين والرفق فلا شك أنه أولى من الحدة؛ لأن الحدة لا تولد إلا حدة، وهم أصلاً جاهزون للحدة، والله سبحانه وتعالى لما أرسل موسى إلى فرعون ، أول ما أرسله - وهو فرعون - والله سبحانه وتعالى يعلم بعلمه المحيط أن فرعون لن يؤمن، مع ذلك قال: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى[طه:44].

فأقصد من ذلك: أن المنهج الذي أرى أنه سليم أن أوصل الحق الذي نعتقد أنه حق بالرفق واللين، وألا تكون الصورة التي يوصل بها الحق الشدة والغلظة، فذلك أدعى للقبول، وإن كان لكل مقام مقال، فأنت أحياناً تحتاج إلى الحزم، لكن المقصد أن الصبغة العامة والطريقة العامة أن تكون بهذا كما كانت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا احتاج ذلك جاءت الآيات: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ[التوبة:73]، فلا يعني ذلك أن ننزع صفة الشدة من الأمر، لكن المقصد هو التوازن.

هنا الآن مسألة: هل المراد إنزال الألفاظ أو المراد إنزال المعاني؟ أو المراد بالإنزال هنا أيضاً إنزال الفضيلة المرتبطة على هذه المقاطع التي ذكرها سواءً سور أو آيات؟ يعني الآن هو ذكر حديث: ( أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة )، ولو أخذنا بالنظر العقلي: هل قصة تبوك في سورة التوبة نزلت على غير النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: لا، إذاً: هي مما لم ينزل منه على أحد قبل النبي صلى الله عليه وسلم فتدخل في هذا الباب. ولم يذكرها؛ لأنه يبدو أنه أراد أن يشير إلى الأحاديث المتعلقة بالفضائل التي أشير إلى أنها لم تنزل على أحد من الأنبياء -يعني: بهذه الفضائل- إلا على النبي صلى الله عليه وسلم، فيكون اللفظ نفسه مرتبطاً بالفضائل المذكورة، لكن المعنى أحياناً قد يكون نزل على الأنبياء الآخرين، يعني: المعاني من حيث هي قد تكون نزلت، لكن ليست بنفس هذه الألفاظ؛ ولهذا مثلاً: سورة الفاتحة معانيها مبثوثة في القرآن، لكن كسورة تبتدئ بمقطع وتنتهي بمقطع، ولها خصائص معينة، ولها فضيلة معينة، هذه خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، كذلك خواتيم البقرة وما فيها من الفضائل خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، بمعنى: أنه لو نظرنا بالنظر العقلي من المحتمل أن تنزل على غير النبي صلى الله عليه وسلم بنفس الفضائل أو ما هي محتمل؟ محتمل، لكنها هذه الآيات المرتبطة بهذه الفضائل مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم، أن هذا كنظر، ولذا ما زال هذا الموضوع يحتاج في الحقيقة إلى تحرير.

لاحظوا لو قلنا: إن المراد بالإنزال هنا الذي ذكره السيوطي إنزال الألفاظ؛ هذا الحقيقة يحتاج إلى دليل صحيح صريح في أن هذه الألفاظ نزلت على الأنبياء قبله؛ لأنه سيأتينا أنه يقول: نزل على الأنبياء كذا، نزل على الأنبياء كذا. أما إذا كان إنزال المعاني فكثير جداً مما في القرآن معانيه موجودة ومنزلة على الأنبياء الآخرين.

وأيضاً لو تأملنا عندنا قضايا كلية، أو قضية كبرى نزلت على جميع الأنبياء، مثل الوصايا التي في سورة الأنعام، وهي الوصايا العشر المنسوبة إلى موسى عليه السلام هذه تتفق فيها الشرائع.

فالمقصد من ذلك: أن عندنا قضايا كلية تتفق فيها الشرائع كقضايا معنوية، مثلاً تحريم الكذب، هل سيكون في شريعة حلال وفي شريعة حرام؟! لا، في كل الشرائع حرام، كذلك الزنا في كل الشرائع حرام، تحريم الخمر، السرقة.. إلى آخره، هذه قضايا كلية، لا تحتمل أكثر من حكم واحد، وهي موجودة في جميع الشرائع.

فإذا نظرنا بهذا النظر نقول: إنه ما زال هذا الموضوع يحتاج إلى تحرير.

فلنأخذ مثالاً؛ لكي يتبين لنا الموضوع أكثر:

قال: [أخرج الطبراني مرفوعاً: (أعطيت أمتي شيئاً لم يعطه أحد من الأمم عند المصيبة: إنا لله وإنا إليه ترجعون )] ومن أمثلة الأول: ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس قال: ( لما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى، قال صلى الله عليه وسلم: كلها في صحف إبراهيم و موسى ، فلما نزلت: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى[النجم:1]، فبلغ: وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى[النجم:37]، قال: وفى: أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى[النجم:38]، إلى قوله: هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى[النجم:56]).

الآن قال: لما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى[الأعلى:1] قال: (كلها في صحف إبراهيم و موسى )، ولا شك أن قوله: (كلها في صحف إبراهيم وموسى) فيه إشكال، لأن عندنا قوله سبحانه وتعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللهُ[الأعلى:6-7]، وهي خاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فلا يتصور أن تكون نزلت على غيره صلى الله عليه وسلم.

والصحيح: أن المراد بالذي في: صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى[الأعلى:19] أنه يرجع إلى الموعظة؛ فقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[الأعلى:14-17]، هذا الذي نزل في صحف إبراهيم ونزل في صحف موسى؛ لأن هذه موعظة عامة عند جميع الأنبياء، وأشار الله سبحانه وتعالى إلى أنها نزلت في صحف إبراهيم ، ونزلت أيضاً في صحف موسى.

لكن لا يلزم أن تكون نازلة بنفس الألفاظ، وإنما تكون نازلة بنفس المعنى، يعني: نفس المعاني هذه موجودة في صحف إبراهيم وفي صحف موسى.

المقصد من هذا: أن هذا المبحث الحقيقة فيه إشكال من هذه الجهة.

إذاً نقول: إنه عندنا بعض ما ذكر من الآيات أنها نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وغالباً ما يكون مرتبطة بالفضيلة، فكأن الخصوصية ليست للألفاظ فقط، وإنما الألفاظ معها تلك الفضيلة، أما المعاني فقد تكون أحياناً نازلة على غير النبي صلى الله عليه وسلم، يعني: معاني بعض السور، مثل سورة الفاتحة وغيرها قد تكون معانيها نزلت في كتب أخرى، لكنها لم تكن مجتمعة بهذه الألفاظ، ولها مبدأ ومقطع بهذه الطريقة، ومترتب عليها فضائل إلا للنبي صلى الله عليه وسلم.

كذلك ما نزل في آخر سورة البقرة، أيضاً بعض المعاني قد تكون في الكتب السابقة، لكن اجتماع هذه الألفاظ بهذه المعاني وارتباطها بفضيلة لم يكن إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، وقس على ذلك غيرها من الآثار التي وردت.

أيضاً لاحظوا ما ذكره أبو عبيد - وإن كان فيه إشكال - عن كعب الأحبار ، قال: (إن محمداً صلى الله عليه وسلم أعطي أربع آيات لم يعطهن موسى ، وإن موسى أعطي آية لم يعطها محمد صلى الله عليه وسلم، والآيات التي أعطيهن محمد: للهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ[البقرة:284]، ثم ختم البقرة، فتلك ثلاث آيات وآية الكرسي، والآية التي أعطيها موسى : اللهم لا تولج الشيطان في قلوبنا، وخلصنا منه من أجل أن لك الملكوت والأيد والسلطان والملك والحمد..) إلى آخره، وهذه الآية من حيث لو كانت آية في التوراة، أو أنها كانت آية مما نزل؛ فهذه معناها موجود في القرآن، فلا معنى لتخصيص موسى عليه السلام بها، إلا أن تكون مرتبطة بفضيلة معينة كما هو حاصل لآية الكرسي وللآيات التي في آخر البقرة.

وطبعاً هناك أمثلة كثيرة ذكرها المؤلف في هذا الموضوع.

وهنا ملحظ مرتبط بهذا: أن الأحاديث التي نبهت على أن النبي صلى الله عليه وسلم خص ببعض الآيات المرتبطة بالفضائل هذا ما يحتاج بحث، خاصة إذا كان معبراً عنها بعبارة النزول، ( لم تنزل على نبي قبلي )، أو: "لم تنزل على نبي قبله" مثلاً، هذه تحتاج إلى تأمل.

هناك جهة أخرى ما لها علاقة الحقيقة بالآية، هي مرتبطة باتفاق الشرائع في القضايا الكلية العامة هذه، وهناك أيضاً تدخل في خصائص هذه الأمة المحمدية؛ لكونه نزلت آيات خاصة لها فضائل خاصة لم تنزل على أحد من الأنبياء قبلهم؛ فهذا لا شك أنه داخل في هذا الباب، يعني: هذا فقط الذي يمكن أن يقال في قضية موضوع ما خص به النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينزل على أحد قبله.

وقوله: (لم تنزل على نبي قبله) التي هي لم تنزل الآيات أو الفضيلة؟

طبعاً أنا ما أريد أن أدخل في قضية عبارات النزول؛ لأن فيها إشكالاً مرتبط بقضية: هل هذه الألفاظ هي نفس التي نزلت، مثلاً الوصايا العشر التي نزلت على موسى عليه السلام، وهي موجودة في سورة الأنعام، يعني: فيها تشابه كبير في موضوعاتها، هل هي بنفس النص الذي نزل على النبي صلى الله عليه وسلم نفس النص الذي نزل على موسى عليه السلام أم ماذا؟

طبعاً لا شك أن هذا يحتاج إلى بحث.

حتى الآثار من المهم جداً مراجعة الآثار التي ذكرها في سورة الفاتحة وآية الكرسي وخاتمة البقرة، وغيرها مما نبهت الآثار فيه على أنه مما خص به النبي صلى الله عليه وسلم، والآثار الأخرى التي نبهت على أن هذه الآيات نزلت على نبي آخر، وهي مبحث لا شك أنه مفيد من هذا الجانب، لكن ما هناك مانع عموماً، يعني: الأصل العقلي يقول: لا مانع، لكن هي إشكالية طويلة الذيل، ما نحتاج أن نتكلم فيها.