فضل الذكر
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
فضل الذكر[1]عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((مَثَلُ الذي يذكر ربَّه، والذي لا يذكر ربَّه: مَثَلُ الحيِّ والميت))؛ رواه البخاري[2].
الذكر والشكر:
دِعامتان قويَّتان، يقوم عليهما الدين كلُّه، أصوله وفروعه؛ الذِّكر والشكر، يُنبئ عن هذا قولُه - جل ذِكرُه -: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ ﴾ [البقرة: 152]، ووصيته - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - رضي الله عنه - فيما رواه أبو داود والنسائي ألا يدع في دُبر كلّ صلاة أن يقول: ((اللهم أعنِّي على ذِكرك، وشكرك، وحُسْن عبادتك))[3].
حقيقة الذكر:
وذلك لأنَّ الذِّكر عملُ اللسان والقلب، وهو مُقْتضٍ لمعرفة الله تعالى والإيمان به، ووصفه بصفات جلاله وجماله، والثناء عليه بما أثنى به على نفسه، وتنزيهه على كل ما لا يَليق به، والشكر عمل بقية الجوارح في خدمة الله تعالى وطاعته، والتقرُّب إليه بأداء محابِّه، واجتناب مكارهه، فانتظم الذكرُ والشكر ما تعبَّد الله به عبادَه، وما خلق الجنَّ والإنس إلا لأجله، كما يقول - وقولُه الحق -: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56].
على أن لنا أن نَعُد الشكر أثرًا من آثار الذكر، كما نعدُّ الطاعة ثمرة من ثمار المعرفة، فما شكر اللهَ تعالى مَن لم يذكُرْه.
فضل الذكر:
ولا حرج أن نقول إذًا: إن الذِّكر الحق رأس اليقين والإيمان، ومدار الإسلام والأحكام، وعماد الخير كله.
ويعضُدنا في هذا ما أخرجه الترمذي وابن ماجه[4]، عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ألا أنبِّئكم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم من أن تلقَوا عدوكم فتَضربوا أعناقهم، ويضربوا أعناقكم؟))، قالوا: بلى، قال: ((ذِكْر الله تعالى))[5].
وكذلك ما أخرجه الترمذي وغيره عن عبدالله بن بُسر: أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن شرائع الإسلام قد كَثُرت عليَّ، فأخبرْني بشيء أتشبَّث به، قال: ((لا يزال لسانك رَطْبًا من ذِكر الله))[6].
أكمل الذكر وأفضله:
وواضح أن اللسان لا يكون رَطبًا من ذِكر الله إلا إذا رُوِي القلب من خَشية الله، وقاد الجوارح إلى طاعة الله؛ لأن اللسان تَرجُمان القلب، والقلب أمير الجوارح؛ إذا صلَح، صلَح الجسدُ كله، وإذا فسد، فسَدَ الجسد كلُّه[7].
بعد الذي أوضحنا، فلا عجب أن يشبِّه النبي - صلى الله عليه وسلم - الذاكر، وقد استنار قلبُه بنور المعرفة، وتحلَّى قلبُه بحلية الطاعة - بالحيِّ الذي تزيَّن ظاهره ببهجة الحياة، وباطنه بنور العلم والإدراك، وأن يُشبِّه الغافل، وقد قسا قلبُه، وأظلمتْ نفسُه - بالجثَّة الهامدة؛ تعطَّل ظاهرها، وأَظلَم باطنُها؛ فلحِقت بعالم الجماد.
وإذا قلنا: إن الذكر عملُ اللسان والقلب جميعًا، فإنما نعني به أكمل الذِّكر وأفضله وأزكاه عند الله تعالى، وأولاه بمراده ومراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا فإن الذكر يكون باللسان وحده، وهو أقلُّ درجاته، وأفضل منه أن يكون بالقلب وحده، وأفضل من هذا أن يكون بهما معًا؛ فإذا أُسِّس على التقوى، وامتزج بتدبُّر المعنى، وأُحيط بخشية الله - عز وجل - فذلك هو الفقه الأكبر، وهو أجلُّ الذِّكر وأعظمُه، وهو - بحق - طبُّ القلوب ودواؤها، وعافية الأبدان وشفاؤها، ونور الأبصار وضياؤها، وحياة النفوس وزكاؤها.
وإنما كان ذِكر القلب وحده أفضلَ من ذكر اللسان وحده؛ لأن ذكر القلب يُثمِر المعرفةَ، ويثير الحياء، ويبعث على الخَشية، ويدعو إلى المراقبة، ويَزَعُ عن التقصير في الطاعات والتهاون في السيئات، وقلما يكون في ذكر اللسان وحده شيءٌ من هذا.
أقسام الذكر:
وكثيرًا ما يُراد بذكر الله - تعالى شأنه - كل طاعة له، وإن جاوزت عمل اللسان والقلب إلى غيرهما من سائر الجوارح؛ لأنَّ طاعة الله - فرضًا أو نفلاً - لا تتحقَّق إلا مُقترِنةً بذِكرِه، أو مُشتمِلة عليه، أو داعية إليه؛ ومن أجْلِ هذا سمَّى الله الصلاة ذكرًا، فقال - عز من قائل -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾[الجمعة: 9].
وعن بعض العارفين، قال: "الذكر على سبعة أنحاء؛ فذكر العينين بالبكاء، وذكر الأذنين بالإصغاء، وذكر اللسان بالثناء، وذكر اليدين بالعطاء، وذكر البدن بالوفاء، وذكر القلب بالخوف والرّجاء، وذكر الرُّوح بالتسليم والرِّضاء".
وقال الإمام النووي: "إن فضيلة الذّكر لا تَنحصِر في التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير ونحوها[8]، بل كل عاملٍ لله بطاعة فهو ذاكرٌ له، وقال عطاء - رحمه الله -: مجالس الذكر هي مجالس الحلال والحرام والفقه بالدين"[9].
وذلك أن أساس الذِّكر - ولا جدال - معرفةُ المذكور أولاً؛ ثم ذِكره بما شَرَعه لعباده، وارتضاه لعبادته، ودعا إليه على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم.
وكل الأذكار والأوراد في صيغها وأدائها، وشروطها وآدابها، مفرَدة ومُكرَّرة، مقيَّدة ومُطلَقة، مستوفاة ومخفَّفة - قد فصَّلها الشارع تفصيلاً، ولم يأذن لأحد من بعده أن يمَسَّها بتهذيب أو تعديل، فضلاً عن التغيير والتبديل؛ فمن استباح شيئًا من ذلك، فقد افتات على الله ورسوله.
ولسنا بحاجة بعد الذي تقدَّم إلى بَسْط الأدلة على فضلِ الذكر وجليل خطَره، وحسْبُنا أن الله تعالى أمر به مُطلَقًا ومقيَّدًا، وجعله قرين الأعمال الصالحة ورُوحها، ومفتاحها وختامها، وربَط الفلاح باستدامته وكثرته، وجزى أهله بذكره ومحبَّته، وغشاهم أينما كانوا بفضله ورحمته، وانظر "مدارج السالكين"[10]؛ ففيه تفصيلُ هذا كله.
تفاضُل الأذكار:
ثم الأذكار تتفاضَلُ بحسب آثارها، وتوكيد الشارع أو تخفيفه في طلَبها، وقد تظاهرتِ الأدلة على أنَّ أَفضلَها، بل أحبّ الأعمال إلى الله قاطبة، الصلاةُ لوقتها؛ لأنها جِماع الذِّكر كله، ثم تلاوة كتاب الله تعالى، ثم التهليل والتسبيح وما إليهما.
على أنه قد يَعرِض للمفضول ما يجعله أَوْلى وأفضل، وذلك: كالتسبيح في الركوع، والدعاء في السجود، فإنهما أفضل من قراءة القرآن، بل القراءة فيهما منهيٌّ عنها.
وكذلك القول في الأذكار الموظَّفة عقِب الصلوات، والمقيَّدة بحال خاصة، حقًّا إن فضلَ كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلْقه، لكن لكلِّ مقامٍ مقال، ولكلِّ ذكر مَقصِد؛ فإذا عُدل عنه إلى غيره، فاتت الحكمةُ، وعُطِّلت المصلحة، وإذا لم يخلُق الله شيئًا عبثًا، فحاش لله أن يشرَع شيئًا عبثًا.
وقد يخلو العبد بربه فيتضرَّع ويبكي ويستغفر، ويحضُره من الخشوع والابتهال ما لا يحضُره في وقت آخر، لا جَرَم أن هذا في موطنه أجلُّ أنواع الذكر، وصاحبه أحد السبعة الذين يُظِلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وجملة القول: إن التفضيل مَسْلكٌ دقيق لا يجتازه إلا من كان على نور من ربِّه، يعرف به مراتب الأعمال ومقاصدها، ويفرِّق به بين فضيلة الشيء النفسية وفضيلته العَرَضية؛ ليُعطي كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، ويضع كل شيء موضِعه، ولا يشتغل بالمفضول عن الفاضل، ولا بالفاضل عن الأفضل، فيربح إبليسُ الفضل الذي بينهما.
قال صاحب "الوابل الصيب": سئل بعض العلماء: أيهما أنفع للعبد: التسبيح أم الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوب نقيًّا، فالبخور وماء الورد، وإذا كان دَنسًا، فالصابون والماء الحار"[11].
تَكرار الذِّكر:
ويدعو الحديث إلى تَكرار الذكر وإدمانه في كلِّ المناسبات، وجميع الحالات؛ لكن على ما أوضحتْه السنة، وفصَّلته الأحاديث، ورواه الثقات.
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يذكر الله قائمًا وقاعدًا وعلى جنب، في مشيه وركوبه، ومسيره ونزوله، وظعنِه وإقامته، ونومه ويقظته، بل كان كلامه في ذكر الله وما والاه من: أمره ونهيه، ووعده ووعيده، وصفاته وأحكامه، وسؤاله ودعائه، ورغبته ورهبته، وهكذا كان ذكره لله تعالى يَجري مع أنفاسه، وفي كل أحيانه، وعلى سائر أحواله.
حكمة التكرار:
وللذِّكر مع التكرار أثر عظيم في محو الذنوب، وصَقْل القلوب، وتَقوية العزائم، وإنهاض النفوس، وإثارة الهمم، واستعذاب الصِّعاب، واحتمال المشاق.
ومن الأدلة على هذا كله ما رواه مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن سبَّح الله في دبرِ كل صلاة ثلاثًا وثلاثين، وحمد الله ثلاثًا وثلاثين، وكبَّر الله ثلاثًا وثلاثين، وقال تمام المائة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غُفِرت خطاياه وإن كانت مثل زَبَدِ البحر))[12].
وما رواه الشيخان أنه - صلى الله عليه وسلم - علَّم عليًّا وفاطمة - رضي الله عنهما - أن يُسبِّحا كل ليلة إذا أخذا مضاجعهما ثلاثًا وثلاثين، ويحمَدا الله كذلك، ويُكبِّرا أربعًا وثلاثين، لما سألتْه خادمًا، وشكت إليه ما تُقاسي من الطحن والسعي والخدمة؛ علمَّهما ذلك، وقال: ((إنه خير لكما من خادم))[13]، والأدلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، ولكن المشاهدة أعدلُ شاهدٍ.
عناية الصوفية بالذكر وتكراره:
من أجل هذا اتَّخذ الصوفية من الذكر وتَكراره مِنهاجهم، وجعلوا منه دواءهم وغذاءهم، ورأوا كما رأى الحديث - بحق - أن العبد بحاجة إلى ذكر مولاه، ما دام بحاجة إلى الحياة.
لكنا ننصَح لهم - والدينُ النصيحة - أن يكون هواهم تَبَعًا لما جاء به من لا يَنطِق عن الهوى - صلوات الله وسلامه عليه - فقد أقام المعالِمَ، وأوضح السبيل، وأبان النَّهجَ، واختار لنا خيرًا وأفضل وأزكى وأجمل مما نختار لأنفسنا، فمن رأى رأيًا معه، فقد آثر نفسه واتبع هواه فأرداه، وإذا كان جزاء مَن تزلَّف إلى الملوك بزيف الجواهر الطرد والحرمان، فما جزاء مَن تقرَّب إلى مَلِك الملوك بزيف العبادة إلا الهلاك والخُسران!
عجائب تكرار الذكر:
وللتكرار من عجائب الآثار، وبدائع الأسرار، ما جعل المربِّين وعلماء النفس والاجتماع يُقيمون عليه صروحًا من العلم والفضائل، وحصونًا من مكارم الأخلاق والعادات.
وعلى نظرية التكرار تقوم في هذه الأيام دعوة جديدة لتعلم اللغة العربية وإنهاضها، وتربية مَلَكة قوية تُغني عن القواعد في تأثُّر البيان، وتقويم اللسان، وعِصمته من اللحن والأخطاء.
ولا نَدلكم على رُوح الاجتماع ومؤلَّفات التربية؛ لتَقِفوا على عجائب التكرار وفِعله في النفوس، وإيقاظه للقلوب؛ وإنما نَهديكم إلى كتاب الله، وتعاليم رسوله ومصطفاه، ففيها العجب العجاب، ومنهما يغترِف أولو الأبصار والألباب.
المصدر: من ذخائر السنة النبوية؛ جمعها ورتبها وعلق عليها الأستاذ مجد بن أحمد مكي
[1] مجلة الأزهر، العدد التاسع، المجلد الرابع عشر، رمضان (1362 = 1943).
[2] أخرجه البخاري (6407) في الدعوات.
[3] أخرجه أحمد في "المسند" 5: 245 (22119)، (221126)، وأبو داود في "سننه" 2: 180 (1522)، والنسائي في "عمل اليوم والليلة" (101) (117) من السنن الكبرى، وفي سننه الصغرى 3: 53 (1303)، وانظر تتمَّة تخريجه وشرحه في تعليقاتي على "جياد المسلسلات"؛ للسيوطي، ص 156 - 162.
[4] بسكون الهاء في الوصل والوقف، ونُطْقها بالتاء خطأ (طه)، وانظر: تعليق أستاذنا العلامة الشيخ عبدالفتاح أبو غدة - رحمه الله تعالى - على رسالة: " ذِكْر مَن يُعتمَد قوله في الجرح والتعديل"؛ للذهبي (ص 198- 199)، الطبعة الرابعة، سنة 1410 ضمن " أربع رسائل في علوم الحديث".
[5] أخرجه أحمد في المسند 5: 195 (21702) (21704) بإسناد صحيح، والترمذي (3377)، وابن ماجه (3790).
[6] أخرجه أحمد في المسند (17680) (17698)، والترمذي (3375)، وهو حديث صحيح.
[7] اقتباس من حديث رواه البخاري (52)، ومسلم (1599) من حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنهما.
[8] كالدعاء والاستغفار والصلاة والسلام على النبي - صلى الله عليه وسلم.
[9] " الأذكار النووية" ص49.
[10] 2: 423 - 423 في منزلة الذكر، وانظر أيضًا " الوابل الصيب" ص 66، 126، فقد استوفى بيان فوائد الذكر استيفاء حسنًا، وذكر نحو مائة فائدة.
[11] "الوابل الصيب ورافع الكَلِم الطيب"؛ لابن قيم الجوزية ص 126، وذكر ابن القيم أنه لما قال ذلك لشيخه ابن تيميَّة، قال له: فكيف والثياب لا تزال دنسة؟!
[12] أخرجه مسلم (597).
[13] أخرجه البخاري (3113)، ومسلم (2727) و(2728).