حوار مع الشباب


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الأحبة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أشكر الله عز وجل، ثم أشكر حضوركم وتشريفي أمامكم بالمثول وإليكم بالحديث، وأسأله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجمعنا في مقعد صدق عند مليك مقتدر كما جمعنا في هذا المكان المبارك إن شاء الله.

أحبابنا! ليس بسر ولا بعجيب أن نتحدث عن الشباب، وأن نعيد ونزيد، وأن نكثر ونردد، لأننا نرى كل أمة إنما عزت برجالها وشبابها أو ذلت بهم، أو رفعت بهم رأساً أو خفضت بهم رأساً، أو نسبت إلى علم وجد وحزم وعلم ونفع، أو نسبت إلى هزل وضياع وسقوط وانحدار؛ لذا كان لزاماً أن نلتفت إلى هؤلاء الناشئة، وأن نتحدث إليهم مصبحين ممسين، غادين رائحين، وأن نتلقفهم أو نقف لهم في كل سبيل وطريق، لنقول لهم: هل تعلمون قدركم؟ وهل تعرفون مكانتكم؟ وهل تثمنون منزلتكم؟ أم أن الواحد يمشي سبهللاً لا يعرف شيئاً! وكما يقول القائل:

وأنت امرؤ فينا خلقت لغيـرنا     حياتك لا نفع وموتك فاجع

أيها الأحبة! عن ماذا نتحدث عن الشباب، ونحن إن أردنا عن مواهبهم وطاقاتهم وما آتاهم الله عز وجل فذاك خير كثير وعلم غزير؟ وعن ماذا نتحدث عن الشباب .. إن أردنا أن نتكلم عن المؤامرات والمكائد والفخاخ التي تنصب لهم، والحبائل التي تنسج في طريقهم حتى يقعوا فريسة الشبهات والشهوات، فذلك علم كثير وعلم غزير أيضاً، وعن ماذا نحدث الشباب .. عن مسئولياتهم تجاه أنفسهم أو تجاه أسرهم ووالديهم، أو تجاه مجتمعاتهم وتجاه بلادهم وأمتهم، فذلك أيضاً كلام كثير؟

لكننا نريد أن نتحدث فقط عنك أنت أيها الشاب، عن شخصك، عن ذاتك، لن نتكلم عن الأسرة ولا عن الجيران ولا عن الدولة ولا عن البلاد ولا عن الأمة، ولكن نتحدث عنك أنت أيها الشاب ..

وتحسب أنك جرم صغير     وفيك انطوى العالم الأكبر

دواؤك فيك وما تبصر     وداؤك منك وما تشعر

الحديث إليكم -أيها الشباب- حديث إلى كل واحد في ذاته وشخصه، يقول الله عز وجل: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:7-10] ويقول تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى [الليل:5-10].

أقول لك أيها الشاب: أنت قد خلقت قادراً مختاراً بين طريقين، بين طريق الهداية وبين طريق الغواية، وقد آتاك الله مشيئة وما تشاء إلا أن يشاء الله، ولكن قد جعلت لك وسائل الاختيار أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10] وعلى طريق الخير هداية وعلى طريق الشر دلالة، وأنت قادر على أن تختار بينهما.

شبهة الاحتجاج بأن المعاصي مقدرة والرد عليها

واحذر من مقالة الجبرية والمعطلة والضائعين الذين يقولون: هكذا كتب علينا أن نضل، وهكذا اختير لنا أن نزيغ، ولا خيار لنا أن نكون أبراراً أم فجاراً! هذه دعوى كثيراً ما يرددها بعض الشباب، فإذا قلت له: أخي! اتق الله .. عد إلى الله .. صل مع الجماعة .. أطع والديك .. بر بوالديك .. صل رحمك .. إياك والمحرمات .. إياك والملاهي .. إياك والعبث .. إياك والمنكرات .. إياك والفواحش .. قال: لو أريد لي الهداية لاهتديت، لكن اسألوا لي الهداية. سبحان الله العلي العظيم!

هذه الحجة التي كثيراً ما نسمع عدداً لا يستهان به من الشباب يرددونها، والواحد منهم لا يلوم نفسه أبداً في أي ضلالة أو منكر أو تقصير أو غواية، وإنما يقول:

هذا جناه أبـي علي     وما جنيت على أحد

هذا ليس باختياري، قدري أن أكون مدخناً، وقدري أن أستمع (fm وmbc) قدري أن أكون مغنياً، وقدري أن أكون ممثلاً، وقدري أن أكون ضالاً، وقدري أن أكون مجنوناً في التشجيع الرياضي وملاحقة الأعلام والصياح والصراخ والدوران في الشوارع عند الأهداف، وقدري أن أكون تافهاً سخيفاً لا قيمة لوقتي .. لا مكانة لشخصيتي .. أحب الدوران في الأسواق .. أحب مضايقة الفتيات، ومعاكسة النساء في الأسواق، ومعاكسة الشباب والصبيان والأحداث .. هذا قدري!

نقول: كذبت وما أصبت، وما بحقيقة نطقت، ولا حاجة أن ننصب لك كثيراً من الأدلة الشرعية، لكننا سنضرب لك أمثلة عقلية واقعية؛ حتى تعرف أن احتجاجك بهذا احتجاج ضلالة واحتجاج شبهة، وهي كشبهة الشيطان الذي ضل وغوى واستكبر وجحد وأبى، ثم قال: رب بما أغويتني، لم يقل: غويت، قال: رب بما أغويتني.

أخي الحبيب! سأضرب لك مثلاً:

لو أنني الآن أشكو من الظمأ، أليس حالتي في الظمأ هي قدر من الأقدار؟ أنا الآن ظمآن أريد ماءً، والحالة التي أنا فيها قدر، وهذا قدر الشرب أعالج به قدر الظمأ، فأحصل على قدر الري، فلا تحتج بهذا، وكذلك إذا كنت أعاني من الجوع، وأمعائي تتقطع مخمصة ومجاعة وأقول: أنا جائع جداً، نعم إن الحالة التي أشكو منها الآن وهي الجوع هي قدر، ولكن قربوا قدر الطعام لأضرب فيه بخمس، فإذا شبعت وحصلت قدر الكفاية والشبع، كذلك إذا كنت تقول: أنا في قدر الضلالة، أنا في قدر الغواية، أنا في قدر الانحراف، نقول لك: عالج قدر الانحراف بأقدار أسباب الهداية، هذا قدر الانحراف: ملاهٍ وأغان وضياع وقلة أدب ومسخرة وإزعاج للناس، تعال وعالجها بقدر الهداية، وما هي أسباب هذا القدر؟ إنها: جليس صالح .. كتاب صالح .. شريط صالح .. موعظة نافعة .. قلب حاضر .. مبادرة إلى الصلاة .. مجاهدة للنفس، هذه أقدار وأسباب تحصل قدر الهداية.

إذاً هذا هو علاج شبهة كثير من الشباب الذين إذا نصحوا ودعوا إلى الله ورسوله، قالوا: نحن هكذا مكتوب علينا، وإن شاء الله يأتي يوم من الأيام ونهتدي، ويمكن أن نموت على هذه الحال! نقول: لا، لا، لا، وأكبر دليل أنك ما استسلمت لقدر الجوع، بل عالجته بقدر الأكل، فحصلت قدر الشبع، ما استسلمت لقدر الظمأ، بل عالجته بقدر الشرب، فحصلت قدر الري، ما استسلمت لقدر البرد، وإنما عالجته بقدر اللباس، فحصلت قدر الدفء، ما استسلمت لقدر الحر، بل عالجته بقدر المكيفات والمراوح، فحصلت قدر البرد والراحة والطمأنينة، وهذا أمر معلوم، إذاً لا حجة لأحد أن ينازع أو يجادل في ذلك، فضلاً عن أن الله عز وجل قد جعل لك كما أخبر سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5-6] يحصل قدر اليسرى والهداية .. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [الليل:7-9] يحصل قدر الضلالة والغواية .. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل:10-11].

المرء حيث يجعل نفسه

الوقفة الثانية:

أخي الشاب: بإمكانك أن تكون عالماً من العلماء أو شيطاناً من الشياطين .. بوسعك أن تكون إماماً في الهداية وبوسعك أن تكون عفريتاً في الغواية .. بوسعك أن تكون قدوة يقتدى بك في الخير، وبوسعك أن تكون قائداً يهدي إلى الضلالة، وقد ضرب الله مثل الفريقين جميعاً، فقال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فلما اجتهدوا وحرصوا وبذلوا كل ما في وسعهم من طاقة وما في جوارحهم من إمكانيات، وإنه بالصبر واليقين -كما يقول أحد السلف -: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .. وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] والمسلم لا ينبغي أن يقول: يكفي أن أكون شاباً ملتزماً، نحن نريد أن تكون إماماً في الالتزام، يحتذى بمنهجك وبسلوكك وبطريقك وبعلمك، ويتأسى بفكرك أيضاً .. وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] هذا من الأدعية المشروعة، أن الإنسان لا يكون فقط واحداً من المتقين، بل يسأل ربه أن يكون إماماً للمتقين، وفي المقابل قال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص:41] في شأن آل فرعون وأهل الضلالة والغواية.

فمن الممكن أن تكون أخي الشاب إماماً في خير، وممكن أن تكون إماماً في شر .. ممكن أن تكون قائداً في ضلالة، وممكن أن تكون قائداً في هداية، فالمسألة تعود إلى ماذا تطعم نفسك فتنتج بعد ذلك؟ ماذا تغرس وتبذر في أرض قلبك، وفي صحراء فؤادك، وفي طبيعة حواسك؛ لنعرف في المستقبل ماذا سنجني وعلى ماذا سنحصل منك؟

وكل امرئٍ والله بالناس عالـم     له عادةٌ قامت عليها شمائله

تعودها في ما مضى من شبابـه     كذلك يدعو كل أمرٍ أوائله

طريق الهداية وطريق الغواية

ليس غريباً أن نجد شاباً منذ أن نشأ في حلقات تحفيظ القرآن، في المراكز الصيفية، في الجمعيات الشرعية والإسلامية، في الأنشطة الخيرية النافعة .. ليس غريباً أن تجد هذا الشاب بعد أن تجاوز العشرين خطيباً في منبر، أو داعية في مضمار، أو إماماً في خير، أو رئيساً في هدى .. هذا ليس بغريب؛ لأنه في البداية ماذا كان يزرع في أرض قلبه وأرض بدنه وفؤاده؟ كان يزرع حفظاً وقراءةً وتلاوةً، ومشاركات وأنشطة، وكان إيجابياً، وكان فاعلاً، وكان نشيطاً، فلا غرابة أن يكون اليوم بهذه النتيجة.

ولا غرابة أن تجد شاباً يوم أن كان في صغره سوقياً في عباراته، متسكعاً في جولاته وتصرفاته، دنيئاً في همته، خسيساً في نظراته وفكراته وخطراته، لا غرابة أن يكون في يوم من الأيام ساقطاً من الساقطين، تافهاً من التافهين، ضالاً من الضالين، كل من حوله يتبرأ من ضلاله ويدعو عليه ويسأل الله أن يريح المسلمين من شره.

لا غرابة إن كان هذا منحرفاً مفسداً مؤذياً؛ لأن تاريخه الماضي كان في ضلالة وانحراف، ولا غرابة أن يكون الأول إماماً وهادياً ونافعاً؛ لأن تاريخه الماضي -بإذن الله وتوفيقه وحماية الله له وليس بنفسه ولا بحوله ولا بقوله، حتى لا يغتر الإنسان بنفسه- لأنه كان في ما مضى في محاضن خير وفي رياض علم وهدى وتقوى.

فيا أيها الحبيب! كل شاب فيكم الآن بإمكانه أن يختار، أنت تستطيع أن تحدد الغاية، كما أن بوسعك أن تختار أن تمشي من هذه المنصة أو من هذا المكان إلى السور هناك، وبوسعك أن تختار أن تمشي من هنا إلى نهاية البلاط القريب، فأنت بوسعك أن تختار أن تكون -بإذن الله- إماماً في الهداية، وبوسعك أن تختار أن تكون إماماً في الضلالة .. كيف يكون هذا؟ بمبادرتك الآن في شبابك، كما تفعل وقت الزراعة، ووقت الغرس والبذور.

ومن زرع البذور وما سقاهـا     تأوه نادماً وقت الحصاد

واحذر من مقالة الجبرية والمعطلة والضائعين الذين يقولون: هكذا كتب علينا أن نضل، وهكذا اختير لنا أن نزيغ، ولا خيار لنا أن نكون أبراراً أم فجاراً! هذه دعوى كثيراً ما يرددها بعض الشباب، فإذا قلت له: أخي! اتق الله .. عد إلى الله .. صل مع الجماعة .. أطع والديك .. بر بوالديك .. صل رحمك .. إياك والمحرمات .. إياك والملاهي .. إياك والعبث .. إياك والمنكرات .. إياك والفواحش .. قال: لو أريد لي الهداية لاهتديت، لكن اسألوا لي الهداية. سبحان الله العلي العظيم!

هذه الحجة التي كثيراً ما نسمع عدداً لا يستهان به من الشباب يرددونها، والواحد منهم لا يلوم نفسه أبداً في أي ضلالة أو منكر أو تقصير أو غواية، وإنما يقول:

هذا جناه أبـي علي     وما جنيت على أحد

هذا ليس باختياري، قدري أن أكون مدخناً، وقدري أن أستمع (fm وmbc) قدري أن أكون مغنياً، وقدري أن أكون ممثلاً، وقدري أن أكون ضالاً، وقدري أن أكون مجنوناً في التشجيع الرياضي وملاحقة الأعلام والصياح والصراخ والدوران في الشوارع عند الأهداف، وقدري أن أكون تافهاً سخيفاً لا قيمة لوقتي .. لا مكانة لشخصيتي .. أحب الدوران في الأسواق .. أحب مضايقة الفتيات، ومعاكسة النساء في الأسواق، ومعاكسة الشباب والصبيان والأحداث .. هذا قدري!

نقول: كذبت وما أصبت، وما بحقيقة نطقت، ولا حاجة أن ننصب لك كثيراً من الأدلة الشرعية، لكننا سنضرب لك أمثلة عقلية واقعية؛ حتى تعرف أن احتجاجك بهذا احتجاج ضلالة واحتجاج شبهة، وهي كشبهة الشيطان الذي ضل وغوى واستكبر وجحد وأبى، ثم قال: رب بما أغويتني، لم يقل: غويت، قال: رب بما أغويتني.

أخي الحبيب! سأضرب لك مثلاً:

لو أنني الآن أشكو من الظمأ، أليس حالتي في الظمأ هي قدر من الأقدار؟ أنا الآن ظمآن أريد ماءً، والحالة التي أنا فيها قدر، وهذا قدر الشرب أعالج به قدر الظمأ، فأحصل على قدر الري، فلا تحتج بهذا، وكذلك إذا كنت أعاني من الجوع، وأمعائي تتقطع مخمصة ومجاعة وأقول: أنا جائع جداً، نعم إن الحالة التي أشكو منها الآن وهي الجوع هي قدر، ولكن قربوا قدر الطعام لأضرب فيه بخمس، فإذا شبعت وحصلت قدر الكفاية والشبع، كذلك إذا كنت تقول: أنا في قدر الضلالة، أنا في قدر الغواية، أنا في قدر الانحراف، نقول لك: عالج قدر الانحراف بأقدار أسباب الهداية، هذا قدر الانحراف: ملاهٍ وأغان وضياع وقلة أدب ومسخرة وإزعاج للناس، تعال وعالجها بقدر الهداية، وما هي أسباب هذا القدر؟ إنها: جليس صالح .. كتاب صالح .. شريط صالح .. موعظة نافعة .. قلب حاضر .. مبادرة إلى الصلاة .. مجاهدة للنفس، هذه أقدار وأسباب تحصل قدر الهداية.

إذاً هذا هو علاج شبهة كثير من الشباب الذين إذا نصحوا ودعوا إلى الله ورسوله، قالوا: نحن هكذا مكتوب علينا، وإن شاء الله يأتي يوم من الأيام ونهتدي، ويمكن أن نموت على هذه الحال! نقول: لا، لا، لا، وأكبر دليل أنك ما استسلمت لقدر الجوع، بل عالجته بقدر الأكل، فحصلت قدر الشبع، ما استسلمت لقدر الظمأ، بل عالجته بقدر الشرب، فحصلت قدر الري، ما استسلمت لقدر البرد، وإنما عالجته بقدر اللباس، فحصلت قدر الدفء، ما استسلمت لقدر الحر، بل عالجته بقدر المكيفات والمراوح، فحصلت قدر البرد والراحة والطمأنينة، وهذا أمر معلوم، إذاً لا حجة لأحد أن ينازع أو يجادل في ذلك، فضلاً عن أن الله عز وجل قد جعل لك كما أخبر سبحانه: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى [الليل:5-6] يحصل قدر اليسرى والهداية .. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى [الليل:7-9] يحصل قدر الضلالة والغواية .. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى * وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى [الليل:10-11].

الوقفة الثانية:

أخي الشاب: بإمكانك أن تكون عالماً من العلماء أو شيطاناً من الشياطين .. بوسعك أن تكون إماماً في الهداية وبوسعك أن تكون عفريتاً في الغواية .. بوسعك أن تكون قدوة يقتدى بك في الخير، وبوسعك أن تكون قائداً يهدي إلى الضلالة، وقد ضرب الله مثل الفريقين جميعاً، فقال تعالى: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] فلما اجتهدوا وحرصوا وبذلوا كل ما في وسعهم من طاقة وما في جوارحهم من إمكانيات، وإنه بالصبر واليقين -كما يقول أحد السلف -: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين .. وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ [السجدة:24] والمسلم لا ينبغي أن يقول: يكفي أن أكون شاباً ملتزماً، نحن نريد أن تكون إماماً في الالتزام، يحتذى بمنهجك وبسلوكك وبطريقك وبعلمك، ويتأسى بفكرك أيضاً .. وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً [الفرقان:74] هذا من الأدعية المشروعة، أن الإنسان لا يكون فقط واحداً من المتقين، بل يسأل ربه أن يكون إماماً للمتقين، وفي المقابل قال تعالى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص:41] في شأن آل فرعون وأهل الضلالة والغواية.

فمن الممكن أن تكون أخي الشاب إماماً في خير، وممكن أن تكون إماماً في شر .. ممكن أن تكون قائداً في ضلالة، وممكن أن تكون قائداً في هداية، فالمسألة تعود إلى ماذا تطعم نفسك فتنتج بعد ذلك؟ ماذا تغرس وتبذر في أرض قلبك، وفي صحراء فؤادك، وفي طبيعة حواسك؛ لنعرف في المستقبل ماذا سنجني وعلى ماذا سنحصل منك؟

وكل امرئٍ والله بالناس عالـم     له عادةٌ قامت عليها شمائله

تعودها في ما مضى من شبابـه     كذلك يدعو كل أمرٍ أوائله

ليس غريباً أن نجد شاباً منذ أن نشأ في حلقات تحفيظ القرآن، في المراكز الصيفية، في الجمعيات الشرعية والإسلامية، في الأنشطة الخيرية النافعة .. ليس غريباً أن تجد هذا الشاب بعد أن تجاوز العشرين خطيباً في منبر، أو داعية في مضمار، أو إماماً في خير، أو رئيساً في هدى .. هذا ليس بغريب؛ لأنه في البداية ماذا كان يزرع في أرض قلبه وأرض بدنه وفؤاده؟ كان يزرع حفظاً وقراءةً وتلاوةً، ومشاركات وأنشطة، وكان إيجابياً، وكان فاعلاً، وكان نشيطاً، فلا غرابة أن يكون اليوم بهذه النتيجة.

ولا غرابة أن تجد شاباً يوم أن كان في صغره سوقياً في عباراته، متسكعاً في جولاته وتصرفاته، دنيئاً في همته، خسيساً في نظراته وفكراته وخطراته، لا غرابة أن يكون في يوم من الأيام ساقطاً من الساقطين، تافهاً من التافهين، ضالاً من الضالين، كل من حوله يتبرأ من ضلاله ويدعو عليه ويسأل الله أن يريح المسلمين من شره.

لا غرابة إن كان هذا منحرفاً مفسداً مؤذياً؛ لأن تاريخه الماضي كان في ضلالة وانحراف، ولا غرابة أن يكون الأول إماماً وهادياً ونافعاً؛ لأن تاريخه الماضي -بإذن الله وتوفيقه وحماية الله له وليس بنفسه ولا بحوله ولا بقوله، حتى لا يغتر الإنسان بنفسه- لأنه كان في ما مضى في محاضن خير وفي رياض علم وهدى وتقوى.

فيا أيها الحبيب! كل شاب فيكم الآن بإمكانه أن يختار، أنت تستطيع أن تحدد الغاية، كما أن بوسعك أن تختار أن تمشي من هذه المنصة أو من هذا المكان إلى السور هناك، وبوسعك أن تختار أن تمشي من هنا إلى نهاية البلاط القريب، فأنت بوسعك أن تختار أن تكون -بإذن الله- إماماً في الهداية، وبوسعك أن تختار أن تكون إماماً في الضلالة .. كيف يكون هذا؟ بمبادرتك الآن في شبابك، كما تفعل وقت الزراعة، ووقت الغرس والبذور.

ومن زرع البذور وما سقاهـا     تأوه نادماً وقت الحصاد

يا شبابنا: أنتم اليوم في مرحلة زراعة القلوب، لقد كنا -وتعود بي الذاكرة الآن إلى المراكز الصيفية- نتردد فيها كما ترددتم فيها، وننشد فيها كما تنشدون فيها، ونقرأ فيها كما تقرءون فيها، ونمارس ألواناً من النشاط فيها كما تمارسون الآن، ولو أننا استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا لبذلنا أضعاف أضعاف ذلك الجهد وذلك النشاط الذي بذلناه؛ لأننا وجدنا عاقبته علينا.

إني أعلم أن كثيراً من الشباب دخلوا المراكز وهم بكم- البكم المعنوي- أعياء؛ الواحد منهم لا يستطيع أن يفصح عما في نفسه، بعضهم كالعجماء التي لا تنطق، وبعد أن خرج من هذه المحاضن الطيبة المباركة أصبح فصيحاً منطقياً ذا لسان مبين! وبعضهم دخل المراكز وكان وديعاً خمولاً لا يحرك ساكناً، وربما قتله الحياء، أو ربما قتله احتقار نفسه - وهذا أمر سأتطرق له بالتفصيل- وما حالت شهور المراكز بأهلتها إلا وقد عاد نشطاً متفاعلاً إيجابياً قوياً، وله آثار عظيمة .. فيا سبحان الله! كيف تحركت هذه القوى؟ وكيف اكتشفت تلك الطاقات؟ ومن أين تفجرت تلك المواهب؟

المخالطة وأثرها

إن المخالطة إما أن تنمي وإما أن تردي فإما أن تنمي فيك خيراً يزداد، وإما أن تردي فيك أموراً عجيبة وخراب.

أخي الحبيب! لا تعجب من أن المخالطة لها ذلك الأثر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بخبر يدل على أن الإنسان لو خالط بهيمة لتأثر بطبعها، فما بالك إذا خالطت إنساناً؟ فإن من باب أولى أن تتأثر به .. قال صلى الله عليه وسلم: (الفخر والخيلاء في الفدادين أهل الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم) لاحظ أن هؤلاء لما خالطوا الإبل وهم رعاة إبل، يصيحون بها، يعسفونها، يريضونها، ينيخونها، يعالجونها، يتابعونها؛ أورثت هذه الحالة في أنفسهم فخراً وخيلاءً في الغالب، ولاحظ حال أهل الغنم .. السكينة والوقار في أهل الغنم.

وأنتم يا شباب! لو دخل عليكم من هذا الباب أربعة: اثنان رعاة إبل واثنان رعاة غنم، وتحدثوا قليلاً؛ لقلتم: هذا راعي إبل وهذا راعي غنم، وهذا راعي إبل وهذا راعي غنم، كيف؟ من خلال مخالطتهم لتلك البهائم، أورثت تلك المخالطة في نفوسهم وفي حركاتهم وفي سلوكهم تصرفات دلت عليهم، فكذلك أنت من خلال مخالطتك لأشرار أو أخيار، لأبرار أو فجار، لأناس يحترمون وقتهم أو لسفلة لا يقيمون للزمن قيمة، لرجال طموحهم إلى النجوم والثريا، أو لمساكين الواحد منهم طموحه لا يتعدى نهاية خطوته، تستطيع أن تميز بين هؤلاء وهؤلاء، إما فيما يكتبون، وإما فيما يرسمون، وإما فيما يتكلمون، وإما في لحن حديثهم، قال تعالى: وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ [محمد:30] ففيه فائدة أن الإنسان ربما عرف من لحن قوله، ولا يحكم على نيات البشر في لحن القول، لكنك تعرف اتجاه الإنسان عموماً في لحن قوله، أما أن الإنسان يعرف من خلال ما يخالط فهذا واضح جداً.

صورة لشاب صالح منذ الصغر

في مكان قريب منا شاب صغير لا أظنه قد جاوز السنة السادسة الدراسية .. سبحان الله! ما أجمل ذلك السمت! ما أحسن تلك الخطوات! ما أطيب ذلك المحيا! ما أبهى تلك الطلعة! إذا قابلت ذلك الشاب الصغير الذي ربما عمره في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة كأنما تقابل واحداً من طلبة العلم .. سنة والتزام واستقامة، أربعة وعشرون قيراطاً، كما يقال، فلما تأملنا وتدبرنا وبحثنا وجدنا أن له أباً شيخاً صالحاً طيباً، وأماً طيبةً صالحةً، وثلة من الأطفال الصغار الذين في سنه هم على هذا السمت وعلى هذا الهدي.

وتجد في المقابل شاباً كأن قصة شعره ذيل كلب! وكأن فنيلته مجموعة من الأعلام برقاعها وألوانها وأشيائها! وكأن تصرفاته قطة مدعوسة! بعض الشباب هكذا يمشي، فإذا تأملته وجدته مع أناس من هذه الطينة وفي تلك العجينة ومن هذه الصفات.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور سعد البريك - عنوان الحلقة اسٌتمع
أهمية الوقت في حياة المسلم 2800 استماع
المعوقون يتكلمون [2] 2648 استماع
توديع العام المنصرم 2643 استماع
حقوق ولاة الأمر 2629 استماع
فلنحول العاطفة إلى برنامج عمل [1] 2548 استماع
من هنا نبدأ 2492 استماع
أحوال المسلمين في كوسوفا [2] 2457 استماع
أنواع الجلساء 2456 استماع
إلى الله المشتكى 2432 استماع
الغفلة في حياة الناس 2432 استماع