خطب ومحاضرات
شرح منظومة الزمزمي [6]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ النوع الرابع: ما خُص منه بالسنة.
تخصيصه بسنة قد وقعا فلا تمل لقول من قد منعا
آحادها وغيرها سواء فبالعرايا خصت الرباء]
قوله: (تخصيصه بسنة قد وقعا فلا تمل لقول من قد منعا).
هذا إشارة إلى أنه قد وقع خلاف بين العلماء في جواز تخصيص الكتاب بالسنة، وكما قال: إن المنع ليس بمعتبر، وهو واقع كثير، سواء كما قال في متواتر الأحاديث، أو في آحادها، مع أنه في هذا المبحث ليس هناك أثر في قضية التواتر والآحاد، لكن العلماء يبحثونها من جهة: هل يجوز أن يخصص الآحاد المتواتر؟ وهي مسألة ذهنية، وواقع وتطبيق الفقهاء والأصوليين على خلافها، أنه يقع.
ونحن لسنا ملزمين عند النظر في الحديث الذي خصص القرآن، هل هو متواتر أو آحاد، وإنما ننظر إلى الصحة، هل هو صحيح أو لا؟ هل هو متلقى بالقبول عند العلماء أو لا؟ وإنما هذه قضية فلسفية أو ذهنية عند بعض الأصوليين بحثها في قضية هل يجوز نسخ الآحاد بالمتواتر، والقرآن بما أنه متواتر فلا بد أن ينسخه متواتر، والخلاف دائر، لكن العمل على خلاف هذه التقسيمات التي أشار إليها المؤلف.
فإذاً: المقصود هو النظر إلى الحديث من جهة الصحة والقبول.
وذكر المؤلف مثالاً في تخصيص الربا بالعرايا، وأيضًا في قوله سبحانه وتعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ[المائدة:3]، بحديث: (أحلت لنا ميتتان ودمان)، فقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ[المائدة:3] عام لم يقيد أو لم يخصص بشيء، فلو نظرنا إلى ظاهر الكتاب، فمعنى ذلك: أن كل ميتة فإنها محرمة، وكل دم فإنه محرم، فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد، والكبد والطحال)، دل على أن هذا مخصص للعموم الذي في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ[المائدة:3]، وهذا ظاهر في التخصيص، والأمثلة كما ذكر المؤلف في تخصيص السنة بالكتاب كثيرة جدًا.
ومثل قوله سبحانه وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ[البقرة:222]، فمفهوم قوله: فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي المَحِيضِ[البقرة:222] يدل على العموم، فلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اصنعوا كل شيء إلا النكاح )، دل على التخصيص، وهذا أيضًا مثال من أمثلة تخصيص السنة بالكتاب.
وتلاحظون في هذه الأمثلة أننا لا نبحث عن: هذه السنة هل هي من قبيل المتواتر أو من قبيل الآحاد، وإنما نبحث عن الصحة والقبول فقط، فالشرط فيها: هو الصحة والقبول.
قال رحمه الله تعالى:
[ النوع الخامس: ما خص به من السنة.
وعز لم يوجد سوى أربعة كآية الأصواف أو كالجزية
والصلوات حافظوا عليها والعاملين ضمها إليها
حديث ما أبين في أولاها خص وأيضاً خص ما تلاها
لقوله أمرت أن أقاتلا من لم يكن لما أردت قابلا
وخصت الباقية النهي عن حل الصلاة، والزكاة للغني]
الآن العكس، وهو ما خص منه، أي: الكتاب يخص السنة، فالعموم سيكون في السنة، والتخصيص سيكون في الكتاب، وهذا كما قال (عزيز) يعني: قليل جدًا، وذكر له أمثلة، كقوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ[التوبة:29]، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله )، يفهم من الحديث أنه لا يقبل من أحد إلا قبول التوحيد، فالجزية الآن دلت على مرتبة ثانية، يعني: إن لم يعط التوحيد يعطي الجزية.
فإذاً: هذا فيه تخصيص، فالعموم جاء في السنة، والتخصيص جاء في الكتاب.
وكذلك قوله: وَمِنْ أَصْوَافِهَا[النحل:80]، فهي خصت قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما أبين من حي فهو ميت). والأمثلة الأخرى كلها من هذا الباب الذي هو أن الكتاب يخص السنة، وهو كما قال قليل جدًا.
وقضية تخصيص الكتاب للسنة فيها خلاف بين العلماء، لكن إذا نظرنا إلى هذه الأحاديث وحملناها على هذا المعنى الذي ذكره المؤلف فلا إشكال في ذلك، وكما تلاحظون مثل هذه الأبواب التي يكون فيها نوع من الخلافات، من الحسن لطالب العلم أن ينظر إلى الثمرة والنتيجة، فأحيانًا تكون الثمرة والنتيجة دالة على قيمة هذا الخلاف، وكونه معتبراً أو غير معتبر، فأحيانًا قد يكون الخلاف لفظيًا، وأحيانًا قد يوجد خلاف، لكن النتيجة واحدة، ويكون الخلاف في المنطلقات بسبب المذهب الفقهي، فمثل هذه يحسن من طالب العلم أن يتنبه لها ويتأملها لأنها من الدقائق التي قد تخفى.
ما خص من الكتاب بالسنة، هل له أثر في التفسير أو ليس له أثر في التفسير؟
له أثر، وهذا باب الخاص والعام من أهم علوم التفسير، فيكون له أثر؛ لأننا إذا قلنا مثلًا في قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدَّمُ[المائدة:3]، فنقول: حرمت عليكم كل ميتة وكل دم، لا يناسب، وإنما نقول: حرمت عليكم الميتة والدم إلا ما استثناه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أحل لنا ميتتان ودمان ..)، الحديث.
فإذاً لها أثر في المراد بالميتة: هل هي كل ميتة أو استثني منها شيء؟
وكذلك لو نظرنا إلى العكس: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ[التوبة:29]، مع قوله: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله )، هل هناك أثر تفسيري، بمعنى: أننا لو لم نستحضر الحديث، هل الألفاظ هذه يتأثر بها المعنى؟ ما يتأثر، إذاً في مثل هذا لم يتأثر الحكم، فالعكس هنا يتأثر به الحكم. وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت )، أي: كالميت في النجاسة، ومع ذلك نجد الله سبحانه وتعالى يقول: وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا [النحل:80]، كأن الكتاب خص السنة، وهذا أيضًا لا يؤثر، يعني: هذا الباب الذي هو العكس، لا يؤثر في فهم المعنى، وإنما يترتب عليه الحكم، والنوع الأول يؤثر في فهم المعنى، ويترتب عليه أيضًا الحكم.
قال المؤلف رحمه الله: [النوع السادس: المجمل.
ما لم يكن بواضح الدلالة كالقرء إذ بيانه بالآية ].
المجمل كما قال الناظم: (ما لم يكن بواضح الدلالة)، فما لم تتضح دلالته فهو المجمل، وذكر مثالًا له: (القرء)، لأنه مشترك بين الحيض والطهر، وبيانه بالسنة المبينة خلافه.
والناظم كما نعلم حنفي، والأحناف في هذه المصطلحات يخالفون الشافعية؛ والذي عندنا علم الأصول، الأصول على طريقة الشافعية ويسمون بالمتكلمين، والأصول على طريقة الأحناف.
والمؤلف الذي هو السيوطي شافعي فمصطلحاته على مذهب الشافعية، والناظم حنفي، لكنه فيما يبدو أبقى النظم على المذهب الشافعي ولم يغير فيه شيئاً، ولم يستدرك، ومن أراد أن يستفيد الفرق بين هذه المصطلحات وأثرها في فهم المعاني أو الأحكام، يقرأ في كتاب الإتقان هذه المباحث، ثم يوازنها بكتاب الزيادة والإحسان لـابن عقيلة المكي الحنفي، وهو مبحث لطيف، يدلك على أثر المصطلحات، وتأثيرها في قضية التقسيم والتنويع، وأيضًا في قضية ما يترتب عليها من ثمرة.
وهنا تعريف ابن عقيلة المكي من كتاب الزيادة والإحسان، قال: (علم مشتركه ومؤوله) فجعل المشترك مقابلاً للمؤول، (علم نصه ومشكله)، فجعل النص مقابلاً للمشكل، (علم مفسره ومجمله)، فجعل المفسر مقابلاً للمجمل.
وهناك مصطلحات أخرى، لكن الذي يهمنا الآن بناءً على رأي الشافعية: أن المجمل ما لم تتضح دِلالته، والمجمل عند ابن عقيلة قال: ما ازدحمت فيه المعاني، ولم يُعلم المراد منه إلا بالاستفسار والتأمل.
فالتعبير بقولنا: ما لم تتضح دلالته، وتعبير ابن عقيلة المكي ، قد يقول قائل: بينهما تقارب، لكن ما خالف في هذا، وجعل المجمل مقابل المفسر إلا على اصطلاح الأحناف، ولو رجعنا إلى السيوطي نجد أنه يقابل المجمل بالمبين.
وفي المثال السابق المجمل (قروء)، وإذا وجدنا مبيناً له، فنقول: هذا مبين للمجمل، وهو هنا جعل بيانه بالسنة، وأصل السنة وقع فيها خلاف كبير في الأقراء، هل المراد بها الأطهار أو الحيض؟ فجماعة من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، ومن بعدهم من علماء الأمة: يذهبون إلى أن المراد به الطهر، وجماعة آخرون من الصحابة والتابعين، وأتباع التابعين، وعلماء الأمة: يذهبون إلى أن المراد به الحيض، بمعنى أن هذا المثال الخلاف فيه قوي جدًا، والسنة فيها إشارات، لكن ليست حاسمة، ولذا اضطر بعض العلماء إلى أن ينتقل من السنة إلى اللغة، وهو قوله سبحانه وتعالى: وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ[البقرة:228]، وعادة العرب المخالفة بين الأعداد والمعدودات في مثل هذه، فيقولون: حيضات، أو ثلاث حيض، والأطهار: ثلاثة أطهار.
فاستفادوا من هذا أن المراد بالقرء: الطُّهر، أي: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة أطهار)، وهذا بناء على الأسلوب اللغوي عند العرب في مثل هذا الخطاب، فأضافوا دلالة جديدة لتعزيز رأي من يقول: بأن المراد بها الأطهار، وأيًّا ما كان الأمر عندنا إذا ما اتضحت الدلالة لأي سبب من الأسباب فهذا مجمل، وإذا وجد ما يدل على أحد الأقوال يسمونه مبيناً، وجعل المبين هنا السنة، وهذا محتمل، فقد وقع خلاف حتى في السنة، فبعضهم يذكر أحاديث تدل على أنه الطهر، وبعضهم يذكر أحاديث تدل على أنه الحيض.
قال رحمه الله تعالى: [النوع السابع : المؤول.
عن ظاهر ما بالدليل نزلا كاليد لله هو اللذ أولا]
المؤول، قال: ما ترك ظاهره لدليل. والمؤول مقابل للمشترك عند ابن عقيلة المكي ، فالمشترك عنده هو اللفظ الواحد المتعدد كالقرء، فالقرء استخدمناه أكثر من مرة في أكثر من موطن، والمؤول عند ابن عقيلة المكي الحنفي: ما ترجحت بعض وجوهه بحسب القرائن والأحوال، فصرف على المتبادر أو الحقيقي إلى غيره، فإذاً: هو قريب من تعريف السيوطي.
مثل بقوله تعالى: وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ[الذاريات:47]، قال: ظاهره: جمع يدٍ الجارحة، ولا شك أن هذا فيه نظر؛ لأن قوله (بأيدٍ) ليس المراد بها: اليد، وإنما المراد بها: القوة هنا، وهذا هو نفس المعنى الوارد في قوله: وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ[البقرة:87]، وقوله: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ[ص:17]، فهل (داود ذا الأيد) هي نفس بأيدٍ؟ هل معناها صاحب الأيادي؟ والمراد بها الجارحة؟ لا، بل معناها ذو القوة، فإذاً استدلال المؤلف بهذه الآية في هذا الموطن فيه نظر.
قال: (فأول على القوة للدليل القاطع على تنزيه الله تعالى عن ظاهره).
هذا خطأ مركب، فقد فهم أن المراد اليد الجارحة، هذا الفهم الأول وفيه نظر، ثم أراد أن ينزه الباري عن اليد الجارحة أيضًا في نظره، فوقع في خلل مركب، فلا الأول صواب ولا الثاني صواب.
واستدلاله بالآية هذه يتمشى مع قانون المتكلمين على وجه العموم، من المعتزلة والأشاعرة والماتريدية وغيرهم فيما يتعلق بصفات الله سبحانه وتعالى خلافًا لما كان عليه جمهور الصحابة والتابعين وأتباعهم، من إثبات هذه الصفات الخبرية أو الاختيارية، إثباتها كما هي في لغة العرب على وجه يليق بذات الله سبحانه وتعالى وجلاله، فلا بد من إثبات المعنى، ثم بعد ذلك يُنسب التنزيه في التكييف في أنه لا يعلم كيفها وكنهها إلا الله سبحانه وتعالى؛ لأن الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات، وما دامت الذات مجهولة بالنسبة لنا فلا نستطيع أن نعرف الصفة على كنهها وكيفيتها، لكن المعنى معلوم.
وهنا السيوطي سواءً ذهب إلى أن المراد باليد الجارحة، أو المراد باليد القوة، هو في النهاية جعلها صفة وفسرها، فذهب بها إلى معنىً، والحديث الآن هنا في ذهابه بها إلى معنًى، يدخل في باب الحقيقة والمجاز، فينطبق عليها الحقيقة والمجاز، وينطبق عليها التأويل في هذا الباب.
وهذا المثال ملحظ لاضطراب المتكلمين عمومًا، ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، فلو رجعت إلى قوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)، مع صراحة الدليل في الكتاب والسنة بأن لله سبحانه وتعالى يدين، تجد من التأولات الشيء الكثير، ويجيزون اختلافهم في التأويل، ويحتملونه ولا يحتملون القول بالحقيقة، بمعنى: أنك حينما ترجع إلى المتكلمين في هذا الباب تجد أنهم قد اختلفوا، ولم يستشكلوا وقوع هذا الاختلاف بينهم، هل المراد: نعمتاه، أو المراد: قدرتاه، وما فيهما من إشكال يضعف معنى الآية أصلًا، ويضعف وجه البراعة فيها.
ثم بعد ذلك: إذا كانت قدرتاه، ما هما؟ تجد خلافاً بينهم، قدرة الدنيا وقدرة الآخرة، فيركبون شيئًا كثيرًا من المجازات البعيدة من أجل فقط أن يسلم لهم الجانب العقلي الذي قالوا به، وهو ما يدعونه من تنزيه الباري سبحانه وتعالى، والكل لله منزه، لكن كل على طريقته.
والمؤولة لم يستطيعوا أن يتركوا جانب التشبيه فينظروا في أقوال السلف من هذا الجانب، بمعنى: أنه لا يمكن لأي مؤول أن يقع في التأويل إلا إذا مر بقنطرة التشبيه، فهو أولًا: يدعي كون الباري سبحانه وتعالى إذا ثبتت له هذه الصفة مماثلاً لخلقه، فيقول في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[المائدة:64]، لو أثبتنا اليد لله، فهذا يلزم منه الجارحة، وهذا يلزم منه أن الله مشابه لخلقه، فهذه لابد من وجودها في قنطرة، ثم بعد ذلك ينفي هذا المعنى وينتقل إلى معانٍ أخرى ويرى هو أنها هي الصواب، وما رآه سيقع في نفس المشكلة التي فر منها، فللعبد قدرة كما أن للرب قدرة، فإذا أثبت القدرة للرب فيلزم أن تكون مشابهة لقدرة العبد! فإن قال: لا، قدرة العبد تليق بضعفه، وقدرة الرب تليق بذاته وجلاله، رجعنا إلى التفريق بين الصفات.
إذاً: اليد إذا أثبتت لله سبحانه وتعالى فهي يد تليق بذاته وجلاله، ويد المخلوق تتناسب مع ضعفه وحاله.
والمسألة عبارة عن قضية كلامية تدور بهذه الطريقة، وكان المؤلف رحمه الله تعالى في غنًى عن هذا لو أنه استشهد بأدلة أخرى.
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ[الحجر:72]، ظاهر القسم ما دام أن الحديث عن لوط عليه الصلاة والسلام أن القسم بعمر لوط، لكن تُرِك هذا الظاهر المتناسب مع السياق لقرينة وهي الإجماع، أي: إجماع السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم: أن المراد بها: أنه قسم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ونصوا على ذلك، يقول ابن عباس : ما أقسم الله بحياة نبي غيره. يعني: محمد صلى الله عليه وسلم.
و الزمخشري لما جاء عند هذه الآية مشى على السياق وقال: إنه قسم بـلوط مخالفًا إجماع السلف، فالظاهر أن القسم بلوط، لكن تُرك هذا الظاهر لقرينة وإن خفيت علينا، وهذا مثال يصور الفكرة في قضية المؤول.
إذاً: الذي أريد أن أصل إليه: أن القول بالتأويل على هذه الصورة ممكن، ولا يخرج عن بيان المعنى، بمعنى إذا صح المثال وسميناه مؤولًا، فهو في النهاية لا يخرج عن معنى التفسير؛ لأني عندما أقول: (لعمرك)، السياق في لوط ، ولكن المراد به محمد صلى الله عليه وسلم، هذا الآن تفسير أو ليس بتفسير؟ هو تفسير، أنت سميته مؤولاً فقط من باب الاصطلاح.
فالمؤول بهذه الصورة إذا صح المثال فيه، فإنه يرجع إلى معنى التفسير، لكن اصطلاحًا: هذا النوع من التفسير يسمى المؤول، وهو كما قال: ما ترك ظاهره لدليل.
والمؤول كما هو ظاهر له علاقة بالتفسير، وما دام أنه له علاقة بالتفسير، سواء كان في الأحكام أو في الأخبار، فهو في النهاية من علوم التفسير، وأيضاً لا شك أنه سيكون من علوم القرآن.
قال رحمه الله تعالى: [ النوع الثامن: المفهوم.
موافق منطوقه كأف ومنه ذو تخالف في الوصف
ومثل ذا شرط وغاية عدد نبأ الفاسق للوصف ورد
والشرط إن كن أولات حمل وغاية جاءت بنفي حل
لزوجها قبل نكاح غيره وكالثمانين لعد أجره]
والمفهوم مقابل المنطوق.
أقسام المفهوم
المفهوم عند السيوطي قسمان: مفهوم موافقة، يعني: موافق للمنطوق، وذكر مثالاً له: (أف)، فإنه يفهم منه تحريم الضرب من باب أولى، فإذا كانت (أف) وهي مجرد كلمة فقط لإظهار التبرم محرمة، فمن باب أولى الضرب؛ لأن الضرب أعلى حالاً من هذا التبرم.
فهذا المفهوم موافق للمنطوق، دل بالأقل وهو التبرم بالكلام على الأكثر، وهو الضرب باليد.
قال بعد ذلك: (ومنه ذو تخالف في الوصف)، يعني: الذي يسمى مفهوم المخالفة، وهو ما يخالفه إما في صفة، كقوله تعالى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، يفهم منه: إن جاءكم عدل بنبأ فلا تتبينوا، هذا المفهوم يسمى مفهوم مخالفة، يعني: مخالفة الصفة.
قال: (فيجب التبين في الفسق بخلافه).
ومفهوم المخالفة في الشرط، نحو قوله: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ[الطلاق:6]، فالشرط: (إن كنَّ أولات حمل)، فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن، هذا مفهوم المخالفة، فالمنطوق (وإن كنّ أولات حمل فأنفقوا عليهن)، والمفهوم وإن لم يكن أولات حمل فلا تنفقوا عليهن.
ومفهوم الغاية نحو: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[البقرة:230]، مفهومه: فإذا نكحت زوجًا غيره فطلقها فإنها تحل له.
ومفهوم العدد نحو: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4]، أي: لا أقل ولا أكثر، مثل: تسعة وسبعين، أو واحد وثمانين؛ لأن العدد هنا مراد.
فإذاً: هذه بعض ما ذكره في قضية المفهوم، وكيف أنه يؤخذ المفهوم: مفهوم صفة، أو مفهوم شرط، أو مفهوم غاية، أو مفهوم عدد، وذكر الأمثلة لها، وقد أخذها الناظم تمامًا من السيوطي رحمه الله تعالى.
أثر المفهوم في التفسير
وهنا سؤال: هل المفهوم له أثر في التفسير؟
بمعنى هل يلزمك وأنت تفسر مثلاً قوله تعالى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، فبينت المعنى، هل يلزمك أن تبين المفهوم منه؟ هل يلزمك أن تبين كل مفهومات القرآن؟ هل هي من مهمات المفسر؟
هي قد تعين أحيانًا، وتأتي أمثلة تخالف الأصل، لكن من حيث الأصل، هل مفهوم المخالفة يدخل في التفسير؟
الجواب: لا يدخل في التفسير.
من أمثلة مفهوم المخالفة، وهو مثال مشهور جدًا عند طلاب العلم: أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى جاءته رسالة من الصعيد في قوله سبحانه وتعالى من سورة المطففين: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، فقال رحمه الله: لما حجب قوم في حال السخط، دلّ على أن قوماً يرونه في حال الرضا. فاستدل بمفهوم هذه الآية على إثبات الرؤية، فإن كان قد حجب قومًا وهم الكفار؛ لأنه ساخط عليهم، فإنه يدل على أن من يرضى عنهم لا يحجبهم.
لكن لو أنك فسرت: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، وما تبادر لذهنك أنها من أدلة الرؤية، فهل تفسيرك للآية ينقص المعنى؟ لا ينقص المعنى، فهذا مفهوم مخالفة لكن لا ينقص من المعنى، وهذا المثال جيد؛ لأنه في الخبر، وأغلب الذي ذكره في الأحكام.
فإذاً: مفهوم المخالفة الأصل فيه: أنه ليس من علم التفسير، وإنما يدخل في باب الاستنباط، وبالذات في باب الأحكام، سواء كان استنباطاً علمياً، أو استنباطاً أدبياً، أو استنباطاً حكمياً، يعني: في الأحكام أيًّا ما كان، وباب الاستنباط غير باب التفسير كما سبقت الإشارة إليه.
فإذاً: هذا من علوم الآية، أو من علوم القرآن، وليس من علم التفسير أصالة.
لكن لو وُجِد مثال أو مثالان أو عشرة في موضوع معين، فيمكن يدخل ليس على أنه هو الأصل.
المفهوم عند السيوطي قسمان: مفهوم موافقة، يعني: موافق للمنطوق، وذكر مثالاً له: (أف)، فإنه يفهم منه تحريم الضرب من باب أولى، فإذا كانت (أف) وهي مجرد كلمة فقط لإظهار التبرم محرمة، فمن باب أولى الضرب؛ لأن الضرب أعلى حالاً من هذا التبرم.
فهذا المفهوم موافق للمنطوق، دل بالأقل وهو التبرم بالكلام على الأكثر، وهو الضرب باليد.
قال بعد ذلك: (ومنه ذو تخالف في الوصف)، يعني: الذي يسمى مفهوم المخالفة، وهو ما يخالفه إما في صفة، كقوله تعالى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، يفهم منه: إن جاءكم عدل بنبأ فلا تتبينوا، هذا المفهوم يسمى مفهوم مخالفة، يعني: مخالفة الصفة.
قال: (فيجب التبين في الفسق بخلافه).
ومفهوم المخالفة في الشرط، نحو قوله: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ[الطلاق:6]، فالشرط: (إن كنَّ أولات حمل)، فغير أولات الحمل لا يجب الإنفاق عليهن، هذا مفهوم المخالفة، فالمنطوق (وإن كنّ أولات حمل فأنفقوا عليهن)، والمفهوم وإن لم يكن أولات حمل فلا تنفقوا عليهن.
ومفهوم الغاية نحو: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ[البقرة:230]، مفهومه: فإذا نكحت زوجًا غيره فطلقها فإنها تحل له.
ومفهوم العدد نحو: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً[النور:4]، أي: لا أقل ولا أكثر، مثل: تسعة وسبعين، أو واحد وثمانين؛ لأن العدد هنا مراد.
فإذاً: هذه بعض ما ذكره في قضية المفهوم، وكيف أنه يؤخذ المفهوم: مفهوم صفة، أو مفهوم شرط، أو مفهوم غاية، أو مفهوم عدد، وذكر الأمثلة لها، وقد أخذها الناظم تمامًا من السيوطي رحمه الله تعالى.
وهنا سؤال: هل المفهوم له أثر في التفسير؟
بمعنى هل يلزمك وأنت تفسر مثلاً قوله تعالى: إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا[الحجرات:6]، فبينت المعنى، هل يلزمك أن تبين المفهوم منه؟ هل يلزمك أن تبين كل مفهومات القرآن؟ هل هي من مهمات المفسر؟
هي قد تعين أحيانًا، وتأتي أمثلة تخالف الأصل، لكن من حيث الأصل، هل مفهوم المخالفة يدخل في التفسير؟
الجواب: لا يدخل في التفسير.
من أمثلة مفهوم المخالفة، وهو مثال مشهور جدًا عند طلاب العلم: أن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى جاءته رسالة من الصعيد في قوله سبحانه وتعالى من سورة المطففين: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، فقال رحمه الله: لما حجب قوم في حال السخط، دلّ على أن قوماً يرونه في حال الرضا. فاستدل بمفهوم هذه الآية على إثبات الرؤية، فإن كان قد حجب قومًا وهم الكفار؛ لأنه ساخط عليهم، فإنه يدل على أن من يرضى عنهم لا يحجبهم.
لكن لو أنك فسرت: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]، وما تبادر لذهنك أنها من أدلة الرؤية، فهل تفسيرك للآية ينقص المعنى؟ لا ينقص المعنى، فهذا مفهوم مخالفة لكن لا ينقص من المعنى، وهذا المثال جيد؛ لأنه في الخبر، وأغلب الذي ذكره في الأحكام.
فإذاً: مفهوم المخالفة الأصل فيه: أنه ليس من علم التفسير، وإنما يدخل في باب الاستنباط، وبالذات في باب الأحكام، سواء كان استنباطاً علمياً، أو استنباطاً أدبياً، أو استنباطاً حكمياً، يعني: في الأحكام أيًّا ما كان، وباب الاستنباط غير باب التفسير كما سبقت الإشارة إليه.
فإذاً: هذا من علوم الآية، أو من علوم القرآن، وليس من علم التفسير أصالة.
لكن لو وُجِد مثال أو مثالان أو عشرة في موضوع معين، فيمكن يدخل ليس على أنه هو الأصل.
قال رحمه الله تعالى: [التاسع والعاشر: المطلق والمقيد.
وحمل مطلق على الضد إذا أمكن فالحكم له قد أخذا
كالقتل والظهار حيث قيدت أولاهما مؤمنة إذ وردت
وحيث لا يمكن كالقضاء في شهر الصيام حكمه لا تقتفي]
المطلق هو الحكم الذي لم يقيد لا بنوع ولا بصفة ولا ماهية، حيث أطلق فلم يأتِه أي تقييد.
وحكمه: حمل الأول على الثاني إذا أمكن، ككفارة القتل والظهار، قيدت الرقبة في الأولى بالإيمان، وأطلقت في الثانية، فحملت عليها، قال: فلا تجزئ إلا مؤمنة.
قال: (فإن لم يكن كقضاء رمضان) أطلق فلم يذكر فيه تتابعاً ولا تفريقاً، وقد قيد صوم الكفارة بالتتابع وصوم التمتع بالتفريق، فلا يمكن حمل قضاء رمضان عليهما لتنافيهما.
النوع الثاني: أن المطلق يكون على إطلاقه مرتبطاً بحكم، والمقيد مرتبط بحكم، ما يجمع بينهما فيحمل المطلق على المقيد.
وأيضًا قال: (ولا على أحدهما) لعدم المرجح فبقي على إطلاقه، يعني: لا نستخدم التقييد في هذه الحالة.
ومصطلح (الإطلاق والتقييد)، كان عند السلف يسمونه العام والخاص، ما كان يذكر لفظة الإطلاق والتقييد عندهم، بل جاءت متأخرة عند الأصوليين في تقسيم هذه الأنواع من الخطابات.
ولو تأملنا قضية الإطلاق والتقييد، سنجد أن في القرآن أيضًا من جهة الأخبار ما هو مطلق ومقيد، مثلاً قوله سبحانه وتعالى: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا[النبأ:23]، وقع خلاف عند المفسرين هل الأحقاب تنتهي أو لا تنتهي أو فناء النار؟ ومن الأدلة التي تدل على عدم صحة الاستدلال بهذه الآية على فناء النار، أن الله سبحانه وتعالى أطلق الأحقاب ولم يقيدها، فيبقى الخبر على إطلاقه، لأنه لو حُدَّ لقال: لابثين فيها عشرة أحقاب، عشرين حقباً، مائة.. ألف.. لصار التقييد هذا واضحًا، لكنها أطلقت، فهذا أحد الاستدلالات على أن الآية لا تدل على فناء النار، فهذا وجه الإطلاق.
كذلك قوله سبحانه وتعالى: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ[الشورى:5]، هذا في الملائكة، وفي حملة العرش قال: وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا[غافر:7]، ففي قوله: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ) أطلق الاستغفار للجميع، ولما قال في الثانية: (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا)، حملت هذه الآية على الآية الأولى، فدل على أن: لِمَنْ فِي الأَرْضِ[الشورى:5] ليس المراد بها عموم من في الأرض، وإنما المراد بها المؤمنون فقط، وهذا من باب حمل الآية هذه على هذه، إما من باب التخصيص أو من باب التقييد.
فإذاً: الأمثلة في قضية التقييد والإطلاق تدل على أن الأصل في هذا أن له أثراً في فهم المعنى، الذي هو الإطلاق والتقييد، فالآية المقيدة قد تكون من جهة الحكم، وقد تكون من جهة المعنى، فهي تدخل في التفسير.
استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح منظومة الزمزمي [5] | 3929 استماع |
شرح منظومة الزمزمي [3] | 2820 استماع |
شرح منظومة الزمزمي [1] | 2306 استماع |
شرح منظومة الزمزمي [2] | 1775 استماع |
شرح منظومة الزمزمي [4] | 1680 استماع |