شرح منظومة الزمزمي [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

هناك حديث مشكل، وهو حديث نزول سورة الكوثر، وهو قول أنس كما في صحيح مسلم : ( بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا في المسجد، إذ غفا إغفاءةً ثم رفع رأسه متبسماً فقلنا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: أنزلت عليّ آنفاً سورة، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ [الكوثر:1-3] )، هذه الرواية المجملة في نزول سورة الكوثر فيها عبارة (غفا إغفاءة) وسبق أن بينا أن للعلماء مذهبين في المراد بالإغفاءة: المذهب الأول أنها حالة من الحالات التي تعتري النبي صلى الله عليه وسلم في الوحي. والمذهب الثاني أنه نوم، وإذا كان نوماً فوقع عندنا سؤال: أنه لو قيل: بأنه نزل عليه جبريل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبين، وإنما قال: ( أنزلت عليّ آنفاً سورة )، ونحن نعلم أن الذي ينزل بالقرآن هو جبريل عليه السلام، فقوله: ( أنزلت عليّ آنفاً ) لا يحتاج أن يقول: أنزل عليّ جبريل؛ لأن هذا هو الأصل، فمعنى ذلك: أن جبريل آتاه بالمنام، والمنام نوع من أنواع الوحي، ولو ثبت نزول هذه السورة بالمنام كما ذكرت لكم، فإنه لا يؤثر على نقل القرآن، وليس فيه أي أثر علمي فاسد.

وبناءً عليه فإنه لا يشكل على نقل القرآن؛ لأن الصحابة قد تلقوا هذه السورة، وقرءوا بها على أنها من القرآن.

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

[ العاشر: أسباب النزول.

وصنف الأئمة الأسفارا فيه فيمم نحوها استفسارا

ما فيه يروى عن صحابي رفع وإن بغير سند فمنقطع

أو تابعي فمرسل وصحت أشيا كما لإفكهم من قصة

والسعي والحجاب من آيات خلف المقام الأمر بالصلاة]

أسباب النزول وهو النوع العاشر في الأمر الأول وهو ما يتعلق بالنزول.

المصنفات في أسباب النزول

يقول الناظم: (وصنف الأئمة الأسفار فيه)، أي: في أسباب النزول، وقد ذكر السيوطي في إتمام الدراية كتابين: الكتاب الأول هو كتاب الواحدي أسباب النزول، وهو أشهر كتب أسباب النزول، والكتاب محقق في عدة طبعات، وذكر الكتاب الثاني: وهو لـابن حجر رحمه الله تعالى، وقال عنه: أنه في غاية النفاسة وهذا صحيح، وقد طبع جزء منه، والكتاب لم يكتمل، وفيه خلاف هل أكمله ابن حجر أو لم يكمله؟ يعني: هل أكمله مسوداً ولم يبيضه؟ خلاف لا يؤثر عندنا؛ لأن الموجود منه الآن هو قطعة، ثم كتب بعد ذلك السيوطي لباب النقول، واستفاد مما كتبه ابن حجر العسقلاني .

والكتابة في أسباب النزول كثيرة جداً، والكتب المطولات وخصوصاً الكتب التي تعتني بالإسناد يوجد فيها قطعة كبيرة جداً من أسباب النزول، ومن كتابات المعاصرين: كتاب الشيخ الدكتور خالد المزيني ، أستاذ التفسير في جامعة القصيم، واسم كتابه المحرر في أسباب النزول من خلال الكتب التسعة، وهو كتاب نفيس، وفيه مقدمة نفيسة حرر فيها أشياء تتعلق بأسباب النزول يحسن الرجوع إلى هذا الكتاب والاستفادة منه.

قال: (فيمم نحوها استفساراً)، كأنه يقول: إن أردت معرفة أساب النزول فارجع إلى هذه الكتب.

رواية الصحابة لأسباب النزول

ثم قال: (ما فيه يروى عن صحابي رفع)، يعني: ما في أسباب النزول مما يروى عن الصحابي فحكمه الرفع، يعني: هذا النوع الأول: ما يروى عن الصحابي، هل يتصور رواية سبب النزول عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! من خلال النظر في الآثار لا يوجد سبب النزول مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا القاعدة: أن أسباب النزول لها حكم الرفع، مثل ما ذكر هنا قال: (ما فيه يروى عن صحابي رفع).

ويقول السيوطي في النقاية: وما روي عن صحابي فمرفوع، ومعنى ذلك: أن أسباب النزول الصريحة إذا ثبتت عن الصحابي فإن لها حكم الرفع، أما أسباب النزول غير الصريحة فإنه لا يلزم فيها أن تكون من ما هو له حكم الرفع؛ لأنها قد تكون قيلت بالاجتهاد، وسنأتي إن شاء الله إلى تحرير هذه، لكن الآن الكلام عن أساب النزول الصريحة.

قال: (وإن بغير سند فمنقطع)، كأنه يقول: فإن كان بلا سند كما هو عبارة السيوطي فمنقطع، بمعنى أنه إذا قيل: (روي) يكون مثل المعلقات، فإذا قيل: روي عن ابن عباس في سبب نزول آية كذا كذا، فهذا انقطاع.

رواية التابعي لأسباب النزول

ثم قال: (أو تابعي فمرسل)، بمعنى أنه: إذا روى التابعي سبب النزول دون أن يذكر الصحابي فهو مرسل؛ لأنه يحكي حدثاً حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير شاهد له، فدل على وجود واسطة وهو الصحابي.

فإذاً حكم أسباب النزول التي يرويها التابعون، يروونها مباشرةً أن يقول التابعي مثل مجاهد يقول: نزلت هذه الآية في كذا، أو أن يقول: كان كذا فأنزل الله كذا، هذا له حكم المرسل؛ لسقوط الواسطة بين الصحابي وبين زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

القرائن المتعلقة بأسباب النزول

نرجع الآن إلى ما يتعلق بأسباب النزول نقرر بعض المسائل المهمة، مثلاً هو يقول: إذا كان عن الصحابي فمرفوع، المشكلة عندنا أن هذا هو سبب النزول، فما هي القرائن التي نحكم بها فنقول: هذا سبب نزول ونحكم بقرائن أخرى فنقول: هذا ليس سبب نزول؟

من أول القرائن هي عبارة النزول، ومن أفضل من فصل فيها هو شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته، فأشار: إلى أنه إذا قال الصحابي: كان كذا وكذا، فأنزل الله أو فنزلت، فهذه على أنها سبب نزول مباشرة، بمعنى: أن قولهم: (كان كذا وكذا فأنزل الله أو فنزلت)، هي من أقوى القرائن على إرادة السببية، أما إذا قال الصحابي: نزلت هذه الآية في فلان أو نزلت هذه الآية في كذا، فهذا يحتمل أن يكون من باب الاجتهاد. وهذا هو الغالب على هاتين الصيغتين.

إذاً جاءت فاء التعقيب: (فأنزل الله) فالغالب عليها أنها في أسباب النزول الصريحة، وإذا جاءت عبارة (نزلت في كذا) سواء كان شخصاً أو قضية، فالغالب أنها من باب التفسير، لكننا مع ذلك قد تأتي عبارات (نزلت في كذا) ويراد بها سبب النزول، وهذا التفصيل موجود اختصاراً في شرح مقدمة شيخ الإسلام .

فإذاً الآن عندنا القرينة الكبرى فيما يتعلق بأسباب النزول، لكن ليس حكماً قاطعاً أن عبارة: (فأنزل الله) أنها سبب نزول مباشر، ولا أيضاً حكم قاطع أنها نزلت هي من باب التفسير، لكن نقول: الغالب على تلك الصيغة السببية، والغالب على ذلك تلك الصيغة التفسير.

كيفية التعامل مع المرسلات في أسباب النزول

عندنا قضية أخرى في أسباب النزول: وهي أنه لما ذكر قول التابعي وأنه مرسل، قال: فإن كان بلا سند فمنقطع، وإن كان رواه تابعي فمرسل، كيف نتعامل مع هذه المرسلات في أسباب النزول؟

إذا جاءنا سبب نزول عن أحد التابعين وهو صريح، كأن يقول: كان كذا فأنزل الله، فهل الأصل قبوله أو التوقف فيه؟ الأصل التوقف؛ لأن حكم المرسل أنه من الضعيف، لكن لو أجرينا عملية التفسير في آية من الآيات، وظهر لنا أن ما ذكره التابعي يدخل في معنى الآية، فيجوز لنا أن نعتبره من قبيل التفسير أو لا يجوز؟ يجوز، بمعنى أن لا نغفل أسباب النزول؛ لأن القاعدة الكلية أن أسباب النزول أمثلة للفظ العام الذي نزلت به الآية، هذا هو الأصل، بمعنى أن أسباب النزول أمثلة للفظ العام الذي نزلت به الآية، وما دام أصلاً، فمعنى ذلك: أنه قد يكون عندنا بعض الأمثلة لا تدخل ضمن هذا الأصل؛ لأن سيكون هنا ما يخالف الأصل، لكن أغلب أسباب النزول هي أمثلة للعمومات الواردة في الآية، فإذا أخذنا أن أسباب النزول أمثلة، فلن يشكل عندنا من جهة التفسير أمر سبب النزول؛ لأننا سننظر هل المعنى الوارد في السبب يدخل ضمن معنى الآية أو لا يدخل؟

النظر الثاني: فيما لو أردنا أن نحرر هل هذا هو سبب النزول الصريح أو لا؟ هذه قضية أخرى، يعني: يجب أن نفرق في المقام في دراسة هذا الأثر، في الأول لا يعنينا كون هذا الأثر هو سبب نزول صريح أو ليس بصريح، صح أم لم يصح؛ لأننا ننظر إلى المعنى وصحة دخوله في الآية، لكن لو كنا نريد أن نحرر في السبب المباشر الذي عندنا خلاف فيه، وما المراد به، فهنا يأتي تحرير الإسناد في هذا المقام.

من جانب آخر في أسباب النزول هناك أمر يغفل عنه بعض من تعرض لأسباب النزول؛ لأنه أدخل مسائل علم في علم آخر، عندما قلنا: لو جاءنا سبب نزول مرسل، ولكن وجدنا أنه يدخل في معنى الآية، فنحن ندخله من باب التفسير، وليس من باب السببية الصريحة.

وفي هذا المقام نقول: أسباب النزول هل الجانب فيها جانب معنى أو جانب تاريخ، يعني: هي حكاية معاني أو حكاية تاريخ؟ هي حكاية تاريخ؛ مثلاً سبب نزول آية الإفك هي فيها جانب تاريخ أو ما فيها جانب تاريخي؟ فيها أسماء أشخاص وفيها واقعة، وفيها أيضاً: المدة التي بقيت فيها عائشة رضي الله عنها في هذا الحادث وهي لا تعلمه.

إذاً القضية مرتبطة بقصة، فإذاً عندنا هذا الجانب وذاك.

التحرير في سبب النزول وفائدته

التحرير في أسباب النزول في هذا المجال: هو بحث تاريخي محض، وربط قصة سبب النزول بالآية هذا عمل تفسيري، بمعنى: أنه يجب أن نفرق بين المهمتين. ماذا يفيدنا هذا؟ هذا يفيدنا في ما لو وقع خلاف بين المفسرين فيمن نزلت فيه الآية، إذا كان من نزلت فيه الآية يؤثر على معنى الآية، فنحن سنحرر السبب لكي يتبين لنا المعنى، وإذا كان الذي نزلت فيه الآية لا يؤثر على المعنى، فبالنسبة للتفسير لا يؤثر عندنا: هي نزلت في فلان أو نزلت في فلان، مثل: آية اللعان، قيل: نزلت في هلال ، يعني: أن صاحب القصة هلال بن أمية ، وقيل: عويمر العجلاني ، في خلاف بين العلماء فيمن نزلت فيه، يعني: من هو صاحب القصة الذي وقع له اللعان، وتحرير الخلاف فيها هل يؤثر في فهم المعنى؟ لا يؤثر، فإذاً هذا من البحث التاريخي، وليس من البحث التفسيري.

إذا تأملنا هذا الأمر فإنه سيخف عندنا شيء كبير جداً مما يتعلق بأسباب النزول، في أن النظر عندنا سيتجه إلى قضية النظر التفسيري أكثر من النظر التاريخي، وسيفيدنا في أمثله كثيرة جداً، منها: أن بعض الصحابة أو التابعين يحكي نزول الآيات المتقدمة في أحداث متأخرة، فلو أردت أن تحرر من جهة التاريخ ستقول أن هذا الحدث لا علاقة له بالآية؛ لأن الآية نزلت قبله بوقت طويل، فهذا نظر تاريخي، لكن النظر التفسيري أن تقول: هل ما في هذا الحدث يدخل في معنى الآية أو لا يدخل؟

مثال ذلك: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ [الأنفال:71]، قيل: أنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح ، لكن الآية في غزوة بدر، وحال عبد الله بن أبي السرح إنما كان بعده متأخر، فمعنى ذلك: أن الآية متقدمة على الحدث، فلا يمكن أن يكون عبد الله بن أبي السرح هو سبب نزول الآية، فلو كنا نحرر من هذه الجهة لقلنا من قال: إن سبب نزول الآية، إذا كان يريد سبب نزول مباشر، إنه قد أخطأ؛ لأننا في بحث تاريخي لا بد من ربط الآية بالحدث، لكن قلنا: أن من قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي السرح أراد أن يضرب مثالاً لمن خان الله سبحانه وتعالى ورسوله فأمكن الله منه، يدخل عبد الله بن أبي سرح أو ما يدخل؟ يدخل.

فإذاً يجب أن يكون عندنا تفريق بين البحث التاريخي والعمل التفسيري، فمهمتنا هي العمل التفسيري أكثر من البحث التاريخي، فلا نحتاج للبحث التاريخي إلا في حدود ضيقة جداً، ولهذا ضل قوم وانحرفوا من المعاصرين ممن درس أسباب النزول بأساليب ومناهج غير مناهجنا، فجاء مثلاً: إلى حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزلت عليه: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، كما روى أبو هريرة و ابن عباس : أنه صعد الصفا، وقال: (واصباحاه)، الحديث، فادعى كذب هذين العلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنهما لم يحضرا هذه الحادثة، وهذا لا شك أنه إما جهل وإما تجاهل؛ لأن أبا هريرة و ابن عباس ما قالا: شهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبرا عن الحدث كأي مخبر آخر.

فإذاً لما ينقل مثل هذه عن صحابي من الصحابة في حدث هو لم يحضره، فإنه بالنسبة لنا عندنا مقبول؛ لأنه لم يدعِ حضوره وإنما هو يرويه، فنجزم يقيناً أن ابن عباس و أبا هريرة نقلاً هذا الأثر ولم يشهداه؛ لأن أبا هريرة إنما أسلم في المدينة و ابن عباس ما ولد إلا بعد هذا الحدث بفترة، فأيضاً لا يقع تلبيس من هذه الجهة.

كذلك إذا ورد عندنا أيضاً في التفسير أسباب نزول عن تابعين وليست موجودة عن صحابة، يعني: إذا ورد عن أكثر من تابعي، فأقل الأحوال في هذا: أن هذه المرسلات تدل على أصل القصة، بحيث أن نقول: إن تكاثر هذه المرسلات يشير إلى أن هذه القصة لها ارتباط بهذه الآية، وأنها سبب نزول لها، هذا أقل الأحول، كما قلنا سابقاً: نحن ننظر إلى العمل التفسيري، فإذا كانت هذه الأقوال المرسلة التي اتفقت على حدث عام تدخل في معنى الآية، فلا إشكال في تفسير الآية بها.

ذكر بعض أسباب النزول الصحيحة

يقول بعد ذلك: (وصحت أشياء كما)، يعني: صحت في أسباب النزول مجموعة من الأسباب، وذكر لها أمثلة مثل: قصة الإفك، والسعي: حيث أن الأنصار كانت لا تسعى بين الصفا والمروة، يعني: لا تطوف بينهما تحرجاً، وكذلك آية الحجاب، وكذلك الصلاة خلف المقام كما هو ثابت عن عمر بن الخطاب ، فمعنى ذلك: أنه صحت مجموعة من أسباب النزول وهي كثيرة، فهذا مما يجب أن ينتبه له أن ما صح من أسباب النزول كثير وليس قليلاً.

بعض الانحرافات الجديدة فيما يخص أسباب النزول

هناك قضايا مهمة جداً خصوصاً في هذا العصر حيث وجدت انحرافات في علوم القرآن، وبعض هذه الانحرافات مع الأسف تصدر من أناس من أهل الصلاح، ليسوا من أهل الانحراف التام، وقد شاهدت مؤخراً مناظرة بين أحد الدكاترة المتخصصين في الدارسات القرآنية، ورجل آخر لا أعرف ما هو تخصصه، فكان يقول: أي سبب نزول لم يصرح به القرآن فأنا لا أقبله! وهذا طبعاً لا شك أنه من الغرائب، وله كتاب في أسباب النزول، وضمنه مثل هذه الأفكار.

فعندنا الآن أفكار بدأت تظهر فيها انحرافات، فنحتاج الحقيقة إلى أن يكون عندنا مع هذا التأصيل أيضاً تنبه إلى كيف نعرف أخطاء هؤلاء القوم؛ كما قال شيخ الإسلام في المقدمة: العلم بالحق هذه مرتبة، والعلم بضد الحق الذي هو الباطل مرتبة، والاستدلال للحق مرتبة، وإبطال الباطل بأدلته مرتبة، بمعنى: أنه لا بد يكون عندنا جميع هذه المراتب.

أثر أسباب النزول في التفسير

الآن أسباب النزول بناءً على ما سبق لها أثر في التفسير أو ليس لها أثر؟

نعم. أسباب النزول الأصل فيها أن لها أثراً في التفسير، وهذا هو الغالب، فمثلاً: لما نأت إلى قول الله سبحانه وتعالى: وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى [البقرة:189]، ما المراد بالبيوت هنا؟ معمر بن المثنى من كبار علماء اللغة لما جاء يفسر: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189]، قال: اطرقوا العلم من بابي ولا تسألوا الجهال، يعني: كأنه جعلها معنىً مجازي؛ لئن يسأل العالم ولا يُسأل الجاهل، ولو لم يكن عندنا سبب النزول، فاحتمال أن يكون هذا المعنى الذي ذكره صحيحاً؛ لأنه جاء بعد قول سبحانه وتعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، لكن إذا رجعنا إلى ما ثبت عن الصحابة والتابعين مع اختلافهم في سبب النزول: أن البيوت هنا: هي البيوت المسكونة، يعني: أسباب النزول وإن اختلفت فيما بينهم، إلا أنهم جعلوا البيوت البيوت المسكونة، فيتحدد عندنا الآن مدلول البيوت. إذاً له أثر في فهم المعنى، هذا هو الأصل والغالب.

لكن بعض الآيات التي نزلت على أسباب قد تكون معلومة المعنى من دون السبب لا يؤثر فيها السبب، لكنها لا تكسر هذه القاعدة أو هذا الأصل، مثلاً قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ [الممتحنة:1]، لو تأملت الآيات في ظاهرها ستصل إلى المعنى بدون أي عناء، ولا تحتاج فيه لسبب النزول، ولو لم تعلم أنها نزلت في قصة حاطب بن أبي بلتعة وما حصل منه لما أراد أن يخبر قريش بمقدم الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم عام الفتح، فإنه لا يؤثر على فهمك للمعنى، فالآيات واضحة بدون أن يكون السبب مصاحباً لها، لكن لا شك أن وجود السبب يقوي صحة هذا المعنى.

فإذاً ينتبه هل سبب النزول بالفعل إذا فقدناه في الآية أشكل علينا المعنى، أو أننا لو لم نكن نعلم به فإن المعنى معلوم؟ الأول: هو الذي تكلم عنه العلماء لما قال مثل ابن دقيق العيد : إن معرفة سبب نزول طريق قوي لمعرفة معنى الآية، وكذلك شيخ الإسلام أشار إلى هذا المعنى، فنقول: هذا في الغالب من أسباب النزول، لكن قد ترد بعض الآيات لها أسباب نزول، وتكون معلومة المعنى، وإن جهل السبب.

يقول الناظم: (وصنف الأئمة الأسفار فيه)، أي: في أسباب النزول، وقد ذكر السيوطي في إتمام الدراية كتابين: الكتاب الأول هو كتاب الواحدي أسباب النزول، وهو أشهر كتب أسباب النزول، والكتاب محقق في عدة طبعات، وذكر الكتاب الثاني: وهو لـابن حجر رحمه الله تعالى، وقال عنه: أنه في غاية النفاسة وهذا صحيح، وقد طبع جزء منه، والكتاب لم يكتمل، وفيه خلاف هل أكمله ابن حجر أو لم يكمله؟ يعني: هل أكمله مسوداً ولم يبيضه؟ خلاف لا يؤثر عندنا؛ لأن الموجود منه الآن هو قطعة، ثم كتب بعد ذلك السيوطي لباب النقول، واستفاد مما كتبه ابن حجر العسقلاني .

والكتابة في أسباب النزول كثيرة جداً، والكتب المطولات وخصوصاً الكتب التي تعتني بالإسناد يوجد فيها قطعة كبيرة جداً من أسباب النزول، ومن كتابات المعاصرين: كتاب الشيخ الدكتور خالد المزيني ، أستاذ التفسير في جامعة القصيم، واسم كتابه المحرر في أسباب النزول من خلال الكتب التسعة، وهو كتاب نفيس، وفيه مقدمة نفيسة حرر فيها أشياء تتعلق بأسباب النزول يحسن الرجوع إلى هذا الكتاب والاستفادة منه.

قال: (فيمم نحوها استفساراً)، كأنه يقول: إن أردت معرفة أساب النزول فارجع إلى هذه الكتب.

ثم قال: (ما فيه يروى عن صحابي رفع)، يعني: ما في أسباب النزول مما يروى عن الصحابي فحكمه الرفع، يعني: هذا النوع الأول: ما يروى عن الصحابي، هل يتصور رواية سبب النزول عن النبي صلى الله عليه وسلم؟! من خلال النظر في الآثار لا يوجد سبب النزول مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا القاعدة: أن أسباب النزول لها حكم الرفع، مثل ما ذكر هنا قال: (ما فيه يروى عن صحابي رفع).

ويقول السيوطي في النقاية: وما روي عن صحابي فمرفوع، ومعنى ذلك: أن أسباب النزول الصريحة إذا ثبتت عن الصحابي فإن لها حكم الرفع، أما أسباب النزول غير الصريحة فإنه لا يلزم فيها أن تكون من ما هو له حكم الرفع؛ لأنها قد تكون قيلت بالاجتهاد، وسنأتي إن شاء الله إلى تحرير هذه، لكن الآن الكلام عن أساب النزول الصريحة.

قال: (وإن بغير سند فمنقطع)، كأنه يقول: فإن كان بلا سند كما هو عبارة السيوطي فمنقطع، بمعنى أنه إذا قيل: (روي) يكون مثل المعلقات، فإذا قيل: روي عن ابن عباس في سبب نزول آية كذا كذا، فهذا انقطاع.

ثم قال: (أو تابعي فمرسل)، بمعنى أنه: إذا روى التابعي سبب النزول دون أن يذكر الصحابي فهو مرسل؛ لأنه يحكي حدثاً حصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير شاهد له، فدل على وجود واسطة وهو الصحابي.

فإذاً حكم أسباب النزول التي يرويها التابعون، يروونها مباشرةً أن يقول التابعي مثل مجاهد يقول: نزلت هذه الآية في كذا، أو أن يقول: كان كذا فأنزل الله كذا، هذا له حكم المرسل؛ لسقوط الواسطة بين الصحابي وبين زمن النبي صلى الله عليه وسلم.

نرجع الآن إلى ما يتعلق بأسباب النزول نقرر بعض المسائل المهمة، مثلاً هو يقول: إذا كان عن الصحابي فمرفوع، المشكلة عندنا أن هذا هو سبب النزول، فما هي القرائن التي نحكم بها فنقول: هذا سبب نزول ونحكم بقرائن أخرى فنقول: هذا ليس سبب نزول؟

من أول القرائن هي عبارة النزول، ومن أفضل من فصل فيها هو شيخ الإسلام ابن تيمية في مقدمته، فأشار: إلى أنه إذا قال الصحابي: كان كذا وكذا، فأنزل الله أو فنزلت، فهذه على أنها سبب نزول مباشرة، بمعنى: أن قولهم: (كان كذا وكذا فأنزل الله أو فنزلت)، هي من أقوى القرائن على إرادة السببية، أما إذا قال الصحابي: نزلت هذه الآية في فلان أو نزلت هذه الآية في كذا، فهذا يحتمل أن يكون من باب الاجتهاد. وهذا هو الغالب على هاتين الصيغتين.

إذاً جاءت فاء التعقيب: (فأنزل الله) فالغالب عليها أنها في أسباب النزول الصريحة، وإذا جاءت عبارة (نزلت في كذا) سواء كان شخصاً أو قضية، فالغالب أنها من باب التفسير، لكننا مع ذلك قد تأتي عبارات (نزلت في كذا) ويراد بها سبب النزول، وهذا التفصيل موجود اختصاراً في شرح مقدمة شيخ الإسلام .

فإذاً الآن عندنا القرينة الكبرى فيما يتعلق بأسباب النزول، لكن ليس حكماً قاطعاً أن عبارة: (فأنزل الله) أنها سبب نزول مباشر، ولا أيضاً حكم قاطع أنها نزلت هي من باب التفسير، لكن نقول: الغالب على تلك الصيغة السببية، والغالب على ذلك تلك الصيغة التفسير.

عندنا قضية أخرى في أسباب النزول: وهي أنه لما ذكر قول التابعي وأنه مرسل، قال: فإن كان بلا سند فمنقطع، وإن كان رواه تابعي فمرسل، كيف نتعامل مع هذه المرسلات في أسباب النزول؟

إذا جاءنا سبب نزول عن أحد التابعين وهو صريح، كأن يقول: كان كذا فأنزل الله، فهل الأصل قبوله أو التوقف فيه؟ الأصل التوقف؛ لأن حكم المرسل أنه من الضعيف، لكن لو أجرينا عملية التفسير في آية من الآيات، وظهر لنا أن ما ذكره التابعي يدخل في معنى الآية، فيجوز لنا أن نعتبره من قبيل التفسير أو لا يجوز؟ يجوز، بمعنى أن لا نغفل أسباب النزول؛ لأن القاعدة الكلية أن أسباب النزول أمثلة للفظ العام الذي نزلت به الآية، هذا هو الأصل، بمعنى أن أسباب النزول أمثلة للفظ العام الذي نزلت به الآية، وما دام أصلاً، فمعنى ذلك: أنه قد يكون عندنا بعض الأمثلة لا تدخل ضمن هذا الأصل؛ لأن سيكون هنا ما يخالف الأصل، لكن أغلب أسباب النزول هي أمثلة للعمومات الواردة في الآية، فإذا أخذنا أن أسباب النزول أمثلة، فلن يشكل عندنا من جهة التفسير أمر سبب النزول؛ لأننا سننظر هل المعنى الوارد في السبب يدخل ضمن معنى الآية أو لا يدخل؟

النظر الثاني: فيما لو أردنا أن نحرر هل هذا هو سبب النزول الصريح أو لا؟ هذه قضية أخرى، يعني: يجب أن نفرق في المقام في دراسة هذا الأثر، في الأول لا يعنينا كون هذا الأثر هو سبب نزول صريح أو ليس بصريح، صح أم لم يصح؛ لأننا ننظر إلى المعنى وصحة دخوله في الآية، لكن لو كنا نريد أن نحرر في السبب المباشر الذي عندنا خلاف فيه، وما المراد به، فهنا يأتي تحرير الإسناد في هذا المقام.

من جانب آخر في أسباب النزول هناك أمر يغفل عنه بعض من تعرض لأسباب النزول؛ لأنه أدخل مسائل علم في علم آخر، عندما قلنا: لو جاءنا سبب نزول مرسل، ولكن وجدنا أنه يدخل في معنى الآية، فنحن ندخله من باب التفسير، وليس من باب السببية الصريحة.

وفي هذا المقام نقول: أسباب النزول هل الجانب فيها جانب معنى أو جانب تاريخ، يعني: هي حكاية معاني أو حكاية تاريخ؟ هي حكاية تاريخ؛ مثلاً سبب نزول آية الإفك هي فيها جانب تاريخ أو ما فيها جانب تاريخي؟ فيها أسماء أشخاص وفيها واقعة، وفيها أيضاً: المدة التي بقيت فيها عائشة رضي الله عنها في هذا الحادث وهي لا تعلمه.

إذاً القضية مرتبطة بقصة، فإذاً عندنا هذا الجانب وذاك.

التحرير في أسباب النزول في هذا المجال: هو بحث تاريخي محض، وربط قصة سبب النزول بالآية هذا عمل تفسيري، بمعنى: أنه يجب أن نفرق بين المهمتين. ماذا يفيدنا هذا؟ هذا يفيدنا في ما لو وقع خلاف بين المفسرين فيمن نزلت فيه الآية، إذا كان من نزلت فيه الآية يؤثر على معنى الآية، فنحن سنحرر السبب لكي يتبين لنا المعنى، وإذا كان الذي نزلت فيه الآية لا يؤثر على المعنى، فبالنسبة للتفسير لا يؤثر عندنا: هي نزلت في فلان أو نزلت في فلان، مثل: آية اللعان، قيل: نزلت في هلال ، يعني: أن صاحب القصة هلال بن أمية ، وقيل: عويمر العجلاني ، في خلاف بين العلماء فيمن نزلت فيه، يعني: من هو صاحب القصة الذي وقع له اللعان، وتحرير الخلاف فيها هل يؤثر في فهم المعنى؟ لا يؤثر، فإذاً هذا من البحث التاريخي، وليس من البحث التفسيري.

إذا تأملنا هذا الأمر فإنه سيخف عندنا شيء كبير جداً مما يتعلق بأسباب النزول، في أن النظر عندنا سيتجه إلى قضية النظر التفسيري أكثر من النظر التاريخي، وسيفيدنا في أمثله كثيرة جداً، منها: أن بعض الصحابة أو التابعين يحكي نزول الآيات المتقدمة في أحداث متأخرة، فلو أردت أن تحرر من جهة التاريخ ستقول أن هذا الحدث لا علاقة له بالآية؛ لأن الآية نزلت قبله بوقت طويل، فهذا نظر تاريخي، لكن النظر التفسيري أن تقول: هل ما في هذا الحدث يدخل في معنى الآية أو لا يدخل؟

مثال ذلك: وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ [الأنفال:71]، قيل: أنها نزلت في عبد الله بن أبي السرح ، لكن الآية في غزوة بدر، وحال عبد الله بن أبي السرح إنما كان بعده متأخر، فمعنى ذلك: أن الآية متقدمة على الحدث، فلا يمكن أن يكون عبد الله بن أبي السرح هو سبب نزول الآية، فلو كنا نحرر من هذه الجهة لقلنا من قال: إن سبب نزول الآية، إذا كان يريد سبب نزول مباشر، إنه قد أخطأ؛ لأننا في بحث تاريخي لا بد من ربط الآية بالحدث، لكن قلنا: أن من قال: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي السرح أراد أن يضرب مثالاً لمن خان الله سبحانه وتعالى ورسوله فأمكن الله منه، يدخل عبد الله بن أبي سرح أو ما يدخل؟ يدخل.

فإذاً يجب أن يكون عندنا تفريق بين البحث التاريخي والعمل التفسيري، فمهمتنا هي العمل التفسيري أكثر من البحث التاريخي، فلا نحتاج للبحث التاريخي إلا في حدود ضيقة جداً، ولهذا ضل قوم وانحرفوا من المعاصرين ممن درس أسباب النزول بأساليب ومناهج غير مناهجنا، فجاء مثلاً: إلى حديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أنزلت عليه: وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ [الشعراء:214]، كما روى أبو هريرة و ابن عباس : أنه صعد الصفا، وقال: (واصباحاه)، الحديث، فادعى كذب هذين العلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بدعوى أنهما لم يحضرا هذه الحادثة، وهذا لا شك أنه إما جهل وإما تجاهل؛ لأن أبا هريرة و ابن عباس ما قالا: شهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما أخبرا عن الحدث كأي مخبر آخر.

فإذاً لما ينقل مثل هذه عن صحابي من الصحابة في حدث هو لم يحضره، فإنه بالنسبة لنا عندنا مقبول؛ لأنه لم يدعِ حضوره وإنما هو يرويه، فنجزم يقيناً أن ابن عباس و أبا هريرة نقلاً هذا الأثر ولم يشهداه؛ لأن أبا هريرة إنما أسلم في المدينة و ابن عباس ما ولد إلا بعد هذا الحدث بفترة، فأيضاً لا يقع تلبيس من هذه الجهة.

كذلك إذا ورد عندنا أيضاً في التفسير أسباب نزول عن تابعين وليست موجودة عن صحابة، يعني: إذا ورد عن أكثر من تابعي، فأقل الأحوال في هذا: أن هذه المرسلات تدل على أصل القصة، بحيث أن نقول: إن تكاثر هذه المرسلات يشير إلى أن هذه القصة لها ارتباط بهذه الآية، وأنها سبب نزول لها، هذا أقل الأحول، كما قلنا سابقاً: نحن ننظر إلى العمل التفسيري، فإذا كانت هذه الأقوال المرسلة التي اتفقت على حدث عام تدخل في معنى الآية، فلا إشكال في تفسير الآية بها.