إنهم فتية آمنوا بربهم


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا. من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

قال تعالى: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13].

من هؤلاء الفتية؟ وما شأنهم؟ ولماذا اعتزلوا قومهم، وهجروا ديارهم، وفارقوا أهلهم؟ لماذا تجردوا من زينة الأرض ومتاع الحياة؟ ما هي القضية التي تشغلهم.

إنهم أشداء في أجسامهم، أشداء في إيمانهم، أشداء في استنكار ما كان عليه القوم، كانوا بين خيارين: إما أن يرضوا بمتاع الحياة الدنيا وزخرفها، أو يفروا بدينهم وعقيدتهم، فاختاروا ما جعل لهم قيمة وشأناً، إنه الإيمان، قال عنهم سبحانه: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ .

إن الإيمان يصنع حياة بعد موت، قال الله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ [الأنعام:122]، ويصنع عزاً بعد ذل، قال الله: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:139]، ويصنع شجاعة وإقداماً بعد خوف وإحجام، قال الله: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173].

إن الإيمان يجعل للحياة طعماً، وللدنيا لوناً وللقلب ثباتاً، وللصدر انشراحاً، وللطاعة حلاوة، وللمعصية نكارة، والإيمان اطمئنان وإيثار، ولجوء إلى الله، واعتماد عليه، وأنس وسعادة به، وخلوة معه، ورحمة منه.

تأمل وانظر كيف انقلب الكهف إلى مأوى؟ قال الله: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16].

إن من آثار الإيمان وثمراته، تثبيت الله لأهله، قال الله: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14].

إن الاعتراف بالعبودية عزة يعتز بها أصحاب الكهف كما قال الله عنهم: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، وأي عزة أعظم من أن تكون عبداً لله؟

ومما زادني شرفاً وتيهاً

وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك: يا عبادي!

وأن صيرت أحمد لي نبياً

لقد أنكر أهل الإيمان هؤلاء الباطل، فقال الله تعالى على لسانهم: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الكهف:15] أي باطل أعظم من الشرك بالله؟

إن القلوب المؤمنة تعلم أن ما على الأرض إنما جعل للابتلاء والامتحان، وأن نهاية هذا الكون إلى الفناء والزوال، قال الله: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [الكهف:7-8].

ذكر أكثر من واحد من السلف والخلف: أن فتية الكهف كانوا أبناء ملوك، لكن الإيمان الراسخ أمام الفتن والشهوات يجعل أهل الإيمان في حرص على دينهم وعقيدتهم؛ لأن الدين غالٍ، ولا مجال لتعريضه للخطر، فأعز ما يملك المؤمن هو دينه وإيمانه، تأمل في دعائه صلى الله عليه وسلم: (اللهم احفظني في ديني ودنياي)، وفي قوله: (اللهم أصلح لي ديني)، وقوله: (ولا تجعل مصيبتي في ديني)، وليس التشريف في الآية لفتية الكهف فقط، بل لكل من سار على دربهم وطريقهم.

إن فتية اليوم في أمس الحاجة لسماع أخبار فتية الأمس، ونحن نستمد من الماضي قوة؛ لأن الماضي متصل بالحاضر، وإن كان فتية الأمس قد استطاعوا فإن فتية اليوم أيضاً عندهم القدرة والاستطاعة على أن يفعلوا كما فعل فتيان الأمس، كيف لا والمصدر واحد، والمنبع واحد، قال الله: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92].

والشباب أقبل للحق، وأهدى للسبيل، ولقد كان أكثر المستجيبين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم هم الشباب، فكتاب الوحي هم الشباب، وحفظة السنة هم الشباب، وسفراء الرسول صلى الله عليه وسلم هم الشباب، وشعراؤه صلى الله عليه وسلم هم الشباب، وقادة الجيوش يمنة ويسرة هم الشباب، فعلى أكتافهم تقوم الحضارات، وتنهض الأمم, وفي ورقات ست سوف نسوق أخبارهم:

الورقة الأولى: الفتية وطلب العلم.

الورقة الثانية: الفتية وظلام الليل.

الورقة الثالثة: الفتية وعزة المؤمنين.

الورقة الرابعة: في ساحات الوغى اشتاقت لهم الجنة واشتاقوا لها.

الورقة الخامسة: ما الذي حدث؟ وكيف تبدل الحال؟

ثم الورقة الأخيرة: همسة لها لحواء.

الورقة الأولى: من صفات الفتية: أنهم طلاب علم، فبالعلم يعبد الله ويوحد، وبالعلم يقدس الله ويمجد، وقد رفع الله أهل الإيمان والعلم على غيرهم درجة، كيف لا والعلم طريق من طرق الجنة، وطلاب العلم أخشى الناس لله من غيرهم، فهم ورثة الأنبياء، والله يقول: وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114].

جاء في فضل العلم وأهله: عن معاوية رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).

وعن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع، وإن العالم ليستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء، والأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)، والأحاديث في فضل العلم وأهله كثيرة.

وروى الوليد بن مسلم قال: شيعنا الأوزاعي وقت انصرافنا من عنده، فأبعد في تشييعنا، فمشى معنا فرسخين أو ثلاثة، فقلنا له: أيها الشيخ! يصعب عليك المشي على كبر السن قال: امشوا واسكتوا، لو علمت أن لله قوماً يباهي بهم أفضل منكم لمشيت معهم وشيعتهم، ولكنكم أفضل الناس.

وسئل ابن المبارك : لو أن الله أوحى إليك أنك سوف تموت العشية، فماذا تصنع اليوم؟ قال: أقوم وأطلب العلم.

وقال صلى الله عليه وسلم من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان: أحدهما عابد والآخر عالم، فقال عليه الصلاة والسلام: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت في البحر ليصلون على معلم الناس الخير).

صفات طالب العلم

حتى تكون من طلاب العلم وفتيانه لابد من صفات وخصائص ومميزات لابد أن تتحلى بها:

أولها: فتية العلم أصحاب همم عالية! كان أسد بن الفرات قد خرج من القيروان إلى الشرق سنة مائة واثنين وسبعين؛ فسمع الموطأ من مالك في المدينة، ثم رحل إلى العراق فسمع من أصحاب أبي حنيفة وتفقه عليهم، وقد حضر مجلس محمد بن الحسن الشيباني وقال له: إني غريب، قليل النفقة، والسماع منك شرف، ولكن الطلبة من حولك كثير، فما حيلتي؟ فقال له محمد بن الحسن : استمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتبيت عندي وتقرأ علي وأسمعك، قال أسد : فكنت أبيت عنده، وينزل إلي، ويجعل بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة؛ فإن أطال الليل ونعستُ ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه طوال الليل، ودأبي معه حتى أتيت على ما أريد من السماع منه.

صدقوا حين قالوا: من طلب العلا سهر الليالي.

قال ابن القيم رحمه الله: فإذا نام المسافر واستطال الطريق، فمتى يصل إلى المقصود؟!

وقال ابن أبي حاتم : كنا بمصر سبعة أشهر في طلب العلم لم نحصل فيه على مرقد. نهارنا ندور على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً، فقالوا: هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت تنتن، فأكلناها نيئة ولم نتفرغ لنشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.

ثانيها: إن أردن أن تكون من طلاب العلم وفتيته فلابد أن تحرص على الوقت، ولا تنشغل بتوافه الأمور، قال الله عنهم: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، هذا نهارهم. أما ليلهم: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:64-65]، وقال عنهم: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] وكل باطل زور، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، فلا ترى فتى العلم إلا في فرض يؤديه، أو خير يعمله.

روي أنه أحضر فيل في المدينة المنورة، وكان مالك بن أنس يدرس في المسجد، فقال قائل: حضر الفيل، فقام تلاميذ مالك ينظرون إلى الفيل وتركوا الشيخ، إلا يحيى بن يحيى الليثي الأندونيسي ، فقال له مالك : لم لم تخرج لترى هذا الخلق العجيب وليس في بلادك مثله؟ قال: إنما أتيت لآخذ علمك، ولم آت لأنظر إلى الفيل.

ففتى العلم حريص على وقته، مترفع عن توافه الأمور، والعمر لا يقاس بالسنين ولكن بالإنجازات التي تنجز فيه.

ثالثها: العمل بالعلم، فمن أراد أن يكون من فتية العلم وطلابه فلا بد من أن يعمل بالعلم الذي تعلمه.

كتب الإمام الغزالي رحمه الله إلى أحد تلامذته حين طلب منه أن يقدم له نصيحة، فقال: يا ولدي! النصيحة سهلة، ولكن الصعب قبولها؛ لأنها في فم من لم يتعودها مرة المذاق، وإن من يحصل العلم ولا يعمل به تكون الحجة عليه أعظم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه)، وقالوا: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب حل، وإلا ارتحل، ولابد مع العمل من صدق وإخلاص.

حتى تكون من طلاب العلم وفتيانه لابد من صفات وخصائص ومميزات لابد أن تتحلى بها:

أولها: فتية العلم أصحاب همم عالية! كان أسد بن الفرات قد خرج من القيروان إلى الشرق سنة مائة واثنين وسبعين؛ فسمع الموطأ من مالك في المدينة، ثم رحل إلى العراق فسمع من أصحاب أبي حنيفة وتفقه عليهم، وقد حضر مجلس محمد بن الحسن الشيباني وقال له: إني غريب، قليل النفقة، والسماع منك شرف، ولكن الطلبة من حولك كثير، فما حيلتي؟ فقال له محمد بن الحسن : استمع مع العراقيين بالنهار، وقد جعلت لك الليل وحدك، فتبيت عندي وتقرأ علي وأسمعك، قال أسد : فكنت أبيت عنده، وينزل إلي، ويجعل بين يديه قدحاً فيه ماء، ثم يأخذ في القراءة؛ فإن أطال الليل ونعستُ ملأ يده ونضح وجهي بالماء فأنتبه، فكان ذلك دأبه طوال الليل، ودأبي معه حتى أتيت على ما أريد من السماع منه.

صدقوا حين قالوا: من طلب العلا سهر الليالي.

قال ابن القيم رحمه الله: فإذا نام المسافر واستطال الطريق، فمتى يصل إلى المقصود؟!

وقال ابن أبي حاتم : كنا بمصر سبعة أشهر في طلب العلم لم نحصل فيه على مرقد. نهارنا ندور على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً، فقالوا: هو عليل، فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا، فلم تزل السمكة ثلاثة أيام، وكادت تنتن، فأكلناها نيئة ولم نتفرغ لنشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.

ثانيها: إن أردن أن تكون من طلاب العلم وفتيته فلابد أن تحرص على الوقت، ولا تنشغل بتوافه الأمور، قال الله عنهم: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63]، هذا نهارهم. أما ليلهم: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا [الفرقان:64-65]، وقال عنهم: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72] وكل باطل زور، وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، فلا ترى فتى العلم إلا في فرض يؤديه، أو خير يعمله.

روي أنه أحضر فيل في المدينة المنورة، وكان مالك بن أنس يدرس في المسجد، فقال قائل: حضر الفيل، فقام تلاميذ مالك ينظرون إلى الفيل وتركوا الشيخ، إلا يحيى بن يحيى الليثي الأندونيسي ، فقال له مالك : لم لم تخرج لترى هذا الخلق العجيب وليس في بلادك مثله؟ قال: إنما أتيت لآخذ علمك، ولم آت لأنظر إلى الفيل.

ففتى العلم حريص على وقته، مترفع عن توافه الأمور، والعمر لا يقاس بالسنين ولكن بالإنجازات التي تنجز فيه.

ثالثها: العمل بالعلم، فمن أراد أن يكون من فتية العلم وطلابه فلا بد من أن يعمل بالعلم الذي تعلمه.

كتب الإمام الغزالي رحمه الله إلى أحد تلامذته حين طلب منه أن يقدم له نصيحة، فقال: يا ولدي! النصيحة سهلة، ولكن الصعب قبولها؛ لأنها في فم من لم يتعودها مرة المذاق، وإن من يحصل العلم ولا يعمل به تكون الحجة عليه أعظم، كما قال صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه)، وقالوا: العلم يهتف بالعمل، فإن أجاب حل، وإلا ارتحل، ولابد مع العمل من صدق وإخلاص.

الورقة الثانية: الفتية وظلام الليل.

إن أردت أن تكون خالصاً لله بالنهار فلابد أن تكون خالصاً له بالليل، والظلام سر من الأسرار، وفي جوف الظلام يتربى الفتية الذين آمنوا بربهم، قال الله جل في علاه: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6]، وقال عنهم: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا [السجدة:16].

إن الصلاة في ظلام الليل من أفضل الطاعات وأجل القربات بعد الصلوات المفروضات، ولقد كان سيد القائمين صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فإذا سئل عن ذلك قال: (أفلا أكون عبداً شكوراً؟!).

وكان يربى الفتيان على القيام في ظلام الليل -لأنه لا تربية أعظم من التربية السرية بين العبد وبين ربه- فيقول: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم الليل)، فلما أخبر عبد الله بخبر النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك قيام الليل.

روى مسلم عن أبي هريرة : أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصلاة بعد المكتوبة؟ فقال: (أفضل الصلاة بعد المكتوبة الصلاة في جوف الليل).

وفي حديث عذب جميل أخرجه النسائي وصححه الترمذي وابن خزيمة وابن حبان والحاكم عن أبي ذر رضي الله عنه مرفوعاً: (ثلاثة يحبهم الله عز وجل، فذكر منهم: وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النوم أحب إليهم مما يعدل به نزلوا فوضعوا رءوسهم، فقام عبدي يتملقني ويتلو آياتي) قام الذي بينه وبين الله أسرار يتملق ربه ويتلو آياته، وأي شيء أعظم من الانكسار بين يديه سبحانه في ظلام الليل؟! وفضل الصلاة في ظلام الليل معلوم، ولا يقدر عليها إلا متجرد عظيم الإخلاص، ولذلك قالوا: لا يقوم الليل منافق.

قلت لليل: هل بجوفك سرٌ

عامر بالحديث والأسرار؟

قال: لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحار

وللفتية في نبيهم أسوة، فعن علي رضي الله عنه قال: (ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح) رواه أحمد بإسناد صحيح.

إن من دأب الصالحين قيام الليل، واللجوء إلى الله عند الشدائد والفتن، وأي شدائد أعظم مما نمر به في مثل هذه الأيام؟!

يقول ابن مسعود : ما سمعنا مناشداً ينشد ضالة أشد من مناشدة محمد صلى الله عليه وسلم لربه يوم بدر، كان يقول في مناشدته لربه: (اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد، اللهم لا تودع مني، اللهم لا تحذلني، اللهم لا تترني، اللهم أنشدك ما وعدتني، اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني به) يدعو ويردد ويلح على ربه في الدعاء حتى يسقط رداءه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه فقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك لربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9] هذا هو الزاد عند الشدائد، وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ [فاطر:14].

لقد تعلم الفتية من نبيهم فن التضرع والبكاء في ظلام الليل، قال الذهبي : وممن كان يصلي صلاة طويلة من العشاء إلى الفجر علي بن الحسين زين العابدين ، كان إذا أطل عليه الليل وأقبل عليه النهار توضأ وأتى فراشه وقال: ما أحسنك وما أدفأك، ولكن في الجنة أحسن منك وأروح منك وأدفأ منك، والله لا أنام حتى الصباح، فكان يصلي حتى الفجر، فإذا طلع الفجر رؤي على وجهه قبس من نور وشعاع من بياض.

قيل للحسن البصري : إن الذين يقومون الليل على وجوههم نور؟ قال: خلوا به في الظلام فكساهم من نوره.

ومن فتية الظلام أيضاً: الربيع بن خثيم ، كان يقول: أكثروا من ذكر الموت فهو غائبكم المرتقب، وإن الغائب إذا طالت غيبته أوشكت أوبته، وترقبه ذووه، ثم استعبر وقال: ماذا نصنع غداً إذا دكت الأرض دكاً دكاً، وجاء ربك والملك صفاً صفاً، وجيء يومئذ بجهنم؟

كان الربيع لا ينام، فتصحو أمه فتجده صافاً في محرابه، كادحاً في مناجاة ربه، مستغرقاً في صلاته، فتناديه وتقول: ألا تنام يا ربيع ؟! فيقول: يا أماه! كيف ينام من جن عليه الليل وهو يخشى البيات، يعني: هجوم الخصوم، لقد أرق أمه كثرة تضرعه وبكائه وشدة نحيبه في عتمات الليل والناس نيام حتى ظنت به الظنون، فصاحت تناديه: ما الذي أصابك يا بني؟! لعلك أتيت جرماً، لعلك قتلت نفساً؟ قال: نعم يا أماه! لقد قتلت نفساً، فقالت في لهفة: ومن هذا القتيل حتى نجعل الناس يسعون إلى أهله لعلهم يعفون عنك؟ والله لو علم أهل القتيل ما تعاني من البكاء، وما تكابد من السهر لرحموك، فقال: لا تكلمي أحداً يا أماه! إنما قتلت نفسي بالذنوب والمعاصي.

إنه تلميذ ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقرب الصحابة من النبي صلى الله عليه وسلم، كان ابن مسعود يقول للربيع : ما رأيتك مرة إلا ذكرت المخبتين، وكان يقول له: يا أبا يزيد ! لو رآك النبي صلى الله عليه وسلم لأحبك.

الورقة الثالثة: الفتية وعزة المؤمنين.

قال الله جل في علاه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا [فاطر:10]، وقال: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8].

في موقف عصيب، وفي أيام شديدة، تجمع فيها الكفر وأحزابه في يوم الأحزاب -وما أشبه اليوم بالأمس- لاستئصال شوكة الإسلام، وجاءوا ليطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، يصور القرآن هول ذلك اليوم وشدته، فيقول سبحانه: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10]، يظن المنافقون وليس المؤمنون، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا [الأحزاب:11].

في مثل هذه المواقف العصيبة تظهر عزة الفتية الذين آمنوا بربهم، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الجموع قد تجمعت حول المدينة، وقد تآمر اليهود والمشركون وألبوا قبائلهم واستجمعوا، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفف من ضغط الحصار الخانق الذي تتعرض له المدينة وأهلها، فاتصل بقائدي غطفان سراً عيينة بن حصن والحارث بن عوف ، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم بحنكته السياسية، وخبرته بنفسيات الرجال أن غطفان وقادتها ليس لهم هدف سياسي أو باعث عقدي، وليس لهم هم سوى الحصول على المال والغنائم، فاجتمع بهم صلى الله عليه وسلم سراً وعرض عليهم عقد صلحٍ منفرد بين المسلمين وغطفان، وهو: أن تتوقف غطفان عن القيام بأي عمل حربي، وتكف الحصار عن المدينة، وتنسحب برجالها، على أن يدفع المسلمون لغطفان مقابل ذلك ثلث ثمار المدينة، فقبلت غطفان هذا العقد؛ لأنهم ما خرجوا إلا للمكسب المادي، واشترط النبي صلى الله عليه وسلم موافقة فتية الأوس والخزرج على هذا الاتفاق قبل توقيعه، فجمع النبي صلى الله عليه وسلم السعدين: سعد بن معاذ سيد الأوس وسعد بن عبادة سيد الخزرج، وعرض عليهما الأمر بحضور قادة غطفان، واستمع السعدان إلى النبي صلى الله عليه وسلم ثم قالا: يا رسول الله! أمراً تحبه فتصنعه لنا؟ أم شيئاً أمرك الله به لابد لنا من العمل به؟ إن كان أمراً من السماء فامض لما أمرك الله، وإن كان أمراً لم تؤمر به ولك فيه رغبة فسمعاً وطاعة، وإن كان إنما هو الرأي فاسمع يا رسول الله منا: نحن وهؤلاء القوم كنا على كفر وشرك وعبادة للأصنام، وما كانوا يأكلون ثمارنا إلا قرىً -أي: ضيوفاً عندنا- أو بيعاً، واليوم بعد أن أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا إليه، وأعزنا بك نعطيهم أموالنا؟ والله ما بيننا وبينهم إلا السيف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو كان أمراً أمرني الله به ما شاورتكما، ووالله ما أصنع ذلك إلا لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة، وكالبوكم من كل جانب، فأردت أن أكسر شوكتهم إلى أمر ما).

وهكذا فإن العزة لا تظهر إلا في أوقات الشدائد، قال الله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:8]، إنها العزة المستمدة من كتاب الله، ويواسي الله المؤمنين في قوله: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:139-142].

لقد انقلبت الموازين يوم ثبت الفتية على دينهم، وأظهروا عزتهم بالإسلام، قال الله تعالى: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ [الأحزاب:25]، ونصرهم الله وهم قلة، قال الله سبحانه: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران:123]، لما كانوا رهباناً بالليل استطاعوا أن يكونوا فرساناً بالنهار.

الورقة الرابعة: الفتية في ساحات الوغى اشتاقوا للجنة واشتاقت الجنة لهم.

إن صفقة غالية تمت بين الله جل في علاه وبين الفتية المؤمنين، هم باعوا والله اشترى، على أن يكون الثمن الجنة، فالمشتري هو الله، والبائعون هم فتية الإسلام، قال الله: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [الفتح:10]، وعند الأزمات تظهر معادن الرجال.

من أعظم صفات الفتية: أنهم شجعان، وأنهم لله جند، همهم: أن تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، شعارهم:

نحن الذين بايعوا محمداً

على الجهاد ما بقينا أبداً

وشعارهم أيضاً:

كنا جبالاً فوق الجبال وربما

صرنا على موج البحار بحاراً

لقد اشتاقوا إلى الجنة واشتاقت لهم.

منذ الساعات الأولى لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم والتحاقه بالرفيق الأعلى، وقفت قبائل العرب تخرج من دين الله أفواجاً كما دخلت فيه أفواجاً، حتى لم يبق على الإسلام إلا مكة والمدينة والطائف وجماعات متفرقة هنا وهناك، فثبت الله قلوب أهل الإيمان لما نصروا دينهم، وصمد الصديق رضي الله عنه لهذه الفتنة المدمرة صمود الجبال الراسيات، وجهز من المهاجرين والأنصار أحد عشر جيشاً، وعقد لقادة هذه الجيوش أحد عشر لواء، ودفع بهم في أرجاء الجزيرة؛ ليعيدوا المرتدين إلى سبيل الهدى والحق، فإن عادوا سلماً وإلا فالسيف بيننا وبينهم.

كان أقوى المرتدين بأساً وأكثرهم عدداً بني حنيفة، أصحاب مسيلمة الكذاب ، فلقد اجتمع له أربعون ألفاً من أشداء المحاربين، فأرسل لهم الصديق جيشاً بقيادة عكرمة بن أبي جهل فرده مسيلمة على أعقابه، فقال أبو بكر: ليس لها إلا خالد ، فأرسل خالداً ومعه فتية آمنوا بربهم من المهاجرين والأنصار، والتقى الجيشان على أرض اليمامة في نجد، فما هو إلا قليل حتى رجحت كفة مسيلمة وأصحابه، وزلزلت الأرض تحت أقدام الفتية المؤمنين، وأخذوا يتراجعون عن مواقفهم حتى اقتحم أصحاب مسيلمة خيمة خالد واقتلعوها من أصولها، عند ذلك شعر المسلمون بالخطر الساخن، وانطلقت الآيات والتكبيرات، الآيات كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ [الأنفال:15]، وكقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الأنفال:45]، أدرك الفتيان أن الدين في خطر، وأنهم إن يهزموا أمام مسيلمة لن تقوم للإسلام قائمة، ولن يعبد الله وحده لا شريك له في جزيرة العرب، فنظم خالد الصفوف، وميز المهاجرين عن الأنصار، وارتفعت رايات لا إله إلا الله، وهب نسيم الجنان، وعلت التكبيرات، وتنادى القوم: إنا لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء، وليرين الله ما نصنع، ثم كر القوم على القوم، فدارت رحى معركة ضروس لم تعرف حروب المسلمين لها نظيراً من قبل، ثبت قوم مسيلمة في ساحات الوغى، ولم يأبهوا لكثرة ما أصابهم من القتل، وأظهر الفتية خوارق البطولات وسجلوا ملحمة من الملحمات.

صفحات مجد في الخلود سطروها

ذات الرجال لها بغير جدال

فهذا فتى الأنصار ثابت بن قيس حامل لواء الأنصار يتحنط ويتكفن، ويحفر لنفسه حفرة في الأرض، وينزل فيها إلى نصف ساقيه، ويبقى ثابتاً في موقفه يساند ويقاتل عن راية التوحيد، حتى خر صريعاً شهيداً، ولسان حاله:

يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها

وهذا فتى آخر وهو زيد بن الخطاب، أخو عمر رضي الله عنهم أجمعين، ينادي في المسلمين: أيها الناس! عضوا على أضراسكم، واضربوا في رقاب عدوكم، وامضوا قدماً، أيها الناس! والله لا أتكلم بعد هذه الكلمة أبداً حتى يهزم مسيلمة أو ألقى الله فأدلي إليه بحجتي، الله أكبر، الله أكبر، ثم كر على القوم فما زال يقاتل حتى قتل، وآيات الله تناديه: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169]، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].

وهذا مولى أبي حذيفة يحمل راية المهاجرين فيخشى عليه قومه أن يضعف أو يستكين أو يتزعزع فقالوا له: إنا لنخشى أن نؤتى من قبلك، فقال: إن أتيتم من قبلي فبئس حامل القرآن أكون أنا، ثم كر على الأعداء كر الأسود حتى أصيب.

كرر علي حديثهم يا حادي فحديثهم يجلو الفؤاد الصادي

ولما رأى خالد وطيس المعركة قد حمي واشتد التفت إلى البراء بن مالك وقال: إليهم يا فتى الأنصار! فالتفت البراء إلى قومه وقال: يا معشر الأنصار! يا معشر الأنصار! لا يفكرن أحد منكم بالرجوع إلى المدينة، فلا مدينة لكم بعد اليوم، إنما هو الله وحده ثم الجنة، قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:4-7]، ثم حمل على المشركين وحملوا معه، وأعملوا السيوف في رقاب الأعداء حتى تقهقر مسيلمة وأصحابه، فلجئوا إلى الحديقة التي عرفت فيما بعد باسم حديقة الموت.

دخل مسيلمة وجنده الحديقة وأغلقوا الأبواب وتحصنوا بالجدران العالية، وأخذوا يمطرون المسلمين بنبالهم، فتقدم فتى الأنصار المغوار البراء بن مالك فقال: يا قوم! ضعوني على جحف وارفعوه على الرماح، ثم اقذفوني إلى الحديقة قريباً من بابهم، فإما أن أنال الشهادة وإما أن أفتح لكم الباب.

لقد كان في عملية استشهادية لا يقوم بها إلا فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، فوضعوه على جحف وكان نحيل الجسم لكنه قوي الإيمان، ورفعته عشرات الرماح فألقته في حديقة الموت بين آلاف مؤلفة من جنود الكفار فنزل عليهم نزول الصاعقة، فأخذ يقاتلهم وحيداً فريداً والله معه، ويعمل في رقابهم أمام باب الحديقة، فقتل منهم عشرة وفتح الباب، وبه بضع وثمانون جرحاً ما بين رمية بسهم وضربة بسيف، فتدفق المسلمون على باب الحديقة، وأعملوا السيوف في رقاب المرتدين حتى قتلوا منهم أكثر من عشرين ألفاً، ووصلوا إلى مسيلمة الكذاب فتناوشته السيوف والرماح حتى أردوه قتيلاً، وحمل الفتى المغوار إلى رحله، وأقام عليه خالد شهراً يعالجه من جراحه حتى شفاه الله، وكتب لجند المسلمين على يديه النصر.

بمثل هؤلاء تنتصر الأمة.

ملكنا هذه الدنيا القرونا

وأخضعها جدود خالدونا

وسطرنا صحائف من ضياء فما نسي الزمان ولا نسينا

بنينا حقبة في الأرض ملكاً

يدعمه شباب طامحونا

شباب ذللوا سبل المعالي

وما عرفوا سوى الإسلام ديناً

تعهدهم فأنبتهم نباتاً كريماً طابت الدنيا غصونا

إذا شهدوا الوغى كانوا كماة

يدكون المعاقل والحصونا

شباب لن تحطمه الليالي

ولن يسلم إلى الخصم العرينا

وإن جن المساء فلا تراهم

من الإشفاق إلا ساجدينا

ولم تشهدهمُ الأقداح يوماً

وقد ملئوا نواديهم مجونا

وما عرفوا الأغاني ماجنات

ولكن العلا صيغت لحونا

هذه أخبارهم، فما أخبارنا؟ وأفعالهم، فما أفعالنا؟ وتضحياتهم، فما تضحياتنا؟ ومواقف فتيانهم، فأين فتياننا؟

أما الديار فكأنها كديارهم

وأرى رجال الحي غير رجالهم

الورقة الخامسة: ما الذي حدث؟ وكيف تبدل الحال؟ قال الله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم:59].

خلف من بعدهم خلف استبدلوا التسبيح والتهليل والتكبير بالقيل والقال، وكثرة السؤال، واستبدلوا السواك بالسيجارة، والقرآن بالمجلة، ومجالس العلم بمجالس الأفلام والمسلسلات، وتلاوة القرآن بسماع الأغاني والألحان، ورايات الجهاد برايات الضياع والعناد، بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا [الكهف:50].

يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا

أو ما لنا سعد ولا مقداد؟

هذه بساتين الجنان تزينت

للخاطبين فأين من يرتاد

يا ليل أمتنا الطويل متى نرى

فجراً تغرد فوقه الأمجاد

دعنا نسافر في دروب آبائنا

ولنا من الهمم العظيمة زاد

ولكن مهما طال الليل لابد للنهار أن ينجلي، وها نحن نرى كل يوم أفواج الشباب تعود وترجع، وتنضم إلى أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم، ها هي تباشير الصباح قد ظهرت وأنتم ثمارها، فيا شباب الإسلام! يا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، يا من دك أجدادكم دولة الأصنام، أنتم الأمل بعد الله لقيادة البشرية، وإنقاذ الإنسانية، من سيقود الناس إلا أنتم، ومن سيهديهم إلى سبل الرشاد إلا أنتم؟

رويداً بني روما فللحرب فتية

تهيج الظبى أطرافهم واللهاذم

إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13].


استمع المزيد من الشيخ خالد الراشد - عنوان الحلقة اسٌتمع
انها النار 3542 استماع
بر الوالدين 3421 استماع
أحوال العابدات 3410 استماع
يأجوج ومأجوج 3348 استماع
البداية والنهاية 3335 استماع
وقت وأخ وخمر وأخت 3269 استماع
أسمع وأفتح قلبك - ذكرى لمن كان له قلب 3254 استماع
أين دارك غداً 3204 استماع
هذا ما رأيت في رحلة الأحزان 3097 استماع
أين أنتن من هؤلاء؟ 3096 استماع