تاريخ القرآن الكريم [4]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فنكمل ما بدأنا فيه مما يتعلق بتاريخ القرآن، وقد وقفت بكم في اللقاء السابق فيما يتعلق بجمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت لكم جوانب من العناية النبوية بما يتعلق بجمع القرآن، سواء الجمع الذي هو تلاوته وحفظه، أو الجمع الذي هو: كتابته وتدوينه، واليوم نكمل فقرة كنت قد نسيتها بالأمس فيما يتعلق بقضية تاريخ القرآن في العهد النبوي، ثم نكمل إن شاء الله مرحلة أبي بكر و عمر و عثمان ، ثم بعد ذلك نقف في الدرس القادم إن شاء الله عند بعض المشكلات المتعلقة بتاريخ القرآن أو تاريخ المصحف.

بقي علينا فيما يتعلق بنزول القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم الحديث عن نزول القرآن على سبعة أحرف.

وحديث الأحرف السبعة حديث مشهور ويكاد يبلغ حد التواتر، والروايات الواردة عن الصحابة في هذا كثيرة أكتفي منها بهذا الحديث، وقد سبقت الإشارة إلى حديث غيره وهو حديث أبي بن كعب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاة بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم أتاه الثانية فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الثالثة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك، ثم جاء الرابعة فقال: إن الله يأمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة أحرف، فأيما حرف قرأوا عليه فقد أصابوا )، هذه إحدى روايات هذا الحديث، الذي هو حديث الأحرف السبعة، وهو حديث مشهور ومعروف عند أهل العلم.

القراءة في العهد المكي على حرف واحد ونزول الرخصة بالقراءة بالسبعة في المدينة

لن ندخل في المراد بالأحرف السبعة الآن فسنأتي له لاحقاً إن شاء الله، لكن المقصد من هذا من جهة التاريخ أن نعلم أنه في العهد المدني نزلت الرخصة بالأحرف السبعة، ومعنى هذا: أنه قبل نزول الرخصة بالأحرف السبعة كان القرآن يقرأ على حرف واحد، وهو الموافق للغة قريش؛ لأنه نزل بلسانها.

ومما يستأنس به على أن نزول الرخصة بالأحرف السبعة كان في المدينة، رواية أبي بن كعب وهو مدني، ومما يدل على ذلك وهو أقوى من هذا قوله: ( كان عند أضاة بني غفار )، وأضاة بني غفار كما ذكر في (معجم ما استعجم) أنها موضع بالمدينة نزله بنو غفار فسمي باسمهم، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم من حين بعث لم يذهب إلى المدينة إلا بعد هجرته، فبعد أن هاجر بدأت العلاقة بالمدينة، فكونه يكون في هذا الموضع من أضاة بني غفار فيه دلالة على أنه كان في المدينة.

فإذاً: الأحرف السبعة نزلت الرخصة بها في المدينة، وقد استظهر الشيخ الدكتور عبد العزيز قاري في كتابه: (حديث الأحرف السبعة) أن نزول الرخصة كان في العام التاسع، الذي هو عام الوفود، وإذا صح هذا فإنه يتناسب مع هذا العام الذي هو عام الوفود؛ لأن الوفود كانت تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب أن يقرئهم بما يتناسب مع لهجاتهم مما هو نازل من الأحرف السبعة.

يضاف أيضاً إلى أدلة حصول الرخصة بها في المدينة: استنكار أبي بن كعب -وقد سبقت الإشارة إليه- لما سمع صحابيين يقرآن بغير ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه أمر جديد طارئ في العهد المدني؛ لأنه لو كان من العهد المكي لما كان منه هذا الاستنكار، فاستنكاره هذا فيه أيضاً دلالة على أن هذا كان في العهد المدني.

ومن الدلالات المهمة في هذا الحديث التي تعنينا في هذا المجال في تاريخ القرآن: أن هذه الأحرف نزلت من عند الله، وقد سبق أن ذكرت لكم دلالة هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: ( هكذا أنزلت )، فهذا يعني: أنه لا يصح لأحد أن يترك النازل، ولا يصح لأحد أن يغير في النازل حتى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون ذلك بوحي.

الأحرف السبعة وحي نازل من عند الله

فإذاً: جميع ما يتعلق بالأحرف السبعة هو من الوحي النازل، لا يجوز ترك شيء منه إلا بأمر من أنزله، وهذه قاعدة في الأحرف السبعة سنحتاجها عندما نتكلم عن عمل عثمان رضي الله عنه.

فالقاعدة: أن الأحرف السبعة نزلت من عند الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( هكذا أنزلت )، فلا يحق لأحد أن يرفع منها شيئاً إلا من أنزلها.

لن ندخل في المراد بالأحرف السبعة الآن فسنأتي له لاحقاً إن شاء الله، لكن المقصد من هذا من جهة التاريخ أن نعلم أنه في العهد المدني نزلت الرخصة بالأحرف السبعة، ومعنى هذا: أنه قبل نزول الرخصة بالأحرف السبعة كان القرآن يقرأ على حرف واحد، وهو الموافق للغة قريش؛ لأنه نزل بلسانها.

ومما يستأنس به على أن نزول الرخصة بالأحرف السبعة كان في المدينة، رواية أبي بن كعب وهو مدني، ومما يدل على ذلك وهو أقوى من هذا قوله: ( كان عند أضاة بني غفار )، وأضاة بني غفار كما ذكر في (معجم ما استعجم) أنها موضع بالمدينة نزله بنو غفار فسمي باسمهم، ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم من حين بعث لم يذهب إلى المدينة إلا بعد هجرته، فبعد أن هاجر بدأت العلاقة بالمدينة، فكونه يكون في هذا الموضع من أضاة بني غفار فيه دلالة على أنه كان في المدينة.

فإذاً: الأحرف السبعة نزلت الرخصة بها في المدينة، وقد استظهر الشيخ الدكتور عبد العزيز قاري في كتابه: (حديث الأحرف السبعة) أن نزول الرخصة كان في العام التاسع، الذي هو عام الوفود، وإذا صح هذا فإنه يتناسب مع هذا العام الذي هو عام الوفود؛ لأن الوفود كانت تأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فكان من المناسب أن يقرئهم بما يتناسب مع لهجاتهم مما هو نازل من الأحرف السبعة.

يضاف أيضاً إلى أدلة حصول الرخصة بها في المدينة: استنكار أبي بن كعب -وقد سبقت الإشارة إليه- لما سمع صحابيين يقرآن بغير ما سمع من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه أمر جديد طارئ في العهد المدني؛ لأنه لو كان من العهد المكي لما كان منه هذا الاستنكار، فاستنكاره هذا فيه أيضاً دلالة على أن هذا كان في العهد المدني.

ومن الدلالات المهمة في هذا الحديث التي تعنينا في هذا المجال في تاريخ القرآن: أن هذه الأحرف نزلت من عند الله، وقد سبق أن ذكرت لكم دلالة هذا بقوله صلى الله عليه وسلم: ( هكذا أنزلت )، فهذا يعني: أنه لا يصح لأحد أن يترك النازل، ولا يصح لأحد أن يغير في النازل حتى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن يكون ذلك بوحي.

فإذاً: جميع ما يتعلق بالأحرف السبعة هو من الوحي النازل، لا يجوز ترك شيء منه إلا بأمر من أنزله، وهذه قاعدة في الأحرف السبعة سنحتاجها عندما نتكلم عن عمل عثمان رضي الله عنه.

فالقاعدة: أن الأحرف السبعة نزلت من عند الله؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( هكذا أنزلت )، فلا يحق لأحد أن يرفع منها شيئاً إلا من أنزلها.

نأتي الآن إلى جمع أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ حينما نرجع إلى الحديث الذي رواه الأئمة بأسانيدهم عن زيد بن ثابت رضي الله عنه نجد أنه هو الأصل الذي اعتمد في جمع أبي بكر، فجميع ما يتعلق بجمع أبي بكر موجود في أثر زيد هذا.

يقول زيد : (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن؛ فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن)، إذاً: فـ عمر عرض على أبي بكر، ثم فتح الله على قلب أبي بكر بصحة ما ذهب إليه عمر، ثم دعوا زيداً فحصل لـزيد مثلما حصل لـأبي بكر في أول الأمر، قال: فقال أبو بكر: قلت لـعمر : كيف أفعل شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال عمر : هو والله خير، قال: فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر ).

نشأة طبقة القراء

بدأت تنشأ طبقة عند الصحابة وهي طبقة القراء، وقد استمرت هذه الطبقة حتى في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ بدليل حديث زيد بن ثابت الأول؛ لأنه قال: (أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن).

قال زيد بن ثابت : (و عمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه، قال - أي: زيد - : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن! قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر و عمر ، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة:128].. إلى آخرهما).

قال: (وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر ) هذا الأثر الوارد في جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ، وهو أجمع أثر فيما يتعلق بجمع القرآن.

الداعي لجمع القرآن في عهد أبي بكر

لو نظرنا إلى هذا الأثر وسألنا سؤالاً: ما هو سبب الجمع؟ أو ما الذي دعا إلى الجمع؟

فإن الجواب: هو القتل الذي استحر في المواطن في قراء القرآن في عهد أبي بكر ؛ أيام حروب الردة.

فإذاً: خشي من موت القراء فأراد أن يجمع المصحف.

الأصل في قراءة القرآن المحفوظ لا المرسوم

هنا مسألة لطيفة ننتبه لها أيضاً مرتبطة بتاريخ القرآن:

فقد سبق أن ذكرت لكم قاعدة لا زلت أكررها: أيهما أغلب على الثاني: القراءة والحفظ أو الرسم؟

مداخلة: القراءة.

الشيخ: القراءة؛ ولهذا لم يقل: أن تذهب الصحف التي بأيدي الصحابة، وإنما قال ماذا؟

مداخلة: يذهب القراء.

الشيخ: يذهب القراء يعني: الأصل إذاً هو؟

مداخلة: القراء.

الشيخ: هذا تجعلونه ضمن الأدلة في أن الأصل في قراءة القرآن ما هو؟

مداخلة: الحفظ.

الشيخ: الحفظ، الأصل الحفظ؛ ولهذا خشي أن يذهب القراء.

الصفات التي أهلت زيداً لتولي مهمة جمع القرآن

وهناك مسألة أخرى فيما يتعلق بهذا الأثر وهي الصفات التي أهلت زيداً لأن يتولى مهمة الجمع؛ قال له أبو بكر : (إنك رجل شاب) إذاً قضية مرحلة الشباب هذه لها أثر في تحمل العمل، وهذا ظاهر.

ومن باب الاستطراد والفائدة: بعض المؤسسات الخيرية مع جلالة من يتولى منصبها من كبار السن إلا أنك لا تجد في الغالب أن همته في الانطلاق بالمؤسسة الخيرية مثل همة الشباب؛ ولهذا من باب النصيحة: الإنسان إذا بلغ مبلغاً كبيراً في السن الأحسن في حاله أن يترك الإدارة إلى الاستشارة، يعني: لا يكون هو الذي يدير العمل، وإنما يخرج لمنطقة الاستشارة. وإلا فإن بعض كبار السن مع جلالتهم ومع حفظنا لحقهم في كبر السن والعلم والعمل أيضاً، إلا أنا نقول: إن الأمور تتجدد؛ فإذا لم يتابع فإنه يبقى بطرائق قديمة، قد تؤثر على تقدم وسير العمل، فوجوده في باب الاستشارة أنفع، فلا يترك مطلقاً فهذا أولى.

وهذا يشير إليه أبو بكر وإلا فقد كان يستطيع أن يعطي هذا العمل من هو أمثل من زيد في الإيمان مثل عثمان بن عفان و علي بن أبي طالب ، لكن كان كل واحد منهم له عمله، ولعله منشغل بأشياء أخرى أما زيد فلم تكن حاله حال المنشغل، شاب متفرغ للإقراء وهو سيد من سادات القراء.

فقوله: (شاب) هذه واحدة، (عاقل) والعقل صفة مهمة جداً؛ فهذه إذاً الصفة الثانية، قال بعد ذلك: (لا نتهمك) إذاً فيه صفة الأمانة، فاجتمع الشباب والعقل والأمانة، ثم قال: (كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم) وفيه إشارة إلى الخصوصية، إذاً كان عنده خصوصية كتابة الوحي، هذه الصفة الرابعة.

حصول الإجماع على جمع القرآن في عهد أبي بكر

لما انتهى الأمر أبو بكر الصديق من جمع المصحف، أريد أن تنتبهوا إلى استنباط هذا الأمر، هل خالف أحد من الصحابة في رأي أبي بكر في زيد بن ثابت ؟

مداخلة: لا أحد.

الشيخ: ما أحد خالفه في رأي زيد بن ثابت ، وهل خالف أحد أبا بكر في جمعه لهذه الصحف؟ تنتبهون لهذه أيضاً لأننا سنتفيد منها فيما بعد، نلاحظ أنه من خلال التاريخ لا يوجد أي اعتراض على فعل أبي بكر ، بل مدحه الصحابة في ذلك، مدحه علي بن أبي طالب وغيره.

لا نجد أي اعتراض على اختيار زيد بن ثابت ، ولا نجد أي اعتراض على الصفات التي ذكرها في زيد بن ثابت ؛ لأنه يذكرها والصحابة متوافرون، ما أحد اعترض على زيد بن ثابت بأنه كذا أو كذا؛ إذاً هذه قضايا مهمة.

وإنما نتكلم بهذه الطريقة لأننا نحن المسلمين يجب أن يكون عندنا الثقة المطلقة -وإن كانت موجودة ولله الحمد- لكن كونها تكون مدعمة بالدليل أقوى.

فالصحابة رضي الله عنهم وهم متوافرون اتفقوا جميعاً على ما فعل أبو بكر وأيضاً على ما قاله؛ ولهذا جاءوا سراعاً إلى هذا المشروع وقدموا ما عندهم كما يقول زيد : (فتتبعت القرآن من..) إلى آخره.

والطرائق التي عملها تدل على أنه قد عاونه جميع الصحابة، فكانوا يداً واحدة في إنجاح هذا المشروع.

إذاً: هذا عمل جماعي وليس عمل فرد، صحيح أن القائم به، المشرف عليه زيد بن ثابت أولاً ويساعده عمر بن الخطاب كما في بعض الآثار، لكن العمل هو عمل جماعي للكل. ولو أردنا أن نمثله بمثل مقارب فنقول:

لو جئنا إلى قرية تعدادها مثلاً ثلاثون نسمة وقلنا لهم: إنا سنبني مثلاً مسجداً والمشرف على المسجد هو فلان، وجمعوا ما يستطيعونه؛ وأعطوه هذا المشرف، ثم بدأ بالمشروع، هل المشروع هذا هو عمل المشرف هذا فقط، أو عمل الجماعة كلها؟ هو في الحقيقة عمل الجماعة كلها، لكن هو كان له حق الإشراف المباشر، وهذه نفس قضية جمع المصحف. والدليل على ذلك: أنه لم يعترض واحد من الصحابة على هذا العمل، ولا على ما في مصحف أبي بكر الذي جمع، وهذه القضية مهمة يجب أن ننتبه لها وهي معتبرة ، يعني: الأصل فيها الاعتبار؛ لأنه اعتبار الإجماع، فضلاً عن أنه جاءت آثار عن علي بن أبي طالب وغيره تمدح هذا العمل على وجه الخصوص.

حضور زيد بن ثابت العرضة الأخيرة

وهناك مسألة أيضاً يحسن أن نتنبه لها وهي: أن أبا بكر رضي الله عنه لم يذكر كون زيد بن ثابت حضر العرضة الأخيرة، مع أنه اشتهر أنه ممن حضر العرضة الأخيرة، لكن كون زيد بن ثابت هو الكاتب الخاص للوحي عند النبي صلى الله عليه وسلم هذه لا خلاف فيها، لكن نحتاج إلى دليل مستقل صريح وصحيح في أن زيد بن ثابت قد حضر العرضة الأخيرة.

وحضوره العرضة الأخيرة معناه: أنه يحضر وهو يسمع النبي صلى الله عليه وسلم يتلو على جبريل، ولا يلزم أن يرى جبريل، لكن يسمع النبي صلى الله عليه وسلم.

مصادر جمع زيد بن ثابت القرآن

عندنا المسألة الثالثة فيما يتعلق بمصادر زيد في الجمع؛ لأن زيداً يقول: (فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب..) الرقاع والأكتاف والعسب كلها تمثل المسطور يعني: المكتوب، هذه أدوات الكتابة؛ فإذاً هذا القسم الأول، يعني: يتتبعه في المكتوب.

ثم قال بعد ذلك: (وصدور الرجال..) أي: يتتبعه في المحفوظ، إذاً: مصدر الجمع هو: المكتوب والمحفوظ.

قال: (حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ[التوبة:128])، وهما بالنسبة له أمر معلوم، هو يعرفها، لكنه من باب زيادة التوثيق كان يحرص على أن يوجد إما شيء مكتوب وإما شيء محفوظ، وإما مكتوب ومحفوظ معاً، بحيث يجتمع في هذا المكتوب مع المحفوظ ولا يكتفي بمحفوظه هو فقط، وإلا فيستطيع هو أن يكتب القرآن كاملاً؛ لأنه كان يحفظ القرآن كاملاً، وهو الكاتب الخاص للنبي صلى الله عليه وسلم، لكنه مع ذلك أراد الزيادة في التوثيق؛ جمع ما بأيدي الناس من المكتوب وسمع ما عند الصحابة من المحفوظ.

وتأمل مشقة هذا العمل، كل صحابي حافظ يأتيه ويسمع منه كل ما يحفظ، إذاً عمل وجهد يجب أن ننتبه له في ذلك الزمن، فهو جهد جبار جداً.

وكما قلت سابقاً: ارجعوا بالزمن لهذه الفترة، التي هي فترة الصحابة رضي الله عنهم وتخيلوا ذلك العدد من الصحابة رضي الله عنهم وتخيلوا هذا العمل و زيد بن ثابت جالس ليس عنده شغل شاغل إلا هذا العمل، الذي هو جمع القرآن في مصحف واحد؛ فلا شك أن هذا العمل يعتبر عملاً جباراً، وليس عملاً سهلاً؛ ولهذا قال: (لو كلفتموني نقل جبل من الجبال لكان أسهل)، وقد صدق، فأنتم تخيلوا الحدث هذا؛ فستجدون أنه بالفعل عمل يستحق أن يقال عنه: إنه من الأعمال الجبارة، الكبيرة جداً، التي تنوء بحملها الرجال.

بدأت تنشأ طبقة عند الصحابة وهي طبقة القراء، وقد استمرت هذه الطبقة حتى في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه؛ بدليل حديث زيد بن ثابت الأول؛ لأنه قال: (أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن).

قال زيد بن ثابت : (و عمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه، قال - أي: زيد - : فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن! قلت: كيف تفعلان شيئاً لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر و عمر ، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ [التوبة:128].. إلى آخرهما).

قال: (وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر ) هذا الأثر الوارد في جمع القرآن في عهد أبي بكر الصديق ، وهو أجمع أثر فيما يتعلق بجمع القرآن.

لو نظرنا إلى هذا الأثر وسألنا سؤالاً: ما هو سبب الجمع؟ أو ما الذي دعا إلى الجمع؟

فإن الجواب: هو القتل الذي استحر في المواطن في قراء القرآن في عهد أبي بكر ؛ أيام حروب الردة.

فإذاً: خشي من موت القراء فأراد أن يجمع المصحف.

هنا مسألة لطيفة ننتبه لها أيضاً مرتبطة بتاريخ القرآن:

فقد سبق أن ذكرت لكم قاعدة لا زلت أكررها: أيهما أغلب على الثاني: القراءة والحفظ أو الرسم؟

مداخلة: القراءة.

الشيخ: القراءة؛ ولهذا لم يقل: أن تذهب الصحف التي بأيدي الصحابة، وإنما قال ماذا؟

مداخلة: يذهب القراء.

الشيخ: يذهب القراء يعني: الأصل إذاً هو؟

مداخلة: القراء.

الشيخ: هذا تجعلونه ضمن الأدلة في أن الأصل في قراءة القرآن ما هو؟

مداخلة: الحفظ.

الشيخ: الحفظ، الأصل الحفظ؛ ولهذا خشي أن يذهب القراء.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
تاريخ القرآن الكريم [2] 3327 استماع
تاريخ القرآن الكريم [5] 3196 استماع
تاريخ القرآن الكريم [6] 3002 استماع
تاريخ القرآن الكريم [7] 2328 استماع
تاريخ القرآن الكريم [1] 2218 استماع
تاريخ القرآن الكريم [3] 2123 استماع