تاريخ القرآن الكريم [7]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

فهذا اللقاء نعقده للحديث عن تاريخ القرآن بعد جمع عثمان رضي الله تعالى عنه.

الأمصار التي أرسل عثمان إليها مصاحف والمقرئين

جمع عثمان رضي الله عنه الناس على المصاحف وأرسل للأقطار الخمسة -بعد أن أبقى مصحفاً في المدينة وكان عند زيد -، فأرسل إلى مكة مصحفاً وكان المقرئ عبد الله بن السائب ، وإلى الشام وكان المقرئ المغيرة بن شهاب ، وإلى الكوفة وكان المقرئ أبا عبد الرحمن السلمي ، وإلى البصرة وكان المقرئ عامر بن قيس .

فهذه الأمصار التي أرسل إليها عثمان رضي الله عنه المصاحف وانتسخ لنفسه مصحفاً.

أحياناً علماء الرسم يطلقون عليه "المصحف الإمام" الذي يخصون به مصحف عثمان الذي كان بيديه، وأحيانًا يقولون: المصحف الإمام ويريدون أحد المصاحف الستة، يعني: مصحف عثمان وما معه.

أسباب عدم إرسال مصاحف إلى اليمن ومصر والبحرين

ذكر في بعض الآثار أن عثمان أرسل إلى اليمن ومصر والبحرين، خصوصاً اليمن والبحرين، ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أنه لم يكن لأهل اليمن والبحرين ومصر مصاحف والسبب الذي يمكن أن يقال في مثل هذا: أن المناطق التي أرسل إليها عثمان رضي الله عنه في تلك الفترة كانت مناطق التفويج أو الورود للجهاد، يعني: إما أن تكون مناطق تفويج، أو تكون مناطق ورود، فما من أحد من المسلمين إلا ويمر إلى مكة والمدينة، فأهل اليمن وأهل البحرين يأخذون من هؤلاء، والدليل على ذلك تتبع التاريخ، فلو راجعنا تاريخ القراءات في اليمن، وفي البحرين، وفي مصر؛ فسنجد أنها قد أخذت من أحد هؤلاء القراء.

وقد كانت البصرة والكوفة والشام في ذلك الوقت مناطق حضرية فيها ورود ثم تصدير للمجاهدين حتى للعلماء.

فإذاً: الحراك الأكثر في الناس كان في هذه المناطق، فيبدو - والله أعلم - أن عثمان بن عفان اختار هذه دون غيرها لهذا السبب، وليس لكون الصحابة غير قادرين على زيادة المصاحف، وإنما اكتفوا بهذا العدد لأجل هذا الغرض والله أعلم. هذا تخريج لسبب تخصيص هذه المدن بالذات دون غيرها.

جمع عثمان رضي الله عنه الناس على المصاحف وأرسل للأقطار الخمسة -بعد أن أبقى مصحفاً في المدينة وكان عند زيد -، فأرسل إلى مكة مصحفاً وكان المقرئ عبد الله بن السائب ، وإلى الشام وكان المقرئ المغيرة بن شهاب ، وإلى الكوفة وكان المقرئ أبا عبد الرحمن السلمي ، وإلى البصرة وكان المقرئ عامر بن قيس .

فهذه الأمصار التي أرسل إليها عثمان رضي الله عنه المصاحف وانتسخ لنفسه مصحفاً.

أحياناً علماء الرسم يطلقون عليه "المصحف الإمام" الذي يخصون به مصحف عثمان الذي كان بيديه، وأحيانًا يقولون: المصحف الإمام ويريدون أحد المصاحف الستة، يعني: مصحف عثمان وما معه.

ذكر في بعض الآثار أن عثمان أرسل إلى اليمن ومصر والبحرين، خصوصاً اليمن والبحرين، ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أنه لم يكن لأهل اليمن والبحرين ومصر مصاحف والسبب الذي يمكن أن يقال في مثل هذا: أن المناطق التي أرسل إليها عثمان رضي الله عنه في تلك الفترة كانت مناطق التفويج أو الورود للجهاد، يعني: إما أن تكون مناطق تفويج، أو تكون مناطق ورود، فما من أحد من المسلمين إلا ويمر إلى مكة والمدينة، فأهل اليمن وأهل البحرين يأخذون من هؤلاء، والدليل على ذلك تتبع التاريخ، فلو راجعنا تاريخ القراءات في اليمن، وفي البحرين، وفي مصر؛ فسنجد أنها قد أخذت من أحد هؤلاء القراء.

وقد كانت البصرة والكوفة والشام في ذلك الوقت مناطق حضرية فيها ورود ثم تصدير للمجاهدين حتى للعلماء.

فإذاً: الحراك الأكثر في الناس كان في هذه المناطق، فيبدو - والله أعلم - أن عثمان بن عفان اختار هذه دون غيرها لهذا السبب، وليس لكون الصحابة غير قادرين على زيادة المصاحف، وإنما اكتفوا بهذا العدد لأجل هذا الغرض والله أعلم. هذا تخريج لسبب تخصيص هذه المدن بالذات دون غيرها.

بعد أن انتهى الاختلاف في القراءات وحددت القراءات الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ووزعت هذه المصاحف كما سبق أن نبهتكم على التفريق بين ما لا يمكن رسمه وما لا يمكن، وأرسل معها هؤلاء القراء؛ صار كل مصر يقرءون بحسب المصحف الذي أرسل إليهم وحسب الإمام الذي يقرئهم فيه، بمعنى: أن رسم المصحف له اعتبار في قضايا وهو مرجع فيها، مثل: قضية الحذف والإثبات كقوله تعالى: تَجْرِي تَحْتَهَا[التوبة:100]، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا[البقرة:25].

لما أقرأ هؤلاء الناس القرآن، وصاروا مرجعهم في الإقراء فإنه لم يوجد أي خلاف في قبول ما أقرأ به هؤلاء، وما فيه هذه المصاحف بين المسلمين إطلاقاً، عدا الكلام الذي ذكرناه عن ابن مسعود وانتهى، لكن بعد جيل الصحابة لا يوجد اختلاف بين المسلمين إطلاقاً في قبول ما أقرأ به هؤلاء وما في هذه المصاحف، بمعنى: أنه حدث الإجماع جيلاً بعد جيل على ما في هذه المصاحف، وعلى ما أقرأ به هؤلاء، والدليل على ذلك: أنك ستجد أن هؤلاء هم الطرق إلى القراءات السبع والعشر.

من أوائل القراء

بدأ يظهر بعد جيل الصحابة القراء المختصون بالإقراء منذ جيل التابعين، وحينما نتتبع كتب القراءات والتراجم نجد أنه ظهر في طبقة التابعين قراء متخصصون في الإقراء، مثل أبي عبد الرحمن السلمي وهو من كبار قراء التابعين، وقد جلس في مسجد الكوفة يعلم الناس القرآن فقط مدة أربعين سنة، والذي أجلسه - كما قال هو - قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، فتصور هذا العمر أربعين سنة في تخصص واحد، وهو الإقراء، وقس عليه غيره من علماء القرآن إلى اليوم، بروز التخصص الدقيق في قضية الإقراء.

وهذه المرحلة كانت قبل تسبيع السبعة وتعشير العشرة، ويمكن أن نسميها بمرحلة ظهور الإقراء في الأمصار، وتصدر علماء القراءة بطبقاتهم، حتى صار الإقراء ظاهراً بارزاً، وأضحى من العلوم التي يقصد إليها العالم مثل ما قصد ورش نافع بن أبي نعيم وقرأ عليه القرآن، وكانوا يقصدون نافعاً من جميع الأقطار ويقرءون عليه. أما قضية اختيار القراء فستأتي.

فإذاً هذه المرحلة يمكن أن نسميها بمرحلة: ظهورا الإقراء والمقرئين المتخصصين في القرآن.

ضعف بعض أئمة الإقراء وسببه

هؤلاء تخصصوا وتمحضوا للإقراء فقط؛ ولهذا لا تستغرب أن يوجد في بعضهم من ينسب إلى الضعف في علم الرواية في الحديث، لكنه في القراءة إمام؛ ولذا تجد في تراجم بعضهم أنه: إمام في القراءة، لكنه لين في الحديث أو ضعيف؛ لأن هذا تخصص في الإقراء، وضبط القراءة غير ضبط الأحاديث النبوية.

فلا إشكال في هذا، وهذا أمره واضح جدًا مستقرأ بالعقل؛ فهناك أناس يكونون متخصصين في شأن واحد، ويكون أحدهم أضبط من الآخر.

فإن قال قائل: كلها رواية: رواية قرآن، ورواية حديث، فلماذا اختلف الرأي فيه؟ فنقول: نعم، كلها رواية، لكن هذا تخصص وهذا تخصص؛ وعلينا أن نستحضر هذا الأمر ونحن نتحدث عن تاريخ القراءة.

بدأ يظهر بعد جيل الصحابة القراء المختصون بالإقراء منذ جيل التابعين، وحينما نتتبع كتب القراءات والتراجم نجد أنه ظهر في طبقة التابعين قراء متخصصون في الإقراء، مثل أبي عبد الرحمن السلمي وهو من كبار قراء التابعين، وقد جلس في مسجد الكوفة يعلم الناس القرآن فقط مدة أربعين سنة، والذي أجلسه - كما قال هو - قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( خيركم من تعلم القرآن وعلمه )، فتصور هذا العمر أربعين سنة في تخصص واحد، وهو الإقراء، وقس عليه غيره من علماء القرآن إلى اليوم، بروز التخصص الدقيق في قضية الإقراء.

وهذه المرحلة كانت قبل تسبيع السبعة وتعشير العشرة، ويمكن أن نسميها بمرحلة ظهور الإقراء في الأمصار، وتصدر علماء القراءة بطبقاتهم، حتى صار الإقراء ظاهراً بارزاً، وأضحى من العلوم التي يقصد إليها العالم مثل ما قصد ورش نافع بن أبي نعيم وقرأ عليه القرآن، وكانوا يقصدون نافعاً من جميع الأقطار ويقرءون عليه. أما قضية اختيار القراء فستأتي.

فإذاً هذه المرحلة يمكن أن نسميها بمرحلة: ظهورا الإقراء والمقرئين المتخصصين في القرآن.

هؤلاء تخصصوا وتمحضوا للإقراء فقط؛ ولهذا لا تستغرب أن يوجد في بعضهم من ينسب إلى الضعف في علم الرواية في الحديث، لكنه في القراءة إمام؛ ولذا تجد في تراجم بعضهم أنه: إمام في القراءة، لكنه لين في الحديث أو ضعيف؛ لأن هذا تخصص في الإقراء، وضبط القراءة غير ضبط الأحاديث النبوية.

فلا إشكال في هذا، وهذا أمره واضح جدًا مستقرأ بالعقل؛ فهناك أناس يكونون متخصصين في شأن واحد، ويكون أحدهم أضبط من الآخر.

فإن قال قائل: كلها رواية: رواية قرآن، ورواية حديث، فلماذا اختلف الرأي فيه؟ فنقول: نعم، كلها رواية، لكن هذا تخصص وهذا تخصص؛ وعلينا أن نستحضر هذا الأمر ونحن نتحدث عن تاريخ القراءة.

أيضاً في هذه المرحلة كان ظهور الاختيار في القراءات، وهذه مرحلة مهمة جداً؛ لأنها مبنية على الأحرف السبعة التي سنربطها بالقراءات؛ لأننا إذا تأملنا جيل الصحابة رضي الله عنهم لما وزعت هذه المصاحف ووزع القراء عليها، وجاء بعدهم جيل التابعين؛ فإننا لا نجد أن قراءة من القراءات المعتبرة اليوم تخرج عن إحدى هذه القراءات التي أرسل عثمان بها إلى الأمصار، ولا عن أحد هذه المصاحف، فهذه المصاحف إذا رجعنا إليها مرة أخرى؛ نجد أنها قد أبقت ما يمكن رسمه من الأحرف السبعة، وأما ما لا يمكن رسمه فإنه يتلقى من طريق القراء.

وكان هؤلاء القراء مع الرسم يضيفون ما لا يمكن رسمه من الصوتيات، مثل: الإمالة والإشمام والإدغام والإخفاء، هذه أمور لا يمكن رسمها، وإنما تأتي بالتلقي.

أقسام الخلاف الوارد في القراءات

فإذا أردنا أن نحسب الخلاف الوارد في القراءات فإنه على قسمين:

ما يمكن رسمه، وما لا يمكن رسمه، فالذي لا يمكن رسمه هو ما يتلقى مشافهة لارتباطه بالصوت؛ وأما ما يمكن رسمه فمن أمثلته: (وصى) و(أوصى) ومثل (وسارعوا) وفي قراءة (سارعوا)، (وسابقوا)، وفي قراءة (وسابقوا) و(تجري تحتها) وفي قراءة (تجري من تحتها)، هذا يمكن رسمه.

ومع ذلك يتلقى أيضاً من القراء؛ لأنه مرتبط بالشكل، مثل: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ[الفجر:25]، وقراءة أخرى: (لا يعذَّب عذابه أحد).

فضبط القراءات إنما يأتي متأخراً فيها، لكن ليس كل قراءة يمكن ضبطها، فقضية ضبط المرسوم ما استطاع الصحابة أن يرسموه رسموه، ثم جاء العلماء بعدهم فأضافوا ما يمكن أن يضبطوا به فضبطوه بالنقط والشكل، كما هو معروف من تاريخ القرآن.

إذاً هذه المرحلة مرحلة الاختيار في القراءات مرتبطة بالمرسوم والصوتيات كما قلنا.

الرأي المختار في معنى الأحرف السبعة

لو سأل سائل: ما هي الأحرف السبعة؟

هناك خلاف طويل، وأقوال كثيرة، لكن سأذكر لكم الرأي المختار وهو: أن الأحرف السبعة أوجه قرائية منزلة، قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرأ بها الصحابة، فكيف نستطيع أن نستنبط هذه الأوجه القرائية المنزلة، وكيف نعرفها؟

من خلال القرآن الموجود بين أيدينا اليوم بجميع وجوهه، فإذا رجعنا إلى الاختلاف الوارد في القراءات اليوم فإنه لا يخرج عن أن يكون من جهة المرسوم: إما رسماً وإما بعد ضبطه، أو من جهة الصوتيات، يعني: لا يخرج الخلاف في القراءات من أحد هذه الجهات: إما مرسوم، والمرسوم إما أن يكون متنوعاً، موزعاً، وإما أن يكون جاء ضبطه متأخراً، مثل: (يعذِّب) و (يُعذَّب) وإما مرتبط بالصوتيات، مثل: الإمالة والإدغام وأبواب التجويد المعروفة هذه، فمثلًا: الوقف على التاء (نعمت) (ورحمت) المقطوع والموصول كلها مرتبطة بالمرسوم، فكيفما رسمت في المصحف تقرأ، فهذه من فوائد الرسم التي يمكن أن نرجع إليها.

كيفية التعامل مع الخلاف الوارد في القراءات

أي خلاف وارد نتعامل معه بإرجاعه إلى الأصول. وهذه الأصول يتكون منها أنواع الاختلاف الواردة في القراءات، وأنواع الاختلاف الواردة في القراءات كثيرة، منها: التذكير والتأنيث، الغيبة والخطاب، الإفراد والجمع، والفك والإدغام، والإمالة والفتح، وهناك أيضًا: ما يتعلق بالهمزة وعدم الهمز، وغير هذا كثير. هذه الأوجه التي نزل بها القرآن على سبعة أحرف، يعني: سبعة أوجه، لا يجتمع منها في الكلمة الواحدة أكثر من سبعة أوجه بحال، وهو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنزل القرآن على سبعة أحرف )، أي: سبعة أوجه قرائية، لماذا سبعة أوجه قرائية؟ لأننا إذا رجعنا إلى الأحاديث سنجد أن عمر يقول: سمعته يقرأ على غير الذي أقرأني رسول الله، إذاً: هو يسمع شيئاً مقروءً، فهذا وجه قرائي، ( فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ هشام ؛ قال: هكذا أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر ! فقال رسول الله: هكذا أنزلت ).

إذاً: الموضوع مرتبط بوجوه قرائية: بكيفية النطق، وكيفية القراءة.

فإذاً أنواع الاختلاف متعددة، لكن لا يجتمع من أنواع الاختلاف في الكلمة الواحدة أكثر من سبعة أوجه، فإذا سأل سائل وقال: فإننا اليوم لا نجد أكثر من ستة أوجه في كلمة أو كلمتين؟ فنقول: نعم، الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الاستزادة حتى وصل إلى سبعة، لكن يمكن أيضًا أن نصنع بحثاً ونقول: ما هي أكثر الأوجه قراءة في القرآن؟ هل هي الأوجه الثنائية، أو الأوجه الثلاثية، أو الأوجه الرباعية، أو الأوجه الخماسية، أو الأوجه السداسية؟

سنجد أنها في الحقيقة مترتبة: الثنائي ثم الثلاثي ثم الرباعي ثم الخماسي ثم السداسي، أما السباعي فلا يوجد، وبما أنه لا توجد أوجه سبعة، فأين الوجه السابع؟ نقول: هذا مما ترك، من الذي يحق له أن ينسخ ويترك؟ هو الذي أنزل، كما سبق أن قررنا القاعدة.

قلنا: إن الخلاف في الأوجه: ثنائي، ثلاثي، رباعي، خماسي.

أمثلة على الأوجه القرائية

دعونا نأخذ الآن الثنائي والثلاثي على التصوير:

الثنائي يحتمل أن تكون أربعة من الأمصار قرأت بوجه، ومصر قرأ بالوجه الثاني، الاحتمال هذا موجود. فإذا كان ثنائياً فأربعة قرأوا بوجه، وواحد قرأ بالوجه الباقي وبهذا حفظ القرآن بوجوهه، إذا كان ثلاثياً يحتمل أيضاً أن ثلاثة قرأوا بوجه وواحداً قرأ بوجه، وثالثاً قرأ بالوجه الثالث، أو اثنان قرأوا بوجه واثنان آخران قرأآ بوجه، وواحد قرأ بوجه ثالث، بمعنى: أن هذه الوجوه على تعددها لا يمكن أن تضيع؛ لأنها موجودة في المصاحف.

لما جاء القراء يقرءون لقراء التابعين وأتباع التابعين ماذا حصل؟ تعرفون أن القراء لا يلتزمون في جيل التابعين وأتباع التابعين بما قرأوا على مشايخهم في مدنهم، بل يتنقلون ويقرأون على غيرهم.

فلما يقرأ البصري على أئمة البصرة سيضيق عنده الخلاف، ولما ينتقل إلى مكة ويقرأ على علماء مكة؛ يأتي عنده وجوه ما كانت موجودة عندهم في البصرة، فصار عنده عدد من الوجوه، ولو قرأ على علماء المدينة زادت عنده الوجوه، لكن هذه الزيادة في الوجوه في تعدد الطرق وليس في الوجوه نفسها، يعني: في النهاية هي ثنائية، أو ثلاثية، أو رباعية، أو خماسية، أو سداسية، ما تتعداها، لكن الذي يتعدد عنده أنه لما يأتي يقول: وقرأت: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[التكوير:24]، على الكوفي كذا، وعلى البصري كذا، وقرأت: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[التكوير:24] على المكي كذا وعلى المدني كذا، مثلًا، إذاً صار هناك تعدد في الذين أقرأوا، وليس هناك تعدد في الوجوه.

نزيد الأمر إيضاحاً هذا الإمام نافع لما قرأ على التابعين الذين يقول عنهم في إحدى الروايات: إنه قرأ على سبعين من التابعين، ولكن المتواتر عنه أنه قرأ على خمسة، هذا الذي يثبته العلماء ومنصوص عليهم، هؤلاء الخمسة الذين قرأ عليهم، هل نتصور أن قراءتهم واحدة؟ أو عندهم أوجه متعددة؛ لأنهم يحتمل أنهم أخذوها من كثير من القراء: من البصرة، من الكوفة، فلو تصورنا: هل يمكن أن يجتمع عند نافع أكثر من وجهين؟ يمكن في: وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ[التكوير:24]؟ ما يجتمع، لكن يجتمع عنده أكثر من طريق؛ لأنه يجب أن نفرق بين الطرق والأوجه القرائية.

إذاً: معنى ذلك أن القراءات سارت على هذا الأسلوب: تتعدد الطرق ضمن الوجوه الجائزة الموجودة، ولم يُترك وجه جائز قرئ به أمام النبي صلى الله عليه وسلم قطعاً؛ لأن القرآن قد نقل - كما قلنا - جيلاً بعد جيل، بكل قراءاته.

اختيار الإمام نافع

نذكر لكم مثالاً:

نافع بن أبي نعيم المقرئ قرأ على جماعة وبعضهم يقول: المتواتر أنه قرأ على الخمسة، ويذكرون آخرين قرأ عليهم.

يقول نافع : قرأت على هؤلاء، وهذا يرويه عنه إسحاق المسيبي يقول: قرأت على هؤلاء - يعني: الذين أخذ عنهم - فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد، تركته وألفت هذه القراءة، أي: قراءته برواية قالون ، وهي التي اختارها؛ لأن له منهجاً في الاختيار يقول: (قرأت على هؤلاء فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته حتى ألفت هذه القراءة) قوله: (ما شذ) لا يعني: أنها قراءة شاذة غير مقبولة؛ لكن هذا منهج له جاء وقرأ على هؤلاء العلماء واختار قراءة له.

فلكي نفهم كيف نشأ الاختيار فنعلم أن أي قراءة من القراءات السبع الأصل فيها أنها اختيار، فـنافع الآن اختار من قراءة هؤلاء ما اتفق عليه اثنان.

فإذا اتفق اثنان على وجه فهذا تعدد طرق، واتفاق في الوجه.

نافع رضي الله عنه ورحمه اعتمد على الاختيار للقراءة التي يختارها هو، إذا جاء يقرئ يقرئ بهذه القراءة التي أخذها عنه قالون ؛ ولهذا يسمون رواية قالون عن نافع : قراءة السنة؛ لأنها صدرت عن المدينة وعن أهل المدينة، و مالك يقول: قراءتنا سنة.

لكن نريد أن ننظر كيف فعل نافع لما جاءه ورش ؛ يقول ورش :

خرجت من مصر لأقرأ على نافع ، فلما وصلت المدينة، سرت إلى مسجد نافع ؛ فإذا هو لا تطاق القراءة عليه من كثرة الذين يقرءون عليه وإنما يقرئ ثلاثين، فجلست خلف الحلقة، وقلت لإنسان: من أكبر الناس عند نافع ؟ فقال لي: كبير الجعفريين، يعني: من أبناء جعفر الطيار ، قال: فقلت: فكيف به؟ قال: أنا أجيء معك إلى منزله، قال: وجئنا إلى منزله فخرج شيخ فقلت: أنا من مصر، جئت لأقرأ على نافع فلم أصل إليه، وأخبرت أنك من أصدق الناس له، وأنا أريد أن تكون الوسيلة إليه، فقال: نعم، وكرامة! وأخذ طيلسانه ومضى معنا إلى نافع ، وكان لـنافع كنيتان: أبو رويم و أبو عبد الله ، فبأيهما نودي أجاب، فقال له الجعفري : هذا وسيلتي إليك جاء من مصر ليس معه تجارة ولا جاء لحج إنما جاء للقراءة خاصة، فقال: ترى ما ألقى من أبناء المهاجرين والأنصار، يعني: أنهم كثير، كيف أقدمه عليهم؟ فقال صديقه: تحتال له، فقال نافع : أيمكنك أن تبيت في المسجد؟ قلت: نعم، قال: فبت في المسجد؛ فلما كان الفجر جاء نافع فقال: ما فعل الغريب؟ فقلت: ها أنا رحمك الله! قال: أنت أولى بالقراءة؛ لأن نافعاً كان يقدم الأقرب، كفعل بعض المشايخ، الذي يأتي أولاً يجلس، ثم الذي بعده يجلس خلفه.. وهكذا، قال: وكنت مع ذلك حسن الصوت مداداً به، قال: فاستفتحت فملأ صوتي مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقرأت ثلاثين آية، فأشار بيده أن أسكت، ثم حينما طلب منه القوم أن يأخذوا حصصهم، فبقي في المدينة وقرأ حتى أنهى القرآن كاملاً ورجع إلى مصر.

إذا جعلنا موازنة في الخلافات بين ورش و قالون فسنجد أن قراءة قالون هي الوجه المختار لدى نافع ، ولكن هل رد نافع ورشاً في حرف واحد؟ ما ذكر أنه رده في أي حرف، ونستنبط من هذا: أن هذا الوجه الذي قرأ به قالون على مشايخه في مصر وجه معروف معتبر عند نافع ، ولكنه ليس اختيارهم فقط، أما الذي اختاره فهو القراءة التي يقرئ بها الناس، والقراءة التي قرأ بها ورش على مشايخه في مصر، هي وجه معتبر معروف عند نافع ، لكن نافعاً لم يكن يختار هذا الوجه الذي قرأ به ورش ، وإنما يقرئ الناس بالذي قرأ به قالون ، وهذا يفهمنا أسلوب الاختيار عند القراء، وأن القارئ لما يختار قراءة لا يعني أنه يرد غيرها وينكرها، فأما قول نافع : فمن شذ في واحد تركته، فمعناه: أن يختار لنفسه.

طرق القراء لا تخرج عن وجوه القراءة المنقولة عن الرسول صلى الله عليه وسلم

إذا جئنا إلى اختيارات جميع الأئمة بطرقهم: إذا قلنا العشرة بطرقهم العشرين، فهي لا تخرج عن هذه الوجوه التي ذكرناها، وإنما تتعدد الطرق؛ ولهذا نقول: وقرأ نافع و أبو عمرو و ابن كثير كذا، وقرأ فلان وفلان كذا، فالمعنى أن كل القراء في النهاية يتجهون إلى وجهين أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة أو ستة، في الحد الذي تصل إليه القراءات.

إذاً يتضح لنا أن الاختيار في جميع القراءات لم يترك شيئاً مما نزل بالأحرف السبعة، لا من جهة الرسم الذي يمكن رسمه، ولا من جهة الذي يتلقى مشافهة.

فإذا أردنا أن نحسب الخلاف الوارد في القراءات فإنه على قسمين:

ما يمكن رسمه، وما لا يمكن رسمه، فالذي لا يمكن رسمه هو ما يتلقى مشافهة لارتباطه بالصوت؛ وأما ما يمكن رسمه فمن أمثلته: (وصى) و(أوصى) ومثل (وسارعوا) وفي قراءة (سارعوا)، (وسابقوا)، وفي قراءة (وسابقوا) و(تجري تحتها) وفي قراءة (تجري من تحتها)، هذا يمكن رسمه.

ومع ذلك يتلقى أيضاً من القراء؛ لأنه مرتبط بالشكل، مثل: فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ[الفجر:25]، وقراءة أخرى: (لا يعذَّب عذابه أحد).

فضبط القراءات إنما يأتي متأخراً فيها، لكن ليس كل قراءة يمكن ضبطها، فقضية ضبط المرسوم ما استطاع الصحابة أن يرسموه رسموه، ثم جاء العلماء بعدهم فأضافوا ما يمكن أن يضبطوا به فضبطوه بالنقط والشكل، كما هو معروف من تاريخ القرآن.

إذاً هذه المرحلة مرحلة الاختيار في القراءات مرتبطة بالمرسوم والصوتيات كما قلنا.

لو سأل سائل: ما هي الأحرف السبعة؟

هناك خلاف طويل، وأقوال كثيرة، لكن سأذكر لكم الرأي المختار وهو: أن الأحرف السبعة أوجه قرائية منزلة، قرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرأ بها الصحابة، فكيف نستطيع أن نستنبط هذه الأوجه القرائية المنزلة، وكيف نعرفها؟

من خلال القرآن الموجود بين أيدينا اليوم بجميع وجوهه، فإذا رجعنا إلى الاختلاف الوارد في القراءات اليوم فإنه لا يخرج عن أن يكون من جهة المرسوم: إما رسماً وإما بعد ضبطه، أو من جهة الصوتيات، يعني: لا يخرج الخلاف في القراءات من أحد هذه الجهات: إما مرسوم، والمرسوم إما أن يكون متنوعاً، موزعاً، وإما أن يكون جاء ضبطه متأخراً، مثل: (يعذِّب) و (يُعذَّب) وإما مرتبط بالصوتيات، مثل: الإمالة والإدغام وأبواب التجويد المعروفة هذه، فمثلًا: الوقف على التاء (نعمت) (ورحمت) المقطوع والموصول كلها مرتبطة بالمرسوم، فكيفما رسمت في المصحف تقرأ، فهذه من فوائد الرسم التي يمكن أن نرجع إليها.

أي خلاف وارد نتعامل معه بإرجاعه إلى الأصول. وهذه الأصول يتكون منها أنواع الاختلاف الواردة في القراءات، وأنواع الاختلاف الواردة في القراءات كثيرة، منها: التذكير والتأنيث، الغيبة والخطاب، الإفراد والجمع، والفك والإدغام، والإمالة والفتح، وهناك أيضًا: ما يتعلق بالهمزة وعدم الهمز، وغير هذا كثير. هذه الأوجه التي نزل بها القرآن على سبعة أحرف، يعني: سبعة أوجه، لا يجتمع منها في الكلمة الواحدة أكثر من سبعة أوجه بحال، وهو معنى قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( أنزل القرآن على سبعة أحرف )، أي: سبعة أوجه قرائية، لماذا سبعة أوجه قرائية؟ لأننا إذا رجعنا إلى الأحاديث سنجد أن عمر يقول: سمعته يقرأ على غير الذي أقرأني رسول الله، إذاً: هو يسمع شيئاً مقروءً، فهذا وجه قرائي، ( فلما جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ هشام ؛ قال: هكذا أنزلت، ثم قال: اقرأ يا عمر ! فقال رسول الله: هكذا أنزلت ).

إذاً: الموضوع مرتبط بوجوه قرائية: بكيفية النطق، وكيفية القراءة.

فإذاً أنواع الاختلاف متعددة، لكن لا يجتمع من أنواع الاختلاف في الكلمة الواحدة أكثر من سبعة أوجه، فإذا سأل سائل وقال: فإننا اليوم لا نجد أكثر من ستة أوجه في كلمة أو كلمتين؟ فنقول: نعم، الرسول صلى الله عليه وسلم طلب الاستزادة حتى وصل إلى سبعة، لكن يمكن أيضًا أن نصنع بحثاً ونقول: ما هي أكثر الأوجه قراءة في القرآن؟ هل هي الأوجه الثنائية، أو الأوجه الثلاثية، أو الأوجه الرباعية، أو الأوجه الخماسية، أو الأوجه السداسية؟

سنجد أنها في الحقيقة مترتبة: الثنائي ثم الثلاثي ثم الرباعي ثم الخماسي ثم السداسي، أما السباعي فلا يوجد، وبما أنه لا توجد أوجه سبعة، فأين الوجه السابع؟ نقول: هذا مما ترك، من الذي يحق له أن ينسخ ويترك؟ هو الذي أنزل، كما سبق أن قررنا القاعدة.

قلنا: إن الخلاف في الأوجه: ثنائي، ثلاثي، رباعي، خماسي.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
تاريخ القرآن الكريم [2] 3326 استماع
تاريخ القرآن الكريم [4] 3244 استماع
تاريخ القرآن الكريم [5] 3196 استماع
تاريخ القرآن الكريم [6] 3000 استماع
تاريخ القرآن الكريم [1] 2217 استماع
تاريخ القرآن الكريم [3] 2123 استماع