خطب ومحاضرات
تاريخ القرآن الكريم [3]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أما بعد:
فنكمل في هذا اللقاء ما يتعلق بتاريخ القرآن في العهد المدني؛ لأن العهد المكي كما سبق أن أشرت لم يكن فيه كبير عمل للنبي صلى الله عليه وسلم من جهة تدوينه، أو من جهة العناية بحفظه للصحابة، وإن كان الصحابة يحفظونه، لكن بدأ يظهر هذا ويبرز في العهد المدني.
العناية بالقرآن عند دخول رسول الله المدينة
ففي هذا الموضوع أحب أن أرجع إلى ما ذكرت من قضية الواقع التاريخي، يعني: تصور الحال، إذا رجعنا إلى العهد الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في العام الأول من الهجرة، ويعتبر العام الثالث عشر من البعثة على أصح الأقوال في أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة.
لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نريد أن نتصور الحال كم كان عدد المسلمين؟ وكيف كانت حالة المدينة في هذه السنوات الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ ثم كيف صارت الحال لما توفي صلى الله عليه وسلم؛ لكي نعرف جيداً كيف تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في قضية العناية بالقرآن؟
نحن نتكلم الآن عن كيفية تلقي هؤلاء الصحابة القرآن، كيف أوصل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للصحابة؟
لأن عدم تصور مثل هذه الأمور عند المسلم بالذات يجعله ناقص العلم، بحيث لو نوقش في شيء ما لا يستطيع أن يرد عليه، أو قد تقع عليه شبهة ولا ينتبه إلى أنها شبهة والحقيقة غيرها، فهذا التصور للحال هو الذي سأحاول أن أسوقه معكم اليوم منطلقاً أيضاً من الآثار الواردة في ذلك.
تلاوة القرآن عند دخول المدينة
إذا رجعنا إلى عمل النبي صلى الله عليه وسلم الأول الذي سبق أن ذكرت ذلك سابقاً وختمنا به الدرس فإن النبي صلى الله عليه وسلم أول عمل عمله لما وصل إلى المدينة واستقر بها هو بناء المسجد، الذي هو المنطلق الأول لجميع أعمال المسلم، لكن الآن سنخص منها ما يتعلق بقضية القرآن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أغلب حاله أن يكون في المسجد مع أصحابه، في المسجد سنرى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصل رسالته التي هي: القرآن إلى الصحابة؟
عندنا أيضاً قضية مرتبة بالتلاوة أولاً وهي التي سنركز عليها ثم ننتقل إلى التدوين.
القرآن نفسه نجد أن فيه إشارات وأوامر لتلاوة القرآن، مثل قوله سبحانه وتعالى في سورة النمل: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:91-92]، فلاحظوا الأمر بأن يتلو القرآن، وهو أمر إلهي.
لو نظرنا إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم وما هو المقدار الذي كانت تأخذ منه تلاوة القرآن فسنجد أن حظ تلاوة القرآن من حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان حظاً كبيراً، سيتبين إن شاء الله من خلال ما ستأتي الإشارة إليه من القضايا اللاحقة.
أيضاً: يقول الله سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت، وهي مكية، قال: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والربط بين تلاوة ما أوحي إليه وإقامة الصلاة رابط واضح؛ لأن إقامة الصلاة هي أحد مناطات تلاوة القرآن مع أن تلاوة القرآن تكون في الصلاة وفي غيرها.
كذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة مدنية: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6].
وتذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسر ثمامة بن أثال وربطه في سارية في المسجد. كان يسمع القرآن، وكان يرى أخلاق المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم كما هي، ولا شك أن هذا أثر فيه، وسيأتينا أيضاً الإشارة إلى جبير بن مطعم لما سمع القرآن وغيره.
فإذاً: قضية أن يوصل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ويتلوه كانت هذه من أكبر المهمات التي يقوم بها.
أيضاً: يقول الله سبحانه وتعالى مادحاً الذين يتلون الكتاب: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [فاطر:29]، أيضاً ربط بينهما، فقال: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29].
فإذاً: أقول: إن قضية تلاوة القرآن قضية مشاعة يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعها جميع الناس: يسمعها المؤمن والكافر، فتلاوة القرآن وإيصاله إلى مسامع الناس لم يكن خاصاً، وهذه قضية مهمة ننتبه لها، بخلاف كتب بني إسرائيل التي ما كان يعلمها إلا الرهبان والأحبار فقط في الزمان الماضي، وليس كاليوم حينما وجدت المطابع وطبعت كتبهم.
فيجب أن التنبه لهذه الحيثية المهمة جداً وهي: أن تلاوة القرآن كانت أمراً مشاعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن في آناء كثيرة، والصحابة كانوا يسمعون القرآن وهذه الآيات واضحة بالأمر بذلك.
إيصال القرآن إلى مسامع الكفار
فبعض الآيات موجهة للكفار، قال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ [النمل:91-92]، فهذا الخطاب من الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وهو موجه للكفار، فهذا يدل على أن إيصال القرآن إلى مسامع الكفار نوع من العبادة، ونوع من الدعوة بحد ذاته، وهو مهم جداً وقد نغفل عنه أحياناً، بل قد يقول بعض الناس: الكافر لا يعرف العربية؟ لكن من الشواهد التي تنقل لنا: أن الكفار يميزون القرآن عن غيره وقد يحصل لهم تأثر نفسي به.
فإذاً لا بد من التنبه لهذا الأمر، وأن لا يستهان به، لا يستهان بهذه القضية بالذات التي هي: تلاوة القرآن.
مظاهر العناية النبوية بإيصال القرن إلى الصحابة
ننتقل الآن إلى مظاهر العناية النبوية بإيصال القرآن للصحابة:
هناك أمور مرتبطة ببعضها وهي: المسجد، والمصليات، والخطب.
المسجد: الذي هو الصلاة، يعني: ما يقع فيه الصلاة.
والمصليات: التي هي لإقامة العيد أو للكسوف والخسوف.
والخطب النبوية سواءً كانت خطبة الجمعة أو خطبة العيدين أو غيرها.
سماع الصحابة القرآن في الصلوات الجهرية
روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1]، في العشاء وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه أو قراءة ).
هذا الحديث وأمثاله إذا نظر إليه أحد العلماء كـالشافعي رحمه الله تعالى فإنه سيشفق من هذه الأحاديث فوائد كثيرة، لكن نحن الذي يهمنا الآن منه القضية التي نحن بصددها وهي: أن البراء سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه إحدى الطرق التي كان يسمع بها الصحابة القرآن.
الرسول صلى الله عليه وسلم جلس معهم عشر سنوات وصلى بهم جميع الصلوات، إلا عدداً قليلاً من الصلوات، التي لم يكن فيها النبي صلى الله عليه وسلم إماماً، وهي لا تتجاوز الثنتين، وهو حاضر عليه الصلاة والسلام.
في هذه الفترة -وهي العشر السنوات وكان الصحابة دائماً حضوراً معه عليه الصلاة والسلام يسمعون القرآن ويميزونه.
فلم يكن القرآن خفياً يعرفه واحد منهم والآخر لا يعرف عنه شيئاً! إنما كان حقاً مشاعاً يسمعه الجميع.
أيضاً: يقول البخاري فيما رواه عن أم الفضل بنت الحارث قالت: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1]، ثم صلى لنا بعدها حتى قبضه الله )، يعني: كأنه من آخر ما صلى به النبي صلى الله عليه وسلم بهم وسمعته أم الفضل يقرأ : وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1].
وهنا ملاحظة وهي: أن الصحابة كانوا يعرفون ماذا يقرأ رسول الله، ولم تكن خافية عليهم هذه السور، ولا مجهولة عندهم، وستأتي آثار تدل على هذا.
سماع الصحابة للقرآن من خطب رسول الله
من استشهاداته صلى الله عليه وسلم بالقرآن في الخطب ما رواه مسلم وغيره عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لـعمرة قالت: ( أخذت (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة ). هذا معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يقرأ بها كان لها من القدرة على الحفظ ما يجعلها تحفظ سورة (ق)، فقد سمعتها أكثر من مرة من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الطريقة التي كان يحفظ بها الصحابة، يعني: السماع ثم يرددون ما سمعوا.
كذلك رواية أخرى عند الإمام مسلم عن عبد الله بن محمد بن معن عن بنت الحارثة بن النعمان قالت: ( ما حفظت (ق) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة )، قالت: ( وكانت تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم )، هذه رواية أخرى للأثر، وهذا يدل على نفس ما سبق.
كذلك النسائي يروي بسنده عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] ).
فمن خلال هذه الآثار التي عندنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن في الصلوات سواء كانت مفروضة أو غيرها، ومن خلال الخطب، والصحابة كانوا يعرفون ويميزون هذه السور وهذه الآيات.
ذكر ترتيب الأجر على القراءة
أيضاً من أوجه العناية: ترتيب الأجر على قراءته، وسيأتينا تعيين سور، يعني: من قرأ سورة كذا، من قرأ سورة كذا، ماذا نستفيد من قوله: من قرأ سورة كذا؟
الأمثلة كثيرة منها: ما رواه الإمام مسلم ، بسنده عن أبي أمامة الباهلي قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه )، الصحابة رضوان الله عنهم لما يسمعون هذا الخبر ماذا تتصورون منهم وهم يبادرون لعمل الخير؟ سيبادرون إلى قراءة القرآن، فإذاً لما يقول لهم: ( اقرأوا القرآن )، القرآن معلوم عندهم يعرفونه لم يكن خافياً عليهم.
وقوله: ( اقرأوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة )، والبطلة هم: السحرة.
وقد ذكر رسول الله هنا سورتي البقرة وآل عمران، ومعنى ذلك أن الصحابة لما يقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اقرأوا البقرة وآل عمران )، فإنهم هم يعرفون ما سورة البقرة ويعرفون ما سورة آل عمران، فليست خافية عنهم، فإذاً هم يعلمونها.
وغير هذه الأحاديث مما ورد وفيه فضائل لبعض السور هو من جنس هذا، فإنه كان يحدد لهم فضيلة سورة معينة وهي معلومة عندهم وليست خافية.
وهذا ليس كما يقول بعض الرافضة أو غلاة الصوفية أو الباطنية: أن هناك علماً لا يعلمه إلا الأولياء أو الأئمة. ليس هناك علم خاص بالشريعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئاً من الوحي، بل قاله لكل الناس، إلا شيئاً يختص إنساناً بعينه به، مثلما خص فاطمة رضي الله عنها بخبر خاص بها وليس خبراً عاماً للناس، أما الخبر العام للناس فلا، بل كان مشاعاً، فلا يمكن أن يكون تعليم القرآن من هذا النوع الخاص كما يزعم بعضهم أبداً.
قراءة بعض الصحابة على رسول الله أو سماعهم منه مباشرة
أيضاً من مظاهر العناية النبوية: الآثار الكثيرة التي تدل على أن الصحابة قرأوا على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن أو سمعوه مباشرة منه يعني: السماع الخاص وليس السماع العام.
روى الإمام أحمد بسنده عن زيد بن ثابت قال: ( قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَالنَّجْمِ [النجم:1]، فلم يسجد فيها )، زيد بن ثابت قرأ سورة واضحة المعالم عنده ويعرفها وقال: لم يسجد فيها؛ لأن في آخرها سجدة فلم يسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء لهم تخريجات في سبب عدم سجود النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يؤخذ من فقه الحديث.
لكن المقصد: أنه يقول: قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقراءة على النبي صلى الله عليه وسلم أو القراءة على الشيخ تسمى: العرض، والسماع منه يسمى: التلقي.
عن عبد الله بن عمر قال: ( قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم : هل من مذكر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هل من مدكر )، وهذا في مسند الإمام أحمد بإسناد صحيح.
وهذا أيضاً يدلك على أمر مهم جداً تنتبه له وهو من فوائد هذا الحديث المتعلق بموضوعنا في قضية التصحيح النبوي وهو: أن المرجع في تصحيح القراءة هو النبي صلى الله عليه وسلم، وسيأتينا إن شاء الله الإشارة إليها، لكن أيضاً هذه فائدة من فوائد الحديث: أن المرجع في تصحيح القراءة هو النبي صلى الله عليه وسلم، فـعبد الله بن عمر قرأ: هل من مذكر، فصحح له النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( هل من مدكر ) فإذاً هذه أيضاً من العرض على النبي صلى الله عليه وسلم.
ومن سماعهم وإن كان أيضاً هذا من السماع العام: ما رواه محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه جبير بن مطعم قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ).
وهناك حديث أبي بن كعب : ( إن ربي أمرني أن أقرأ عليك سورة: لَمْ يَكُنْ [البينة:1] ).
إن تلقي القراءة عن النبي فيه آثار كثيرة جداً وسيأتينا بعض الآثار، لكن فرقتها في أماكن وإلا هي تدل على هذا المعنى وعلى غيره.
الأمر بالقراءة كما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن مظاهر العناية النبوية وهو الأمر الرابع: الأمر بالقراءة كما علمهم النبي صلى الله عليه وسلم، النبي صلى الله عليه وسلم أقرأهم فكان من مظاهر عنايته صلى الله عليه وسلم: التنبيه على ألا يخرج عما قرأ، إذاً لا يجوز للصحابي أن يقرأ بالمعنى، أو أن يقرأ كما اتفق، وإنما يقرأ كما عُلِّم.
روى الإمام أحمد بسنده عن عبد الله بن مسعود قال: ( تمارينا في سورة من القرآن فقلنا: خمس وثلاثون آية، ست وثلاثون آية، قال: فانطلقنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدنا علياً رضي الله عنه يناجيه، فقلنا: إنا اختلفنا في القراءة، فاحمر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال علي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تقرأوا كما علمتم )، وهذا إسناده حسن كما قال الشيخ شعيب الأرنؤوط، وهذا أيضاً يدلك على أن المرجع عندهم هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه السورة التي يقول عنها ابن مسعود خمس وثلاثون أو ست وثلاثون يلاحظ أنها مرتبطة بقضية العد، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يقرأوا كما علمهم؛ لأن قوله: ( اقرأوا كما علمتم )، المعلم هو النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ورد الأمر بالقراءة كما علموا في غير هذا الأثر، وورد الأمر بعدم الاختلاف: ( اقرأوا كما علمتم ولا تختلفوا كما اختلف بنو إسرائيل على أنبيائهم ).
معارضة جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن
أيضاً من مظاهر العناية -وهذا مرتبط بـجبريل عليه السلام-: معارضة جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وهذا من أشهر الأحاديث الواردة فيما يتعلق بقضية تاريخ القرآن فعن مسروق قال: عن عائشة رضي الله عنها عن فاطمة عليها السلام: ( أسر إلي النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتين ولا أراه إلا حضر أجلي )، فالنبي صلى الله عليه وسلم أسر لـفاطمة ليس بالمعارضة؛ لأن الصحابة يعرفون هذا، وإنما أسر إليها بقرب أجله صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا بكت، ثم أسر لها الثانية فضحكت، فـعائشة رضي الله عنها سألتها فأبت أن تخبرها فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم أخبرت عائشة بهذا الخبر؛ لأنه كان سراً بينها وبين النبي صلى الله عليه وسلم.
فقوله: ( كان يعارضني بالقرآن كل سنة )، يبين أن هناك عناية إلاهية بقضية القرآن فالرسول صلى الله عليه وسلم يعارض كل سنة، وجبريل كان يعارضه يسمع منه.
سنأتي إلى فائدة هذه المعارضة، من أهم فوائد هذه المعارضة: تثبيت ما ثبت من القرآن وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نسي شيئاً منه يكون فيه أيضاً تثبيت لما نسيه إن كان، لكن هو لم يرد، لكن لو افترضنا أنه قد وقع نسيان منه صلى الله عليه وسلم لكن في غير هذا الموطن ثم تذكره.
فالمقصد من ذلك: أن هذه المعارضة كل سنة يكون عند الرسول صلى الله عليه وسلم فيها علم بالنازل عليه، ومن ثم يعطيه الصحابة.
انعدام الاختلاف في القراءة بين الصحابة في عهده صلى الله عليه وسلم
المظهر السادس: انعدام الاختلاف في القراءة بين الصحابة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والسبب في ذلك هو: الرجوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم مثلما سبق في قوله: ( اقرأوا كما علمتم ).
من الأحاديث الواردة في ذلك: حديث عبد الله بن مسعود قال: ( أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من الثلاثين من آل حم، -قال: يعني: الأحقاف التي وقع فيها الخلاف قبل قليل- قال: وكانت السورة إذا كانت أكثر من ثلاثين سميت الثلاثين )، لاحظ الفوائد في طريقة تسمية الصحابة، يعني: أن السورة التي تكون أكثر من ثلاثين آية يسمونها سورة الثلاثين، يعني: التي تجاوزت الثلاثين.
قال: ( فرحت إلى المسجد فإذا رجل يقرأها على غير ما أقرأني، فقلت: من أقرأك؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلت للآخر: اقرأها، فقرأها على غير قراءتي وقراءة صاحبي، فانطلقت بهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إن هذين يخالفاني في القراءة، قال: فغضب وتمعر وجهه وقال: إنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، قال: قال زر: وعنده رجل، قال: فقال الرجل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم -الرجل هو: علي في الرواية الأخرى- يأمركم أن يقرأ كل رجل منكم كما أقرأني؛ فإنما أهلك من كان قبلكم الاختلاف، قال عبد الله: فلا أدري أشيئاً أسره إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو علم ما في نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم )، قال: والرجل هو : علي بن أبي طالب، حتى لو كان قالها علي من نفسه فإنه قد أقره النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذاً المرجع في مثل هذا الخلاف هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث أو الأثر موضح للأثر الذي سبق أن ذكرته في الأمر بالقراءة كما علموا.
أثر آخر وهو مشهور عن عمر بن الخطاب قال: ( أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة من القرآن فحفظتها ووعيتها )، الآن: أقرأني معناه: أسمعني النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( فحفظتها ووعيتها، فبينما أنا قائم في المسجد أصلي إذا هشام بن حكيم يصلي إلى جنبي، فافتتح تلك السورة على غير الحرف الذي أقرأني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهممت أن أساوره في الصلاة، ثم كففت حتى صلى، فأخذت بمجامع ثوبه فقلت: من أقرأك هذه الآية؟ قال: أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: كذبت، لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير هذا الحرف، فخرجت أقوده فلما رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: يا عمر ! خل سبيله، فأرسلت ثوبه فقلت: يا رسول الله! أقرأتني سورة من القرآن فإذا هو يقرأ على خلاف ما أقرأني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرأ يا هشام ! فقرأ. فقال -ولاحظوا العبارة مهمة جداً عندنا - : هكذا أنزلت، ثم قال لي: اقرأ يا عمر، قال: فقرأت، فقال: هكذا أنزلت، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرؤوا ما تيسر منه ).
أيضاً هنا فائدة مهمة جداً، نستفيد من هذا أن المرجع في الخلاف -لما كان النبي صلى الله عليه وسلم موجوداً- هو النبي صلى الله عليه وسلم، الآن هذا مرتبط بالأحرف السبعة وسيأتينا إن شاء الله تفصيل لها، لكن الآن هل النبي صلى الله عليه وسلم له تدخل فيما يتعلق بالأحرف؟
لا؛ لأنه يقول: ( هكذا أنزلت )، فإذاً هذه فائدة مهمة يجب أن ننتبه لها، وهي: أن كل ما يتعلق بنزول القرآن إنما هو من عند الله سبحانه وتعالى أولاً وآخراً، الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ فقط؛ ولهذا هو قال: ( هكذا أنزلت )، مع أنها مختلفة القراءة، وسيأتينا إن شاء الله لما نأتي بعد عهد عثمان والخلاف الوارد في القراءات، وأيضاً في عهد عثمان لعلنا نشير إليه أيضاً.
معرفة الصحابة للسور وآياتها وانتشار القرآن بينهم
السابع من هذه الأمور: معرفة الصحابة للسور وآياتها وانتشار القرآن بينهم، وهذه نتيجة للسابق الذي ذكرناه:
روى البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله قال: (في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول، وهن من تلادي)، (من تلادي) يعني: من محفوظي القديم، ماذا نستفيد من هذا الأثر؟
الآن عبد الله بن مسعود يعرف أسماء السور وقد حفظها قديماً، وهذه كل السور التي ذكرها سور مكية، وأيضاً جاءت على ترتيب المصحف.
كثرة القراء من الصحابة
أيضاً روى البخاري عن أنس رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاه رعل وذكوان وعصية وبنو لحيان فزعموا أنهم قد أسلموا، واستمدوه عدواً فأمدهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبعين من الأنصار )، قال أنس : كنا نسميهم القراء -انتبهوا للفائدة هذه- سبعون قارئاً، هذه هي بئر معونة كانت تقريباً في العام الثالث، وقد وصل القراء المتخصصون إلى سبعين، فما بالك بعد ذلك بكثير كم سيكون؟
قال: ( كنا نسميهم القراء يحطبون بالنهار ويصلون بالليل )، معناه: أنهم في النهار يعملون لأنفسهم، يكفون الحاجة عنها، وبالليل شغلهم الصلاة، والصلاة تحتاج إلى قراءة وحفظ، فإذاً هم الآن تخصصوا لهذا.
ومن باب الفائدة ننبه على أن بعض الناس قد يقلل من شأن حفظة كتاب الله سبحانه وتعالى، أو ممن يعتنون بالقراءات ويقلل من شأن هذا العلم ويقول: هذا علم في النهاية لمن تقرأ؟
نقول: لا. أي أمر يتعلق بكتاب الله سبحانه وتعالى فإنه عظيم ولا أدل على ذلك من معرفة حال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وحال علمائنا السابقين في هذا.
فالذي معه قراءات تجده يتغنى بالقرآن بأكثر من وجه، فإن قرأ برواية استملحتها، وإن قرأ برواية أخرى استملحتها وهكذا، أما صاحب الوجه الواحد فليس عنده إلا صوت واحد فقط، أما من يكون عنده تعدد في القراءات فإذا قرأ فإنك تقول: ليته لا يسكت، يعني: كأنك تسمع القرآن جديداً كأنه الآن ينزل، أنت قد اعتادت أذنك على سماع وجه فلما يقرأ برواية أخرى تتمنى أن لا يسكت لأنك تترقب الوجوه المخالفة للقراءة التي عندك، وكأنما ينزل عليك الآن وتسمعه، فأقول: يجب أن ينتبه إلى هذا وأن لا يستهان بهذا العلم.
ومن باب الفائدة أيضاً استطراداً واعذروني: أنه لا يقع هذا الكلام إلا إذا تزاحم علمان عند شخص ورؤى أن هذا الشخص قدرته في إيصال علم ما للناس أقوى، فهذه قضية أخرى، لكن نتكلم نحن عن عموم هذا العلم والعناية به وكونه يخرج عندنا ممن يعتني به، فهذا خير وبركة لمن يعتني بالقرآن، وهو يمثل حال هؤلاء الذين كانوا يسمون القراء.
قال قتادة: (وحدثنا أنس أنهم قرأوا بهم قراءناً : ألا بلغوا عنا قومنا بأنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا، ثم رفع بعد ذلك )، تنتبهون للفائدة هذه، يعني: نزل قرآن ثم رفع، هذه سنحتاجها إن شاء الله لاحقاً.
أيضاً لو رجعنا إلى حديث جمع أبي بكر للقرآن سنجد امتداد هذه الطبقة من القراء.
إن السبب الذي كان دافعاً لجمع القرآن في عهد أبي بكر هو ما ذكره زيد بن ثابت قال: (أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة -يعني: زمن مقتلهم- فإذا عمر بن الخطاب عنده، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن) إذاً قراء القرآن في صفوف المعارك، يعني: أيضاً تجدهم بالليل في الصلاة وفي النهار يشتغلون لأنفسهم وعند المعارك يكونون في صفوف المعارك الأولى، وقوله: (استحر) لا يستحر القتل إلا بمن كان متقدماً في القتال، قال: (استحر القتل بالقراء بالمواطن).
قال: (فيذهب كثير من القرآن، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن) يعني: هذا عمر ، الآن أبو بكر يتكلم على لسان عمر، الذي نريد فقط هذه الفائدة: أنه استحر بقراء القرآن كأن للصحابة معرفة بهم، أنهم ناس قد تخصصوا لهذا.
فإذا نظرنا إلى هذه الوجوه التي ذكرت لكم وهذه الآثار فإننا ننجزم جزماً يقينياً بالعناية التامة من النبي صلى الله عليه وسلم أولاً ومن الصحابة ثانياً بحفظ القرآن، فأي مشكك يأتي بعد ذلك يشكك في مثل هذه القضية فإنه يخالف النتيجة التي هي بين أيدينا الآن، فهو كتاب مكتوب، لا يمكن أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، كيف جمع؟ كيف حفظ؟ إلا بمثل جهود هؤلاء.
ومن نعمة الله سبحانه وتعالى علينا نحن المسلمين أن جعل لنا سبباً في حفظ القرآن، وإلا الله سبحانه وتعالى يقول: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، لكن حفظ بأسباب من أكبر هذه الأسباب : تسخير وتيسير هؤلاء الصحابة الكرام للعناية بالقرآن.
ويظهر حينئذ أن القرآن كان منتشراً مشتهراً في الصحابة قاطبة، متوزعاً فيما بينهم يعلمونه، وأن طبقة منهم كانت تسمى طبقة القراء كانت متخصصة فيما يتعلق بالقرآن.
وهذا لم يكن موجوداً في أصحاب الكتب السابقة إطلاقاً.
ففي هذا الموضوع أحب أن أرجع إلى ما ذكرت من قضية الواقع التاريخي، يعني: تصور الحال، إذا رجعنا إلى العهد الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة في العام الأول من الهجرة، ويعتبر العام الثالث عشر من البعثة على أصح الأقوال في أن النبي صلى الله عليه وسلم جلس ثلاث عشرة سنة قبل الهجرة.
لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة نريد أن نتصور الحال كم كان عدد المسلمين؟ وكيف كانت حالة المدينة في هذه السنوات الأولى للنبي صلى الله عليه وسلم ؟ ثم كيف صارت الحال لما توفي صلى الله عليه وسلم؛ لكي نعرف جيداً كيف تعامل الصحابة رضي الله عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في قضية العناية بالقرآن؟
نحن نتكلم الآن عن كيفية تلقي هؤلاء الصحابة القرآن، كيف أوصل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن للصحابة؟
لأن عدم تصور مثل هذه الأمور عند المسلم بالذات يجعله ناقص العلم، بحيث لو نوقش في شيء ما لا يستطيع أن يرد عليه، أو قد تقع عليه شبهة ولا ينتبه إلى أنها شبهة والحقيقة غيرها، فهذا التصور للحال هو الذي سأحاول أن أسوقه معكم اليوم منطلقاً أيضاً من الآثار الواردة في ذلك.
إذا رجعنا إلى عمل النبي صلى الله عليه وسلم الأول الذي سبق أن ذكرت ذلك سابقاً وختمنا به الدرس فإن النبي صلى الله عليه وسلم أول عمل عمله لما وصل إلى المدينة واستقر بها هو بناء المسجد، الذي هو المنطلق الأول لجميع أعمال المسلم، لكن الآن سنخص منها ما يتعلق بقضية القرآن.
فالنبي صلى الله عليه وسلم أغلب حاله أن يكون في المسجد مع أصحابه، في المسجد سنرى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يوصل رسالته التي هي: القرآن إلى الصحابة؟
عندنا أيضاً قضية مرتبة بالتلاوة أولاً وهي التي سنركز عليها ثم ننتقل إلى التدوين.
القرآن نفسه نجد أن فيه إشارات وأوامر لتلاوة القرآن، مثل قوله سبحانه وتعالى في سورة النمل: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ [النمل:91-92]، فلاحظوا الأمر بأن يتلو القرآن، وهو أمر إلهي.
لو نظرنا إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم وما هو المقدار الذي كانت تأخذ منه تلاوة القرآن فسنجد أن حظ تلاوة القرآن من حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان حظاً كبيراً، سيتبين إن شاء الله من خلال ما ستأتي الإشارة إليه من القضايا اللاحقة.
أيضاً: يقول الله سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت، وهي مكية، قال: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45]، والربط بين تلاوة ما أوحي إليه وإقامة الصلاة رابط واضح؛ لأن إقامة الصلاة هي أحد مناطات تلاوة القرآن مع أن تلاوة القرآن تكون في الصلاة وفي غيرها.
كذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة مدنية: وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6].
وتذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أسر ثمامة بن أثال وربطه في سارية في المسجد. كان يسمع القرآن، وكان يرى أخلاق المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم كما هي، ولا شك أن هذا أثر فيه، وسيأتينا أيضاً الإشارة إلى جبير بن مطعم لما سمع القرآن وغيره.
فإذاً: قضية أن يوصل النبي صلى الله عليه وسلم القرآن ويتلوه كانت هذه من أكبر المهمات التي يقوم بها.
أيضاً: يقول الله سبحانه وتعالى مادحاً الذين يتلون الكتاب: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ [فاطر:29]، أيضاً ربط بينهما، فقال: وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر:29].
فإذاً: أقول: إن قضية تلاوة القرآن قضية مشاعة يقرؤها النبي صلى الله عليه وسلم ويسمعها جميع الناس: يسمعها المؤمن والكافر، فتلاوة القرآن وإيصاله إلى مسامع الناس لم يكن خاصاً، وهذه قضية مهمة ننتبه لها، بخلاف كتب بني إسرائيل التي ما كان يعلمها إلا الرهبان والأحبار فقط في الزمان الماضي، وليس كاليوم حينما وجدت المطابع وطبعت كتبهم.
فيجب أن التنبه لهذه الحيثية المهمة جداً وهي: أن تلاوة القرآن كانت أمراً مشاعاً، والنبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن في آناء كثيرة، والصحابة كانوا يسمعون القرآن وهذه الآيات واضحة بالأمر بذلك.
فبعض الآيات موجهة للكفار، قال تعالى: إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنْ الْمُنذِرِينَ [النمل:91-92]، فهذا الخطاب من الله سبحانه وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وهو موجه للكفار، فهذا يدل على أن إيصال القرآن إلى مسامع الكفار نوع من العبادة، ونوع من الدعوة بحد ذاته، وهو مهم جداً وقد نغفل عنه أحياناً، بل قد يقول بعض الناس: الكافر لا يعرف العربية؟ لكن من الشواهد التي تنقل لنا: أن الكفار يميزون القرآن عن غيره وقد يحصل لهم تأثر نفسي به.
فإذاً لا بد من التنبه لهذا الأمر، وأن لا يستهان به، لا يستهان بهذه القضية بالذات التي هي: تلاوة القرآن.
ننتقل الآن إلى مظاهر العناية النبوية بإيصال القرآن للصحابة:
هناك أمور مرتبطة ببعضها وهي: المسجد، والمصليات، والخطب.
المسجد: الذي هو الصلاة، يعني: ما يقع فيه الصلاة.
والمصليات: التي هي لإقامة العيد أو للكسوف والخسوف.
والخطب النبوية سواءً كانت خطبة الجمعة أو خطبة العيدين أو غيرها.
روى البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ [التين:1]، في العشاء وما سمعت أحداً أحسن صوتاً منه أو قراءة ).
هذا الحديث وأمثاله إذا نظر إليه أحد العلماء كـالشافعي رحمه الله تعالى فإنه سيشفق من هذه الأحاديث فوائد كثيرة، لكن نحن الذي يهمنا الآن منه القضية التي نحن بصددها وهي: أن البراء سمع القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه إحدى الطرق التي كان يسمع بها الصحابة القرآن.
الرسول صلى الله عليه وسلم جلس معهم عشر سنوات وصلى بهم جميع الصلوات، إلا عدداً قليلاً من الصلوات، التي لم يكن فيها النبي صلى الله عليه وسلم إماماً، وهي لا تتجاوز الثنتين، وهو حاضر عليه الصلاة والسلام.
في هذه الفترة -وهي العشر السنوات وكان الصحابة دائماً حضوراً معه عليه الصلاة والسلام يسمعون القرآن ويميزونه.
فلم يكن القرآن خفياً يعرفه واحد منهم والآخر لا يعرف عنه شيئاً! إنما كان حقاً مشاعاً يسمعه الجميع.
أيضاً: يقول البخاري فيما رواه عن أم الفضل بنت الحارث قالت: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب: وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1]، ثم صلى لنا بعدها حتى قبضه الله )، يعني: كأنه من آخر ما صلى به النبي صلى الله عليه وسلم بهم وسمعته أم الفضل يقرأ : وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً [المرسلات:1].
وهنا ملاحظة وهي: أن الصحابة كانوا يعرفون ماذا يقرأ رسول الله، ولم تكن خافية عليهم هذه السور، ولا مجهولة عندهم، وستأتي آثار تدل على هذا.
من استشهاداته صلى الله عليه وسلم بالقرآن في الخطب ما رواه مسلم وغيره عن يحيى بن سعيد عن عمرة بنت عبد الرحمن عن أخت لـعمرة قالت: ( أخذت (( ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ )) من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وهو يقرأ بها على المنبر في كل جمعة ). هذا معناه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان يقرأ بها كان لها من القدرة على الحفظ ما يجعلها تحفظ سورة (ق)، فقد سمعتها أكثر من مرة من النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه هي الطريقة التي كان يحفظ بها الصحابة، يعني: السماع ثم يرددون ما سمعوا.
كذلك رواية أخرى عند الإمام مسلم عن عبد الله بن محمد بن معن عن بنت الحارثة بن النعمان قالت: ( ما حفظت (ق) إلا من في رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بها كل جمعة )، قالت: ( وكانت تنورنا وتنور رسول الله صلى الله عليه وسلم )، هذه رواية أخرى للأثر، وهذا يدل على نفس ما سبق.
كذلك النسائي يروي بسنده عن صفوان بن يعلى عن أبيه قال: ( سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ على المنبر: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ [الزخرف:77] ).
فمن خلال هذه الآثار التي عندنا نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو القرآن في الصلوات سواء كانت مفروضة أو غيرها، ومن خلال الخطب، والصحابة كانوا يعرفون ويميزون هذه السور وهذه الآيات.
أيضاً من أوجه العناية: ترتيب الأجر على قراءته، وسيأتينا تعيين سور، يعني: من قرأ سورة كذا، من قرأ سورة كذا، ماذا نستفيد من قوله: من قرأ سورة كذا؟
الأمثلة كثيرة منها: ما رواه الإمام مسلم ، بسنده عن أبي أمامة الباهلي قال: ( سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: اقرأوا القرآن؛ فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه )، الصحابة رضوان الله عنهم لما يسمعون هذا الخبر ماذا تتصورون منهم وهم يبادرون لعمل الخير؟ سيبادرون إلى قراءة القرآن، فإذاً لما يقول لهم: ( اقرأوا القرآن )، القرآن معلوم عندهم يعرفونه لم يكن خافياً عليهم.
وقوله: ( اقرأوا سورة البقرة؛ فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة )، والبطلة هم: السحرة.
وقد ذكر رسول الله هنا سورتي البقرة وآل عمران، ومعنى ذلك أن الصحابة لما يقول لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: ( اقرأوا البقرة وآل عمران )، فإنهم هم يعرفون ما سورة البقرة ويعرفون ما سورة آل عمران، فليست خافية عنهم، فإذاً هم يعلمونها.
وغير هذه الأحاديث مما ورد وفيه فضائل لبعض السور هو من جنس هذا، فإنه كان يحدد لهم فضيلة سورة معينة وهي معلومة عندهم وليست خافية.
وهذا ليس كما يقول بعض الرافضة أو غلاة الصوفية أو الباطنية: أن هناك علماً لا يعلمه إلا الأولياء أو الأئمة. ليس هناك علم خاص بالشريعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يكتم شيئاً من الوحي، بل قاله لكل الناس، إلا شيئاً يختص إنساناً بعينه به، مثلما خص فاطمة رضي الله عنها بخبر خاص بها وليس خبراً عاماً للناس، أما الخبر العام للناس فلا، بل كان مشاعاً، فلا يمكن أن يكون تعليم القرآن من هذا النوع الخاص كما يزعم بعضهم أبداً.
استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تاريخ القرآن الكريم [2] | 3334 استماع |
تاريخ القرآن الكريم [4] | 3250 استماع |
تاريخ القرآن الكريم [5] | 3202 استماع |
تاريخ القرآن الكريم [6] | 3006 استماع |
تاريخ القرآن الكريم [7] | 2331 استماع |
تاريخ القرآن الكريم [1] | 2223 استماع |