تاريخ القرآن الكريم [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد:

قال الله سبحانه وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً [المزمل:1-5].

ثم السلام على الآل الكرام، وعلى الصحب العظام الذين نقلوا لنا هذا الكتاب العزيز، ووصلنا كما سمعوه من النبي محمد صلى الله عليه وسلم.

ثم أما بعد:

الحديث عن تاريخ القرآن حديث ذو شجون، وله أطراف متناثرة وتفريعات متكاثرة، وكما تشاهدون اليوم ما يلاقيه هذا الكتاب من الهجمة الشرسة التي نراها، وهي قد تكون من أشد الهجمات، لما نرى من انتشار وسائل الإعلام وإيصالها لمثل هذه الهجمات الشرسة إلى كل بيت.

ومع هذه الهجمة الشرسة يقابلها بحمد الله عودة قوية كما نلاحظ أيضاً من المسلمين إلى كتاب ربهم، ترون عودة إلى قراءته وإلى حفظه وإلى تفسيره وإلى تدبره، ونحن بحمد الله نشهد عودة واضحة جداً في أقطار المعمورة وليس فقط في مكان ما، فهذه نعمة من الله سبحانه وتعالى من بها علينا، وهي نعمة تحتاج إلى شكر، ومن أكبر ما تشكر به هذه النعمة هو بثها والحرص عليها والمداوة، فمن كان له طرف فيما يتعلق بالقرآن، إما من جهة قراءته، وإما من جهة حفظه، وإما من جهة تفسيره وتدبره، وإما من جهة الإعانة على أي شيء يتعلق به فعليه أن يتمسك بهذا، وأن يداوم عليه فهذا هو شكر مثل هذه النعم.

لما كان الأمر كما قلت خصوصاً مما يتعلق بتلك الهجمة الشرسة، وكان أيضاً بعض المناوئين وبعض الباحثين الذين اتخذوا مناهج علمية خاصة لتقويم تاريخ القرآن وهي مناهج فيها نظر، وإن كان بعض هؤلاء قد يكون عنده صدق النية في البحث العلمي إلا أنه ينقصه الكثير لتحرير مسائل تاريخ القرآن، لما كان الأمر كذلك لزمت الإشارة إلى قضايا مهمة في هذا الموضوع أطرحها بين يديكم، وإني أسال الله سبحانه وتعالى أن يسددني في القول، وأن ينفعني وإياكم بما نقول ونسمع.

فشل المناوئين للقرآن

مما يجب أن يعلم يقيناً أن دعاوى المناوئين والهجمات التي ذكرتها لكم، هذه المحاولات لإسقاط القرآن مهما بلغت في القوة فإنها ستبوء بالفشل قطعاً، ولا ريب في ذلك عندنا نحن المسلمين، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].

وهؤلاء يصدق فيهم قول الشاعر:

كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

فهم كما قال الشاعر في هذا وعل يصطدم بصخرة عظيمة فتتكسر قرونه، وهذا هو الذي سيحصل.

وهؤلاء القوم لو دخلوا القرآن لطلب الحق، كما قال الله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، لو كانوا يريدون الحق لوصلوا إليه بلا شك، ويكفي في ذلك الإقرار منهم بصحة هذا الكتاب، وبأنه نزل من عند الله سبحانه وتعالى، وأما مسألة الإيمان فهذه مسألة أخرى، وهي مرتبطة بهداية الله سبحانه وتعالى.

وأقول يقيناً: من دخل وهو يريد أن يقرأ هذا الكتاب من هذه النظرة، فإنه سيصل إلى هذه النتيجة لا محالة، وقد علمنا من خلال القصص الكثيرة أن بعض هؤلاء قد دخل للطعن في القرآن فآل الأمر به إلى الإيمان بالقرآن، وأنه منزل من عند الله، وصار من المسلمين المؤمنين، ولله الحمد والمنة.

بما أننا نحن أصحاب الحق، ونجزم يقيناً أن هذا القرآن حق، وأنه نازل من عند الله سبحانه وتعالى، فإنه يجب علينا أن نعرف هذا الحق الذي في كتابنا، والمتعلق بكتابنا أولاً، ثم نجتهد في توضيحه للناس، وإن أي مناقشة علمية فيما يتعلق بهذا الموضوع لا تعدو أن تكون من باب النظر في مسائل قد يدخلها الاجتهاد في بعضها، وليست محطات مرتبطة بثوابت، ولذا لا تثريب على من يتكلم من الباحثين في مثل هذا الموضوع، ولا خوف من ذلك، ما دام يملك الأداة التي توصله إلى مناقشة مثل هذا الموضوع.

وأنا ألاحظ أن بعض طلبة العلم يتخوفون أحياناً من طرق مثل هذه الموضوعات، وهذا التخوف وإن كان جزء منه له ما يعضده إلا أن إغلاق الباب لا يصلح؛ لأن الباب قد كسر، ومن يفتح الإنترنت يجد من الهجمات على هذا الكتاب الشيء الكثير، وقد رأيت كثيراً منها، ولكن عندي من اليقين أن من يكتب هذا الكلام صاحب شبهة أو شهوة، لا يريد الوصول إلى الحق، فهو يثير غباراً سرعان ما ينقشع.

لكن ما هو دورنا نحن؟ الكتاب كتاب الله، نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تكفل الله بحفظه حيث قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فهذا عندنا يقين لا شك فيه.

لكن المسألة ترجع إلينا نحن ماذا نستطيع أن نقدم لهذا الكتاب؟ هذا الذي يجب أن نسأل أنفسنا وأن نعمل من أجله، وليس أن نتتبع الشبهات وأن نرد عليها؛ لأن كثيراً من هذه الشبهات كما قلت: أشبه بالغبار الذي يزول سريعاً ليس فيها شيء، ولعلي من خلال ما سأطرحه يتبين إن شاء الله رد كثير من هذه الشبهات، وإن كنت لن أعرض لها قصداً؛ لأنه ليس المراد من هذا الدرس أن نذكر الشبه، وإنما المراد أن نناقش قضايا علمية مرتبطة بتاريخ القرآن لنكون على يقين: كيف وصل إلينا هذا الكتاب!

مما يجب أن يعلم يقيناً أن دعاوى المناوئين والهجمات التي ذكرتها لكم، هذه المحاولات لإسقاط القرآن مهما بلغت في القوة فإنها ستبوء بالفشل قطعاً، ولا ريب في ذلك عندنا نحن المسلمين، يقول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:41-42].

وهؤلاء يصدق فيهم قول الشاعر:

كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

فهم كما قال الشاعر في هذا وعل يصطدم بصخرة عظيمة فتتكسر قرونه، وهذا هو الذي سيحصل.

وهؤلاء القوم لو دخلوا القرآن لطلب الحق، كما قال الله سبحانه وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82]، لو كانوا يريدون الحق لوصلوا إليه بلا شك، ويكفي في ذلك الإقرار منهم بصحة هذا الكتاب، وبأنه نزل من عند الله سبحانه وتعالى، وأما مسألة الإيمان فهذه مسألة أخرى، وهي مرتبطة بهداية الله سبحانه وتعالى.

وأقول يقيناً: من دخل وهو يريد أن يقرأ هذا الكتاب من هذه النظرة، فإنه سيصل إلى هذه النتيجة لا محالة، وقد علمنا من خلال القصص الكثيرة أن بعض هؤلاء قد دخل للطعن في القرآن فآل الأمر به إلى الإيمان بالقرآن، وأنه منزل من عند الله، وصار من المسلمين المؤمنين، ولله الحمد والمنة.

بما أننا نحن أصحاب الحق، ونجزم يقيناً أن هذا القرآن حق، وأنه نازل من عند الله سبحانه وتعالى، فإنه يجب علينا أن نعرف هذا الحق الذي في كتابنا، والمتعلق بكتابنا أولاً، ثم نجتهد في توضيحه للناس، وإن أي مناقشة علمية فيما يتعلق بهذا الموضوع لا تعدو أن تكون من باب النظر في مسائل قد يدخلها الاجتهاد في بعضها، وليست محطات مرتبطة بثوابت، ولذا لا تثريب على من يتكلم من الباحثين في مثل هذا الموضوع، ولا خوف من ذلك، ما دام يملك الأداة التي توصله إلى مناقشة مثل هذا الموضوع.

وأنا ألاحظ أن بعض طلبة العلم يتخوفون أحياناً من طرق مثل هذه الموضوعات، وهذا التخوف وإن كان جزء منه له ما يعضده إلا أن إغلاق الباب لا يصلح؛ لأن الباب قد كسر، ومن يفتح الإنترنت يجد من الهجمات على هذا الكتاب الشيء الكثير، وقد رأيت كثيراً منها، ولكن عندي من اليقين أن من يكتب هذا الكلام صاحب شبهة أو شهوة، لا يريد الوصول إلى الحق، فهو يثير غباراً سرعان ما ينقشع.

لكن ما هو دورنا نحن؟ الكتاب كتاب الله، نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وقد تكفل الله بحفظه حيث قال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، فهذا عندنا يقين لا شك فيه.

لكن المسألة ترجع إلينا نحن ماذا نستطيع أن نقدم لهذا الكتاب؟ هذا الذي يجب أن نسأل أنفسنا وأن نعمل من أجله، وليس أن نتتبع الشبهات وأن نرد عليها؛ لأن كثيراً من هذه الشبهات كما قلت: أشبه بالغبار الذي يزول سريعاً ليس فيها شيء، ولعلي من خلال ما سأطرحه يتبين إن شاء الله رد كثير من هذه الشبهات، وإن كنت لن أعرض لها قصداً؛ لأنه ليس المراد من هذا الدرس أن نذكر الشبه، وإنما المراد أن نناقش قضايا علمية مرتبطة بتاريخ القرآن لنكون على يقين: كيف وصل إلينا هذا الكتاب!

فإذاً: المناقشة ستدور حول هذا وما يمكن أن يعرض منها فهو على سبيل الاستطراد، وليس من باب الأصالة في هذه المحاضرات التي سألقيها، لكني قد أذكر أحياناً بأن هذه الفائدة العلمية يرد بها على من يقول كذا، وهذه الفائدة العلمية يرد بها على من يقول كذا، وقد يظهر أيضاً من بعض ما سألقيه هذا، بل قد يكون وهذا لا شك عندي فيه قد يكون عند كثير منكم أشياء يمكن أيضاً أن تضاف.

هذا الموضوع كما قلت له أطرف مترامية سأجتهد أن أتكلم فيه عن مقدمات عامة فيما يتعلق بالوحي وما يرتبط به، ثم سنناقش قضية القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان، ثم سنناقش في مرحلة عهد أبي بكر الصديق إلى عهد عثمان ، ثم سنناقش مرحلة عهد عثمان رضي الله عنه التي استقر فيها المصحف العثماني، ثم ما تبع هذه المراحل بإيجاز؛ لأن العقدة الكبرى هي في هذه المراحل الثلاث، وما بعد هذه المراحل الثلاث لا يأتينا إلا ما يتعلق بقضية القراءات واختلاف القراءات، وهذه إن شاء الله سنأتي إليها بشيء من التفصيل والتذليل بإذن الله.

تعريف الوحي

لو رجعنا إلى القرآن لوجدنا أنه في أصله وحي أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فنحتاج إلى أن ننظر فيما يتعلق بالوحي، ما هو الوحي؟

الوحي تعريفاته كثيرة، لكن تجمع هذه التعريفات على أمرين:

الأمر الأول: أنه إعلام.

والأمر الثاني: أنه بخفاء.

إذاً: الوحي هو: إعلام بخفاء، هذا الإعلام بخفاء هو: إعلام من الله سبحانه وتعالى لمن اصطفاه برسالته، يخبره فيه عن كل ما يريد أن يطلعه عليه، سواء كانت من الأمور المرتبطة بالشرائع أو المرتبطة بالعقائد أو مرتبطة بالتاريخ. فعندنا شرائع، وعقائد، وتاريخ.

فأي شيء يتعلق بهذه الأشياء مما يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه فإنه يعتبر من الوحي، لن نتطرق هنا إلى أنواع الوحي؛ لأننا سنأتي إلى تفصيلها، لكن نتكلم الآن نحن عن معنى الوحي جملة، أما الذي ينزل به الوحي؟ كيف يتلقى الوحي؟ فهذه قضايا سنأتي إليها إن شاء الله لاحقاً.

لكن المقصود الآن هو الإشارة العامة إلى معنى الوحي؟

فإذاً: الوحي هو صلة بين الله سبحانه وتعالى من جهة وبين المصطفى من رسله من جهة أخرى، إما بواسطة وإما بغير واسطة على حسب ما سيأتي إن شاء الله بالتفصيل.

الوحي عند أتباع الشرائع وغيرهم

هذا الوحي إذا نظرنا فيه فسنجد أن قضية الوحي أو الإيمان بالوحي أصلاً موجوداً في جميع الشرائع؛ لأنها قائمة على الوحي، بمعنى: أن النصراني الأصل عنده الإيمان بالوحي؛ لأنه يربط هذا النبي وهو عيسى عليه السلام برسالة من الله سبحانه وتعالى، وكذلك اليهودي يربط موسى عليه السلام، وكذلك من جاء بعده من أنبياء بني إسرائيل أيضاً برسالة من الله سبحانه وتعالى.

فإذاً: الوحي يتفق في الإيمان به جميع أتباع الشرائع بغض النظر هل يؤمنون بالوحي الذي نزل على فلان أو بالوحي الذي نزل على فلان، هذه مسألة أخرى.

لكن المقصود: أن قضية الوحي هذه قضية مستقرة عند أتباع الأنبياء.

أما إذا نظرنا في غير أتباع الأنبياء، مثل: الفلاسفة أو غيرهم مثلاً من الهنود، ومن عاش في الصين وغيرها، ممن لم تنزل عليهم النبوات، فهؤلاء لا يأتيهم من الوحي إلا الأخبار، وليس عندنا من خلال التاريخ ما يثبت نزول الوحي أو عدم نزوله، لكن الظاهر من الأمر هو: أنهم لم يكونوا أصحاب نبوات، ونستدل على هذا بما ورد من تراثهم أنا لا نجد فيه أخباراً من أخبار النبوات إطلاقاً.

فإذاً: هؤلاء الأقوام عاشوا كما أراد الله قدراً بلا نبوات، وهذه مسألة مرتبطة بالقدر، وهي ترجع في حكمها إلى الله سبحانه وتعالى، وليست إلى البشر؛ لأننا نعلم أحكام أهل الفترة وغيرها، وهذه قضية مسندة في النهاية إلى حكم الله سبحانه وتعالى، فلذا لا نشغل بالنا في مثل هذا الموضوع؛ لأنه موضوع مرتبط بقدر الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي له الحكم في هذا الأمر، لكن المقصد من ذلك أن ننتبه إلى مثل هذه القضية.

وهنا أحب أن ننتبه إلى مسألة متعلقة بقضية الوحي، وهي: أننا حينما ننظر في أخبار الأقوام كيف نستدل على أن عندهم خبراً من رسالة السماء ووصلهم وحي أو لم يصلهم، كما قلت سابقاً: نستدل من خلال الآثار، فمثلاً: الملك الذي كان في عهد يوسف عليه السلام، لما ذهب يوسف إلى مصر، هل كان هؤلاء القوم الذي ذهب إليهم يوسف عليه السلام هل كانوا أصحاب وحي أو لا؟

إذا أردنا أن نستدل من نفس السورة، يعني: هل في السورة ما يدل على أن القوم الذين ذهب إليهم يوسف وصار خادماً عندهم أصحاب وحي أو لا؟

فقوله تعالى: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، مما يدل على أنهم كانوا أصحاب شرك. فإذاً: المقصد من ذلك أن نستطيع أن نستدل من خلال تاريخ القوم أنهم لم يكونوا أصحاب وحي بمثل هذه الاستدلالات.

استحالة إنكار وجود وحي

عندنا قضية فيما يتعلق أيضاً بالوحي أن الوحي واقع تاريخي لا يمكن إنكاره، فهو مرتبط بالنبوات بمعنى: أنه لا يمكن أن يأتي أحد الناس ويقول: لا يوجد نبوات، وكل ما يقال في النبوات هذا كذب؛ لأن هذا في الحقيقة لو حصل فهو عين السفسطة؛ لأن النبوات أمرها ثابت ثبوتاً يقينياً متواتراً، وعدم وجود النبوات في بعض الأقوام لا يعني عدمها الكلي، بمعنى: إنه ما يأتي واحد من اليونان ويحتج فيقول: لا يوجد نبوات؛ لأني أنا في طول عمري، وكذلك القوم الذين كانوا قبلي لا يعرفون النبوات، فنقول: عدم معرفتك بها لا يعني عدم وجودها، واليوم كذلك لا يمكن لأحد أن ينكر هذا.

فإذاً: هناك نبوات قائمة، وهناك ديانات قائمة على أنها وحي من الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن إنكار هذه، فإنكار هذا الأمر هو في الحقيقة نوع من السفسطة لا غير.

عقيدة اليهود في الدين والرب

الوحي أيضاً في الأديان الثلاثة الكبرى التي هي اليهودية والنصرانية والدين الإسلامي على ترتيبها التاريخي مرتبطة بفكرة الإله والنبوة عند كل هذه الديانات الثلاثة، فنلاحظ مثلاً: اليهود يرون أنفسهم شعب الله المختار، وبما أنهم يرون أنفسهم أنهم شعب الله المختار فلا يمكن أن يدخل أحد في هذا الشعب المختار.

إذاً: النبوة خاصة والإله خاص، ولما ظهر عيسى عليه السلام فيهم وهو منهم كفروا به، بل وأرادوا قتله، وقتلوا شبيهه كما أخبر القرآن بذلك، فالآن اليهود لما كفروا بـعيسى عليه السلام ظهرت ديانة عيسى عليه السلام الديانة النصرانية قبل التحريف، حتى وصلت إلى حد التحريف.

عقيدة النصارى في الدين والرب

والمقصد من ذلك: في الموجود بين أيدينا إذا رجعنا إلى النصرانية نجد أنها مرتكزه على أن المسيح تعالى الله عما يقولون هو الإله، أو أنه ابن الله، ولهذا الأناجيل لما ترجع إليها خاصة المدونة المعترف بها، تجدها تدور حول شخصية المسيح لا غير، أخبار وأحداث حدثت له عليه الصلاة والسلام.

وهذه الأخبار بنوا عليها فيما بعد عقيدة الفداء والتخلص من الخطيئة إلى آخره، وهذه كلها إنما حدثت بعد جيل أتباع عيسى عليه السلام، وليست في أتباع عيسى عليه السلام، فالذين آمنوا بـعيسى أول ما آمنوا لم يكن عندهم مثل هذه العقائد، وإنما كانوا يؤمنون بأنه نبي من الله سبحانه وتعالى، وأنه مرسل إليهم، وأن الله رفعه ونجاه من القتل.

المقتول نيابة عن عيسى

ومن باب الفائدة استطراداً أحب أن ننتبه إلى مسألة فيما يتعلق بالذي قتل، وصلب من هو؟

الأناجيل الموجودة بين أيدينا تدعي خيانة أحد الاثني عشر، الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى، وهم الحواريين، واصطفاهم الله سبحانه وتعالى لنبيه عيسى عليه السلام، وليس هناك في التحقيق التاريخي ما يدل على ذلك غير ما كتب في هذه الأناجيل.

والذي يظهر عندي والله أعلم من باب الفرض وليس من باب اليقين أن الذي قتل هو الذي شبه بـعيسى عليه السلام، ولكنه شبه بـعيسى اختياراً وليس أنه شبه به اضطراراً، بمعنى: أن عيسى عليه السلام لما أخبر الحواريين بما سيحصل له، وأنه سيلقى شبهه على أحدهم فاختار أحدهم أن يكون هو، فصار هو المخلص في هذا الموضوع، ورفع عيسى عليه السلام وقتلوا شبيهه ظناً أنه هو وليس هو.

إذاً: يكون هذا الذي قتل قد قدم لدينه خدمة وليس أنه خان، لكن الذي يبدو لي والله أعلم أن النصارى لما نظروا في الاثني عشر وجدوا أن واحداً منهم قد فقد، وعيسى عليه السلام غير موجود، أنه قد خان، وهذه قضية الخيانة جاءت فيما يبدوا والله أعلم متأخرة.

فالمقصد من هذا الذي أقوله: أن سنة الله سبحانه وتعالى إذا اختار لنبيه أن يختار له الخلصاء الأوفياء، ولا يتصور أن يكون من خلصائه الحواريين خونة، وليس من عادة الله سبحانه وتعالى مع أنبيائه أن يكون أحد خلصائه الذين اختصهم الله لنفسه خائناً إلا عند من يزعم والعياذ بالله خيانة جبريل عليه السلام في هذا الموضوع، فهذا شأنه شأن آخر.

عالمية الإسلام

لكن إذا جئنا إلى الإسلام، فالرب رب الجميع والدين دين الجميع بلا استثناء؛ ولهذا انتشر هذا الدين سريعاً بما فيه من المبادئ التي تتوافق مع فطرة الإنسان، من حيث هو إنسان سواء كان في أدغال إفريقيا أو كان في الاسكيموا أو كان متحضراً أو كان متبدياً أينما كان، فإنه يستطيع أن يعبد الله بهذا الدين الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، فإذاً: الدين هو دين الجميع.

ونلاحظ أيضاً من باب الفائدة أن النصارى لم يكنوا حريصين على نشر دينهم إلا إذا أرادوا الكيد للإسلام، والدليل على ذلك أن كلونبوس لما ذهب إلى أمريكا أباد أبناء أمريكا الأصليين الذي كانوا قبله فهم جاءوا للإبادة، ولو كانوا حريصين على دعوتهم لدعوهم إلى النصرانية، لكن لو كان الذي دخلها المسلمون فسيدعون هؤلاء الأقوام إلى الدين؛ لأننا جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، والدعوة النصرانية التي نراها اليوم بقوة قوية جداً، هذه دعوة طارئة، ومحاولة العالمية التي ينشدها النصارى اليوم هي طارئة أما قبل فلم تكن هكذا إطلاقاً.

المقصد من ذلك: أن ننتبه إلى أن دين الإسلام هو الدين الحق الذي ينتشر ولا يحتاج في نشره إلى قوة دائماً، بل القوة إذا جاءت فإنما هي لإزالة الباطل ولإزالة أولئك الناس الذين يقفون في وجه الحق؛ ولهذا لو رجعنا إلى تاريخ أندونيسيا وغيرها من الجزر، لعرفنا كيف دخلت في الإسلام؟ لم يشهر في وجوه أهلها سيف واحد باتفاق، أما لما ذهب النصارى إلى الفلبين ماذا فعلوا لينصروا المسلمين، ولينصروا من بقي من الأقوام الكافرة ؟ صارت مقاتل عظيمة جداً حتى رسخت قدمهم في هذه البلد التي أصولها مسلمة.

المقصد من ذلك: أن ننتبه إلى الفروق في قضية ما يتعلق بالوحي.

فإذاً: عندنا نصوص متكاثرة من القرآن ومن السنة في هذا التنبيه المهم جداً في عالمية هذا الدين.

الوحي هو الطريق الوحيد لمعرفة مراد الله

أيضاً مما يجب أن يعلم فيما يتعلق بقضية الوحي أنه هو الطريق الوحيد الموصل إلى الله سبحانه وتعالى، وقصدي بذلك في الطريق الوحيد الموصل إلى الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بالشرائع؛ لأن العقل قد يدرك توحيد الربوبية؛ لكنه لا يدرك كيف يعبد الله، فيجب أن نفرق بين الأمرين.

وهذا الذي أوقع كثيراً من الفلاسفة في الشبهة، فلما رأوا أن العقل يستطيع أن يصل إلى توحيد الربوبية ظنوا أن النبوات لا حاجة لها، وأن الفيلسوف الذي يجاهد في علم الفلسفة أو غيره يستطيع أن يصل إلى مرتبة النبوة، وهذا ليس بصحيح.

فإذاً نقول: الوحي اصطفاء، ولا يمكن أن يوصل إلى تفاصيل كيفية عبادة الله سبحانه وتعالى إلا من طريق الوحي، أما العقل فليس له مقام ولا مجال في هذا، وهذه قاعدة كلية يحسن أن نستحضرها ونحن نناقش مثل هذا الموضوع.

اتفاق الأنبياء في نزول الوحي عليهم

أيضاً مما يتعلق بقضية الوحي: أن كل الأنبياء يشتركون في أمر الوحي، فما دام موصوف بأنه نبي فإنه يوحى إليه، ومما ورد في القرآن قوله سبحانه وتعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً [النساء:163].. الآيات، فهذه فيها إشارة إلى أن قضية النبوة مرتبطة بالوحي، فلا نبوة بلا وحي.

ومما يتعلق بقضية الاصطفاء في الوحي أيضاً أن الأنبياء عليهم السلام لما اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لم يدع أحد منهم أن ما جاء به هو من عند نفسه، بل كلهم يتفقون على أنه من عند الله، وكلهم يتفقون على أنهم لا يأخذون على ما آتاهم الله سبحانه وتعالى من هذه النبوة ديناراً ولا درهماً، فلا يأخذون من متاع الدنيا أي شيء، وإذا رأيت حالهم إنما يقولون: أمر الله، نهى الله، قال الله، فكل فعل ينسبونه إلى الله سبحانه وتعالى في هذا، فهؤلاء الأنبياء كلهم يتفقون في مثل هذا الأمر.

عدم قدرة العقل على تكييف الوحي

ومن القضايا المهمة في هذا: أن الوحي لا يمكن تكييفه بالعقل، وهذه القضية: قضية تكييف الوحي بالعقل قضية يجب أن ننتبه لها؛ لأن بعض المعاصرين وهو محمد عبد العظيم الزرقاني رحمه الله تعالى في كتابه مناهل العرفان، وكذلك غيره اجتهد أن يوجد شبيهاً للوحي فيما يتعلق بالعلم المعاصر، وعنده عنوان في كتابه مناهل العرفان سماه الوحي من ناحية العلم، وهذا في الحقيقة أحد المزالق التي قد نقع فيها ونحن لا نشعر ولا ننتبه؛ ولهذا نقول قاعدة مهمة جداً في هذا الأمر: الوحي لا يمكن تكييفه بالعقل، وإلا فما قيمة أن يكون الدين مبنياً على الإيمان بالغيب: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2]، أول وصف لهم الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3]، فإذاً قضية الإيمان بالغيب مرتكز أساس فيما يتعلق بالإيمان بالنبوات.

قد يقول قائل: إذاً: كيف نستدل على أن هذا هو النبي؟ نقول: هذه قضية أخرى ستأتي في قضية النظر في الأحوال، والنظر في المقال، يعني: ماذا يقول؟ بماذا يأمر؟ هكذا استدل كثير ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم في عهده وبعد عهده.

فإذاً مسألة الإيمان بالنبي مسألة أيسر من أننا نبحث في محاولة تكييف الوحي بالنظر العقلي أو العلمي.

والشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني رد عليه الدكتور محمد علي الحسن رداً جيداً في كتابه: المنار في علوم القرآن، يمكن أن يرجع لمناقشة ما ذكره، وكذلك أن يرجع لما تكلم به الدكتور محمد عبد العظيم الزرقاني رحمه الله تعالى؛ لأن محمد عبد العظيم الزرقاني ربط بين ظاهرة الوحي وبين ما يسمى بالتنويم المغناطيسي، وكان في عهدهم قد انتشر هذا، فكان منه رحمه الله تعالى أن ربط بين هذين الأمرين، وأيضاً هو جرب تجربة في هذا، وذكر كلاماً يطول في هذا، يمكن أن يرجع إليه في كتاب مناهل العرفان.

لكن أقول: إن ظاهرة الوحي لا يمكن تكييفها بأي شيء من هذه التكييفات، وبناءً عليه فما يتعلق بظاهرة الوحي وكيفية نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن نعلم منها إلا الآثار فقط، أما الكيفية نفسها فهذه تدخل ضمن علم الغيب، وستأتي إن شاء الله إشارة إلى ما يتعلق بكيفية نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنها مرتبطة بتاريخ القرآن.

لكن من الآثار التي يمكن أن يستدل بها على أن الوحي لم يأت بما تستحيله العقول، وإن كان قد يأتي بما تستغربه العقول، يعني: تستغربه العقول شيء، وتستحيله العقول شيء آخر، لا يوجد في الوحي ما تستحيله العقول، يعني يقول: محال أن يحدث هذا والمقصود العقول الصحيحة السليمة، وإلا عقول السفسطة هذه لا حد لها، بل إن المسفسط يمكن أن ينكر وجوده وهو موجود، فيصل فيه الحد بطريقة الجدل أن ينكر أنه موجود وهو موجود، وينكر أنه متكلم وهو يتكلم، فنحن لا نريد أن نناقش أمثال هؤلاء إنما نناقش من كان له عقل، يمكن أن يناقش ويحاور فيه، أما هؤلاء فسيلغون خاصية العقل.

فإذا تأملنا ما جاءت به النبوات فلا يمكن أن يرد في النبوات ما تستحيله العقول، أما أن يرد ما تستغربه فهذا طبيعي، وهذا مجال الإيمان بالغيب حينما يخبر النبي بكذا، أو بوقوع كذا، أو بأن لمن آمن به كذا، هذه أشياء تدخل مما لا تدركه العقول مباشرة، ولكنها تأخذه إيماناً.

ما تدعو إليه النبوات خلافاً لقوانين البشر

كذلك أيضاً إذا نظرنا فيما تدعو إليه النبوات، وهي تدخل ضمن قول الله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90]، فهذه الآية تشمل القاعدة العامة في النبوات، يأمركم بالعدل، يأمركم بالإحسان، والإحسان أعلى مرتبة من العدل، بمعنى: أني ممكن أن أعدل معك، أنت مثلاً ظلمتني فأنا أرد مظلمتك كما هي، لكن الإحسان أن أعفو عنك، وقد أزيد في الإحسان أن أهديك هدية فوق العفو، فيكون هذا من باب الإحسان، أما العدل فهو القصاص المعروف.

هذه الشرائع التي تأمر بالعدل والإحسان لا تحتملها عقول كثير من المشرعين الذين يشرعون للبشر، ولا تجد هذا موجوداً عندهم، ولا هو في ميزانهم، أما في ميزان النبوات فهذا موجود، ويكافئ الله سبحانه وتعالى عليه ويعطي عبده، ويراه في الدنيا كما يكون وعداً له في الآخرة، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النحل:90].

أيضاً من قواعد العدل والإحسان: أنه حتى النبي نفسه تجده أيضاً ملتزم بهذا الشرع، ومعروف قصة سواد : ( لما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصف جيشه في غزوة بدر، فـسواد رضي الله عنه قدم صدره وبطنه قليلاً على الصف، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان معه مثل العود الصغير فنخس بطن سواد وأمره بالتراجع قليلاً كي يكون في الصف، فـسواد افتعل الألم وقال: لقد أوجعتني يا رسول الله، وكان بطنه عارياً، فالرسول صلى الله عليه وسلم قال: اقتص يا سواد ! قال: ولكني كنت عاري البطن، فكشف النبي صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقبله سواد ، فقال: ما حملك على هذا؟ قال: أحببت أن يكون آخر شيء لي في الدنيا أن ألامس جسدك )، أو كما قال.

فقصدي من هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم طبق حتى على نفسه، وقال في مقولته المشهورة: ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها ).

فإذاً: هذا الشرع يأتي على الجميع حتى النبي عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

فهذا الأثر من الآثار التي تدعو العقل إلى اتباعه والاقتداء به حتى لو لم يقل: بأنه من النبوات، فالعاقل يتبع مثل هذا الأمر الذي يشترك فيه جميع الناس، ونحن الآن نسمع من يطنطن حول قضية الديمقراطية، ومحاكمة الرئيس، والرئيس على الملأ يتكلم عن نفسه، وناس يطنطنون في هذا، ويزعمون أن هذا من محاسن الديمقراطية، والإسلام أعلى وأجل من هذا كله، والنبوات التي جاءت عن الله سبحانه وتعالى أعلى بكثير مما ننظر اليوم فيه من أعمال البشر، لكن هكذا يريده الله سبحانه وتعالى فتنة للعباد أن يظهر لهم ما بين فينة وأخرى ما يكون فتنة وابتلاءً.

وأختم ما يتعلق بالوحي بهذا فأقول: من الخطورة بمكان أن نكيف الوحي، لأن الوحي قضية غيبية نؤمن بها كما هي، ولا نجتهد في تكييفها وتقريبها إطلاقاً، وذكرت لكم مثالاً من فضلاء المسلمين الدكتور: محمد عبد العظيم الزرقاني رحمه الله تعالى في كتابه الكبير والشهير والمهم جداً وهو: مناهل العرفان، ولكن كما قيل: لكل جواد كبوة، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر له، والمسألة في مثل هذا إن شاء الله يسيرة، فهو أراد خيراً ولكن لم يوفق إليه، وقد ذكر أمثلة أخرى لتقريب الوحي لكنها أيضاً ليست بسديدة.

لو رجعنا إلى القرآن لوجدنا أنه في أصله وحي أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فنحتاج إلى أن ننظر فيما يتعلق بالوحي، ما هو الوحي؟

الوحي تعريفاته كثيرة، لكن تجمع هذه التعريفات على أمرين:

الأمر الأول: أنه إعلام.

والأمر الثاني: أنه بخفاء.

إذاً: الوحي هو: إعلام بخفاء، هذا الإعلام بخفاء هو: إعلام من الله سبحانه وتعالى لمن اصطفاه برسالته، يخبره فيه عن كل ما يريد أن يطلعه عليه، سواء كانت من الأمور المرتبطة بالشرائع أو المرتبطة بالعقائد أو مرتبطة بالتاريخ. فعندنا شرائع، وعقائد، وتاريخ.

فأي شيء يتعلق بهذه الأشياء مما يخبر الله سبحانه وتعالى نبيه فإنه يعتبر من الوحي، لن نتطرق هنا إلى أنواع الوحي؛ لأننا سنأتي إلى تفصيلها، لكن نتكلم الآن نحن عن معنى الوحي جملة، أما الذي ينزل به الوحي؟ كيف يتلقى الوحي؟ فهذه قضايا سنأتي إليها إن شاء الله لاحقاً.

لكن المقصود الآن هو الإشارة العامة إلى معنى الوحي؟

فإذاً: الوحي هو صلة بين الله سبحانه وتعالى من جهة وبين المصطفى من رسله من جهة أخرى، إما بواسطة وإما بغير واسطة على حسب ما سيأتي إن شاء الله بالتفصيل.

هذا الوحي إذا نظرنا فيه فسنجد أن قضية الوحي أو الإيمان بالوحي أصلاً موجوداً في جميع الشرائع؛ لأنها قائمة على الوحي، بمعنى: أن النصراني الأصل عنده الإيمان بالوحي؛ لأنه يربط هذا النبي وهو عيسى عليه السلام برسالة من الله سبحانه وتعالى، وكذلك اليهودي يربط موسى عليه السلام، وكذلك من جاء بعده من أنبياء بني إسرائيل أيضاً برسالة من الله سبحانه وتعالى.

فإذاً: الوحي يتفق في الإيمان به جميع أتباع الشرائع بغض النظر هل يؤمنون بالوحي الذي نزل على فلان أو بالوحي الذي نزل على فلان، هذه مسألة أخرى.

لكن المقصود: أن قضية الوحي هذه قضية مستقرة عند أتباع الأنبياء.

أما إذا نظرنا في غير أتباع الأنبياء، مثل: الفلاسفة أو غيرهم مثلاً من الهنود، ومن عاش في الصين وغيرها، ممن لم تنزل عليهم النبوات، فهؤلاء لا يأتيهم من الوحي إلا الأخبار، وليس عندنا من خلال التاريخ ما يثبت نزول الوحي أو عدم نزوله، لكن الظاهر من الأمر هو: أنهم لم يكونوا أصحاب نبوات، ونستدل على هذا بما ورد من تراثهم أنا لا نجد فيه أخباراً من أخبار النبوات إطلاقاً.

فإذاً: هؤلاء الأقوام عاشوا كما أراد الله قدراً بلا نبوات، وهذه مسألة مرتبطة بالقدر، وهي ترجع في حكمها إلى الله سبحانه وتعالى، وليست إلى البشر؛ لأننا نعلم أحكام أهل الفترة وغيرها، وهذه قضية مسندة في النهاية إلى حكم الله سبحانه وتعالى، فلذا لا نشغل بالنا في مثل هذا الموضوع؛ لأنه موضوع مرتبط بقدر الله، والله سبحانه وتعالى هو الذي له الحكم في هذا الأمر، لكن المقصد من ذلك أن ننتبه إلى مثل هذه القضية.

وهنا أحب أن ننتبه إلى مسألة متعلقة بقضية الوحي، وهي: أننا حينما ننظر في أخبار الأقوام كيف نستدل على أن عندهم خبراً من رسالة السماء ووصلهم وحي أو لم يصلهم، كما قلت سابقاً: نستدل من خلال الآثار، فمثلاً: الملك الذي كان في عهد يوسف عليه السلام، لما ذهب يوسف إلى مصر، هل كان هؤلاء القوم الذي ذهب إليهم يوسف عليه السلام هل كانوا أصحاب وحي أو لا؟

إذا أردنا أن نستدل من نفس السورة، يعني: هل في السورة ما يدل على أن القوم الذين ذهب إليهم يوسف وصار خادماً عندهم أصحاب وحي أو لا؟

فقوله تعالى: أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمْ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ [يوسف:39]، مما يدل على أنهم كانوا أصحاب شرك. فإذاً: المقصد من ذلك أن نستطيع أن نستدل من خلال تاريخ القوم أنهم لم يكونوا أصحاب وحي بمثل هذه الاستدلالات.

عندنا قضية فيما يتعلق أيضاً بالوحي أن الوحي واقع تاريخي لا يمكن إنكاره، فهو مرتبط بالنبوات بمعنى: أنه لا يمكن أن يأتي أحد الناس ويقول: لا يوجد نبوات، وكل ما يقال في النبوات هذا كذب؛ لأن هذا في الحقيقة لو حصل فهو عين السفسطة؛ لأن النبوات أمرها ثابت ثبوتاً يقينياً متواتراً، وعدم وجود النبوات في بعض الأقوام لا يعني عدمها الكلي، بمعنى: إنه ما يأتي واحد من اليونان ويحتج فيقول: لا يوجد نبوات؛ لأني أنا في طول عمري، وكذلك القوم الذين كانوا قبلي لا يعرفون النبوات، فنقول: عدم معرفتك بها لا يعني عدم وجودها، واليوم كذلك لا يمكن لأحد أن ينكر هذا.

فإذاً: هناك نبوات قائمة، وهناك ديانات قائمة على أنها وحي من الله سبحانه وتعالى، فلا يمكن إنكار هذه، فإنكار هذا الأمر هو في الحقيقة نوع من السفسطة لا غير.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
تاريخ القرآن الكريم [2] 3326 استماع
تاريخ القرآن الكريم [4] 3244 استماع
تاريخ القرآن الكريم [5] 3196 استماع
تاريخ القرآن الكريم [6] 3001 استماع
تاريخ القرآن الكريم [7] 2328 استماع
تاريخ القرآن الكريم [3] 2123 استماع