التعليق على كتاب الفوز الكبير في أصول التفسير [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام الدهلوي رحمه الله: [ أما المنافقون فهم على قسمين: قوم يقولون: الكلمة الطيبة بألسنتهم، وقلوبهم مطمئنة بالكفر، ويظهرون الجحود الصرف في أنفسهم، قال تعالى في حقهم: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ [النساء:145]، وطائفة دخلوا في الإسلام بضعف، فمنهم من يتبعون عادة قومهم، ويعتادون موافقتهم، إن آمن القوم آمنوا، وإن كفروا كفروا، ومنهم من هجم على قلوبهم اتباع لذات الدنيا الدنيئة، بحيث لم يترك في القلب محلاً لمحبة الله ومحبة الرسول، أو تملك قلبهم الحرص على المال والحسد والحقد ونحو ذلك، حتى لا يخطر ببالهم حلاوة المناجاة، ولا بركات العبادات، ومنهم من شغفوا بأمور المعاش، واشتغلوا بها حتى لم يبق فرصة للاهتمام بأمر المعاد، وتوقعه وتفكره، ومنهم من يخطر ببالهم ظنون واهية، وشبهات ركيكة في رسالة نبينا صلى الله عليه وسلم، وإن لم يبلغوا درجةً يخلعون بها ربقة الإسلام، ويخرجون منه بالكلية، ومنشأ تلك الشكوك جريان الأحكام البشرية على حضرة نبينا صلى الله عليه وسلم، وظهور ملة الإسلام في صورة غلبة الملوك على أطراف الممالك وما أشبه ذلك، ومنهم من حملتهم محبة القبائل والعشائر على أن يبذلوا الجهد البليغ في نصرتهم وتقويتهم وتأييدهم وإن كان على خلاف أهل الإسلام، ويتهاونون في أمر الإسلام عند هذه المقاتلة، وهذا القسم من نفاق العمل ونفاق الأخلاق، ولا يمكن الاطلاع على النفاق الأول بعد حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك من قبيل علم الغيب، ولا يمكن الاطلاع على ما ارتكز في القلوب.

والنفاق الثاني كثير الوقوع لا سيما في زماننا، وإليه الإشارة في الحديث: ( ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر، وهم المنافق بطنه، وهم المؤمن فرسه )، إلى غير ذلك من الأحاديث، وقد بين الله سبحانه وتعالى أعمالهم وأخلاقهم في القرآن العظيم، وقد ذكر من أحوال الفريقين أشياء كثيرة؛ لتحترز الأمة منها، وإن شئت أن ترى أنموذجاً من المنافقين فانطلق إلى مجلس الأمراء، وانظر إلى مصاحبيهم، يرجحون مرضيهم على مرضي الشارع، لا فرق عند الإنصاف بين من سمع كلامه صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، وسلك مسلك النفاق، وبين من حدثوا في هذا الزمان، وعلموا حكم الشارع بطريق اليقين، ثم آثروا خلاف ذلك، وأقدموا على مخالفته، وعلى هذا القياس جماعة من المعقولين تمكنت في خاطرهم شكوك وشبهات حتى جعلوا المعاد نسياً منسياً، فهؤلاء أنموذج المنافقين، وبالجملة إذا قرأت القرآن فلا تحسب المخاصمة كانت مع قوم انقرضوا، بل الواقع أنه ما من بلاء كان فيما سبق من الزمان إلا وهو موجود اليوم بطريق الأنموذج بحكم الحديث: ( لتتبعن سنن من قبلكم ).

فالمقصود الأصلي بيان كليات تلك المفاسد، لا خصوص تلك الحكايات، هذا ما تيسر لي من بيان عقائد الفرق الضالة المذكورة، وتقرير أجوبتها، وهذا القدر كاف في فهم معاني آيات المخاصمة إن شاء الله تعالى ].

ذكر المؤلف في هذا النص صنفين من أصناف المنافقين:

الصنف الأول: وهو النفاق الاعتقادي، من يؤمن بلسانه ويكفر قلبه.

الصنف الثاني: النفاق العملي، وذكر في النفاق العملي أصنافاً.

وأقول: ينتبه في القرآن إلى فائدة مهمة وهي أن القرآن ذكر في النفاق الاعتقادي أصنافاً، وذكر أيضاً أسباباً للنفاق الاعتقادي، وما ذكر المؤلف من بعض أصناف النفاق العملي هي في الحقيقة أيضاً قد تكون من أسباب النفاق الاعتقادي، ومن راجع المثلين الأولين اللذين في سورة البقرة، سيجد خلافاً بين المفسرين في تنزيل المثل على نوع من أنواع النفاق، أو على مسبب من مسببات النفاق، وفي مثل هذه الحالة ينظر إلى صدق أو الواقع هذا النفاق أنه واقع بالفعل، وأقصد من ذلك أننا حينما نتأمل المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم نجد أن أسباب النفاق عندهم وأنواع النفاق متعددة، فقد تكون عندهم أسباب راجعة إلى الشبهة، وقد تكون عندهم أسباب راجعة إلى الشهوة، والأسباب الراجعة إلى الشبهة أو الشهوة قد تكون اعتقادية، بمعنى أنه يعتقد بقلبه الكفر، ولكنه يظهر الإيمان.

وأما ما يتعلق بالنفاق العملي فغالبه راجع إلى الشهوة، ولذا من كانت فيه جميع هذه الخصال فإنه ينتقل إلى النفاق الاعتقادي، وهذه القضية إذا استحضرناها فإنها تزيل عنا إشكالاً كبيراً جداً في التعامل مع آيات النفاق، والاختلاف في تنزيل آيات النفاق، أو الأمثلة التي وردت في المنافقين على ما ذكره المفسرون.

وعندي أن جميع ما ذكره السلف منطبق على صور موجودة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل هذه الصور داخلة في الأمثلة التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، وليس بين هذه الأقوال خلاف، والآيات الأخرى تحكي هذا، مثل قول الله سبحانه وتعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ [النساء:143]، فهذه تعطينا الحالة المضطربة للمنافق، وهي أنه حينما تتراءى له قوة الحق ينجذب إليه، وحينما ينظر ما في الباطل من زخرف ينجذب إليه فهو مضطرب الحال ليس على شأن واحد.

القضية الثانية وقد أشار إليها المؤلف وهي مهمة، وهي أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر المنافقين ذكر الأوصاف، ولم يذكر الأعيان، مما يدل على أن هذه الأوصاف تنطبق عليه في كل حين، ولم ينقطع النفاق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، بل إن النفاق لا زال حتى اليوم مع ضعف المسلمين، وبعض الأعيان ممن يسمي نفسه باللبرالي أو بالعلماني، أو غيره، بل قد يصلي مع المسلمين بعضهم يظهر من كلامهم أنه مثل هؤلاء الذين حكى عنهم الله سبحانه وتعالى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11].

وتجدهم يسارعون في الكفر، وتجدهم يوالون أهل الكفر، وهذه كلها من أوصاف المنافقين التي صرح القرآن بها، وليس الحال الآن في النقاش مع الأعيان هل فلان كذا أو ليس بكذا، ولكن المقصود أن هذه الأوصاف تنطبق على كثير ممن ينتقد شرائع الإسلام ويزعم الإصلاح، أو يدخل إلى الدين باسم الدين، ويقوض دعائمه، وهؤلاء لا شك أنهم خطيرون، بل قد يكونوا أحياناً أخطر من العدو الظاهر؛ لأن العدو الظاهر إذا جاءك فأنت تتقيه من الأصل، ولا تقبل منه أي شيء، ولكن حينما يكون من بني جلدتك، ويتكلم بلسانك، بل وأحياناً قد يتكلم بالأسلوب الشرعي فهذا لا شك أنه أخطر.

ثم ذكر طائفة من الفلاسفة والمناطقة وأنهم في زمرة المنافقين، ففي قضية الفلاسفة أو النفاق يلاحظ أن علماء المسلمين في القرون الأولى بعد جيل الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين استخدموا مصطلح الزنادقة للتعبير عن النفاق، فينبغي التنبه لهذا المصطلح فالقوم الذين يطلق عليهم بأنهم زنادقة هم في الحقيقة كفار؛ لأنهم أبطنوا الكفر، وأظهروا الإسلام، ولذا صاروا يعيبون على المسلمين دياناتهم، وظهر منهم أقسام وأنواع متعددة كالشعوبية وغيرهم، وظهر منهم شعراء، وظهر منهم فلاسفة، وظهر أنواع متعددة، لكن كلهم يجمعون في النهاية هذه الأوصاف التي ذكرها الله سبحانه وتعالى، ولهذا قال المؤلف: (فالمطلوب الحقيقي هو بيان كليات هذه المقاصد والمعاني، لا خصوص الحوادث والتفصيلات الجزئية)، سواءً فيما يتعلق بالمنافقين، أو فيما يتعلق بمن كان قبلهم ممن ذكرهم، وبهذا يكون اختتم الفصل الأول مما يتعلق بموضوع الجدل، ونلاحظ أنه لم يذكر ما يتعلق بالفصل الأول الذي ذكره قبل وهو الأحكام، والمترجم سلمان الندوي يذكر علةً لذلك، فيقول: لم يتعرض المؤلف لفصل علم آيات الأحكام؛ لأن له كتاباً باسم أصول الفقه، وبدأ الفصل الأول بعلم المخاصمة، أو علم الجدل، فكأنه ترك القسم الأول؛ لأنه كتب فيه كتاباً خاصاً فيما يتعلق بأصول الفقه؛ لأنه مرتبط بالأحكام.

وعلم الجدل الذي ذكره مع اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين، يحتاج هذا الموضوع لبحث أكثر، ويمكن ابتكار موضوعات من خلال هذه الأنواع، أو هذه الأقسام التي قسمها. مثل: أساليب القرآن في الرد عليهم، وطريقة القرآن في عرض شبههم وأقوالهم.. وغير ذلك من هذه الأنواع.

التحرج من ذكر بعض أقوال المشركين

وأحب التنبيه إلى مسألة مهمة في هذا الباب، وهي أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر أقوال هؤلاء الكفار المشركين وغيرهم من خصوم الدين، وذكر شيئاً شديداً من أقوالهم من نسب الولد إلى الله سبحانه وتعالى، وهو إشراك به سبحانه وتعالى، فأحياناً قد يتورع بعض دعاة المسلمين أو غيرهم ممن يحاج الكفار، فيبتعد عن ذكر بعض الأقوال بناءً على مصلحة تظهر له، ويعيب أحياناً على من يذكر هذه الأقوال ويرد عليها، ويقول: أنت تنشر بهذا أقوال الكفار أو المنافقين، فأقول من باب الفائدة: إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر أقوال هؤلاء واعترض عليها وردها، ولم يكن في القرآن ذكر مجمل لها، أو إشارة إليها بدون تفصيل، بل ذكرت على وجه التفصيل، وكذلك على وجه الإجمال، فلا تثريب على من يذكر مثل هذه الأقوال، ولن يكون ما يقوله كفار اليوم أشد مما قاله كفار الأمس، فإن ظهرت المصلحة في عدم ذكر المقولات، واعترض عليها اعتراضاً مجملاً فهذا المنهج قد استخدمه القرآن، وإن ظهر لغيرك أن يذكر التفصيل فعنده في ذلك مستند، فلا يكون بيننا تثريب في مثل هذه الأمور، والمصلحة تقدر بقدرها، فقد تكون المصلحة معك، وقد تكون المصلحة مع صاحبك.

وأحب التنبيه إلى مسألة مهمة في هذا الباب، وهي أن الله سبحانه وتعالى قد ذكر أقوال هؤلاء الكفار المشركين وغيرهم من خصوم الدين، وذكر شيئاً شديداً من أقوالهم من نسب الولد إلى الله سبحانه وتعالى، وهو إشراك به سبحانه وتعالى، فأحياناً قد يتورع بعض دعاة المسلمين أو غيرهم ممن يحاج الكفار، فيبتعد عن ذكر بعض الأقوال بناءً على مصلحة تظهر له، ويعيب أحياناً على من يذكر هذه الأقوال ويرد عليها، ويقول: أنت تنشر بهذا أقوال الكفار أو المنافقين، فأقول من باب الفائدة: إن الله سبحانه وتعالى قد ذكر أقوال هؤلاء واعترض عليها وردها، ولم يكن في القرآن ذكر مجمل لها، أو إشارة إليها بدون تفصيل، بل ذكرت على وجه التفصيل، وكذلك على وجه الإجمال، فلا تثريب على من يذكر مثل هذه الأقوال، ولن يكون ما يقوله كفار اليوم أشد مما قاله كفار الأمس، فإن ظهرت المصلحة في عدم ذكر المقولات، واعترض عليها اعتراضاً مجملاً فهذا المنهج قد استخدمه القرآن، وإن ظهر لغيرك أن يذكر التفصيل فعنده في ذلك مستند، فلا يكون بيننا تثريب في مثل هذه الأمور، والمصلحة تقدر بقدرها، فقد تكون المصلحة معك، وقد تكون المصلحة مع صاحبك.

[ الفصل الثالث: التذكير بأيام الله.

ليعلم أن المقصود من نزول القرآن تهذيب طوائف الناس من العرب والعجم، والحضر والبدو، فاقتضت الحكمة الإلهية ألا يخاطب في التذكير بآلاء الله بأكثر مما يعلمه أكثر أفراد بني آدم، ولم يبالغ في البحث والتفتيش مبالغةً زائدة، وسيق الكلام في أسماء الله وصفاته عز وجل بوجه يمكن فهمه والإحاطة به بإدراك وفطانة خلق أفراد الإنسان في أصل الفطرة عليهما بدون ممارسة الحكمة الإلهية، وبدون مزاولة علم الكلام، فأثبت ذات المبدأ .. ].

الحكمة الإلهية المقصود بها الفلسفة الإلهية، أنا عندي ترجمها بالفلسفة الإلهية، وهذا أقرب، والفلسفة الإلهية هي الكلام في الإلهيات عند الفلاسفة.

[ فأثبت ذات المبدأ إجمالاً؛ لأن هذا العلم سار في جميع أفراد بني آدم، لا ترى طائفة منهم في الأقاليم الصالحة، والأمكنة القريبة من الاعتدال ينكرون ذلك، ولما امتنع بالنسبة إليهم إثبات الصفات بطريق تحقيق الحقائق، مع أنهم إن لم يطلعوا على الصفات الإلهية فلم ينالوا معرفة الربوبية التي هي أنفع الأشياء في تهذيب النفوس، اقتضت الحكمة الإلهية أن يختار شيئاً من الصفات البشرية الكاملة مما يعلموها، ويجري التمدح بها فيما بينهم، فتستعمل بإزاء المعاني الغامضة التي لا مدخل للعقول البشرية في ساحة جلالها، وجعل نكتة لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11] ترياقاً للداء العضال من الجهل المركب، ومنع من الصفات البشرية التي تثير الأوهام بجانب العقائد الباطلة في إثبات مثلها، كإثبات الولد والبكاء والجزع، وإن تأملت بتعمق النظر وجدت الجريان على مسطر العلوم الإنسانية غير المكتسبة، وميزت صفات يمكن إثباتها، ولا يقع بها خلل من الصفات التي تثيرها الأوهام الباطلة أمراً دقيقاً لا تدركه أذهال العامة، لا جرى مكان هذا العلم توقيفياً، ولم يؤذن لهم في التكلم بكل ما يشتهون.

سلاسة القرآن في توضيح معاني الروبية والألوهية

الآن في بقية العلوم الخمسة ذكر ما يتعلق بالعلم الثالث من العلوم التي ذكرها، وهو التذكير بآلاء الله سبحانه وتعالى، هذا الموضع الذي ذكره مرتبط بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وذكر أن طريقة القرآن كما هو معلوم هي الطريقة السهلة التي يدركها الإنسان كائناً من كان إذا عرضت عليه الآيات المرتبطة بالله سبحانه وتعالى، دون الدخول في التفاصيل الكلامية والفلسفية، ولهذا إذا جئت إلى عامي ما، وسألته عن قوله سبحانه وتعالى: (إن الله على كل شيء قدير)، فإنه يفهم منها العموم، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وأنه لا يخرج عن قدرته أي شيء، فالمقصود من ذلك أن طريقة القرآن في عرض هذا الموضوع المتعلق بالله سبحانه وتعالى طريقة واضحة وميسورة وسهلة، والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك اتخذ هذه الطريقة، ولهذا لو أن المسلمين اكتفوا بما ورد في نصوص القرآن والسنة بفهم ظواهرها دون الدخول في تفصيلات وتعمقات فلسفية وكلامية لما حدث كثير من الإشكالات التي وقعت عند المتأخرين، وصارت عندهم عقائد يوالون عليها، ويعادون عليها، وهو ما صار فيما بعد يعرف بقضية علم الكلام، ولو تأمل المعتنون بعلم الكلام حال الناس وحاجتهم إلى هذا العلم لوجدوا أن أكثر الناس وغالب الناس، بل وكثير من المتعلمين لا يحتاجون للتعمق في هذه القضايا الكلامية، وإنما يحتاجها إن احتاجها أفراد قليلون؛ لأن إثبات العقائد لا يلزم فيه معرفة هذه التفاصيل الكلامية، وكبار المتكلمين كـالرازي و الجويني بل و الأشعري أيضاً رحمهم الله تعالى تراجعوا عن هذه الطرائق الكلامية التي لا توصل إلى يقين، بل ظهر عند بعضهم أنها توصل إلى الشك، ولم يجمعوا فيها كما قال الرازي : إلا قيل وقالوا.

فمثل هذه الطرائق لو تأملتها تجد أنها مغرقة في البحث العقلي الذي يبعد الطالب عن معرفة عظمة الله سبحانه وتعالى، ولو نظرنا في كتب العقائد التي كان يكتبها السلف، والكتب التي تكتب على طرائق المتكلمين، سواء كانت على طرائق المعتزلة، أو الأشاعرة، أو الماتريدية، أو الإباضية، أو غيرهم، فإننا نجد أن الكتب التي تعتمد المنهج القرآني ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهج الصحابة والتابعين وأتباع التابعين لا يمكن أن تخلو صفحة من قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الكتب الكلامية فقد تمر بك الصفحة وأكثر بل عشر صفحات لا تجد فيها حديثاً نبوياً واحداً، ومع ذلك تسمى هذه كتب التوحيد، وكتب الكلام.

وأنا أقول: إن المتأمل في هذه الحيثية فقط يظهر له بجلاء أنه لا يمكن أن تتعلم العقائد في الكتاب والسنة من هذه الطريق، وهذه الكتب هي في الحقيقة كتب جدل ومخاصمة، وليست كتب لتلقي العقيدة الصحيحة السليمة، ومن جرب هذه الطريقة مع الناس وبين صفات الله سبحانه وتعالى من خلال القرآن، ووضح أفعال الله سبحانه وتعالى من خلال القرآن، ومن خلال سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سيجد أنهم يفهمونها دون الدخول في هذه التفاصيل: التجسيم، والتشبيه، والتمثيل، والفرق بين التمثيل والتشبيه، وهل هو متحيز أو غير متحيز؟ وهل استوى بمماسة أو بغير مماسة، فالكلام الطويل والعريض هذا كله لا يدركه العامة، ولا يقرب من أذهانهم أصلاً، بل تجدهم على التسليم المطلق، ويفهمون فهماً عاماً، وحتى أيضاً طلبة العلم، أو المبتدئين في طلب العلم كثير منهم يتعب من هذه الكتب التي تحكي العقيدة بهذا الأسلوب أسلوب أهل الكلام فحين أسأل عن الدليل على أن الله سبحانه وتعالى قد استوى على العرش فنقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فإذا قلت: هل يلزم من استوائه سبحانه وتعالى أن يكون كالمخلوقين؟ فتقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فهي عقائد في مثل هذه الأمور واضحة جداً لا تحتاج إلى أن ندخل فيها بدقائق الكلام وتشقيقاته الفلسفية.

ومن تأمل أيضاً هذه الكتب يجد أنها في بدايتها أقرب إلى قال الله وقال رسوله مثل كتب الأشعري وتلاميذه المباشرون له، ثم بدأت تبتعد أكثر فأكثر حتى صرنا نراها في مثل كتاب المواقف للأيجي رحمه الله وعفا عنه، يجد أنها قد غرقت في الفلسفة وابتعدت حتى صارت عقلية محضة، كما يتحدث أرسطو و أفلاطون في قضية الإلهيات، فإن قيل قلنا، وإن قالوا قلنا، وهذا كذا، فابتعدت ابتعاداً كلياً عن هذه، ومن جعل مقارنة في مثل كتاب المواقف كم آية وردت في كتاب المواقف؟ وكم حديثاً نبوياً ورد فيه؟ وكم عدد الأحاديث الصحيحة فيه؟ والأحاديث الضعيفة، والأحاديث التي لا يحتج بها، وكم ورد عنده من أقوال السلف، ومن أقوال الصحابة والتابعين، ثم قارن ذلك بأي كتاب من الكتب التي مشت على منهج الصحابة والتابعين وأتباع التابعين مثل كتاب اللالكائي ، أو كتاب الشريعة للآجري ، أو غيرها، كم آيةً وردت فيه، فسيظهر الفرق جلياً أيها بالفعل يتبع المنهج الصحيح الذي يريده الله سبحانه وتعالى، وأيها ابتعد عن المنهج الصحيح.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما علم هذه العقيدة علمها لأقوام متعددين، منهم الأعرابي الذي لا يفقه كل الشريعة، ومنهم العالم النحرير مثل أبي بكر الصديق ، و عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان ، و علي بن أبي طالب ، والجارية التي لا تتقن شيئاً لما أراد أن يعرف إيمانها قال لها: ( أين الله؟ قالت: في السماء )، وهو المشرع، وتتعجب حين يأتي أحد المتأخرين فيقول: ولا يجوز أن يشار له بالأينية، والمشرع يقول للجارية: ( أين الله؟ )، وأنت تمنع من هذا، فهذا شيء عجيب! ثم يقول لها: ( من أنا؟ فتقول: أنت رسول الله، فيقول: اعتقها؛ فإنها مؤمنة )، فاكتفى بمعرفتها بأين الله، وبمعرفتها بالذي أمامها وأنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى هذه العقيدة السهلة التي كانت تفهمها الجارية، وانظر إلى التعقيدات الشديدة التي حصلت في العقيدة لما دخلها علم الكلام، ودخلتها الفلسفة.

أسلوب القرآن في بيان آلاء الله

قال رحمه الله: [ واختار سبحانه وتعالى من آلائه وآيات قدرته جل وعلا ما تساوت في فهمه الحضر والبدو، والعرب والعجم، ولهذا لم يذكر النعم النفسانية المخصوصة بالأولياء والعلماء، ولم يخبر بالنعم الاتفاقية المخصوصة بالملوك، وإنما ذكر سبحانه وتعالى ما ينبغي ذكره كخلق السموات والأرضين، وإنزال الماء من السحاب، وإخراجه من الأرض، وإخراج أنواع الثمار والحبوب والأزهار بواسطة الماء، وإلهام الصناعات الضرورية والقدرة على فعلها، وقد قرر في مواضع كثيرة من التنبيه على اختلاف أحوال الناس عند هجوم المصائب وانكشافها، ما كان كثير الوقوع من الأمراض النفسانية ].

هنا ملحظ أحب أن ننتبه له، لما ذكر المؤلف طريقة القرآن في إيراد آلاء الله سبحانه وتعالى، بحيث أنه يفهمها العربي والعجمي، العامي والمتعلم، وأن هذه الآلاء لم تذكر على وجه الخصوص، أي: أنها لم تأت هذه الآلاء بأشياء خاصة جداً لا يمكن إدراكها، وإن كان قد يوجد بعض الأشياء لكن عموم الشريعة متوافقة مع جمهور الناس، وهذه قضية مهمة يجب التنبه لها، وهذه السهولة في الشريعة هي أحد أسباب ضلال بعض الفلاسفة إما عن قصد أو عن غير قصد، مثل ابن سينا وغيره، لما زعموا أن الشريعة للعامة، وأن الفلسفة للخاصة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما أخبر العامة بأشياء؛ لأنهم يرون المحسوسات، ولا يدركون المعقولات، وهذا لا شك أنه ضلال مبين.

عدم التشديد على الناس

وأريد أن أنطلق من هذا الأمر إلى التنبيه إلى أمر مهم جداً فيما يتعلق بالحياة الشخصية للفرد، والحياة العامة للناس، وهو كلام موجه لنا جميعاً، وخصوصاً من يعالج أحوال الناس ألا يأطر الناس على الأمور الشديدة والصعبة، بمعنى أن الشريعة جاءت بكمالات عالية، وجاءت بما هو أدنى من ذلك، فالصحابي الأعرابي الذي جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يستخبر عما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمرهم بكذا وبكذا وبكذا فذكر الشرائع الخمس المعروفة، إلا الخامسة لم يذكرها، ومعروف في شرح الحديث سبب عدم ذكره، لكنه ذكر شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، ولم يذكر الحج، نقول: من قام بها وأداها يدخل الجنة وكثير من المسلمين حالهم هو هذا الحال، الالتزام بالفرائض، فإذا حصل عنده كمالات فانتقل إلى السنن فلا شك أن هذا خير وبركة، وهو أكمل، لكن تجد أن بعض الناس يريد من جميع الناس أن يكونوا كما هو في طبعه وشخصه، فتجده شديد على نفسه، شديد على من حوله، وينقل شدته هذا وطبعه في دعوته للناس، فيغضب من ترك الناس السنن، وينفعل، وقد يعقد فيها ولاءات وبراءات والناس عندهم لا شك من الشريعة مسامحة وسعة، فالرسول صلى الله عليه وسلم الذي شرع للصحابة رضي الله عنهم ورباهم أحياناً يأتيه شخص فيربيه على الذكر، ويأتيه شخص آخر فيقول له: ( لا تغضب )، و عبد الله بن عمر ؛ لأنه كان قوياً، وعنده قدرة على العبادة يقول: ( نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل )، فإذاً الناس يختلفون في المشارب، ففي حال الدعوة يجب أن ننتبه إلى أننا نحافظ على فطرة الناس، هذا هو الأصل الأصيل الذي يجب أن يتفق عليه جميع الدعاة، وهو المحافظة على فطرة الناس، وإبعادهم عن الوقوع في المحرمات الكبرى، وما بعد ذلك فهي كمالات يرتقي فيها الإنسان، ونجتهد أن نرقي الناس شيئاً فشيئاً، ونرغبهم بما في هذه الشريعة من كمالات، وإلا لو استخدمنا الأسلوب الآخر فإننا سنفقد جمهوراً كبيراً من المسلمين بدعوى أنهم لم يمشوا معنا على ما نريد، ولم يأتوا بكل ما تأمر به الشريعة، المقصد من ذلك أن ننتبه إلى هذا التيسير العام الموجود في الشريعة، وأن نتحمل الناس، نتحمل أذاهم، ونتحمل أخطاءهم، ونحاول ونجتهد في أن نصوبها، ولا نكون دائماً سيفاً مصلتاً عليهم، إذا وقع أحد منهم في خطأ ما كأنه وقع في كبيرة من الكبائر، وقد لا تكون كذلك، ومعلوم حال الرسول صلى الله عليه وسلم مع الذي شرب الخمر فشتمه أحد الصحابة، فنهاه عن ذلك، وقال له: ( وما يدريك لعله يحب الله ورسوله ).

فإذاً هناك أعمال تجبر أعمالاً، وهناك أيضاً أخلاق تجبر أخلاقاً، والناس لو ساروا على هذا الأسلوب المتشدد لما عاش الأخ مع أخيه، ولكن يحتمل بعضنا بعضاً في هذه الأمور، ونرتقي جميعاً في مراقي هذه الكمالات، ونجتهد في تربية بعضنا بعضاً، كما قال الله سبحانه وتعالى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ [العصر:3]. نعم.

أيام الله التي ذكرها القرآن

قال رحمه الله: [ واختار من أيام الله يعني الوقائع التي أحدثها الله سبحانه وتعالى، كتنعيم المطيعين، وتعذيب العصاة ما قرع سمعهم، وذكر لهم إجمالاً مثل قصص قوم نوح وعاد وثمود ، وكانت العرب تتلقاها أباً عن جد، ومثل قصص إبراهيم وأنبياء بني إسرائيل عليهم السلام، فإنها كانت مألوفةً لأسماعهم لمخالطة اليهود العرب في قرون كثيرة، لا القصص الشاذة غير المألوفة ولا أخبار المجازاة بين فارس والهنود، وانتزع من القصص المشهورة جملاً تنفع في تذكيرهم، ولم يسرد القصص بتمامها مع جميع خصوصياتها، والحكمة في ذلك أن العوام إذا سمعوا قصصاً نادرة غاية الندرة، أو استقصى بين أيديهم ذكر خصوصيات يميلون إلى القصص نفسها، ويفوتهم التذكر الذي هو الغرض الأصلي فيها، ونظير هذا الكلام ما قاله بعض العارفين: إن الناس لما حفظوا قواعد التجويد شغلوا عن الخشوع في التلاوة، ولما ساق المفسرون الوجوه البعيدة في التفسير صار علم التفسير نادراً كالمعدوم ].

هذه القضية يذكرها المؤلف في القصص القرآني، وقد تورد سؤالاً وهو لماذا لم يذكر في القرآن قصص اليونان، أو قصص الهنود، أو قصص الصينيين أو غيرهم؟ والجواب أن القرآن جاء في قصصه للعظة والعبرة، وأيضاً ذكر ما يتعلق بالأنبياء وأتباعهم وما يحصل من هؤلاء الأقوام، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان نبياً، فذكر من الأقوام الذين نزلت فيهم نبوءات، وكيف كان حالهم مع أنبيائهم، وليس مراد القرآن أن يذكر القصص من حيث هي قصة؛ لغرابتها أو لغير ذلك، وإذا لم يعتن بمثل هذه القصص التي هي خارجة عن محيط النبوة، فإنه ذكر من قصص هؤلاء الأنبياء.

وهذا ملحظ يحسن التنبه له في النظر في القرآن المكي، والقصص التي أوردها الله سبحانه وتعالى في القرآن المكي، والمشركون وهم يسمعون هذا القصص، لم يعترض أحد منهم على قصص القرآن، ولم يرد أبداً أنهم اعترضوا عليها، مما يدل على أنهم من حيث الجملة يقرون بما ورد في القرآن، وإلا فهم من أحرص الناس على إبطال هذه النبوة، واجتهد بعضهم في أن يورد قصصاً ليجر البساط إليه من أن يسمع الناس محمداً صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآيات، مما يدل على أنهم لم يفقهوا مراد القرآن بذكر هذه القصص، فإذاً إنما فعلوا شيئاً من اللغو لإبطال القرآن، ولم يكن لهم في ذلك أي أمر منه.

وأقول من باب الفائدة استطراداً أيضاً: أن ننتبه أننا اليوم نعالج نفس ما كان يفعله المشركون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن جاء بعهدهم أيضاً من الزنادقة في محاولة إبطال صحة هذا القرآن وما جاء فيه بأنواع متعددة، ولكن من نعمة الله علينا أن الله سبحانه وتعالى قد تكفل بحفظ كتابه، وأن هذه الشريعة قد تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظها، فهي منهج قد رسمه الله سبحانه وتعالى لجميع الناس، فليس هناك أي خوف إطلاقاً لا على القرآن، ولا على شريعة الله سبحانه وتعالى، وإنما الخوف الحقيقي هو علي وعليك أيها المسلم من ألا تكون أنت مناراً ومنبراً لهذا الدين، وألا تكون حامياً له، فالشريعة باقية باقية، والقرآن باق لن يتأثر بجميع ما يعمله هؤلاء الكفار والزنادقة إطلاقاً، لكن إن تخلينا نحن عن نصرة هذا الدين وعن نصرة هذا القرآن فإن الله سبحانه وتعالى كما أخبر وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد:38]، وليس معنى ذلك أن نتفرج، وإنما أن نعمل، وأن نتحرك، لكن ليكن عندنا اليقين التام بأن كل ما يعمله هؤلاء المشركون، وهؤلاء المبطلون من الملحدين وغيرهم لن يؤثر على القرآن وعلى شريعة الله سبحانه وتعالى.

التعمق في التجويد والتفسير

ما أشار إليه من قول بعض العارفين من أن الناس لما أحكموا قواعد التجويد وصاروا يصححون الحروف حرموا التلاوة، هذا يجب أن نأخذه بميزان فلا يكون عندنا إفراط ولا تفريط في هذا الموضوع، فلا يأت أحد ويقول: إن التعمق في أحكام التجويد يذهب رونق التلاوة وبهاء الخشوع وغيره، هذا ليس بصحيح، بل من ضبط علم التجويد، وضبط أصوله فإن قراءته تنضبط أكثر، ولكن هذه ترجع إلى الأذواق، ولهذا تجد بعض الناس أو كثير من العامة ينسجم مع قراءة بعض المقرئين وهو يخطئ وأحياناً أخطاء جلية، لكن نقول: لو وجد من كان يعتني بالحروف أكثر من اعتنائه بالمعاني فهذا الخطأ عليه هو، وليس على من يسمعه أو من يستفيد من قراءته.

وكذلك حين ننظر إلى كتب التفسير وما قدمه هؤلاء العلماء أيضاً يجب أن يكون عندنا نوع من الاعتدال في أن نقول: إن ما قدمه هؤلاء قد استفدنا منه كثيراً، ولكن ليس يعني هذا أننا حينما نريد الاهتداء بالقرآن أن نسلك هذه المسالك العلمية الدقيقة؛ لأن الاهتداء بالقرآن أيسر وأسهل من أن نسلك به هذه المسالك العلمية الدقيقة، فلا يأت شخص ويقول: لا يمكن الاهتداء بالقرآن إلا بطريقة أبي حيان في كتابه البحر المحيط؛ لأنا نعلم أن أبا حيان رحمه الله تعالى قد أثر عليه علم النحو الذي كان بارعاً فيه حتى كاد يكون كتابه مليئاً بجميع مسائل علم النحو ودقائقه وتفصيلاته، فليس الاهتداء بالقرآن من طرقه أن يتعلم الإنسان علم النحو كما علمه أبو حيان ، ولا أيضاً من الاهتداء بالقرآن أن يتعلم المسلم البلاغة كما تعلمها الزمخشري ، أو الطاهر بن عاشور أو غيره، ويطبق علم البلاغة فيها وهكذا.

فالخلاصة أنه يجب أن نفرق بين الجانب العلمي والنقاشات العلمية، وجانب الاهتداء، وحين نريد أن ننشر علم التفسير بين العامة فكل واحد منا منتقد لو أنه تكلم مع العامة في القضايا العلمية البحتة، أو قضايا مرتبطة بالنحو، أو بالتشقيقات البلاغية، أو بتشقيقات علم الأصول أو غيره، لكن حينما نكون في مجلس علمي ومدارسة علمية مع طلاب علم فالأمر يختلف، فلكل مقام مقال، فلا ننفي ما كتبه هؤلاء العلماء، ونقول لهم: لا فائدة منه، بل فيه فائدة ومعتبر، ولكنه في إطار معين، ولكن ما المطلوب هنا هو أن نيسر فهم هذا القرآن للعامة، ونجتهد ونحرص على أن نوصل لهم معاني هذا الكتاب، وأنا أرى أن هذا هو السلوك الأمثل دون أن يكون هناك انتقاد واعتراض على ما عمله العلماء السابقون، واستفدنا منه ولله الحمد، ولا زلنا نستفيد منه يوماً بعد يوم، فهؤلاء العلماء قد ماتوا من قرون، ولا زال أثرهم وعلمهم قد بارك الله فيه سبحانه وتعالى إلى يومنا هذا ونحن نستفيد منه، وسيستفيد منه أجيال تأتي بعدنا إن شاء الله، فلا نحرم أنفسنا من الاستفادة من هذا بمثل هذه الدعوى التي ذكرها هذا العالم الذي نقل عنه ولي الله الدهلوي .

تكرار القصص في القرآن

قال رحمه الله: [ مما تكرر من القصص قصة خلق آدم من الأرض، وسجود الملائكة له، وامتناع الشيطان منه، وكونه ملعوناً، وسعيه بعد ذلك في إغواء بني آدم، وقصة مخاصمة نوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام وأقوامهم في باب التوحيد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وامتناع الأقوام من الامتثال بشبهات ركيكة مع ذكر جواب الأنبياء، وابتلاء الأقوام بعقوبة إلهية، وظهور نصرته عز وجل لأنبيائه وتابعيهم، وقصة موسى مع فرعون وقومه، ومع سفهاء بني إسرائيل، ومكابرة هذه الجماعة حضرته عليه الصلاة والسلام، وقيام الله سبحانه وتعالى بعقوبة الأشقياء، وظهور نصرة نبيه مرةً بعد مرة، وقصة خلافة داود وسليمان وآياتهما وكراماتهما، ومحنة أيوب ويونس، وظهور رحمة الله سبحانه لهما، واستجابة دعاء زكريا، وقصص سيدنا عيسى العجيبة من تولده بلا أب، وتكلمه في المهد، وظهور الخوارق منه، فذكرت هذه القصص بأطوار مختلفة إجمالاً وتفصيلاً بحسب ما اقتضاه أسلوب السور.

ومن القصص التي ذكرت مرةً أو مرتين فقط: رفع سيدنا إدريس ، ومناظرة سيدنا إبراهيم للنمرود ، ورؤيته إحياء الطير، وذبح ولده، وقصة سيدنا يوسف، وقصة ولادة سيدنا موسى ، وإلقائه في اليم، وقتله القبطي، وخروجه إلى مدين، وتزوجه هناك، ورؤية النار على الشجرة، وسماع الكلام منها، وقصة ذبح البقرة، وقصة التقاء موسى والخضر، وقصة طالوت وجالوت، وقصة بلقيس ، وقصة ذي القرنين، وقصة أصحاب الكهف، وقصة الرجلين تحاورا فيما بينهما، وقصة أصحاب الجنة، وقصة رسل عيسى الثلاثة، والمؤمن الذي قتله الكفار شهيداً، وقصة أصحاب الفيل، وليس المقصود من هذه القصص معرفتها بأنفسها، بل المقصود انتقال ذهن السامع إلى وخامة الشرك والمعاصي، وعقوبة الله تعالى عليها، واطمئنان المخلصين بنصرة الله تعالى، وظهور عنايته عز وجل بهم ].

في هذا ذكر المؤلف فوائد مهمة جداً فيما يتعلق بتكرار القصص القرآني، فذكر القصص التي تكررت، والقصص التي لم تتكرر، وهنا أقول: يمكن استخراج بحوث ومسائل بحثية من هذه الفكرة التي طرحها المؤلف، وهي مسألة واسعة جداً، فمن الأشياء الموجودة الآن ما يسمى بعلم المتشابه، وتوجيه متشابه القرآن، وهناك بحوث قامت في دراسة القصص التي تكررت، التي ثنيت المثاني، فمثلاً قصة موسى عليه السلام والأشياء التي تكررت فيها وثنيت، والحكمة من هذا التكرار، والاختلاف الوارد فيها، وكذا قصة نوح عليه السلام، وقصة شعيب عليه السلام، وقصة عيسى عليه السلام، فكل هذه القصص التي تكررت في مواطن فيها بحوث قائمة، ويحسن أن نفكر ملياً فيما يمكن أن نوجده من الموضوعات التي تدرس من خلال القصص القرآني، بمعنى أنا قد نجد مثلاً في أفراد القصص معنى القصة التي ذكرت مرةً واحدة ولم تذكر مرةً أخرى، وهل يمكن أن تتلمس حكم معينة في عدم تكرار هذه القصص؟ وهل نحن بحاجة إلى تلمس مثل هذه الحكمة أو لا؟ كقصة البقرة مثلاً، وكذلك في النبي الواحد الأشياء التي تكررت وثنيت، والأشياء التي لم تثن ولم تكرر، وهل يمكن أن نجد أو نتلمس حكم معينة أو لا؟ فإذا أخذنا قصة عيسى عليه السلام وبحثنا ما هي الأحداث التي تكررت في قصته، وما هي الأحداث التي لم تكرر، وكذا قصة زكريا عليه السلام، وقصة موسى .. وهكذا، بحيث أنها تكون نوعاً من المباحث التي قد يوصل فيها إلى بعض الفوائد المرتبطة بالحكمة والعظة؛ لأن قصص القرآن الأصل فيها أنها نزلت مع التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم، وأيضاً للمؤمنين نزلت فيها عظة وعبرة، فيمكن أن نجعل موطن العظة والعبرة هو الأصل، وننظر ما يندرج تحت هذه الفائدة الكلية الكبرى من الفوائد التفصيلية من هذا الموضوع، وهنا تعقيب على قوله: وقصة الرسل الثلاثة الذين بعثهم سيدنا عيسى عليه السلام لدعوته، هذا في سورة يس وهناك خلاف في ذلك، لكن الظاهر والله أعلم أنهم رسل من الله سبحانه وتعالى؛ لأن مصطلح الرسل في القرآن إنما يطلق على من أرسلهم الله سبحانه وتعالى بواسطة الوحي المشهورة المعروفة، وأيضاً تاريخ عيسى عليه السلام لم يشتهر فيه أنه أرسل رسلاً، وهناك خلاف في من هم الرسل؟ ومتى كان زمانهم؟ وهو خلاف قوي بين المفسرين يرجع إلى ذلك، لكن أقصد أن هذا القول أنهم رسله عليه السلام هو قول ضعيف.

الآن في بقية العلوم الخمسة ذكر ما يتعلق بالعلم الثالث من العلوم التي ذكرها، وهو التذكير بآلاء الله سبحانه وتعالى، هذا الموضع الذي ذكره مرتبط بتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وذكر أن طريقة القرآن كما هو معلوم هي الطريقة السهلة التي يدركها الإنسان كائناً من كان إذا عرضت عليه الآيات المرتبطة بالله سبحانه وتعالى، دون الدخول في التفاصيل الكلامية والفلسفية، ولهذا إذا جئت إلى عامي ما، وسألته عن قوله سبحانه وتعالى: (إن الله على كل شيء قدير)، فإنه يفهم منها العموم، وأن الله سبحانه وتعالى قادر على كل شيء، وأنه لا يخرج عن قدرته أي شيء، فالمقصود من ذلك أن طريقة القرآن في عرض هذا الموضوع المتعلق بالله سبحانه وتعالى طريقة واضحة وميسورة وسهلة، والنبي صلى الله عليه وسلم كذلك اتخذ هذه الطريقة، ولهذا لو أن المسلمين اكتفوا بما ورد في نصوص القرآن والسنة بفهم ظواهرها دون الدخول في تفصيلات وتعمقات فلسفية وكلامية لما حدث كثير من الإشكالات التي وقعت عند المتأخرين، وصارت عندهم عقائد يوالون عليها، ويعادون عليها، وهو ما صار فيما بعد يعرف بقضية علم الكلام، ولو تأمل المعتنون بعلم الكلام حال الناس وحاجتهم إلى هذا العلم لوجدوا أن أكثر الناس وغالب الناس، بل وكثير من المتعلمين لا يحتاجون للتعمق في هذه القضايا الكلامية، وإنما يحتاجها إن احتاجها أفراد قليلون؛ لأن إثبات العقائد لا يلزم فيه معرفة هذه التفاصيل الكلامية، وكبار المتكلمين كـالرازي و الجويني بل و الأشعري أيضاً رحمهم الله تعالى تراجعوا عن هذه الطرائق الكلامية التي لا توصل إلى يقين، بل ظهر عند بعضهم أنها توصل إلى الشك، ولم يجمعوا فيها كما قال الرازي : إلا قيل وقالوا.

فمثل هذه الطرائق لو تأملتها تجد أنها مغرقة في البحث العقلي الذي يبعد الطالب عن معرفة عظمة الله سبحانه وتعالى، ولو نظرنا في كتب العقائد التي كان يكتبها السلف، والكتب التي تكتب على طرائق المتكلمين، سواء كانت على طرائق المعتزلة، أو الأشاعرة، أو الماتريدية، أو الإباضية، أو غيرهم، فإننا نجد أن الكتب التي تعتمد المنهج القرآني ومنهج النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهج الصحابة والتابعين وأتباع التابعين لا يمكن أن تخلو صفحة من قال الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما الكتب الكلامية فقد تمر بك الصفحة وأكثر بل عشر صفحات لا تجد فيها حديثاً نبوياً واحداً، ومع ذلك تسمى هذه كتب التوحيد، وكتب الكلام.

وأنا أقول: إن المتأمل في هذه الحيثية فقط يظهر له بجلاء أنه لا يمكن أن تتعلم العقائد في الكتاب والسنة من هذه الطريق، وهذه الكتب هي في الحقيقة كتب جدل ومخاصمة، وليست كتب لتلقي العقيدة الصحيحة السليمة، ومن جرب هذه الطريقة مع الناس وبين صفات الله سبحانه وتعالى من خلال القرآن، ووضح أفعال الله سبحانه وتعالى من خلال القرآن، ومن خلال سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه سيجد أنهم يفهمونها دون الدخول في هذه التفاصيل: التجسيم، والتشبيه، والتمثيل، والفرق بين التمثيل والتشبيه، وهل هو متحيز أو غير متحيز؟ وهل استوى بمماسة أو بغير مماسة، فالكلام الطويل والعريض هذا كله لا يدركه العامة، ولا يقرب من أذهانهم أصلاً، بل تجدهم على التسليم المطلق، ويفهمون فهماً عاماً، وحتى أيضاً طلبة العلم، أو المبتدئين في طلب العلم كثير منهم يتعب من هذه الكتب التي تحكي العقيدة بهذا الأسلوب أسلوب أهل الكلام فحين أسأل عن الدليل على أن الله سبحانه وتعالى قد استوى على العرش فنقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، فإذا قلت: هل يلزم من استوائه سبحانه وتعالى أن يكون كالمخلوقين؟ فتقول: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، فهي عقائد في مثل هذه الأمور واضحة جداً لا تحتاج إلى أن ندخل فيها بدقائق الكلام وتشقيقاته الفلسفية.

ومن تأمل أيضاً هذه الكتب يجد أنها في بدايتها أقرب إلى قال الله وقال رسوله مثل كتب الأشعري وتلاميذه المباشرون له، ثم بدأت تبتعد أكثر فأكثر حتى صرنا نراها في مثل كتاب المواقف للأيجي رحمه الله وعفا عنه، يجد أنها قد غرقت في الفلسفة وابتعدت حتى صارت عقلية محضة، كما يتحدث أرسطو و أفلاطون في قضية الإلهيات، فإن قيل قلنا، وإن قالوا قلنا، وهذا كذا، فابتعدت ابتعاداً كلياً عن هذه، ومن جعل مقارنة في مثل كتاب المواقف كم آية وردت في كتاب المواقف؟ وكم حديثاً نبوياً ورد فيه؟ وكم عدد الأحاديث الصحيحة فيه؟ والأحاديث الضعيفة، والأحاديث التي لا يحتج بها، وكم ورد عنده من أقوال السلف، ومن أقوال الصحابة والتابعين، ثم قارن ذلك بأي كتاب من الكتب التي مشت على منهج الصحابة والتابعين وأتباع التابعين مثل كتاب اللالكائي ، أو كتاب الشريعة للآجري ، أو غيرها، كم آيةً وردت فيه، فسيظهر الفرق جلياً أيها بالفعل يتبع المنهج الصحيح الذي يريده الله سبحانه وتعالى، وأيها ابتعد عن المنهج الصحيح.

والرسول صلى الله عليه وسلم لما علم هذه العقيدة علمها لأقوام متعددين، منهم الأعرابي الذي لا يفقه كل الشريعة، ومنهم العالم النحرير مثل أبي بكر الصديق ، و عمر بن الخطاب ، و عثمان بن عفان ، و علي بن أبي طالب ، والجارية التي لا تتقن شيئاً لما أراد أن يعرف إيمانها قال لها: ( أين الله؟ قالت: في السماء )، وهو المشرع، وتتعجب حين يأتي أحد المتأخرين فيقول: ولا يجوز أن يشار له بالأينية، والمشرع يقول للجارية: ( أين الله؟ )، وأنت تمنع من هذا، فهذا شيء عجيب! ثم يقول لها: ( من أنا؟ فتقول: أنت رسول الله، فيقول: اعتقها؛ فإنها مؤمنة )، فاكتفى بمعرفتها بأين الله، وبمعرفتها بالذي أمامها وأنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى هذه العقيدة السهلة التي كانت تفهمها الجارية، وانظر إلى التعقيدات الشديدة التي حصلت في العقيدة لما دخلها علم الكلام، ودخلتها الفلسفة.